واشتدّت حركة هذا الهواء فامتسك هذا الماء عليه والأرض فوق هذا الماء وتموّج الماء بهذه الريح المظلمة السّموميّة فمادت الأرض
فرأت الملائكة ميد الأرض وقد حصل لهم التعريف من اللّه بأنّها محلّ خلق يخلقون منها على نشأة مخصوصة لا يمكن معها التصرّف إلّا على ساكن
فقالت يا ربّنا كيف استقرار عبادك على هذه الأرض
فأبدى لهم تجلّيا أصعقهم به وخلق من الأبخرة الغليظة المتراكمة الكثيفة الصاعدة من الأرض الجبال فقالبها عليها فسكن ميد الأرض وذهبت تلك الحركة الّتي لا يكون معها استقرار
وطوّق هذه الأرض بجبل محيط بها وهو من الصخرة الخضراء وطوّق به حيّة عظيمة اجتمع رأسها بذنبها
رأيت من صعد هذا الجبل ومن عاين هذه الحيّة وكلّمها
وقالت سلّم منّى إلى أبى مدين وكان من الأبدال من أصحاب خطوة
يقال له موسى السّدرانىّ وكان محمولا له فسأله يوسف بن يحلف عن طول هذا الجبل في الهواء
فقال صلّيت الضّحى في أسفله والعصر في أعلاه فأنا بهذه المثابة يعنى من اتّساع الخطوة .
ثمّ أفاق الملا الأعلى من صعقتهم فرأوا من قدرة اللّه تعالى ما هالهم
فقالوا : ربّنا هل خلقت شيئا أشدّ من هذه الجبال؟
فقال نعم الحديد .
فقالوا :ربّنا فهل خلقت شيئا أشدّ من الحديد؟
فقال : نعم النار
فقالوا ربّنا فهل خلقت شيئا أشدّ من النار؟
قال : نعم الماء
فقالوا ربّنا فهل خلقت شيئا أشدّ من الماء ؟
قال : نعم الريح
فقالوا ربّنا فهل خلقت شيئا أشدّ من الريح؟
قال : نعم الإنسان يتصدّق بصدقة فلا تعرف شماله ما تنفق يمينه
فهذا هو الّذي ملك الهواء ، فمن ملك هواه فهو أشدّ من الهواء
وهو الّذي ينبغي أن يقال له إنسان ومن لم يحكم هذا المقام فهو حيوان صورته صورة الإنسان لا غير
فقالت سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك أي ما عرفناك حقّ معرفتك إذ تكلّمنا بما لا ينبغي لنا أن نتكلّم به فإنّك أنت العليم القدير
ولمّا كان وجود هذه الأرض وقد دارت الأفلاك الثابتة
تخيّل القدماء الفلاسفة أنّ الأفلاك السماويّة مخلوقة قبل الأرض وأنّه يتنزّل الخلق إلى أن ينتهى إلى الأرض فأخطئوا في ذلك غاية الخطاء
لأنّ ذلك صنعة حكيم وتقدير عزيز عليم يفتقر العلم بذلك إلى إخباره باللسان الصادق والعلم الضرورىّ .
أو إقامة المثل بكيفيّة الأمر وليس للقدماء في هذه الطريقة كلّها مدخل فأجالوا الفكر على علم لا يتحصّل بالفكر فأخطئوا من كلّ وجه
ثمّ إنّ اللّه تعالى أدار بالأرض من جهة سطحها كرة الماء بتسخيف من الأرض وتحليل وعمر هذه الكرة بملائكة يقال لهم الساريات وعليهم مقدّم يسمّى الزاخر
وخلق العالم الملكىّ الّذي هو عالم الذكر بين الماء والأرض فلهم شركة في الماء والأرض
ثمّ أدار بالماء الهواء وجعل عمّاره من الملائكة الزاجرات وعليهم ملك يسمّى الرّعد وجعل بين الماء والهواء من الملائكة عالم الحياة
ثمّ أدار بالهواء كرة الأثير وهو النار وجعل عمّاره من الملائكة السابقات وعليهم ملك كريم هو مقدّمهم لا أعرف له اسما فإنّى ما عرّفت بذلك
وجعل عالم الشوق ممزوجا من الهواء والأثير ومن سطح الأرض إلى سطح هذه الكرة اثنان وسبعون سنة
ثمّ أدار بكرة الأثير السماء الدنيا وجعل عمّاره من الملائكة السابحات وعليهم ملك يسمّى المجتبى
وفيه خلق القمر وهو الإنسان المفرد وفيه أسكن روحانيّة آدم عليه السلام بعد موته وجعل بينه وبين كرة الأثير علم الخوف من الملائكة
ثمّ أدار بالسماء الدنيا هواء نورانيّا وجعل عمّاره من الملائكة ملائكة المزج
ثمّ أدار بذلك الهواء السماء الثانية وعمّرها بالملائكة الناشطات وعليهم ملك يسمّى الروح وفيه خلق اللّه كوكبا يسمّى عطارد وهو الكاتب
ثمّ أدار بالسماء الثانية هواء عجيبا جعل عمّاره صنفا من الملائكة يقال لهم عالم الحفظ والحافظات
ثمّ أدار بالهواء السماء الثالثة وعمّره بالملائكة القانتات وعليهم ملك يسمّى الجميل وفيه خلق اللّه كوكبا يسمّى الزّهرة وأدار به هواء أسكنه عالم الأنس
ثمّ أدار بذلك الهواء السماء الرابعة وعمّره من الملائكة بالصافّات وعليهم ملك يسمّى الرفيع وفيه خلق الشمس
ثمّ أدار بهذه السماء هواء عمّره بعالم البسط ثمّ أدار بهذا الهواء السماء الخامسة وعمّرها من الملائكة بالفارقات وعليهم ملك يسمّى الخاشع وفيه خلق اللّه كوكبا يقال له الأحمر
ثمّ أدار بهذه السماء هواء عمّره بعالم الهيبة ثمّ أدار بهذا الهواء السماء السادسة وعمّره من الملائكة بالملقيات وعليهم ملك يسمّى المقرّب وخلق اللّه فيها كوكبا يقال له المشترى
ثمّ أدار بهذه السماء هواء عمّره بعالم الجمال
ثمّ أدار بهذا الهواء السماء السابعة وعمّره من الملائكة بالنازعات عليهم الملك الكريم وفيه خلق اللّه كوكبا يسمّى كيوان .
ثمّ أدار به هواء إلى مقعّر فلك الكواكب الثابتة عمّره بعالم الجلال وفي هذا الهواء أسكن مالكا خازن النار وعزرائيل الّذي هو ملك الموت وفيه سدرة المنتهى الّتي أغصانها في الجنان وأصولها في أسفل السافلين فهي الزّقّوم لأهل النار والنعيم لأهل الجنان .
ومعنى قولنا خلق في هذه الأكرّ كلّها عالم كذا وعمّره بكذا إنّما أريد أنّ اللّه هيّأ فيها مراتب خلقها وكوّن فيها أجسامها النورانيّة وأعدّها لقبول الأرواح والحياة وأسرار هذه الاستعدادات كلّها في حركات الأفلاك الأربعة الثابتة .
فخلق السماء الأولى سماء القمر على طبع الماء باردة رطبة فجعل بينها وبين النار منافرة طبيعيّة حتّى لا تستحيل نارا فكان يبطل ما يراد بها من التحريك والأدوار الّتي يهب اللّه تعالى المولّدات والصّور عند دورانها في عالم الأركان
ورتّب مسالك خلقها فيها ومقاماتهم ودار هذا الفلك دورة قسريّة فصّل مكانه بها من الجسم الكلّى فظهر الهواء الّذي بينه وبين الفلك الّذي يوجد فوقه
وهكذا فعل في كلّ سماء من السبع
فالسماء الأوّلى والثالثة على طبيعة واحدة وهي البرودة والرطوبة
والرابعة والخامسة على طبيعة واحدة وهي الحرارة واليبوسة
والسماء الثانية ممزوجة
والسماء السادسة حارّة رطبة
والسماء السابعة باردة يابسة
ثمّ توجّه الحقّ سبحانه وتعالى على هذه السماوات والأرض وما بينهما بخلق الأرواح في صورها المعبّر عنه بالنفخ
فقبلت الأرواح على قدر استعدادها فظهرت أعيان العوالم الّذين ذكرناهم من الملائكة وحييت الأفلاك والأركان فدارت
واتّصل العمران وشهدت وأحبّت البقاء والكمال فتحرّكت في دورانها حركة الشوق إلى ذلك
ولا تشعر هذه الأفلاك ما أودع اللّه من الأسرار في دورانها
فإذا وقّت الطبيعة ما في قوّتها ممّا جبلها اللّه عليه في هذا العالم وحصل المنع في الأركان عن القبول عادت آثار حركات الأفلاك عليها
لمّا لم تجد فيها ما تنفذ فتصادمت تصادم الأشخاص هنا فانفطرت ورجعت إلى أصل المبدأ وحدث الليل والنهار بحدوث الشمس في السماء الرابعة
وتميّز اليوم بها عندنا وجعل اللّه تعالى حركات هذه الأفلاك كلّها على طريقة واحدة من الشرق إلى الغرب
كحركات الأفلاك الثابتة بخلاف ما يقول أصحاب علم الهيئة
وذلك أنّهم يرون السّيّارة تقطع في فلك الكواكب الثابتة من النّطح إلى البطين
ومن الحمل إلى الثور فيرون حركتها كأنّها بالعكس من حركة فلك الكواكب الثابتة
فيجعلون حركتها من الغرب إلى الشرق وليس الأمر كذلك
ولكنّ حركة فلك الكواكب على مقدار يعطيه تركيبه وطبعه من السرعة وأفلاك السيّارة معه في ذلك الدور غير أنّه يمشى عنها على قدر قوّته بالوزن المعلوم الّذي قدّره خالقه
فيظهر تأخّر القمر وغيره من السيّارة عن منزل النّطح إلى منزل البطين
وعن برج الحمل إلى برج الثور وهو تأخّر صحيح ولكن ليس بتأخّر حركة ضدّيّة تقابله
وكلّ من قال أنّ حركات الأفلاك مع حركات الفلك المحيط على التقابل فما عنده علم من شبهة ما ذكرناه والقهقرة الظاهرة في بعض السيّارات لسرعة تكون في فلكه في ذلك الوقت أعطاها تركيب ذلك الفلك وطبعه الّذي خلقه اللّه عليه
وكان هذا الإنشاء العجيب من حضرة الهواء المغيب وهو غيب الغيب ولم يقع منه للَّه تعالى إنشاء إلّا وقد جعل سبحانه توجّهات للملك الكريم المعبّر عنه بالنّفس واللوح إلى هذا الإنشاء وتوجّهات للملك الكريم .
الّذي هو العقل والقلم بالوهب الّذي له كما جعل الأدوار للأفلاك
وسكتنا عن إيضاح تحقيق الأسباب لئلّا يتخيّل الناضرة فيها منّا أنّا ممّن يجعل الفعل لغير اللّه ، أو ممّن يجعل الفعل للَّه بمشاركة السبب .
ولسنا من أهل هذين المذهبين وإنّ مذهبنا أن يقدّم
اللّه ما شاء من خلقه ويؤخّر ما شاء من خلقه ويخلق الشيء من كونه شيئا سببا إن شاء ولا يجعله سببا إن شاء لكن قد شاء وقد سبق في علمه أنّه لا يخلقها إلّا هكذا كما ذكرناه فمحال أن تكون إلّا هكذا لأنّ خلاف المعلوم محال
فلهذا سكتنا عن ذكر سببيّة القلم واللوح ولا سيّما
وقد قال بذلك من يعتقد فيه القائلون بالشرع أهل الحقّ أنّهم كفّار وهم القائلون بالعلّة والمعلول فالعاقل من نظر لنفسه وعامل الوقت بما يليق به
وتجنّب مواطن التّهم عند أصحاب وقته الّتي يؤدّى السلوك فيها عندهم إلى الخروج عن الدين فيما يزعمون وإن لم يكن الأمر كذلك وجهلوا ولا قدرة لك على ردّهم عن ذلك
وللحقّ وجوه كثيرة فخذ منها ما يوافق الوقت ويؤدّى إلى سلامة الدين والدنيا والمعتمد الدين فإن كان الوقت لا يقتضي في تمشية سلامة الدين فاختر لنفسك أن تظهر الحقّ والدين حتّى تموت مجاهدا
وإن شئت سترت نفسك ودينك وتظهر لهم فيما هم بسبيله بظاهرك إذا جبروك على ذلك فاضطررت إليه واعتزل عنهم ما استطعت في بيتك لإقامة دينك من حيث لا يعلمون
فقد كان بدء الإسلام على هذه الصورة من التكتّم وقد جاء في القرآن إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ .
كما قال أيضا في المجاهدين :" وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ " .
فانظر لنفسك من حيث دينك فإنّ إليه مردّك وهو الّذي يبقى لك والدنيا عرض زائل وعرض ماثل وهو ما لا يبقى عليك ولا تبقى عليه واصرمه قبل أن يصرمك وكن من حزب اللّه ولا تيأس من روح اللّه .
باب في الاستحالات
فلمّا كملت هذه الأركان والأفلاك على حسب ما ذكرناها ودارت الأحد عشر فلكا وهي آباؤنا العلويّات
وتحرّكت الأركان لدورانها وهي القوابل الحوامل أمّهاتنا السّفليّات
وأعطت الحركات في الأركان الحرارة فسخن العالم وتوجّه العقل والنفس الّذي هو القلم واللوح وتوجّه العنصر الأعظم الشريف الّذي هو لكرة العالم كالنقطة والقلم لها كالمحيط واللوح ما بينهما وكما أنّ النقطة تقابل المحيط بذاتها
كذلك هذا العنصر يقابل بذاته جمع وجوه العقل وهي الرقائق الّتى ذكرناها قبل فهي في العنصر واحدة
وهي في العقل تتعدّد وتتكثّر لتعدّد قبوله منه فللعنصر التفاتة واحدة وللعقل وجوه كثيرة في القبول
فلهذا كان العنصر أشدّ تحقّقا بتوحيد خالقه من العقل لأنّه أتمّ نسبة وأقوى
وإلى العنصر والعقل الإشارة الإلهيّة عندنا بقوله تعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ".
وهي بقيّة الكتب والصّحف والمتنزّلات :"لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ " يشير إلى المحيط من الأسرار والمواهب الّتي بيد الملك القلم " وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " يشير إلى النقطة من الغيوب واللطائف من العنصر والكلّ منه وهو مستمدّ من اللّه تعالى بذاته .
ولمّا سخن العالم ابتدأت الاستحالات في الأركان الّتي بها يقع التوالد والتناسل وجعل استحالة هذه الأركان بعضها لبعض على حسب ما نظمها العزيز العليم.
وانظر ما أعجب من أنّه جعل أوّل الأركان وهي الأرض وآخر الدوائر السمويّة وهي السماء السابعة على طبيعة واحدة وهي البرودة واليبوسة
وجعل بين هذه الأركان منافرة فمنها ما يقتضي المنافرة من كل وجه كالنار والماء والهواء والتراب فلم يتجاوروا وجعل الحقّ بينهما وسائط :
فجعل الماء بين الهواء والتراب
وجعل الهواء بين الماء والنار وإن كان بينهما منافرة من وجه فبينهما مناسبة من وجه فالواسطة الّذي هو الماء ينافر النار بذاته ويناسب الأرض بما فيه من البرودة
ويناسب الهواء بما فيه من الرطوبة
والواسطة الّذي هو الهواء ينافر التراب بذاته ويناسب النار بما هو حارّ ويناسب الماء بما هو رطب فتستحيل الأرض ماء والماء هواء
والهواء نارا والنار ترابا بغير واسطة فإذا أراد الأرض تستحيل هواء والهواء يستحيل ترابا فلا بدّ أن يستحيل كلّ واحد منهما ماء وحينئذ تستحيل الأرض هواء والهواء أرضا ويستحيلان نارا وحينئذ يلحق الهواء بالأرض والأرض بالهواء
وكذلك الماء إذا أراد أن يستحيل نارا والنار ماء فلا بدّ أن يستحيلا هواء أو ترابا وحينئذ يستحيل هذا نارا والنار ماء
وهذه الاستحالات إنّما تقع بالإفراط فإذا جاوز المستحيل حدّه انتقل إلى ضدّه من الوجه الّذي هو ضدّه فإذا جاوزت اليبوسة حدّها في النار كانت رطوبة فصارت هواء
وإذا جاوزت الرطوبة في الهواء حدها كانت يبوسة فاستحال الهواء نارا فإذا جاوزت الحرارة والرطوبة حدّهما في الهواء استحل ترابا
وكذلك النار تستحيل ماء والماء نارا والتراب هواء ولكنّ هذه الاستحالات نادرة الوقوع وما رأيت أحدا نبّه عليها لشذوذ وقوعها نار
فرأت الملائكة ميد الأرض وقد حصل لهم التعريف من اللّه بأنّها محلّ خلق يخلقون منها على نشأة مخصوصة لا يمكن معها التصرّف إلّا على ساكن
فقالت يا ربّنا كيف استقرار عبادك على هذه الأرض
فأبدى لهم تجلّيا أصعقهم به وخلق من الأبخرة الغليظة المتراكمة الكثيفة الصاعدة من الأرض الجبال فقالبها عليها فسكن ميد الأرض وذهبت تلك الحركة الّتي لا يكون معها استقرار
وطوّق هذه الأرض بجبل محيط بها وهو من الصخرة الخضراء وطوّق به حيّة عظيمة اجتمع رأسها بذنبها
رأيت من صعد هذا الجبل ومن عاين هذه الحيّة وكلّمها
وقالت سلّم منّى إلى أبى مدين وكان من الأبدال من أصحاب خطوة
يقال له موسى السّدرانىّ وكان محمولا له فسأله يوسف بن يحلف عن طول هذا الجبل في الهواء
فقال صلّيت الضّحى في أسفله والعصر في أعلاه فأنا بهذه المثابة يعنى من اتّساع الخطوة .
ثمّ أفاق الملا الأعلى من صعقتهم فرأوا من قدرة اللّه تعالى ما هالهم
فقالوا : ربّنا هل خلقت شيئا أشدّ من هذه الجبال؟
فقال نعم الحديد .
فقالوا :ربّنا فهل خلقت شيئا أشدّ من الحديد؟
فقال : نعم النار
فقالوا ربّنا فهل خلقت شيئا أشدّ من النار؟
قال : نعم الماء
فقالوا ربّنا فهل خلقت شيئا أشدّ من الماء ؟
قال : نعم الريح
فقالوا ربّنا فهل خلقت شيئا أشدّ من الريح؟
قال : نعم الإنسان يتصدّق بصدقة فلا تعرف شماله ما تنفق يمينه
فهذا هو الّذي ملك الهواء ، فمن ملك هواه فهو أشدّ من الهواء
وهو الّذي ينبغي أن يقال له إنسان ومن لم يحكم هذا المقام فهو حيوان صورته صورة الإنسان لا غير
فقالت سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك أي ما عرفناك حقّ معرفتك إذ تكلّمنا بما لا ينبغي لنا أن نتكلّم به فإنّك أنت العليم القدير
ولمّا كان وجود هذه الأرض وقد دارت الأفلاك الثابتة
تخيّل القدماء الفلاسفة أنّ الأفلاك السماويّة مخلوقة قبل الأرض وأنّه يتنزّل الخلق إلى أن ينتهى إلى الأرض فأخطئوا في ذلك غاية الخطاء
لأنّ ذلك صنعة حكيم وتقدير عزيز عليم يفتقر العلم بذلك إلى إخباره باللسان الصادق والعلم الضرورىّ .
أو إقامة المثل بكيفيّة الأمر وليس للقدماء في هذه الطريقة كلّها مدخل فأجالوا الفكر على علم لا يتحصّل بالفكر فأخطئوا من كلّ وجه
ثمّ إنّ اللّه تعالى أدار بالأرض من جهة سطحها كرة الماء بتسخيف من الأرض وتحليل وعمر هذه الكرة بملائكة يقال لهم الساريات وعليهم مقدّم يسمّى الزاخر
وخلق العالم الملكىّ الّذي هو عالم الذكر بين الماء والأرض فلهم شركة في الماء والأرض
ثمّ أدار بالماء الهواء وجعل عمّاره من الملائكة الزاجرات وعليهم ملك يسمّى الرّعد وجعل بين الماء والهواء من الملائكة عالم الحياة
ثمّ أدار بالهواء كرة الأثير وهو النار وجعل عمّاره من الملائكة السابقات وعليهم ملك كريم هو مقدّمهم لا أعرف له اسما فإنّى ما عرّفت بذلك
وجعل عالم الشوق ممزوجا من الهواء والأثير ومن سطح الأرض إلى سطح هذه الكرة اثنان وسبعون سنة
ثمّ أدار بكرة الأثير السماء الدنيا وجعل عمّاره من الملائكة السابحات وعليهم ملك يسمّى المجتبى
وفيه خلق القمر وهو الإنسان المفرد وفيه أسكن روحانيّة آدم عليه السلام بعد موته وجعل بينه وبين كرة الأثير علم الخوف من الملائكة
ثمّ أدار بالسماء الدنيا هواء نورانيّا وجعل عمّاره من الملائكة ملائكة المزج
ثمّ أدار بذلك الهواء السماء الثانية وعمّرها بالملائكة الناشطات وعليهم ملك يسمّى الروح وفيه خلق اللّه كوكبا يسمّى عطارد وهو الكاتب
ثمّ أدار بالسماء الثانية هواء عجيبا جعل عمّاره صنفا من الملائكة يقال لهم عالم الحفظ والحافظات
ثمّ أدار بالهواء السماء الثالثة وعمّره بالملائكة القانتات وعليهم ملك يسمّى الجميل وفيه خلق اللّه كوكبا يسمّى الزّهرة وأدار به هواء أسكنه عالم الأنس
ثمّ أدار بذلك الهواء السماء الرابعة وعمّره من الملائكة بالصافّات وعليهم ملك يسمّى الرفيع وفيه خلق الشمس
ثمّ أدار بهذه السماء هواء عمّره بعالم البسط ثمّ أدار بهذا الهواء السماء الخامسة وعمّرها من الملائكة بالفارقات وعليهم ملك يسمّى الخاشع وفيه خلق اللّه كوكبا يقال له الأحمر
ثمّ أدار بهذه السماء هواء عمّره بعالم الهيبة ثمّ أدار بهذا الهواء السماء السادسة وعمّره من الملائكة بالملقيات وعليهم ملك يسمّى المقرّب وخلق اللّه فيها كوكبا يقال له المشترى
ثمّ أدار بهذه السماء هواء عمّره بعالم الجمال
ثمّ أدار بهذا الهواء السماء السابعة وعمّره من الملائكة بالنازعات عليهم الملك الكريم وفيه خلق اللّه كوكبا يسمّى كيوان .
ثمّ أدار به هواء إلى مقعّر فلك الكواكب الثابتة عمّره بعالم الجلال وفي هذا الهواء أسكن مالكا خازن النار وعزرائيل الّذي هو ملك الموت وفيه سدرة المنتهى الّتي أغصانها في الجنان وأصولها في أسفل السافلين فهي الزّقّوم لأهل النار والنعيم لأهل الجنان .
ومعنى قولنا خلق في هذه الأكرّ كلّها عالم كذا وعمّره بكذا إنّما أريد أنّ اللّه هيّأ فيها مراتب خلقها وكوّن فيها أجسامها النورانيّة وأعدّها لقبول الأرواح والحياة وأسرار هذه الاستعدادات كلّها في حركات الأفلاك الأربعة الثابتة .
فخلق السماء الأولى سماء القمر على طبع الماء باردة رطبة فجعل بينها وبين النار منافرة طبيعيّة حتّى لا تستحيل نارا فكان يبطل ما يراد بها من التحريك والأدوار الّتي يهب اللّه تعالى المولّدات والصّور عند دورانها في عالم الأركان
ورتّب مسالك خلقها فيها ومقاماتهم ودار هذا الفلك دورة قسريّة فصّل مكانه بها من الجسم الكلّى فظهر الهواء الّذي بينه وبين الفلك الّذي يوجد فوقه
وهكذا فعل في كلّ سماء من السبع
فالسماء الأوّلى والثالثة على طبيعة واحدة وهي البرودة والرطوبة
والرابعة والخامسة على طبيعة واحدة وهي الحرارة واليبوسة
والسماء الثانية ممزوجة
والسماء السادسة حارّة رطبة
والسماء السابعة باردة يابسة
ثمّ توجّه الحقّ سبحانه وتعالى على هذه السماوات والأرض وما بينهما بخلق الأرواح في صورها المعبّر عنه بالنفخ
فقبلت الأرواح على قدر استعدادها فظهرت أعيان العوالم الّذين ذكرناهم من الملائكة وحييت الأفلاك والأركان فدارت
واتّصل العمران وشهدت وأحبّت البقاء والكمال فتحرّكت في دورانها حركة الشوق إلى ذلك
ولا تشعر هذه الأفلاك ما أودع اللّه من الأسرار في دورانها
فإذا وقّت الطبيعة ما في قوّتها ممّا جبلها اللّه عليه في هذا العالم وحصل المنع في الأركان عن القبول عادت آثار حركات الأفلاك عليها
لمّا لم تجد فيها ما تنفذ فتصادمت تصادم الأشخاص هنا فانفطرت ورجعت إلى أصل المبدأ وحدث الليل والنهار بحدوث الشمس في السماء الرابعة
وتميّز اليوم بها عندنا وجعل اللّه تعالى حركات هذه الأفلاك كلّها على طريقة واحدة من الشرق إلى الغرب
كحركات الأفلاك الثابتة بخلاف ما يقول أصحاب علم الهيئة
وذلك أنّهم يرون السّيّارة تقطع في فلك الكواكب الثابتة من النّطح إلى البطين
ومن الحمل إلى الثور فيرون حركتها كأنّها بالعكس من حركة فلك الكواكب الثابتة
فيجعلون حركتها من الغرب إلى الشرق وليس الأمر كذلك
ولكنّ حركة فلك الكواكب على مقدار يعطيه تركيبه وطبعه من السرعة وأفلاك السيّارة معه في ذلك الدور غير أنّه يمشى عنها على قدر قوّته بالوزن المعلوم الّذي قدّره خالقه
فيظهر تأخّر القمر وغيره من السيّارة عن منزل النّطح إلى منزل البطين
وعن برج الحمل إلى برج الثور وهو تأخّر صحيح ولكن ليس بتأخّر حركة ضدّيّة تقابله
وكلّ من قال أنّ حركات الأفلاك مع حركات الفلك المحيط على التقابل فما عنده علم من شبهة ما ذكرناه والقهقرة الظاهرة في بعض السيّارات لسرعة تكون في فلكه في ذلك الوقت أعطاها تركيب ذلك الفلك وطبعه الّذي خلقه اللّه عليه
وكان هذا الإنشاء العجيب من حضرة الهواء المغيب وهو غيب الغيب ولم يقع منه للَّه تعالى إنشاء إلّا وقد جعل سبحانه توجّهات للملك الكريم المعبّر عنه بالنّفس واللوح إلى هذا الإنشاء وتوجّهات للملك الكريم .
الّذي هو العقل والقلم بالوهب الّذي له كما جعل الأدوار للأفلاك
وسكتنا عن إيضاح تحقيق الأسباب لئلّا يتخيّل الناضرة فيها منّا أنّا ممّن يجعل الفعل لغير اللّه ، أو ممّن يجعل الفعل للَّه بمشاركة السبب .
ولسنا من أهل هذين المذهبين وإنّ مذهبنا أن يقدّم
اللّه ما شاء من خلقه ويؤخّر ما شاء من خلقه ويخلق الشيء من كونه شيئا سببا إن شاء ولا يجعله سببا إن شاء لكن قد شاء وقد سبق في علمه أنّه لا يخلقها إلّا هكذا كما ذكرناه فمحال أن تكون إلّا هكذا لأنّ خلاف المعلوم محال
فلهذا سكتنا عن ذكر سببيّة القلم واللوح ولا سيّما
وقد قال بذلك من يعتقد فيه القائلون بالشرع أهل الحقّ أنّهم كفّار وهم القائلون بالعلّة والمعلول فالعاقل من نظر لنفسه وعامل الوقت بما يليق به
وتجنّب مواطن التّهم عند أصحاب وقته الّتي يؤدّى السلوك فيها عندهم إلى الخروج عن الدين فيما يزعمون وإن لم يكن الأمر كذلك وجهلوا ولا قدرة لك على ردّهم عن ذلك
وللحقّ وجوه كثيرة فخذ منها ما يوافق الوقت ويؤدّى إلى سلامة الدين والدنيا والمعتمد الدين فإن كان الوقت لا يقتضي في تمشية سلامة الدين فاختر لنفسك أن تظهر الحقّ والدين حتّى تموت مجاهدا
وإن شئت سترت نفسك ودينك وتظهر لهم فيما هم بسبيله بظاهرك إذا جبروك على ذلك فاضطررت إليه واعتزل عنهم ما استطعت في بيتك لإقامة دينك من حيث لا يعلمون
فقد كان بدء الإسلام على هذه الصورة من التكتّم وقد جاء في القرآن إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ .
كما قال أيضا في المجاهدين :" وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ " .
فانظر لنفسك من حيث دينك فإنّ إليه مردّك وهو الّذي يبقى لك والدنيا عرض زائل وعرض ماثل وهو ما لا يبقى عليك ولا تبقى عليه واصرمه قبل أن يصرمك وكن من حزب اللّه ولا تيأس من روح اللّه .
باب في الاستحالات
فلمّا كملت هذه الأركان والأفلاك على حسب ما ذكرناها ودارت الأحد عشر فلكا وهي آباؤنا العلويّات
وتحرّكت الأركان لدورانها وهي القوابل الحوامل أمّهاتنا السّفليّات
وأعطت الحركات في الأركان الحرارة فسخن العالم وتوجّه العقل والنفس الّذي هو القلم واللوح وتوجّه العنصر الأعظم الشريف الّذي هو لكرة العالم كالنقطة والقلم لها كالمحيط واللوح ما بينهما وكما أنّ النقطة تقابل المحيط بذاتها
كذلك هذا العنصر يقابل بذاته جمع وجوه العقل وهي الرقائق الّتى ذكرناها قبل فهي في العنصر واحدة
وهي في العقل تتعدّد وتتكثّر لتعدّد قبوله منه فللعنصر التفاتة واحدة وللعقل وجوه كثيرة في القبول
فلهذا كان العنصر أشدّ تحقّقا بتوحيد خالقه من العقل لأنّه أتمّ نسبة وأقوى
وإلى العنصر والعقل الإشارة الإلهيّة عندنا بقوله تعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ".
وهي بقيّة الكتب والصّحف والمتنزّلات :"لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ " يشير إلى المحيط من الأسرار والمواهب الّتي بيد الملك القلم " وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " يشير إلى النقطة من الغيوب واللطائف من العنصر والكلّ منه وهو مستمدّ من اللّه تعالى بذاته .
ولمّا سخن العالم ابتدأت الاستحالات في الأركان الّتي بها يقع التوالد والتناسل وجعل استحالة هذه الأركان بعضها لبعض على حسب ما نظمها العزيز العليم.
وانظر ما أعجب من أنّه جعل أوّل الأركان وهي الأرض وآخر الدوائر السمويّة وهي السماء السابعة على طبيعة واحدة وهي البرودة واليبوسة
وجعل بين هذه الأركان منافرة فمنها ما يقتضي المنافرة من كل وجه كالنار والماء والهواء والتراب فلم يتجاوروا وجعل الحقّ بينهما وسائط :
فجعل الماء بين الهواء والتراب
وجعل الهواء بين الماء والنار وإن كان بينهما منافرة من وجه فبينهما مناسبة من وجه فالواسطة الّذي هو الماء ينافر النار بذاته ويناسب الأرض بما فيه من البرودة
ويناسب الهواء بما فيه من الرطوبة
والواسطة الّذي هو الهواء ينافر التراب بذاته ويناسب النار بما هو حارّ ويناسب الماء بما هو رطب فتستحيل الأرض ماء والماء هواء
والهواء نارا والنار ترابا بغير واسطة فإذا أراد الأرض تستحيل هواء والهواء يستحيل ترابا فلا بدّ أن يستحيل كلّ واحد منهما ماء وحينئذ تستحيل الأرض هواء والهواء أرضا ويستحيلان نارا وحينئذ يلحق الهواء بالأرض والأرض بالهواء
وكذلك الماء إذا أراد أن يستحيل نارا والنار ماء فلا بدّ أن يستحيلا هواء أو ترابا وحينئذ يستحيل هذا نارا والنار ماء
وهذه الاستحالات إنّما تقع بالإفراط فإذا جاوز المستحيل حدّه انتقل إلى ضدّه من الوجه الّذي هو ضدّه فإذا جاوزت اليبوسة حدّها في النار كانت رطوبة فصارت هواء
وإذا جاوزت الرطوبة في الهواء حدها كانت يبوسة فاستحال الهواء نارا فإذا جاوزت الحرارة والرطوبة حدّهما في الهواء استحل ترابا
وكذلك النار تستحيل ماء والماء نارا والتراب هواء ولكنّ هذه الاستحالات نادرة الوقوع وما رأيت أحدا نبّه عليها لشذوذ وقوعها نار
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin