مع الحبيب المصطفى: صور من غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (1)
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
67ـ صور من غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (1)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: صِفَةُ الغَضَبِ في الإنسانِ صِفَةُ كَمالٍ لا نَقصٍ إذا كانَت مُنضَبِطَةً بِضَوابِطِ الشَّريعَةِ، لأنَّ الإنسانَ الذي يَفقِدُ هذهِ الصِّفَةَ بالكُلِّيَّةِ فإنَّهُ لا حَمِيَّةَ لهُ، ويَنطَبِقُ عليه قَولُ الإمامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَن اسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَب فَهُوَ حِمَارٌ، وَمَنْ اسْتُرْضِيَ فَلَمْ يَرْضَ فَهُوَ شَيْطَانٌ. رواه البيهقي.
أمَّا العَبدُ الذي يَغضَبُ إذا انتُهِكَت حُرُماتُ الله تعالى، أو يَغضَبُ حَمِيَّةً للعِرضِ فهذا هوَ الغَضَبُ المَحمودُ.
فقد غَضِبَ سيِّدُنا موسى عليه السَّلامُ من سُلوكِ قَومِهِ، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾. وكذلكَ سيِّدُنا يونُسُ عليهِ السَّلامُ، قال تعالى في حَقِّهِ: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً﴾.
صُوَرٌ من غَضَبِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَغضَبُ أحياناً، ويَكونُ غَضَبُهُ لله تعالى لا لِنَفسِهِ الشَّريفَةِ، ومن صُوَرِ هذا الغَضَبِ لله تعالى:
أولاً: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَكرَهُ التَّنَطُّعَ في الدِّينِ، كما يَكرَهُ التَّشَدُّدَ فيهِ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا.
فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.
قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَداً.
فَجَاءَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُم الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا والله إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لله وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
بل غَضِبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حتَّى بانَ الغَضَبُ في وَجهِهِ من هذا الأمرِ.
روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: رَخَّصَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ نَاسٌ مِن النَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ.
ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ؟! فوالله لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بالله، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً».
فسيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أعلَمُ الخَلقِ بالله تعالى، وكُلَّما عَظُمَ العِلمُ عَظُمَتِ الخَشيَةُ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾. فهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أشَدُّ النَّاسِ خَشيَةً من الله تعالى.
«فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ من الصَّحبِ الكِرامِ ومن الأمَّةِ بَعدَهُم أن يَكونوا مُبَشِّرينَ لا مُنَفِّرينَ، وكانَ يَغضَبُ مِمَّن يُنَفِّرُ النَّاسَ من دِينِ الله تعالى.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَن الصَّلَاةِ فِي الْفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلَانٌ فِيهَا.
فَغَضِبَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَباً مِنْهُ يَوْمَئِذٍ.
ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ».
فإن كُنتَ إماماً وقُدوَةً فاحذَر أن تَفتِنَ النَّاسَ في الإطالَةِ، سواءٌ كانَ ذلكَ في الصَّلاةِ، أو في الخُطبَةِ.
روى الحاكم عن عمَّارِ بنِ ياسرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: سَمِعتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «إنَّ طُولَ الصَّلاةِ، وَقِصَرَ الْخُطْبَةِ مَئِنَّةٌ ـ عَلامَةٌ ودَليلٌ على الفِقهِ ـ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ، فأطِيلُوا الصَّلاةَ، وأقصِروا الخُطبَةَ». والمَقصودُ بالإطالَةِ، إطالَةٌ غَيرُ مُنَفِّرَّةٍ.
أمَّا إذا كُنتَ مُنفَرِداً أو معَ جماعَةٍ اتَّفَقتُم على الإطالَةِ، فلا حَرَجَ.
روى الإمام مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا.
ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ.
ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ.
ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ.
ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ.
ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ.
وفي روايةٍ للإمام مسلم كذلك قَالَ عَبْدُ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ.
قَالَ: قِيلَ: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟
قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ.
«هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟»:
أيُّها الإخوة الكرام: أحسِنوا الظَّنَّ بِعِبادِ الله تعالى، واحذَروا من الإساءَةِ والإيذاءِ لهُم، الواحِدُ منَّا لا يَدري ما هوَ رَصيدُ العَبدِ عِندَ الله تعالى، فَرُبَّما أن يَكونَ العَبدُ ذا مَكانَةٍ عِندَ الله تعالى وأنتَ لا تَعلَمُ.
فاحذَر من الإساءَةِ والإيذاءِ، وإذا جاءَكَ أحَدٌ مُعتَذِراً عن ذَنبِهِ فاقبَلْ منهُ، وإلا فاسمَع حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ومَن أتاهُ أخوهُ مُتَنَصِّلاً فَليَقبَلْ ذلكَ منهُ، مُحِقَّاً كانَ أو مُبطِلاً، فإنْ لم يَفعَلْ لم يَرِدْ عليَّ الحَوضَ» رواه الحاكم عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام البخاري عن أَبي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَباً، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ ـ سَبَقَ بالخَيرِ، وزاحَمَ فيهِ، وخاصَمَ من أجلِهِ ـ».
قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَغَضِبَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: والله يَا رَسُولَ الله لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ».
وفي روايةٍ أخرى عِندَ الإمام البخاري كذلكَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذاً بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ».
فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ.
فَقَالَ: «يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ـ ثَلَاثاً ـ».
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟
فَقَالُوا: لَا.
فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ.
فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، والله أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ ـ مَرَّتَيْنِ ـ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ. وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ـ مَرَّتَيْنِ ـ». فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.
إِذَا خَطَبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اشْتَدَّ غَضَبُهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَغضَبُ، وخاصَّةً إذا خَطَبَ النَّاسَ، وكانَ الموضوعُ فيهِ إنذارٌ وتَحذيرٌ.
روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِيَسألْ كُلُّ واحِدٍ منَّا نَفسَهُ: هل غَضَبُهُ مُنضَبِطٌ بِضَوابِطِ الشَّريعَةِ أم لا؟
ومن عَلاماتِ الغَضَبِ المَحمودِ أن يَكونَ لله تعالى لا لِنَفسِهِ، أمَّا إذا كانَ هذا الغَضَبُ للنَّفسِ فَبِئسَ هذا الغَضَبُ وهوَ المَذمومُ الذي حَذَّرَ منهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وأوصى بِتَجَنُّبِهِ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي.
قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» فَرَدَّدَ مِرَاراً، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ».
ويَقولُ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في تَفسيرِ قَولِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾. بالصَّبْرِ عِندَ الغَضَبِ، والحِلْمِ عِندَ الجَهْلِ، والعَفْوِ عِندَ الإسَاءَةِ، فإذا فَعَلَ المؤمنُونَ ذلكَ، عَصَمَهُمُ اللهُ من الشَّيطانِ، وخَضَعَ لهُم عَدُوُّهُم.
ويَقولُ مُجاهِدٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قالَ إبليسُ: ما أعجَزَني فيهِ بَنو آدمَ فَلَن يُعجِزوني في ثَلاثٍ:
إذا سَكِرَ أحَدُهُم أخَذنا بِخِزامَتِهِ فَقُدناهُ حَيثُ شِئنا وعَمِلَ لنا بما أحبَبنا.
وإذا غَضِبَ قالَ ما لا يَعلَمُ، وعَمِلَ بما يَندَمُ.
ونُبخِّلُهُ بما في يَدَيهِ، ونُمَنِّيهِ بما لا يَقدِرُ عليهِ. رواه البيهقي.
وأخيراً يَقولُ جَعفَرُ الصَّادِقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ في قَولِهِ تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾. لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا.
أسألُ اللهَ تعالى أن يَرزُقَنا الغَضَبَ المَحمودَ، وأن يُبعِدَ عنَّا الغَضَبَ المَذمومَ، إنَّهُ على ما يَشاءُ قَديرٌ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
67ـ صور من غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (1)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: صِفَةُ الغَضَبِ في الإنسانِ صِفَةُ كَمالٍ لا نَقصٍ إذا كانَت مُنضَبِطَةً بِضَوابِطِ الشَّريعَةِ، لأنَّ الإنسانَ الذي يَفقِدُ هذهِ الصِّفَةَ بالكُلِّيَّةِ فإنَّهُ لا حَمِيَّةَ لهُ، ويَنطَبِقُ عليه قَولُ الإمامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَن اسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَب فَهُوَ حِمَارٌ، وَمَنْ اسْتُرْضِيَ فَلَمْ يَرْضَ فَهُوَ شَيْطَانٌ. رواه البيهقي.
أمَّا العَبدُ الذي يَغضَبُ إذا انتُهِكَت حُرُماتُ الله تعالى، أو يَغضَبُ حَمِيَّةً للعِرضِ فهذا هوَ الغَضَبُ المَحمودُ.
فقد غَضِبَ سيِّدُنا موسى عليه السَّلامُ من سُلوكِ قَومِهِ، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾. وكذلكَ سيِّدُنا يونُسُ عليهِ السَّلامُ، قال تعالى في حَقِّهِ: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً﴾.
صُوَرٌ من غَضَبِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَغضَبُ أحياناً، ويَكونُ غَضَبُهُ لله تعالى لا لِنَفسِهِ الشَّريفَةِ، ومن صُوَرِ هذا الغَضَبِ لله تعالى:
أولاً: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَكرَهُ التَّنَطُّعَ في الدِّينِ، كما يَكرَهُ التَّشَدُّدَ فيهِ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا.
فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.
قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَداً.
فَجَاءَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُم الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا والله إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لله وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
بل غَضِبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حتَّى بانَ الغَضَبُ في وَجهِهِ من هذا الأمرِ.
روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: رَخَّصَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ نَاسٌ مِن النَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ.
ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ؟! فوالله لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بالله، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً».
فسيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أعلَمُ الخَلقِ بالله تعالى، وكُلَّما عَظُمَ العِلمُ عَظُمَتِ الخَشيَةُ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾. فهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أشَدُّ النَّاسِ خَشيَةً من الله تعالى.
«فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ من الصَّحبِ الكِرامِ ومن الأمَّةِ بَعدَهُم أن يَكونوا مُبَشِّرينَ لا مُنَفِّرينَ، وكانَ يَغضَبُ مِمَّن يُنَفِّرُ النَّاسَ من دِينِ الله تعالى.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَن الصَّلَاةِ فِي الْفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلَانٌ فِيهَا.
فَغَضِبَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَباً مِنْهُ يَوْمَئِذٍ.
ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ».
فإن كُنتَ إماماً وقُدوَةً فاحذَر أن تَفتِنَ النَّاسَ في الإطالَةِ، سواءٌ كانَ ذلكَ في الصَّلاةِ، أو في الخُطبَةِ.
روى الحاكم عن عمَّارِ بنِ ياسرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: سَمِعتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «إنَّ طُولَ الصَّلاةِ، وَقِصَرَ الْخُطْبَةِ مَئِنَّةٌ ـ عَلامَةٌ ودَليلٌ على الفِقهِ ـ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ، فأطِيلُوا الصَّلاةَ، وأقصِروا الخُطبَةَ». والمَقصودُ بالإطالَةِ، إطالَةٌ غَيرُ مُنَفِّرَّةٍ.
أمَّا إذا كُنتَ مُنفَرِداً أو معَ جماعَةٍ اتَّفَقتُم على الإطالَةِ، فلا حَرَجَ.
روى الإمام مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا.
ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ.
ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ.
ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ.
ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيباً مِمَّا رَكَعَ.
ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ.
وفي روايةٍ للإمام مسلم كذلك قَالَ عَبْدُ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ.
قَالَ: قِيلَ: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟
قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ.
«هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟»:
أيُّها الإخوة الكرام: أحسِنوا الظَّنَّ بِعِبادِ الله تعالى، واحذَروا من الإساءَةِ والإيذاءِ لهُم، الواحِدُ منَّا لا يَدري ما هوَ رَصيدُ العَبدِ عِندَ الله تعالى، فَرُبَّما أن يَكونَ العَبدُ ذا مَكانَةٍ عِندَ الله تعالى وأنتَ لا تَعلَمُ.
فاحذَر من الإساءَةِ والإيذاءِ، وإذا جاءَكَ أحَدٌ مُعتَذِراً عن ذَنبِهِ فاقبَلْ منهُ، وإلا فاسمَع حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ومَن أتاهُ أخوهُ مُتَنَصِّلاً فَليَقبَلْ ذلكَ منهُ، مُحِقَّاً كانَ أو مُبطِلاً، فإنْ لم يَفعَلْ لم يَرِدْ عليَّ الحَوضَ» رواه الحاكم عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام البخاري عن أَبي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَباً، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ ـ سَبَقَ بالخَيرِ، وزاحَمَ فيهِ، وخاصَمَ من أجلِهِ ـ».
قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَغَضِبَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: والله يَا رَسُولَ الله لَأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ».
وفي روايةٍ أخرى عِندَ الإمام البخاري كذلكَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذاً بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ».
فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ.
فَقَالَ: «يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ـ ثَلَاثاً ـ».
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟
فَقَالُوا: لَا.
فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ.
فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، والله أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ ـ مَرَّتَيْنِ ـ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ. وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ـ مَرَّتَيْنِ ـ». فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.
إِذَا خَطَبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اشْتَدَّ غَضَبُهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَغضَبُ، وخاصَّةً إذا خَطَبَ النَّاسَ، وكانَ الموضوعُ فيهِ إنذارٌ وتَحذيرٌ.
روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِيَسألْ كُلُّ واحِدٍ منَّا نَفسَهُ: هل غَضَبُهُ مُنضَبِطٌ بِضَوابِطِ الشَّريعَةِ أم لا؟
ومن عَلاماتِ الغَضَبِ المَحمودِ أن يَكونَ لله تعالى لا لِنَفسِهِ، أمَّا إذا كانَ هذا الغَضَبُ للنَّفسِ فَبِئسَ هذا الغَضَبُ وهوَ المَذمومُ الذي حَذَّرَ منهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وأوصى بِتَجَنُّبِهِ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي.
قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» فَرَدَّدَ مِرَاراً، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ».
ويَقولُ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في تَفسيرِ قَولِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾. بالصَّبْرِ عِندَ الغَضَبِ، والحِلْمِ عِندَ الجَهْلِ، والعَفْوِ عِندَ الإسَاءَةِ، فإذا فَعَلَ المؤمنُونَ ذلكَ، عَصَمَهُمُ اللهُ من الشَّيطانِ، وخَضَعَ لهُم عَدُوُّهُم.
ويَقولُ مُجاهِدٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قالَ إبليسُ: ما أعجَزَني فيهِ بَنو آدمَ فَلَن يُعجِزوني في ثَلاثٍ:
إذا سَكِرَ أحَدُهُم أخَذنا بِخِزامَتِهِ فَقُدناهُ حَيثُ شِئنا وعَمِلَ لنا بما أحبَبنا.
وإذا غَضِبَ قالَ ما لا يَعلَمُ، وعَمِلَ بما يَندَمُ.
ونُبخِّلُهُ بما في يَدَيهِ، ونُمَنِّيهِ بما لا يَقدِرُ عليهِ. رواه البيهقي.
وأخيراً يَقولُ جَعفَرُ الصَّادِقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ في قَولِهِ تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾. لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهَا.
أسألُ اللهَ تعالى أن يَرزُقَنا الغَضَبَ المَحمودَ، وأن يُبعِدَ عنَّا الغَضَبَ المَذمومَ، إنَّهُ على ما يَشاءُ قَديرٌ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
أمس في 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
أمس في 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
أمس في 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin
» كتاب: روح الأرواح ـ ابن الجوزي
19/10/2024, 10:51 من طرف Admin
» كتاب: هدية المهديين ـ العالم يوسف اخي چلبي
19/10/2024, 09:54 من طرف Admin
» كتاب: نخبة اللآلي لشرح بدء الأمالي ـ محمد بن سليمان الحلبي الريحاوي
19/10/2024, 09:50 من طرف Admin
» كتاب: الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية - عبد الغني النابلسي ـ ج1
19/10/2024, 09:18 من طرف Admin
» كتاب: البريقة شرح الطريقة ـ لمحمد الخادمي ـ ج2
19/10/2024, 08:56 من طرف Admin
» كتاب: البريقة شرح الطريقة ـ لمحمد الخادمي ـ ج1
19/10/2024, 08:55 من طرف Admin