“ 192 “
زيف التأويل الركيك الذي قالت به الذبابة
كانت ذبابة على عود فوق بول حمار ، وقد رفعت رأسها كربّان السفينة !
وقالت : “ إنيّ أسمّيهما بحراً وسفينة ! وهذا ما استغرق فكري مدة من الزمان !
فانظر هذا البحر وتلك السفينة ، وأنا ( فوقهما ) الربان البارع الحصيف الرأي ! “ .
1085 - فكانت هذه الذبابة تسيّر سفينتها على صفحة البحر ، وقد بدا لها هذا القدر ماء لا يحدّ .
لقد كان هذا البول يبدو بلا حدود بالنسبة لها ، ومن أين لها ذلك النظر الذي يراه على حقيقته ؟
إنّ عالمها يمتد إلى المدى الذي يدركه بصرها ، فعلى قدر العين يكون مدى بحرها .
فصاحب التأويل الباطل مثل الذبابة ، وهَمْهُ بول حمار ، وتصوّره قشَة .
ولو أنّ هذه الذبابة تركت التأويل ، ولزمت رأيها ، لصيّرها الجدّ السعيد عنقاء .
1090 - فمن يدرك هذه العبرة لا يكون ذبابة، كما أنّ هذه الصورة لا تليق بروحه.
“ 193 “
كيف غضب الأسد وزبحر لتأخر الأرنب في الحضور
فمن هذا القبيل ذلك الأرنب الذي ضرب الأسد ! فمتى كانت روحه على قدر جسمه ؟
لقد كان الأسد يقول في حدة وغضب : “ إنّ عدوّي قد حجب عينيّ عن طريق السعي والاجتهاد .
لقد كبّلني مكر هؤلاء المجبرين ، كما أنّ سيفهم الخشيّ آلم جسمي .
فلن أصغى من بعدُ إلى هذا الهراء ، فما هو إلا صوت الشياطين والغيلان .
1095- فمزّ قهم أيّها القلب ، ولا تتوان ( في ذلك ) ! مزّق جلودهم ، فما هم إلا جلود !
وما الجلد ؟ إنّه الكلام المزوّق الذي لا دوام له ، كأنّه الفقاقيع فوق الماء !
فاعلم أنّ الكلام مثل الجلد ، والمعنى لبابهُ ، وأنّه مثل الصورة ، وأما المعنى فمثل الروح .
والجلد هو الذي يستُر عيب اللباب الفاسد ، كما أنّه يحرص على أن يغطيّ اللباب الطيّب .
وحينما يكون القلم هواء والدفتر ماء فسرعان ما يفنى كلّ ما تكتبه !
1100 - فهذا نقش على الماء، فلو نشدت له الدوام ، عدت (خائباً) تعضّ يديك.
“ 194 “
والهواء في الإنسان ميوله ورغائبه ، فإذا تركت هواك ( صرت جديراً ) برسالة اللَّه .
وما أحلى رسائل الخالق ! إنّها خالدة من أوّلها إلى آخرها “ 1 “ .
إنّ خطَب الملوك تفنى ، كما يفنى سُلطانهم ، ويخلد مجدُ الأنبياء كما تخلد أقوالهم .
ذلك لأنّ مجد الملوك من الهواء ، وأما مجد الأنبياء فمن مقام الكبرياء !
1105 - وأسماء الملوك تُرفع من الدراهم بعد موت هؤلاء ، وأما اسم أحمد فيظلّ يُطبع فوقها إلى الأبد .
واسم أحمد هو اسم جميع الأنبياء ، فعندما يصل العدد إلى المائة تكون التسعون معنا “ 2 “ .
عود إلى بيان مكر الأرنب
لقد تلكأ الأرنب في الذهاب طويلًا ، وأخذ يدّرب نفسه على المكر الذي انتواه .
فمضى على الطريق - بعد طول الإبطاء - ليهمس في أذن الأسد بسرّ أو سرّين .
وكم من عوالم تصل إليها تجارة العقل ! وما أوسع المدى الذي تمتدّ إليه بحار الفكر !
..........................................................................
( 1 ) حرفياً : من رأسها إلى قدمها .
( 2 ) لما كان محمد خاتم الأنبياء ، كان ذكره متضمناً ذكر الأنبياء الذين سبقوه ، فهو مثل العدد اللاحق يتضمن ما سبقه من الأعداد .
“ 195 “
1110 - وصوُرنا تتحرك مسرعة فوق ذلك البحر العذب “ 1 “ ، كأنّها الكؤوس فوق سطح الماء .
وهي كالإناء “ 2 “ تظل طافية ما لم تمتلئ ، فإنّ الإناء إذا امتلأ غرق في الماء .
والعقل محتجب ( عن العيان ) ، وأما الظاهر فهو عالمُ صورنا فيه موج أو رذاذ ( من بحر العقل ) .
وكلما اتخذت الصورة وسيلة ( إلى ذلك البحر ) ، فإنّ البحر يلقي بالصورة بعيداً عن وسيلتها ، حتى لا يرى القلب من أعطاه السرّ ، كما لا يرى السهمُ من قذف به بعيداً .
1115 - ( ومَثل من لا يرى كمثل ) من يعتقد أنّ حصانه ضائع ، على حين هو يحثّه بعناد على الإسراع في الطريق ! إنّ هذا الرجل الكريم ، يظنّ حصانه ضائعاً ، مع أنّ حصانه يمضي منطلقاً به كالريح ! فهو مُشتّت الفكر ، يبحث عنه منتحباً في كلّ مكان ، ويمضي منقباً ، مستفسراً ( عنه ) من باب إلى باب .
( قائلًا ) : “ أين من سرق حصاني ؟ ومن يكون ؟ “ ( فيجيبه من يقول ) : “ فما هذا الذي أنت ممتطيه أيها السيد ؟ “ “ نعم هذا حصان ، ولكن أين الحصان ؟ “ .
“ ألا فلتَثُبْ إلى رشدك أيها الفارس الباحث عن حصانه ! “
1120 - فالروحُ هكذا ، ظاهرة قريبة منا ، ( لكنّها ) غائبة ( عن أعيننا ) .
فمثلها كمثل البطن ، يملؤه الماء ، على حين جفت الشفتان كحلق الإبريق !
............................................................
( 1 ) بحر الفكر .
( 2 ) حرفياً : الطست .
“ 196 “
وكيف تَرى الأحمر والأخضر والورديّ ، إذا لم تر النور قبل هذه الألوان الثلاثة ؟
فأما وقد ضاع عقلك في الألوان ، فقد أصبحتْ هذه الألوان حجاباً لك عن النور !
ولما كانت هذه الألوان تحتجب في الظلام ، فقد رأيتَ كيف أنّ إبصارك اللون ، كان مستمدّاً من النور .
فالألوان لا تُرى بدون النور الخارجيّ ، وهكذا لون الخيال في الباطن .
1125 - والنور الخارجيّ ( يجيء ) من الشمس ومن السُها ، وأما النور الباطنيّ فمن انعكاس الأنوار العُلى .
والنور الذي في العين ليس إلا نور القلب ، فأنوار العيون حاصلةُ من أنوار القلوب !
وأما النور الذي في القلب فهو نور اللَّه . إنَّه نورُ خالص من نور العقل والحسّ ، منفصل عنهما .
إنّك لا ترى اللون بالليل ، لأنّه لا نور فيه ، كما أنّ النور قد قد تميَّزَ أمامك بضدّه ( الظلام ) .
فرؤية النور تعقبها رؤية اللون ، وأنت سرعان ما تدرك ذلك بضدّ النور .
1130 - ولقد خلق اللَّه الألم والحزن ، حتى تتضح لك سعادة القلب بضدّها .
إنّ الخفايا تظهر للعين بأضدادها ، ولما كان الحقّ لا ضدّ له ، فهو محتجب ( عن الأبصار ) .
وكما أنّ النظر يقع على النور ، ثم على اللون ، فإنّ الضدّ يتميّز بضده ، كما يتميزّ الروم من الزنج .
“ 197 “
إنّك قد عرفت النور بضدّ النور ، فكل ضد يبيّن ضدّه في الصدور .
ولما كان نور الحق لا ضدّ له في الوجود ، حتى يمكن اتّضاحه لنا بهذا الضدّ ،
1135 - فلا جرم أنّه ،” لا تُدْركُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْركُ الْأَبْصارَ ““ 1 “ .
ألا فلتتأمل قصة موسى والجبل ! واعلم أنّ الصورة ( تقفز ) من المعنى كالأسد من الغابة ، أو كالصوت والكلام من الفكر .
فهذا الكلام وذلك الصوت انبعثا من الفكر ، وأنت لا تعلم أين بحر الفكر .
لكنّك حينما رأيت موج الكلام لطيفاً ، أدركت أنّ بحره هو أيضاً شريف .
ولما تدافعَ من المعرفة موجُ الفكر ، جعلتَ له صورة من الكلام والأصوات .
1140 - فالصورةُ قد ولدت من الكلام ثم ماتت ، فعاد الموجُ من جديد إلى البحر .
إنّ الصورة قد خرجت من اللاصورة ، ثم عادت إلى من نحن إليه راجعون .
ففي كل لحظة لك موت ورجعة ! ولقد قال المصطفى : ( الدنيا ساعة ) .
وفكرنا سهمُ من اللَّه انطلق في الهواء ، فكيف يبقى في الهواء ، إنه يعود إلى اللَّه .
إنّ الدنيا تتجدّد في كلّ لحظة ، ونحن لا ندري بتجدّدها ، وهي
..................................................................
( 1 ) سورة الأنعام ، 6 : 103 .
“ 198 “
باقية ( على هيئتها الظاهريّة ) !
1145- والعمر - وإنْ بدا مستمرّاً في الجسد - فإنّه يتجدّد على الدوام كما يتجدّد ماء النهر .
فهو لسرعته يتخذ صورة الاستمرار ، كالشرر المتطاير ( من جمرة ) تديرها يدُ مسرعة .
فلو أنّك أدرت عوداً ملتهباً ، بدا للعين ناراً طويلة المدى .
وطول الزمان من سرعة صنعه ، فالسرعة هي التي تظهر روعة الصنع .
فإذا كان طالب هذا السرّ رجلًا واسع العلم ( فقل له ) : “ عليك بحسام الدين ، فإنه كتاب رفيع ! “
كيف ذهب الأرنبُ إلى الأسد وكيف غضب عليه الأسد
1150 - وبينما كان الأسد محتدماً غاضباً ثاثراً ، رأى ذلك الأرنب قادماً نحوه من بعيد !
لقد كان يتقدم مسرعاً جسوراً ، غير هيّاب ، وقد بدا عليه الغضبُ والعنف ، وحدّة الطبع ، وعبوس الوجه .
فالمجيء بانكسار مثارُ للتهم ، وأما الجسارة ففيها دفع لكلّ الريب .
فلما دنا واقترب من الأعتاب ، صاح به الأسد : “ ها أنت ذا أيّها الخسيس ! أنا من مزَّق الثيران ، إرباً ، وعرك أذن الفيل القويِّ !
1155- أيزدري مشيئتي “ 1 “ على هذا الوجه نصف أرنب مثلك ؟ “
......................................................
( 1 ) حرفياً : أيلقي بأمرنا فوق التراب . .
“ 199 “
ألا فلتدع النوم ، وغفلة الأرانب ، ولتصغ - أيها الحمار - إلى زئير هذا الأسد “ 1 “ !
كيف اعتذر الأرنب
فقال الأرنب : “ أماناً فإنّ لي عذراً ، لو أنّ عفوك الملكي يبسط لي يداً !
“ فقال الأسد : “ أيّ عذر لك ؟ يالقصود هؤلاء البلهاء !
( ومع هذا ) فهم في هذا الزمان يمثُلون أمام الملوك !
إنّك طائر تأخّر عن وقته ، والواجب قطع رأسك ، فليس يجوز الإصغاء إلى عذر الأحمق .
1160 - فعُذرُ الأحمق أقبحُ من ذنبه ، وعذر الجهلاء هو السم الذي يقتل المعرفة !
إنّ عذرك أيها الأرنب مجردُ من الحكمة ، فأي أرنب أنا حتى تُدخلَه أُذني ؟
فقال الأرنب : “ أيها الملك ! هَبْ اعتباراً لمن لا اعتبار له ، واستمع إلى عذر مظلوم !
ولا تَدفعْ ضالًا عن طريقك ، ففي ذلك - على الخصوص - زكاة عن جاهك !
إنّ البحر الذي يُمدُّ كلّ الأنهار ، بمائه ، يحمل القمامة على رأسه وعلى وجهه .
................................................................................
( 1 ) يقول نيكولسون إنّ هذا البيت موجه إلى القارئ . ولكنّ السياق لا يمنع من أن يكون تتمة لحديث الأسد مع الأرنب .
“ 200 “
1165 - ولن ينتقص من البحر هذا الكرم ، فالبحر لا يزيد بالكرم ولا ينقص “ .
فقال الأسد : “ إني لذو كرم ، ولكني أضع الكرم في موضعه .
إني أقصّ لكلّ امرئ ثوبه على قدر قامته “ .
فقال الأرنب : ألا فلتستمع إليّ فإن لم تجدني أهلًا للطفك فإني أُسلم رأسي إلى تنّين عنفك !
لقد مضيتُ على الطريق وقت الإفطار ، وكنت متّجهاً مع رفيقي إلى الملك .
وكانت جماعة الوحوش قد أرسلتني إليك بصحبة أرنب آخر .
1170 - فتصدّى لعبدك أسد في الطريق ، وهاجم الرفيقين المتجهين إليك .
فقلت له : “ إننا من عبيد ملك الملوك ، إننا رفيقان صغيران في خدمة هذا البلاط “ .
فقال : “ ملك الملوك ؟ من هذا ؟ ألا فلتستح ، ولا تذكر أمامي كلّ خسيس !
فلسوف أمزّقك وأمزّق ملك ، لو أنك ورفيقك تحولتما عن بابي “ .
فقلت له : “ ألا فلتُخل سبيلي ، حتى أرى وجه مليكي مرة أُخرى ، وأحمل إليه خبراً منك “ .
1175 - فقال : “ لتترك رفيقك رهينة عندي ، وإلا فإنك - في شرعتي - تكون الضحيَّة “ .
وقد أطلنا الحديث معه فلم يُجد نفعا ، فأمسك برفيقي وتركني أمضي وحيداً .
وكان رفيقي يعدل ثلاثة مثلي ببدانته ، وكان ( تفوقه ) في اللطف والملاحة يعدل تفوقه في الجسم .
إن هذا الأسد قد سدّ أمامنا الطريق بعد اليوم ، فتقطَّعت بذلك حبال عهودنا !
“ 201 “
فاقطع الأمل من وظيفتك بعد اليوم ! إني أقول لك الحقّ ، والحق مر !
1180- فإذا كانت الوظيفة واجبةً لك فطهَّر الطريق . هيّا ، أقبل ، وادفع ( شرّ ) هذا الجسور ! “
كيف استجاب الأسد للأرنب وسار معه
فقال الأسد : “ باسم اللَّه ، هيّا بنا إلى حيث يكون تقدّم أمامي إن كنت تقول الصدق ، حتى أُعطيه ومائة من أمثاله جزاءهم !
فإنْ كان كلامك هذا كذباً أنلتك جزاءك “ .
فسار الأرنب أمامه كالدليل ، ليقوده نحو حبائله ، نحو بئر كان قد حدّد مكانه ، بئرٍ عميق جعل منه فخّاً لروح الأسد .
1185- وتقدّم الاثنان نحو البئر . فهاك أرنباً كالماء تحت التبن !
إنّ الماء يحمل عود القشّ إلى السهل المنبسط ، ولكن عجباً كيف تحمل القشّةُ جبلًا ؟
لقد كانت شباك مكره هي الوهق الذي صاد الأسد ، فواعجباً لأرنب صاد أسداً !
إنّ موسى واحداً ، جرّ فرعون إلى نهر النيل مع جيشه وجمعه الكثيف .
ولقد شقِّت بعوضةُ أمّ رأس النمرود بنصف جناح ، غير مبالية بذاته .
1190- فتأمل حال من أصغى إلى قول العدوّ ، وجزاء من كان صديقاً للحسود !
“ 202 “
حال فرعون الذي استمع إلى هامان ، وحال النمرود الذي أصغى إلى الشيطان .
فإذا كان العدوّ يخاطبك بأسلوب المودّة ، فاعلم أنّ حديثه شركُ وإنْ جاء في صورة الَحبّ !
وإنْ أعطاك العسل فاعلم أنّه سم ، وإن مس جسمك بلطف فاعلم أنّ ذلك ( اللطف ) قسوة وبغضاء .
إنّك - حين يقع القضاء - لا تُبصر الجلدْ ( الظاهري ) ، ولا تعرف العدوّ من الصديق .
1195- فإذا وقع هذا فلتشرع في الابتهال ، ولتأخذ نفسك بالتضرع والتسبيح والصيام .
ابتهل إلى اللَّه ( قائلًا ) : “ يا علام الغيوب ! لا تسحقنا بَحجَر من مكر السوء .
وإنْ كنُا قد أتينا فعل الكلاب ، فلا تُطلق علينا الأسد من مكمْنه ، يا خالق الأسد !
ولا تجعل للماء العذب صورة النار ، ولا للنار صورة الماء !
إنَّك حين تسكرنا بشراب قهرك ، تجعل للعدم صورة الوجود .
1200- فما السكر ! إنّه حجاب للعين عن الإبصار ، فيظهر لها الحجرُ جوهراً ، والصوف عقيقاً !
وما فقدان الوعي ؟ إنّه إبدال للحسّ ، فيبدو للعين خشب الطرفة صندلًا “ .
“ 203 “
قصة الهدهد وسليمان في بيان أنه حين يقع القضاء تُغلقُ العيونُ المبصرة
حينما ضرب مخُيّم سليمان ، مثلت أمامه الطيور طائعة .
لقد وجدته متكلماً بلسانها ، عارفاً بأسرارها ، فهرع كلُ منها للمثول أمامه بروحه .
وكلّ هذه الطيور تركت صفيرها ، وأصبحت أفصح من أخيك “ 1 “ في حضرة سليمان .
1205- إنّ التشارك في اللسان قربى ورباط ، والمرء مع من لا يفهمونه مثل السجين !
وكم من هنديّ وتركيّ يتكلمان بلسان واحد ، وكم من تركيّين في لغتهما متباعدان !
فلسان الوفاق الروحيّ مختلفُ عن ( لسان القول ) ، وتشابهُ القلوب خيرُ من تشابه الألسن !
ففي القلب يقوم آلاف التراجمة ( بنقل أحاسيسه ) بدون نطق ولا إيماء ولا سجلّ .
فجملة الطير - بكل ما وعته من أسرار عن الفضائل والمعرفة والعمل .
1210- عرضت نفسها على سليمان ، وكلُ منها مدح نفسه في معرض القول .
..................................................................
( 1 ) أي أفصح من الشاعر .
“ 204 “
ولم يكن ذلك عن كبر ولا اعتداد بالنفس ، ولكنّ كلًا منها أراد أنْ يتقدم على غيره عنده “ 1 “ .
فمن واجب العبد أن يُظهر طوفاً من فضائله لسيّده .
فإنْ وجد العار في أن يشتريه السيدّ ، تظاهر بالمرض أو الشلل أو الصم أو العرج .
وجاء دور الهدهد ، وحرفته ، وبيان صنعته وتفكيره .
1215 فقال : أيّها الملك ، إنني سأذكر فضيلة واحدة ، فضيلة صغيرة ، ولكنّ الخير في الإيجاز “ .
فقال سليمان : “ تكلّم لنرى ما هذه الفضيلة “ . فقال الهدهد :
عندما أكون في أوج الارتفاع ، أنظر من ذلك الأوج بعين اليقين ، فأرى الماء في قاع الثرى ، أين مكانه وما عمقه وما لونه ، ومن أين يتفجر ، أمن التراب أم من الحجر .
فخذ معك في السفر ذلك العارف يا سليمان ، لاختيار موقع معسكرك “ .
1220 فقال سليمان : “ ما أحسنك من رفيق ، في القفار التي تخلو من الماء العميق ! “
كيف طعن الغراب في دعوى الهدهد
وعندما سمع الغراب ( كلام الهدهد ) ، جاء حاسداً ، وقال لسليمان : “ ما هذا الكلام المعوجّ القبيح ؟
إنه ليس من الأدب التفاخر أمام الملوك ، وخاصة إذا كان ذلك
...........................................................................
( 1 ) حرفياً : “ ولكن لكي يفسح لها الطريق قبل ( غيرها ) “ .
“ 205 “
من جزاف القول الكذب المحال .
فلو كان للهدهد هذا النظر على الدوام ، فكيف لا يبصر الفخ تحت قبضة من التراب ؟
وكيف كان يقع في الشرك ؟ وكيف كان يصير يائساً في القفص ؟
1225 - فقال سليمان : “ أيها الهدهد ! أصحيح أنه قد أصابك ( كلّ ) هذا الدوار من أوّل قدح ؟
فيا من شربت اللبن المخض ، كيف تتظاهر بالسكر ، وتلقي أمامي بجزاف القول وتكذب ؟ “
كيف ردّ الهدهد على طعن الغراب
فقال الهدهد : “ لا تستمع - بحق اللَّه - إلى قول العدو ، عني ، أنا المسكين المعدم !
فإنْ لم يصّح هذا الذي أدّعيه ، فإني أضع رأسي أمامك ، فلتقطع عنقي هذا .
إنَّ الغراب المنكر لحكم القضاء كافر ، ولو كانت له آلاف العقول ! “
1230 - فان كانت فيك كاف واحدة من ( كلمة ) “ الكافرين “ فإنك كالفرج محل للنتن والشهوة “ 1 “ .
“ إننّي أبصر الفخّ من الهواء ، إذا لم يحجب القضاء عين عقلي “ .
وحينما يأتي القضاءُ ينام العلم ، ويغدو القمر أسود ، ويحجب الشمس .
فمتى كانت مثل هذه التعبئة “ 2 “ نادرة من القضاء ؟ اعلم أنّ من القضاء أنْ ينكر المرء القضاء !
........................................................
( 1 ) في البيت جناس بين كلمتي “ كافران “ ( الكفار ) ، ( كاف ران ) .
( 2 ) قد تكون كلمة “ تعبئة “ هنا تحريفاً لكلمة تعمية .
“ 206 “
قصة آدم عليه السلام وكيف أنّ القضاء حجب بصره
عن مراعاة صريح النهي وترك التأويل
إن أبا البشر آدم - أمير علم الأسماء “ 1 “ - كان كلّ عرق من عروقه ينبض بآلاف العلوم !
1235 إن روحه منُحت علم كل شيء ، كما وُجد ، وكما يكون حتى النهاية .
فلم يتبدل قط لقب أطلقه ، فكل ما نعته بالنشاط والسرعة لم يصبح كسولًا متراخياً “ 2 “ .
وقد عرف - في أول الأمر - من كان مآله إلى الإيمان ، كما تكشف له من كان مآله إلى الكفر .
فلتستمع إلى اسم كل شيء من عالمٍ ( بالأسماء ) !
استمع منه إلى سرّ الرمز في قوله تعالى : “ وعلمّ آدم الأسماء كلها “ .
إن عندنا لكل شيء اسمه الظاهري ، وأما سر هذا الاسم فلدى الخالق .
1240 فالخشبة التي كان يمسك بها موسى ، كان اسمها - عنده - “ عصا “ وأما عند الخالق فكان اسمها “ حيّة “ .
وقد كان لعمر هنا ( في الدنيا ) اسم “ عابد الأصنام “ ولكن
....................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ وعلم آدم الأسماء كلها “ . سورة البقرة ( 2 : 31 )
( 2 ) حرفياً : فكل ما أسماء نشطاً لم يصبح كسولًا .
“ 207 “
اسم الايمان كان له من قبل أن يولد “ 1 “ .
فكل ما كان عندنا في عداد النطف ، كان مائلًا أمام الحق كأنه معه “ 2 “ .
لقد كانت هذه النطفةُ صورة في العدم ، ولكنها كانت موجودة أمام الحق بدون زيادة أو نقصان .
فالحاصل أن عاقبة أمرنا هي التي تمثل حقيقة اسمنا عند الخالق .
1245 - فهو يسميّ المرء بعاقبته ، لا بما يكون عارية مؤقتة .
إن عين آدم حين أبصرت بالنور الطاهر ، تجلت لها أرواح الأسماء وأسرارها .
وعندما أبصر الملائكة أنوارَ الحق في آدم خرّوا سُجدّا وسارعوا لتمجيده .
فهكذا آدم الذي أحمل اسمه ، ولو أنني مدحتُه حتى القيامة لما وفيته حقه .
لقد أدرك كل هذا ولكنه - حين وقع القضاء - أخطأ في إدراك نهي واحد .
1250 - فقد عجب ، أهذا النهي كان من أجل التحريم ، أم أنه كان قابلًا لتأويل ، ومجالًا للوهم .
وعندما رجح في قلبه التأويل ، سارع طبعه في حيرة نحو القمح .
فلما أصابت الشوكة قدم البستاني ( آدم ) ، وجد اللص ( إبليس )
.............................................................................
( 1 ) حرفياً : ولكن اسمه كان “ المؤمن “ في “ ألست “ . كلمة ( ألست ) تشير إلى قوله تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى “ . الأعراف ( 7 : 171 ) .
( 2 ) حرفياً : فكل ما كان اسمه - عندنا - نطفة كان أمام الحق “ إنك في هذه الحظة معنا “ ، والمعنى أن كل ما كان بالنسبة لنا مجرد بذرة لا نعرف ما يتولد منها ، كان مائلًا بكيانه أمام الحق ، فهو الذي يعلم ما يؤول إليه كل شيء .
“ 208 “
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin