“ 383 “
فأهملوا بطونكم أمامه كما فعل ذلك الثعلب “ 1 “ ، ولا تلعبوا أمامه لعبة الثعالب .
ودعوا في حضرته كل ما يتعلق “ بنحن “ و “ أنا “ . إنّ المُلك ملكه ، فأسلموا له الملك .
فإذا ما أقبلتم فقراء على الطريق السويّ ، فإنّ الأسد وصيده ملك لكم .
3140 - ذَلك لأنه طاهر قدسي الصفات ، وليس به من حاجة إلى نُعمى ولا لُباب ولا قشور .
فكل ما يوجد من الصيد ومن الكرامات ، فهو من أجل عباد هذا المليك .
وهو لا مطمع له ، فقد صنع هذا الملك كله من أجل خلقه . فما أسعد من عرف !
وأيّ جدوى من ملك الممالك لمن خلق الملكوت ، وخلق الدنيا والآخرة ؟
فأحسنوا مراقبة قلوبكم في حضرته القدسيّة، حتى لا تصبحوا من سوء ظنكم في خجل .
3145 فإنّ السرّ والفكر والتدبير يتجلىّ أمامه ، كما تتجلَّى الشعرة في الحليب الصافي .
وكلّ من صفا صدره وخلا من الصور ، أصبح مرآة لصور الغيب !
فسرّنا يصبح عنده يقيناً لا شكّ فيه . ذلك لأنّ المؤمن مرآة للمؤمن .
فهو حين يضع زهدنا على المحكّ قادر على أنْ يعرف اليقين من الشكّ .
وما دامت روحه قد أصبحت محكاً ( يختبربه ) النقد ، فإنه يميَّز القلوب ( الصادقة من الزائفة ) .
...............................................................
( 1 ) الثعلب المذكور في القصة السالفة .
“ 384 “
كيف يُجلس الملوكُ الصوفيّة العارفين في مواجهتهم
لتستضيء بهم أعين الملوك
3150 إن للملوك مثل هذه العادة - ولعلّك قد سمعتَ بها ، لو أنك تذكر !
فالأبطال يقفون عن يسارهم . ذلك لأنّ القلب معلق في الجانب الأيسر ( من الصدر ) .
أما الوزير وأهل القلم فعن يمينهم . ذلك لأنّ اليد اليمنى صاحبة الخطّ والإثبات .
وهم يجعلون للصوفية مكان المواجهة . ذلك لأنهم مرآة الروح ، بل ( هم لها ) خير من المرآة .
لقد صقلوا صدروهم بالتفكر والذكر ، لتستطيع مرآة قلوبهم تقبل الصورة البكر .
3155 - وكل من ولد من صلب الفطرة جميلًا ، فمن الواجب أنْ توضع المرآة أمامه .
فالوجه الجميل عاشق للمرآة ، وهو صيقل الأرواح ( وموجب ) تقوى القلوب .
كيف جاء ضيف لزيارة يوسف عليه السلام
وكيف طلب منه يوسف تحفة وهدية
إنّ صديقاً محبّاً أقبل من آفاق الأرض ، ونزل ضيفاً على يوسف الصدّيق .
“ 385 “
لقد كانا صاحبين في عهد الطفولة ، وكانا معاً متكئين على وسادة المودة .
وذَكرّ هذا الصديقُ يوسفَ بجور إخوته وحسدهم . فقال يوسف : “ لقد كان هذا قيداً وكنتُ أسداً “ .
3160 - ولا عار على الأسد من القيد . ولا شكوى من قضاء الحق .
ومهما كبّلت عنق الأسد بالقيود ، فإنه يظلّ أميراً على كلّ من صنعوا هذه القيود !
“ فقال الصديق : “ وكيف كان حالك في السجن وفي البئر ؟ “ فقال يوسف : “ كنت كالقمر في المحاق ، وإبّان نقصانه “ .
فإذا كان الهلال قد تقوّس في المحاق ، أفلا يغدو في العاقبة بدراً على السماء ؟
وحبّات اللؤلؤ لو أنها سُحقت ، أفلا تكون نوراً للعين والقلب ( وعونا ) على بعد النظر “ 1 “ .
3165 - إن حبّة القمح توضع تحت التراب ، فتصنع لها من هذا التراب سنابل .
ومرة أخرى تُسحق بالطاحون ، فترداد قيمتها وتغدو خبزاً يدعم الحياة .
ثم يمضع الخبز بالأسنان ، فيصير للعاقل عقلًا وروحاً وفهماً !
وهذا الروح لو صار فانياً في العشق ، يصير بعد الزرع ( نباتاً )” يُعْجبُ الزُّرَّاعَ ““ 2 “ .
ولا نهاية لهذا الكلام ، فعد ( بنا لنرى ) ما كان من حديث لهذا
...............................................................
( 1 ) كان المعتقد أن الدرّ السحيق لو رُكِّب مع العسل كان نوراً للعين ومبعثاً لسرور القلب .
( 2 ) ( سورة الفتح ، 48 : 29 ) . ومعنى البيت أن الروح لو فني في العشق واختلط به اختلاط الحبة بالتراب ، فإن هذا يجعله مثمراً كما تثمر البذور المغروسة في الأرض الطيبة .
“ 386 “
الرجل الطيّب مع يوسف .
3170 - لقد قصِّ يوسف قصّته ثم قال : “ يا فلان ! ماذا أحضرت لي من الهدايا ؟ “ .
إنَّ القادم إلى باب أصدقائه بيد خاوية ، كالذاهب بدون قمح إلى الطاحون .
واللَّه تعالى يقول للناس حين الحشر : أين هديّتكم من أجل يوم النشر ؟
لقد جئتمونا فرادى وبدون زاد ، في ذات الصورة التي خلقناكم عليها “ 1 “ .
ماذا حملتم في أيديكم من هدايا ليوم النشور ؟
3175 - أم أنكم لو تكونوا على أمل في البعث ، فبدا لكم ميعاد هذا اليوم باطلًا ؟
فهل أنت لجهلك - منكر كرم ضيافته ؟ إذن لن تنال من مطبخه سوى التراب والرماد !
وإن لم تكن منكراً ، فكيف تقصد باب هذا الحبيب ، وأنت خاوي اليدين ؟
فاقتصد مما تنفقه في النوم والطعام ، واحمل معك هدية لملاقاته .
كن قليل النوم مثل الذين كانوا قليلًا ما يهجعون ، وكن في الأسحار ممن يستغفرون “ 2 “ .
3180 - وأقلل من الحركة مثل الجنين ، حتى توهب الحواسّ المبصرة .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقنا كم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم “ . ( الأنعام ، 6 : 94 ) .
( 2 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آثاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون “ . ( الذاريات ، 51 : 15 - 18 ) .
“ 387 “
فإذا ما خرجت من هذا العالم الشبيه بالرحم ، فإنك تخرج من الأرض إلى رحاب واسعة .
واعلم أنَّ الذين قالوا : “ أرض اللَّه واسعة “ ( كانوا يشيرون ) إلى الرحاب التي دخلها الأولياء .
إنّ القلب لا يضيق بتلك الرحاب الفساح ، فهناك لا يصير النخيل المخضلّ ذابل الغصون .
إنك الآن حاملُ عبء حواسِّك ، ولهذا تغدو متعباً مرهقاً منقلب الرأس .
3185 - ولما كنت في وقت النوم تصبح محمولًا لا حاملًا ، فإنّ الضنى يزول عنك ، وتغدو خالياً من الألم والعذاب .
واعلم أنّ حال النوم لا يعدو أنْ يكون تذوّقا ( بسيطاً ) أمام حال الأولياء ، حين يُحملون ( إلى عالم الروح ) .
والأولياء ، هم أصحاب الكهف ، أيها العنيد ! إنهم في قيام وتقلب ورقود “ 1 “ .
والحقّ يقلبهم “ ذات اليمين وذات الشمال “ بدون وعيٍ منهم ولا تكلف في الفعال “ 2 “ .
وما “ ذات اليمين “ ؟ إنها الفعل الحسن ! وما “ ذات الشمال “ ؟ إنها أفعال البدن !
3190 - وهذان النوعان من الفعل يصدران عن الأولياء بدون قصد ، كما ينبعث الصدى .
فإذا كان الصدى يسمعك الخير والشرّ . فإنّ ذات الجبل لا علم لها بأيّ منهما !
...............................................................
( 1 ) في هذا البيت إشارة إلى قصة أهل الكهف وقوله تعالى : “ وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال “ . ( الكهف ، 18 : 18 ) .
( 2 ) في هذين البيتين إشارة إلى قصة أهل الكهف وقوله تعالى : “ وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال “ . ( الكهف ، 18 : 18 ) .
“ 388 “
كيف قال الضيف ليوسف :
"لقد حملت إليك مرآة أهديها إليك لتذكرني كلما نظرت فيها ورأيت وجهك الجميل"
قال يوسف : “ هيّا أعطني الهدية “ . فتأوّه الضيف خجلا من مطالبة يوسف .
وقال : “ لكم فتشت من أجلك عن الهدايا ، فما راقت عيني إحداها !
وكيف أحمل حبة ( من الذهب ) إلى المنجم ؟ أم كيف أحمل قطرة ( ماء ) إلى بحر عمان ؟
3195 ولو أنني حملتُ إليك قلبي وروحي ، لكنت كحامل التمر إلى إلى هجر “ 1 “ .
فليس من حبة لا تكون بهذا المخزن إلا حسنك الذي هو أمر منقطع النظير .
ولقد رأيتُ من اللائق أن أحضر لك مرآة مضيئة كنور الصدر .
حتى ترى فيها وجهك الجميل ، يا من أنت كالشمس شمعة للسماء !
لقد أحضرت لك مرآة أيها النور ، لتذكرني كلما رأيت وجهك “ .
3200 - وسحب مرآة كان يتأبطها . إنّ الجميل لذو تعلق بالمرآة .
فما هي مرآة الوجود ؟ إنها العدم ! فإن لم تكن أحمق فاحمل العدم ( ليكون هدية اللقاء ) “ 2 “ .
فالوجود لا يمكن إظهاره إلا بالعدم . كالغنّي لا يظهر جوده إلا الفقير “ 3 “ .
والجائع هو المرآة الصافية للخبز ، كما أنّ الوقود مرآة الزناد .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ لكنت كحامل الكمون إلى كرمان “ .
( 2 ) إن لم تكن أحمق فلتكن هديتك من الطاعات التي تحملها معك يوم النشور إفناء الذات أمام الخالق .
( 3 ) حرفياً : “ فالأغنياء يجودون على الفقراء “ .
“ 389 “
وحيثما ظهر النقصان والعدم ، كانا مرآة الجمال لكلّ فنّ وحرفة .
3205 - وكيف يظهر فنُّ الحائك إذا ( قدّمت له ) ثوباً نظيفاً جيّد الحياكة ؟
وجذوع ( الأشجار ) يجب ألا تكون محفورة ، ولا مُشكَّلة ، حتى يشكلّ النجَّار الأصل والفروع “ 1 “ .
وطبيب العظام يذهب إلى حيث تكون الساق المنكسرة .
وكيف يتضح جمال صناعة الطبّ ، حين لا يكون هناك مريض عليل ؟
ومتى كان الإكسير يظهر ، لو لم تذع بين الناس خسّة النحاس وضعته ؟
3210 - إن النقائص هي المرآة التي تجلو صفات الكمال . كما أنّ الحقارة مرآة العزَّة والجلال .
ذلك لأنّ الضدّ يظهر ضدّه يقيناً . فالعسل - إلى جانب الخلّ - بَيّنُ الحلاوة .
فكلّ من رأى نقص ذاته وعرفه ، فقد انطلق بجوادين نحو استكمالها .
وليس ينطلق محلِّقاً نحو ذي الجلال ، من توهمّ ذاته مفعمة بالكمال .
فيا أيها المُدلُّ بذاته ! إنّ الروح لا تصاب بعلة أسوأ من توهمّ الكمال !
3215 - فلا بدّ من أنْ يفيض قلبك وعيناك بدم كثير حتى يخرج منك هذا العُجْب .
لقد كانت علّةُ إبليس ( في قوله ) أنا خير ( من آدم ) . وهذه العلّة كائنة في نفس كلّ إنسان .
فإنْ كان المرء يرى نفسه شديد الانكسار ، فاعلم أنّ هذا هو الماء الصافي الذي يكمن البعر تحته في قاع النهر “ 2 “ .
...............................................................
( 1 ) يجب أن يقدم الخشب للنجار في صورته الطبيعة حتى يقوم بتشكيله واستخدامه على الوجه الذي يراه والصورة التي يرتضيها فنه .
( 2 ) اعلم أن هذا التواضع الذي يظهر عند بعض الناس قد لا يكون أكثر من مظهر خارجي ، كماء النهر يبدو صافياً ، ولكنه يخفي تحته ما كمن في قاع النهر من أقذار .
“ 390 “
فإذا أثارك أحد - على سبيل الامتحان - صار لون الماء في الحال كلون البعر “ 1 “ ! إنّ البعر ( كامن ) في قاع النهر - أيها الفتى - مع أنّه يبدو لك من السطح صافي الماء !
3220 - والشيخ الحاذق الفطن ، العارف بالطريق ، هو الذي يطّهر أنهار النفوس والأبدان “ 2 “ .
فهل يستطيع ماء النهر أنْ يطهِّر البعر ؟ أم هل يستطيع علم المرء أنْ يزيح جهالة نفسه ؟
وهل في إمكان السيف أن يصوغ قبضته ؟ ألا فاذهب واعهد بجرحك هذا إلى جرّاح ! إن الذباب ليجتمع فوق كل الجراح ؛ وإذ ذاك لا يرى قبح جرحه أحد .
وهذا الذباب ليس سوى هو اجسك وحالك ، وأما جرحك فهو ظلمة أحوال روحك !
3225 - فلو أن الشيخ وضع فوق جرحك هذا مرهماً ، لسكن - في الحال - هذا الألم والنحيب ، حتى أنك تحسب أن الجرح قد التأم ، ( وماذا إلا ) شعاع المرهم وقد لمع فوق الجرح .
فلا تُعرض عن المرهم ، أيها الجريح الظهر ! واعلم أنّ ( الشفاء ) من شعاع المرهم ، وليس من جوهر ذاتك !
...............................................................
( 1 ) فإذا أثارك أحد زال عنك في الحال هذا التواضع والرقة السطحية ، وظهرت في الحال على حقيقتك .
( 2 ) هنا يعود الشاعر إلى الحديث عن ضرورة الشيخ المرشد لتربية المريد .
“ 391 “
فأهملوا بطونكم أمامه كما فعل ذلك الثعلب “ 1 “ ، ولا تلعبوا أمامه لعبة الثعالب .
ودعوا في حضرته كل ما يتعلق “ بنحن “ و “ أنا “ . إنّ المُلك ملكه ، فأسلموا له الملك .
فإذا ما أقبلتم فقراء على الطريق السويّ ، فإنّ الأسد وصيده ملك لكم .
3140 - ذَلك لأنه طاهر قدسي الصفات ، وليس به من حاجة إلى نُعمى ولا لُباب ولا قشور .
فكل ما يوجد من الصيد ومن الكرامات ، فهو من أجل عباد هذا المليك .
وهو لا مطمع له ، فقد صنع هذا الملك كله من أجل خلقه . فما أسعد من عرف !
وأيّ جدوى من ملك الممالك لمن خلق الملكوت ، وخلق الدنيا والآخرة ؟
فأحسنوا مراقبة قلوبكم في حضرته القدسيّة، حتى لا تصبحوا من سوء ظنكم في خجل .
3145 فإنّ السرّ والفكر والتدبير يتجلىّ أمامه ، كما تتجلَّى الشعرة في الحليب الصافي .
وكلّ من صفا صدره وخلا من الصور ، أصبح مرآة لصور الغيب !
فسرّنا يصبح عنده يقيناً لا شكّ فيه . ذلك لأنّ المؤمن مرآة للمؤمن .
فهو حين يضع زهدنا على المحكّ قادر على أنْ يعرف اليقين من الشكّ .
وما دامت روحه قد أصبحت محكاً ( يختبربه ) النقد ، فإنه يميَّز القلوب ( الصادقة من الزائفة ) .
...............................................................
( 1 ) الثعلب المذكور في القصة السالفة .
“ 384 “
كيف يُجلس الملوكُ الصوفيّة العارفين في مواجهتهم
لتستضيء بهم أعين الملوك
3150 إن للملوك مثل هذه العادة - ولعلّك قد سمعتَ بها ، لو أنك تذكر !
فالأبطال يقفون عن يسارهم . ذلك لأنّ القلب معلق في الجانب الأيسر ( من الصدر ) .
أما الوزير وأهل القلم فعن يمينهم . ذلك لأنّ اليد اليمنى صاحبة الخطّ والإثبات .
وهم يجعلون للصوفية مكان المواجهة . ذلك لأنهم مرآة الروح ، بل ( هم لها ) خير من المرآة .
لقد صقلوا صدروهم بالتفكر والذكر ، لتستطيع مرآة قلوبهم تقبل الصورة البكر .
3155 - وكل من ولد من صلب الفطرة جميلًا ، فمن الواجب أنْ توضع المرآة أمامه .
فالوجه الجميل عاشق للمرآة ، وهو صيقل الأرواح ( وموجب ) تقوى القلوب .
كيف جاء ضيف لزيارة يوسف عليه السلام
وكيف طلب منه يوسف تحفة وهدية
إنّ صديقاً محبّاً أقبل من آفاق الأرض ، ونزل ضيفاً على يوسف الصدّيق .
“ 385 “
لقد كانا صاحبين في عهد الطفولة ، وكانا معاً متكئين على وسادة المودة .
وذَكرّ هذا الصديقُ يوسفَ بجور إخوته وحسدهم . فقال يوسف : “ لقد كان هذا قيداً وكنتُ أسداً “ .
3160 - ولا عار على الأسد من القيد . ولا شكوى من قضاء الحق .
ومهما كبّلت عنق الأسد بالقيود ، فإنه يظلّ أميراً على كلّ من صنعوا هذه القيود !
“ فقال الصديق : “ وكيف كان حالك في السجن وفي البئر ؟ “ فقال يوسف : “ كنت كالقمر في المحاق ، وإبّان نقصانه “ .
فإذا كان الهلال قد تقوّس في المحاق ، أفلا يغدو في العاقبة بدراً على السماء ؟
وحبّات اللؤلؤ لو أنها سُحقت ، أفلا تكون نوراً للعين والقلب ( وعونا ) على بعد النظر “ 1 “ .
3165 - إن حبّة القمح توضع تحت التراب ، فتصنع لها من هذا التراب سنابل .
ومرة أخرى تُسحق بالطاحون ، فترداد قيمتها وتغدو خبزاً يدعم الحياة .
ثم يمضع الخبز بالأسنان ، فيصير للعاقل عقلًا وروحاً وفهماً !
وهذا الروح لو صار فانياً في العشق ، يصير بعد الزرع ( نباتاً )” يُعْجبُ الزُّرَّاعَ ““ 2 “ .
ولا نهاية لهذا الكلام ، فعد ( بنا لنرى ) ما كان من حديث لهذا
...............................................................
( 1 ) كان المعتقد أن الدرّ السحيق لو رُكِّب مع العسل كان نوراً للعين ومبعثاً لسرور القلب .
( 2 ) ( سورة الفتح ، 48 : 29 ) . ومعنى البيت أن الروح لو فني في العشق واختلط به اختلاط الحبة بالتراب ، فإن هذا يجعله مثمراً كما تثمر البذور المغروسة في الأرض الطيبة .
“ 386 “
الرجل الطيّب مع يوسف .
3170 - لقد قصِّ يوسف قصّته ثم قال : “ يا فلان ! ماذا أحضرت لي من الهدايا ؟ “ .
إنَّ القادم إلى باب أصدقائه بيد خاوية ، كالذاهب بدون قمح إلى الطاحون .
واللَّه تعالى يقول للناس حين الحشر : أين هديّتكم من أجل يوم النشر ؟
لقد جئتمونا فرادى وبدون زاد ، في ذات الصورة التي خلقناكم عليها “ 1 “ .
ماذا حملتم في أيديكم من هدايا ليوم النشور ؟
3175 - أم أنكم لو تكونوا على أمل في البعث ، فبدا لكم ميعاد هذا اليوم باطلًا ؟
فهل أنت لجهلك - منكر كرم ضيافته ؟ إذن لن تنال من مطبخه سوى التراب والرماد !
وإن لم تكن منكراً ، فكيف تقصد باب هذا الحبيب ، وأنت خاوي اليدين ؟
فاقتصد مما تنفقه في النوم والطعام ، واحمل معك هدية لملاقاته .
كن قليل النوم مثل الذين كانوا قليلًا ما يهجعون ، وكن في الأسحار ممن يستغفرون “ 2 “ .
3180 - وأقلل من الحركة مثل الجنين ، حتى توهب الحواسّ المبصرة .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقنا كم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم “ . ( الأنعام ، 6 : 94 ) .
( 2 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آثاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون “ . ( الذاريات ، 51 : 15 - 18 ) .
“ 387 “
فإذا ما خرجت من هذا العالم الشبيه بالرحم ، فإنك تخرج من الأرض إلى رحاب واسعة .
واعلم أنَّ الذين قالوا : “ أرض اللَّه واسعة “ ( كانوا يشيرون ) إلى الرحاب التي دخلها الأولياء .
إنّ القلب لا يضيق بتلك الرحاب الفساح ، فهناك لا يصير النخيل المخضلّ ذابل الغصون .
إنك الآن حاملُ عبء حواسِّك ، ولهذا تغدو متعباً مرهقاً منقلب الرأس .
3185 - ولما كنت في وقت النوم تصبح محمولًا لا حاملًا ، فإنّ الضنى يزول عنك ، وتغدو خالياً من الألم والعذاب .
واعلم أنّ حال النوم لا يعدو أنْ يكون تذوّقا ( بسيطاً ) أمام حال الأولياء ، حين يُحملون ( إلى عالم الروح ) .
والأولياء ، هم أصحاب الكهف ، أيها العنيد ! إنهم في قيام وتقلب ورقود “ 1 “ .
والحقّ يقلبهم “ ذات اليمين وذات الشمال “ بدون وعيٍ منهم ولا تكلف في الفعال “ 2 “ .
وما “ ذات اليمين “ ؟ إنها الفعل الحسن ! وما “ ذات الشمال “ ؟ إنها أفعال البدن !
3190 - وهذان النوعان من الفعل يصدران عن الأولياء بدون قصد ، كما ينبعث الصدى .
فإذا كان الصدى يسمعك الخير والشرّ . فإنّ ذات الجبل لا علم لها بأيّ منهما !
...............................................................
( 1 ) في هذا البيت إشارة إلى قصة أهل الكهف وقوله تعالى : “ وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال “ . ( الكهف ، 18 : 18 ) .
( 2 ) في هذين البيتين إشارة إلى قصة أهل الكهف وقوله تعالى : “ وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال “ . ( الكهف ، 18 : 18 ) .
“ 388 “
كيف قال الضيف ليوسف :
"لقد حملت إليك مرآة أهديها إليك لتذكرني كلما نظرت فيها ورأيت وجهك الجميل"
قال يوسف : “ هيّا أعطني الهدية “ . فتأوّه الضيف خجلا من مطالبة يوسف .
وقال : “ لكم فتشت من أجلك عن الهدايا ، فما راقت عيني إحداها !
وكيف أحمل حبة ( من الذهب ) إلى المنجم ؟ أم كيف أحمل قطرة ( ماء ) إلى بحر عمان ؟
3195 ولو أنني حملتُ إليك قلبي وروحي ، لكنت كحامل التمر إلى إلى هجر “ 1 “ .
فليس من حبة لا تكون بهذا المخزن إلا حسنك الذي هو أمر منقطع النظير .
ولقد رأيتُ من اللائق أن أحضر لك مرآة مضيئة كنور الصدر .
حتى ترى فيها وجهك الجميل ، يا من أنت كالشمس شمعة للسماء !
لقد أحضرت لك مرآة أيها النور ، لتذكرني كلما رأيت وجهك “ .
3200 - وسحب مرآة كان يتأبطها . إنّ الجميل لذو تعلق بالمرآة .
فما هي مرآة الوجود ؟ إنها العدم ! فإن لم تكن أحمق فاحمل العدم ( ليكون هدية اللقاء ) “ 2 “ .
فالوجود لا يمكن إظهاره إلا بالعدم . كالغنّي لا يظهر جوده إلا الفقير “ 3 “ .
والجائع هو المرآة الصافية للخبز ، كما أنّ الوقود مرآة الزناد .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ لكنت كحامل الكمون إلى كرمان “ .
( 2 ) إن لم تكن أحمق فلتكن هديتك من الطاعات التي تحملها معك يوم النشور إفناء الذات أمام الخالق .
( 3 ) حرفياً : “ فالأغنياء يجودون على الفقراء “ .
“ 389 “
وحيثما ظهر النقصان والعدم ، كانا مرآة الجمال لكلّ فنّ وحرفة .
3205 - وكيف يظهر فنُّ الحائك إذا ( قدّمت له ) ثوباً نظيفاً جيّد الحياكة ؟
وجذوع ( الأشجار ) يجب ألا تكون محفورة ، ولا مُشكَّلة ، حتى يشكلّ النجَّار الأصل والفروع “ 1 “ .
وطبيب العظام يذهب إلى حيث تكون الساق المنكسرة .
وكيف يتضح جمال صناعة الطبّ ، حين لا يكون هناك مريض عليل ؟
ومتى كان الإكسير يظهر ، لو لم تذع بين الناس خسّة النحاس وضعته ؟
3210 - إن النقائص هي المرآة التي تجلو صفات الكمال . كما أنّ الحقارة مرآة العزَّة والجلال .
ذلك لأنّ الضدّ يظهر ضدّه يقيناً . فالعسل - إلى جانب الخلّ - بَيّنُ الحلاوة .
فكلّ من رأى نقص ذاته وعرفه ، فقد انطلق بجوادين نحو استكمالها .
وليس ينطلق محلِّقاً نحو ذي الجلال ، من توهمّ ذاته مفعمة بالكمال .
فيا أيها المُدلُّ بذاته ! إنّ الروح لا تصاب بعلة أسوأ من توهمّ الكمال !
3215 - فلا بدّ من أنْ يفيض قلبك وعيناك بدم كثير حتى يخرج منك هذا العُجْب .
لقد كانت علّةُ إبليس ( في قوله ) أنا خير ( من آدم ) . وهذه العلّة كائنة في نفس كلّ إنسان .
فإنْ كان المرء يرى نفسه شديد الانكسار ، فاعلم أنّ هذا هو الماء الصافي الذي يكمن البعر تحته في قاع النهر “ 2 “ .
...............................................................
( 1 ) يجب أن يقدم الخشب للنجار في صورته الطبيعة حتى يقوم بتشكيله واستخدامه على الوجه الذي يراه والصورة التي يرتضيها فنه .
( 2 ) اعلم أن هذا التواضع الذي يظهر عند بعض الناس قد لا يكون أكثر من مظهر خارجي ، كماء النهر يبدو صافياً ، ولكنه يخفي تحته ما كمن في قاع النهر من أقذار .
“ 390 “
فإذا أثارك أحد - على سبيل الامتحان - صار لون الماء في الحال كلون البعر “ 1 “ ! إنّ البعر ( كامن ) في قاع النهر - أيها الفتى - مع أنّه يبدو لك من السطح صافي الماء !
3220 - والشيخ الحاذق الفطن ، العارف بالطريق ، هو الذي يطّهر أنهار النفوس والأبدان “ 2 “ .
فهل يستطيع ماء النهر أنْ يطهِّر البعر ؟ أم هل يستطيع علم المرء أنْ يزيح جهالة نفسه ؟
وهل في إمكان السيف أن يصوغ قبضته ؟ ألا فاذهب واعهد بجرحك هذا إلى جرّاح ! إن الذباب ليجتمع فوق كل الجراح ؛ وإذ ذاك لا يرى قبح جرحه أحد .
وهذا الذباب ليس سوى هو اجسك وحالك ، وأما جرحك فهو ظلمة أحوال روحك !
3225 - فلو أن الشيخ وضع فوق جرحك هذا مرهماً ، لسكن - في الحال - هذا الألم والنحيب ، حتى أنك تحسب أن الجرح قد التأم ، ( وماذا إلا ) شعاع المرهم وقد لمع فوق الجرح .
فلا تُعرض عن المرهم ، أيها الجريح الظهر ! واعلم أنّ ( الشفاء ) من شعاع المرهم ، وليس من جوهر ذاتك !
...............................................................
( 1 ) فإذا أثارك أحد زال عنك في الحال هذا التواضع والرقة السطحية ، وظهرت في الحال على حقيقتك .
( 2 ) هنا يعود الشاعر إلى الحديث عن ضرورة الشيخ المرشد لتربية المريد .
“ 391 “
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin