مع الحبيب المصطفى: درؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لفتنة عظيمة
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
187ـ درؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لفتنة عظيمة
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الأُمَّةَ لا تَكُونُ أُمَّةً وَاحِدَةً، ولا تَحصُلُ لَهَا قُوَّةٌ ولا عِزَّةٌ حَتَّى تَتَرَابَطَ فِيمَا بَينَهَا، وتَكُونَ كَمَا وَصَفَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَولِهِ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
ومن هذا المُنطَلَقِ شَرَعَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للأُمَّةِ مَا يُؤَلِّفُ بَينَهَا، ويُقَوِّي وَحْدَتَهَا، ويَحفَظُ كَرَامَتَهَا وعِزَّتَهَا، ويَجْلِبُ المَوَدَّةَ والمَحَبَّةَ.
لقد شَرَعَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للأُمَّةِ أن يُسَلِّمَ بَعْضُهُم على بَعْضٍ عِندَ كُلِّ لِقَاءٍ، لأنَّ السَّلامَ يَغرِسُ المَحَبَّةَ، ويُقَوِّي الإِيمَانَ، ويُدخِلُ الجَنَّةَ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ».
وحَذَّرَ المُسلِمَ من هَجْرِ أَخِيهِ، لأنَّ الهَجْرَ يُورِثُ الكَرَاهِيَةَ والبَغضَاءَ والتَّفَرُّقَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ» رواه الإمام أحمد وأبو داود عَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً، إِلَّا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: ومن أَجلِ سَلامَةِ المُجتَمَعِ وتَمَاسُكِهِ وتَرَابُطِهِ حَثَّ شَرعُنَا الشَّرِيفُ على الإِصلاحِ بَينَ النَّاسِ إذا اختَلَفُوا، لأنَّ الإِصلاحَ بَينَ النَّاسِ رَأْبٌ للصَّدَعِ، ولَمٌّ للشَّعْثِ، وإِصلاحٌ للمُجتَمَعِ كُلِّهِ، وثَوَابٌ عَظِيمٌ لمن ابتَغَى وَجْهَ اللهِ تعالى، قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾.
فالمُوَفَّقُ هوَ من رَأَى بَينَ اثنَينِ عَدَاوَةً وتَبَاعُدَاً فَسَعَى لإزَالَةِ تِلكَ العَدَاوَةِ والتَّبَاعُدِ حَتَّى يَصطَلِحَا، والشَّقِيُّ من سَعَى لإيقَاعِ العَدَاوَةِ بَينَ النَّاسِ، وللتَّفرِيقِ بَينَ الأَحِبَّةِ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللهِ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ».
أيُّها الإخوة الكرام: الإِصلاحُ بَينَ النَّاسَِ مَهَمَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَوَاجِبٌ دِينِيٌّ مُقَدَّسٌ، لا يَقُومُ بِهِ إلا أَصحَابُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ، والأَروَاحِ الصَّافِيَةِ، ومن كَمُلَ إِيمَانُهُم ويَقِينُهُم، وكَانَت أَذوَاقُهُم سَلِيمَةً، وطَبَائِعُهُم مُستَقِيمَةً، وضَمَائِرُهُم حَيَّةً، وشُعُورُهُم نَبِيلاً.
لا يَقُومُ بالإِصلاحِ إلا القَومُ الذينَ يَكرَهُونَ الشَّرَّ، ويَمقُتُونَ الخِلافَ، ويَكرَهُونَ عَمَلَ الشَّيطَانِ، ويَكُونُونَ حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ على إِطْفَاءِ نَارِ الفِتَنِ، وإِزَالَةِ الشُّرُورِ، وحَقْنِ الدِّمَاءِ، وصِيَانَةِ الأَنفُسِ، وحِفْظِ الأَموَالِ، وتَألِيفِ القُلُوبِ.
أيُّها الإخوة الكرام: لا يَقُومُ بالإِصلاحِ بَينَ النَّاسِ إلا من كَمُلَ الإِيمَانُ في قُلُوبِهِم، وامتَثَلُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. هؤلاءِ المُصلِحُونَ مَثَلُهُم كَمَثَلِ المَاءِ الذي يُطْفِئُ النَّارَ قَبلَ يَسْتَفْحِلَ شَرُّهَا، مَثَلُهُم كَمَثَلِ النُّورِ الذي يُبَدِّدُ الظَّلامَ قَبلَ أن يَعُمَّ.
جَهْلُ السِّيرَةِ سَبَبٌ لِفَسَادِ الضَّمَائِرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ جَهْلَ الأُمَّةِ بِسِيرَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبَبٌ لِفَسَادِ الضَّمَائِرِ، ولِخُبْثِ النَّوَايَا، وهذهِ الأَزمَةُ التي يَمُرُّ بِهَا بَلَدُنَا الحَبِيبُ ـ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ ـ كَشَفَتْ لَنَا عن فَسَادِ ضَمَائِرِ كَثِيرٍ من النَّاسِ، وعن خُبْثِ نَوَايَاهُم حِينَ أَحَبُّوا الشَّرَّ وعَمِلُوا على نَشْرِهِ بَينَ النَّاسِ، وتَرَكُوا المُتَخَاصِمِينَ في تَخَاصُمِهِم حَتَّى اسْتَفْحَلَ الشَّرُّ، واشتَدَّ الخِصَامُ، واتَّسَعَتْ هُوَّةُ الخِلافِ، وأَلهَبُوا نَارَ العَدَاوَةِ، وأَجَّجُوا أُوَارَ الفِتنَةِ.
بُنيَانُ الكَعبَةِ وَدَرْءُ فِتنَةٍ عَظِيمَةٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: أَينَ نَحنُ من سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ أَينَ نَحنُ من سِيرَتِهِ العَطِرَةِ حَتَّى قَبلَ البِعْثَةِ؟
لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُصْلِحَاً للمُجتَمَعِ، بل للبَشَرِيَّةِ، وكَانَ إِصْلاحُهُ بَينَ قَومِهِ مَعْلُومَاً عِندَ من قَرَأَ سِيرَتَهُ العَطِرَةِ.
لمَّا بَلَغَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَمْسَاً وثَلاثِينَ سَنَةً، اجتَمَعَت قُرَيشٌ لِبُنيَانِ الكَعبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ البُنيَانُ مَوضِعَ الرُّكْنِ، اِختَصَمُوا في الحَجَرِ الأَسوَدِ، كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أن تَرفَعَهُ إلى مَوْضِعِهِ دُونَ الأُخرَى، وكُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أن يَكُونَ لَهَا هذا الشَّرَفُ العَظِيمُ، حَتَّى آلَ الأَمْرُ إلى الحَربِ، وكَانَت سَتَنشُبُ الحَربُ بَينَهُم في أَهوَنَ من هذا بِكَثِيرٍ في الجَاهِلِيَّةِ.
اِستَعَدُّوا للقِتَالِ، وقَرَّبَت بَنُو عَبدِ الدَّارِ جَفنَةً مَمْلوءَةً دَمَاً، وتَعاقَدُوا هُم وبَنُو عَدِيٍّ على المَوتِ، وأَدخَلُوا أَيدِيَهُم في ذلكَ الدَّمِ في تِلكَ الجَفنَةِ، وكَانَت آيَةَ المَوتِ والشَّرِّ، ومَكَثَت قُرَيشٌ أَربَعَ لَيَالٍ أو خَمْسَاً، دُونَ أن يَرُدَّهَا أيُّ رَأْيٍ أو تَدبِيرٍ، حَتَّى كَانَ خُمُودُ نَارِ الفِتنَةِ على يَدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
جَاءَ في كِتَابِ الرَّحِيقِ المَختُومِ، وَاشتَدَّ ـ يَعنِي: الخِلافُ بَينَ قُرَيشٍ ـ حَتَّى كَادَ يَتَحَوَّلُ إلى حَربٍ ضَرُوسٍ في أَرضِ الحَرَمِ، إلا أنَّ أَبَا أُمَيَّةَ بنَ المُغِيرَةِ المَخزُومِيِّ عَرَضَ عَلَيهِم أن يُحَكِّمُوا فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم أَوَّلَ دَاخِلٍ عَلَيهِم من بَابِ المَسجِدِ، فَارْتَضَوْهُ، وَشَاءَ اللهُ أن يَكُونَ ذلكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا رَأَوهُ هَتَفُوا: هذا الأَمِينُ، رَضِينَاهُ، هذا مُحَمَّدٌ.
فَلَمَّا انتَهَى إِلَيهِم، وَأَخبَرُوهُ الخَبَرَ طَلَبَ رِدَاءً، فَوَضَعَ الحَجَرَ وَسَطَهُ، وَطَلَبَ من رُؤَسَاءِ القَبَائِلِ المُتَنَازِعِينَ أن يُمسِكُوا جَمِيعَاً بِأَطرَافِ الرِّدَاءِ، وَأَمَرَهُم أن يَرفَعُوهُ، حَتَّى إذا أَوصَلُوهُ إلى مَوْضِعِهِ أَخَذَهُ بِيَدِهِ فَوَضَعَهُ في مَكَانِهِ، وهذا حَلٌّ حَصِيفٌ رَضِيَ بِهِ القَومُ.
أيُّها الإخوة الكرام: هكذا دَرَءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحَربَ عن قُرَيشٍ في أَيَّامِ جَاهِلِيَّتِهَا، في أَيَّامِ شِرْكِهَا، بِحِكْمَةٍ لَيسَ فَوقَهَا حِكْمَةٌ، وكَانَت مُقَدِّمَةَ دَرْئِهِ للحُرُوبِ والشُّرُورِ عن الشُّعُوب والأُمَمِ بَعدَ النُّبُوَّةِ، بِحِكْمَتِهِ، وتَعَالِيمِهِ، ورِفْقِهِ، وتَلَطُّفِهِ في الأُمُورِ، والإِصلاحِ بَينَ النَّاسِ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ أَطيَبَ حَيَاةٍ يَعِيشُهَا الإِنسَانُ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا، هيَ عِندَمَا يَكُونُ مَرُاقِبَاً للهِ عزَّ وجلَّ، حَسَنَ الطَّوِيَّةِ لِعِبَادِ اللهِ تعالى، سَاعِيَاً للإِصلاحِ بَينَ النَّاسِ، مُحَذِّرَاً من الشَّحنَاءِ والبَغضَاءِ، سَاعِيَاً لإنهَاءِ الشَّحنَاءِ، مُحَرِّضَاً الجَمِيعَ على قَبُولِ الأَعذَارِ.
أيُّها الإخوة الكرام: هكذا رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَحَابَتَهُ الكِرَامَ، وآلَ بَيتِهِ الأَطهَارَ؛ يَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَعقَلُ النَّاسِ أَعذَرُهُم لَهُم.
ويَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُما: لو أنَّ رَجُلاً شَتَمَنِي في أُذُنِي هذهِ، واعتَذَرَ إِلَيَّ في أُذُنِي الأُخرَى لَقَبِلتُ عُذْرَهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَأْخُذْ بِهَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نُفلِحَ، روى الحاكم عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: بَينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إذْ رَأَينَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَضحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنتَ وَأُمِّي؟
قَالَ: «رَجُلانِ من أُمَّتِي جَثَيَا بَينَ يَدَيْ رَبِّ العِزَّةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ، خُذْ لِي مَظلَمَتِي من أَخِي.
فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى للطَّالِبِ: فَكَيفَ تَصنَعُ بِأَخِيكَ وَلَم يَبْقَ من حَسَنَاتِهِ شَيءٌ؟
قَالَ: يَا رَبِّ، فَلْيَحْمِلْ من أَوزَارِي»
قَالَ: وَفَاضَت عَينَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالبُكَاءِ.
ثمَّ قَالَ: «إنَّ ذَاكَ اليَومَ عَظِيمُ يَحتَاجُ النَّاسُ أن يُحْمَلَ عَنهُم من أَوزَارِهِم.
فَقَالَ اللُه تعالى للطَّالِبِ: اِرفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ في الجِنَانِ.
فَرَفَعَ رَأسَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَرَى مَدَائِنَ من ذَهَبٍ وَقُصُورَاً من ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً باللُّؤلُؤِ، لِأَيِّ نَبِيٍّ هذا، أو لِأَيِّ صِدِّيقٍ هذا، أو لِأَيِّ شَهِيدٍ هذا؟
قَالَ: هذا لِمَن أَعطَى الثَّمَنَ.
قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَن يَمْلِكُ ذلكَ؟
قَالَ: أَنتَ تَمْلِكُهُ.
قَالَ: بِمَاذَا؟
قَالَ: بِعَفْوِكَ عَن أَخِيكَ.
قَالَ: يَا رَبِّ، فَإِنِّي قَد عَفَوتُ عَنهُ.
قَالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: فَخُذْ بِيَدِ أَخِيكَ فَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ».
فَقَالَ رَسُولُ اللِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِندَ ذلكَ: «اِتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم، فَإِنَّ اللَه تعالى يُصلِحُ بَينَ المُسلِمِينَ».
أيُّها الإخوة الكرام: هل نَسِيَ بَعْضُ طَلَبَةِ العِلمِ والعُلَمَاءِ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ؟ وهَل نَسِيَ هؤلاءِ إِصْلاحَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَينَ قَومِهِ عِندَ بِنَاءِ الكَعبَةِ المُشَرَّفَةِ؟
أَينَ نَحنُ من سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ وأَينَ نَحنُ من قَولِهِ تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾؟
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
187ـ درؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لفتنة عظيمة
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الأُمَّةَ لا تَكُونُ أُمَّةً وَاحِدَةً، ولا تَحصُلُ لَهَا قُوَّةٌ ولا عِزَّةٌ حَتَّى تَتَرَابَطَ فِيمَا بَينَهَا، وتَكُونَ كَمَا وَصَفَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَولِهِ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
ومن هذا المُنطَلَقِ شَرَعَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للأُمَّةِ مَا يُؤَلِّفُ بَينَهَا، ويُقَوِّي وَحْدَتَهَا، ويَحفَظُ كَرَامَتَهَا وعِزَّتَهَا، ويَجْلِبُ المَوَدَّةَ والمَحَبَّةَ.
لقد شَرَعَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للأُمَّةِ أن يُسَلِّمَ بَعْضُهُم على بَعْضٍ عِندَ كُلِّ لِقَاءٍ، لأنَّ السَّلامَ يَغرِسُ المَحَبَّةَ، ويُقَوِّي الإِيمَانَ، ويُدخِلُ الجَنَّةَ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ».
وحَذَّرَ المُسلِمَ من هَجْرِ أَخِيهِ، لأنَّ الهَجْرَ يُورِثُ الكَرَاهِيَةَ والبَغضَاءَ والتَّفَرُّقَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ» رواه الإمام أحمد وأبو داود عَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً، إِلَّا رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: ومن أَجلِ سَلامَةِ المُجتَمَعِ وتَمَاسُكِهِ وتَرَابُطِهِ حَثَّ شَرعُنَا الشَّرِيفُ على الإِصلاحِ بَينَ النَّاسِ إذا اختَلَفُوا، لأنَّ الإِصلاحَ بَينَ النَّاسِ رَأْبٌ للصَّدَعِ، ولَمٌّ للشَّعْثِ، وإِصلاحٌ للمُجتَمَعِ كُلِّهِ، وثَوَابٌ عَظِيمٌ لمن ابتَغَى وَجْهَ اللهِ تعالى، قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾.
فالمُوَفَّقُ هوَ من رَأَى بَينَ اثنَينِ عَدَاوَةً وتَبَاعُدَاً فَسَعَى لإزَالَةِ تِلكَ العَدَاوَةِ والتَّبَاعُدِ حَتَّى يَصطَلِحَا، والشَّقِيُّ من سَعَى لإيقَاعِ العَدَاوَةِ بَينَ النَّاسِ، وللتَّفرِيقِ بَينَ الأَحِبَّةِ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللهِ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ».
أيُّها الإخوة الكرام: الإِصلاحُ بَينَ النَّاسَِ مَهَمَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَوَاجِبٌ دِينِيٌّ مُقَدَّسٌ، لا يَقُومُ بِهِ إلا أَصحَابُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ، والأَروَاحِ الصَّافِيَةِ، ومن كَمُلَ إِيمَانُهُم ويَقِينُهُم، وكَانَت أَذوَاقُهُم سَلِيمَةً، وطَبَائِعُهُم مُستَقِيمَةً، وضَمَائِرُهُم حَيَّةً، وشُعُورُهُم نَبِيلاً.
لا يَقُومُ بالإِصلاحِ إلا القَومُ الذينَ يَكرَهُونَ الشَّرَّ، ويَمقُتُونَ الخِلافَ، ويَكرَهُونَ عَمَلَ الشَّيطَانِ، ويَكُونُونَ حَرِيصِينَ كُلَّ الحِرْصِ على إِطْفَاءِ نَارِ الفِتَنِ، وإِزَالَةِ الشُّرُورِ، وحَقْنِ الدِّمَاءِ، وصِيَانَةِ الأَنفُسِ، وحِفْظِ الأَموَالِ، وتَألِيفِ القُلُوبِ.
أيُّها الإخوة الكرام: لا يَقُومُ بالإِصلاحِ بَينَ النَّاسِ إلا من كَمُلَ الإِيمَانُ في قُلُوبِهِم، وامتَثَلُوا قَولَ اللهِ تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. هؤلاءِ المُصلِحُونَ مَثَلُهُم كَمَثَلِ المَاءِ الذي يُطْفِئُ النَّارَ قَبلَ يَسْتَفْحِلَ شَرُّهَا، مَثَلُهُم كَمَثَلِ النُّورِ الذي يُبَدِّدُ الظَّلامَ قَبلَ أن يَعُمَّ.
جَهْلُ السِّيرَةِ سَبَبٌ لِفَسَادِ الضَّمَائِرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ جَهْلَ الأُمَّةِ بِسِيرَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبَبٌ لِفَسَادِ الضَّمَائِرِ، ولِخُبْثِ النَّوَايَا، وهذهِ الأَزمَةُ التي يَمُرُّ بِهَا بَلَدُنَا الحَبِيبُ ـ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ ـ كَشَفَتْ لَنَا عن فَسَادِ ضَمَائِرِ كَثِيرٍ من النَّاسِ، وعن خُبْثِ نَوَايَاهُم حِينَ أَحَبُّوا الشَّرَّ وعَمِلُوا على نَشْرِهِ بَينَ النَّاسِ، وتَرَكُوا المُتَخَاصِمِينَ في تَخَاصُمِهِم حَتَّى اسْتَفْحَلَ الشَّرُّ، واشتَدَّ الخِصَامُ، واتَّسَعَتْ هُوَّةُ الخِلافِ، وأَلهَبُوا نَارَ العَدَاوَةِ، وأَجَّجُوا أُوَارَ الفِتنَةِ.
بُنيَانُ الكَعبَةِ وَدَرْءُ فِتنَةٍ عَظِيمَةٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: أَينَ نَحنُ من سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ أَينَ نَحنُ من سِيرَتِهِ العَطِرَةِ حَتَّى قَبلَ البِعْثَةِ؟
لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُصْلِحَاً للمُجتَمَعِ، بل للبَشَرِيَّةِ، وكَانَ إِصْلاحُهُ بَينَ قَومِهِ مَعْلُومَاً عِندَ من قَرَأَ سِيرَتَهُ العَطِرَةِ.
لمَّا بَلَغَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَمْسَاً وثَلاثِينَ سَنَةً، اجتَمَعَت قُرَيشٌ لِبُنيَانِ الكَعبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ البُنيَانُ مَوضِعَ الرُّكْنِ، اِختَصَمُوا في الحَجَرِ الأَسوَدِ، كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أن تَرفَعَهُ إلى مَوْضِعِهِ دُونَ الأُخرَى، وكُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أن يَكُونَ لَهَا هذا الشَّرَفُ العَظِيمُ، حَتَّى آلَ الأَمْرُ إلى الحَربِ، وكَانَت سَتَنشُبُ الحَربُ بَينَهُم في أَهوَنَ من هذا بِكَثِيرٍ في الجَاهِلِيَّةِ.
اِستَعَدُّوا للقِتَالِ، وقَرَّبَت بَنُو عَبدِ الدَّارِ جَفنَةً مَمْلوءَةً دَمَاً، وتَعاقَدُوا هُم وبَنُو عَدِيٍّ على المَوتِ، وأَدخَلُوا أَيدِيَهُم في ذلكَ الدَّمِ في تِلكَ الجَفنَةِ، وكَانَت آيَةَ المَوتِ والشَّرِّ، ومَكَثَت قُرَيشٌ أَربَعَ لَيَالٍ أو خَمْسَاً، دُونَ أن يَرُدَّهَا أيُّ رَأْيٍ أو تَدبِيرٍ، حَتَّى كَانَ خُمُودُ نَارِ الفِتنَةِ على يَدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
جَاءَ في كِتَابِ الرَّحِيقِ المَختُومِ، وَاشتَدَّ ـ يَعنِي: الخِلافُ بَينَ قُرَيشٍ ـ حَتَّى كَادَ يَتَحَوَّلُ إلى حَربٍ ضَرُوسٍ في أَرضِ الحَرَمِ، إلا أنَّ أَبَا أُمَيَّةَ بنَ المُغِيرَةِ المَخزُومِيِّ عَرَضَ عَلَيهِم أن يُحَكِّمُوا فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم أَوَّلَ دَاخِلٍ عَلَيهِم من بَابِ المَسجِدِ، فَارْتَضَوْهُ، وَشَاءَ اللهُ أن يَكُونَ ذلكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا رَأَوهُ هَتَفُوا: هذا الأَمِينُ، رَضِينَاهُ، هذا مُحَمَّدٌ.
فَلَمَّا انتَهَى إِلَيهِم، وَأَخبَرُوهُ الخَبَرَ طَلَبَ رِدَاءً، فَوَضَعَ الحَجَرَ وَسَطَهُ، وَطَلَبَ من رُؤَسَاءِ القَبَائِلِ المُتَنَازِعِينَ أن يُمسِكُوا جَمِيعَاً بِأَطرَافِ الرِّدَاءِ، وَأَمَرَهُم أن يَرفَعُوهُ، حَتَّى إذا أَوصَلُوهُ إلى مَوْضِعِهِ أَخَذَهُ بِيَدِهِ فَوَضَعَهُ في مَكَانِهِ، وهذا حَلٌّ حَصِيفٌ رَضِيَ بِهِ القَومُ.
أيُّها الإخوة الكرام: هكذا دَرَءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحَربَ عن قُرَيشٍ في أَيَّامِ جَاهِلِيَّتِهَا، في أَيَّامِ شِرْكِهَا، بِحِكْمَةٍ لَيسَ فَوقَهَا حِكْمَةٌ، وكَانَت مُقَدِّمَةَ دَرْئِهِ للحُرُوبِ والشُّرُورِ عن الشُّعُوب والأُمَمِ بَعدَ النُّبُوَّةِ، بِحِكْمَتِهِ، وتَعَالِيمِهِ، ورِفْقِهِ، وتَلَطُّفِهِ في الأُمُورِ، والإِصلاحِ بَينَ النَّاسِ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ أَطيَبَ حَيَاةٍ يَعِيشُهَا الإِنسَانُ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا، هيَ عِندَمَا يَكُونُ مَرُاقِبَاً للهِ عزَّ وجلَّ، حَسَنَ الطَّوِيَّةِ لِعِبَادِ اللهِ تعالى، سَاعِيَاً للإِصلاحِ بَينَ النَّاسِ، مُحَذِّرَاً من الشَّحنَاءِ والبَغضَاءِ، سَاعِيَاً لإنهَاءِ الشَّحنَاءِ، مُحَرِّضَاً الجَمِيعَ على قَبُولِ الأَعذَارِ.
أيُّها الإخوة الكرام: هكذا رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَحَابَتَهُ الكِرَامَ، وآلَ بَيتِهِ الأَطهَارَ؛ يَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَعقَلُ النَّاسِ أَعذَرُهُم لَهُم.
ويَقُولُ سَيِّدُنَا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُما: لو أنَّ رَجُلاً شَتَمَنِي في أُذُنِي هذهِ، واعتَذَرَ إِلَيَّ في أُذُنِي الأُخرَى لَقَبِلتُ عُذْرَهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَأْخُذْ بِهَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نُفلِحَ، روى الحاكم عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: بَينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إذْ رَأَينَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَضحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنتَ وَأُمِّي؟
قَالَ: «رَجُلانِ من أُمَّتِي جَثَيَا بَينَ يَدَيْ رَبِّ العِزَّةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ، خُذْ لِي مَظلَمَتِي من أَخِي.
فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى للطَّالِبِ: فَكَيفَ تَصنَعُ بِأَخِيكَ وَلَم يَبْقَ من حَسَنَاتِهِ شَيءٌ؟
قَالَ: يَا رَبِّ، فَلْيَحْمِلْ من أَوزَارِي»
قَالَ: وَفَاضَت عَينَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالبُكَاءِ.
ثمَّ قَالَ: «إنَّ ذَاكَ اليَومَ عَظِيمُ يَحتَاجُ النَّاسُ أن يُحْمَلَ عَنهُم من أَوزَارِهِم.
فَقَالَ اللُه تعالى للطَّالِبِ: اِرفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ في الجِنَانِ.
فَرَفَعَ رَأسَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَرَى مَدَائِنَ من ذَهَبٍ وَقُصُورَاً من ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً باللُّؤلُؤِ، لِأَيِّ نَبِيٍّ هذا، أو لِأَيِّ صِدِّيقٍ هذا، أو لِأَيِّ شَهِيدٍ هذا؟
قَالَ: هذا لِمَن أَعطَى الثَّمَنَ.
قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَن يَمْلِكُ ذلكَ؟
قَالَ: أَنتَ تَمْلِكُهُ.
قَالَ: بِمَاذَا؟
قَالَ: بِعَفْوِكَ عَن أَخِيكَ.
قَالَ: يَا رَبِّ، فَإِنِّي قَد عَفَوتُ عَنهُ.
قَالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: فَخُذْ بِيَدِ أَخِيكَ فَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ».
فَقَالَ رَسُولُ اللِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِندَ ذلكَ: «اِتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكُم، فَإِنَّ اللَه تعالى يُصلِحُ بَينَ المُسلِمِينَ».
أيُّها الإخوة الكرام: هل نَسِيَ بَعْضُ طَلَبَةِ العِلمِ والعُلَمَاءِ هذا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ؟ وهَل نَسِيَ هؤلاءِ إِصْلاحَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَينَ قَومِهِ عِندَ بِنَاءِ الكَعبَةِ المُشَرَّفَةِ؟
أَينَ نَحنُ من سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ وأَينَ نَحنُ من قَولِهِ تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾؟
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin