2055 - فلا تحجب بذنك عن أقوال الأولياء ، سواء منها ما رقّ أو
“ 282 “
ما خشن ، فإنها دعامة لدينك .
فلو كان كلام ( الوليّ ) حاراً أو بارداً ، فتقبّله بقبول حسن ، فإنك به تفرّ من البرد ومن الحرّ ومن السعير .
إنّ حرارته وبرودته إنما هما ربيع جديد للحياة ، وهما أصل الصدق واليقين والخضوع .
وهو إذ كان حياة لبستان الروح ، وكان بحر قلبه حافلًا بتلك الجواهر ، فإنّ قلب العاقل تنتابه آلاف الهموم ، لو نقص من بستان القلب عود خلال .
كيف سألت الصدّيقة المصطفى قائلة : “ ماذا كان سرّ أمطار اليوم ؟ “
2060 - قالت الصدّيقة : “ يا زبدة الوجود ! ماذا كانت الحكمة وراء أمطار اليوم ؟
أكانت هذه أمطار الرحمة ، أم أنها كانت للتهديد ، ( وبيان ) عدل الكبرياء ؟
أكانت هذه من الألطاف الربيعيّة ، أم أنها كانت خريفيّة حافلة بالآفات ؟ “
فقال : “ لقد كانت هذه لتسكين الهموم ، التي ( أوقعتها ) المصائبُ على الجنس الآدميّ “ “ 1 “ .
....................................................................
( 1 ) المعنى أن هذه الأمطار الغيبية التي أبصرتها الصديقة لم تكن إلا نفحات من الرحمة الإلهية بعث بها الخالق لتسكين هموم البشر .
“ 283 “
فلو أقام الآدمي على تلك النار زمناً، لوقع الكثير من الخراب والضياع “ 1 “،
2065 - ولأصبح هذا العالم - في الحال - خرباً ، ولا نطلقت نوازع الحرص من نفوس البشر .
أيتها الروح ! إنّ الغفلة “ 2 “ إنما هي دعامة هذا العالم ، كما أن اليقظة “ 3 “ آفة لهذه الدنيا .
فاليقظة إنما هي من العالم الآخر ، فحين تصبح لها الغلبة ، يتداعى هذا العالم !
إنّ اليقظة هي الشمس وأما الحرص فهو الثلج “ 4 “ . اليقظة هي الماء ، وأما هذا العالم فهو الوسخ “ 5 “ .
وإنا لتصلنا رشحات قليلة من ذلك العالم ( الروحيّ ) ، حتى لا يزمجر الحرص والحسد في هذا العالم .
2070 - فلو زادت الرشحات من عالم الغيب لما بقي في هذا العالم فضل ولا عيب “ 6 “ .
إنّ هذا ( البحث ) لا نهاية لا ، فلنعد إلى البداية ، ولنرجع إلى قصة الرجل المطرب .
.......................................................
( 1 ) حرفياً : النقصان .
( 2 ) الغفلة عن هوان هذه الدنيا وعن جمال العالم الروحي .
( 3 ) اليقظة الروحية .
( 4 ) اليقظة تقضي على الحرص كما تذيب الشمس الثلوج .
( 5 ) كذلك تزيل اليقظة الحرص كما يزيل الماء الوسخ .
( 6 ) لو غلب عالم الغيب على هذا العالم المادي لقضى على ما فيه من قيم ومقاييس أوحت بها للإنسان حياته في الدنيا .
“ 284 “
بقية قصة عازف الصنج الهرم وبيان مغزاها
إنّ هذا المطرب الذي طربت له الدنيا ، والذي انبعثت من صوته الخيالات العجب ،
من - بشدوه - كان طائر القلب يحلّق ، ومن بصدى ( نغماته ) حار عقل الروح !
حينما مضى عليه الزمن وشاخ ، أصبح بازيّ روحه - من العجز - صيّاد للبعوض .
2075 - لقد تقّوس ظهره كظهر الإبريق ، وغدت حواجبه فوق عينيه ، كالحَبْل فوق دُبُر الدابة .
وأصبح صوته اللطيف - الذي كان ينعش الروح - قبيحاً ، لا يرى أحدُ أنه يستحق شيئاً .
وأنغامه التي كانت - ذات يوم - مثاراً لحسَد الزهرة “ 1 “ صارت مثل نهيق حمار هرم .
وأيّ جميل لم يَغْدُ قبيحاً ؟ أم أي سقف لم يصبح مساوياً للأرض “ 2 “ ؟
إلا ألاصوات في صدور ( الأولياء ) الأعزاء “ 3 “ ، وهؤلاء هم الذين يكون نفخ الصور من صدى نفاسهم !
2080 - فباطنهم هو الذي سكرت به البواطن ، وفناؤهم “ 4 “ هو الذي استعمد وجودُنا منه الوجود .
...................................................................
( 1 ) من المعتقد قديماً أن الزهرة كانت امرأة وقع عليها المسخ فأصبحت نجماً .
كما يصور شعراء الفرس هذا النجم مغنياً عارفاً .
( 2 ) حرفياً : لم يصبح مفرشاً .
( 3 ) يستثني الشاعر هنا أصوات الأولياء من الحكم الذي ذكره في البيت السابق وهو أن كل جميل يغدو قبيحاً .
( 4 ) الفناء عن العالم المادي ، والخلاص من تأكيد الذات .
“ 285 “
إن الوليّ هو كهرباء الفكر وكل صوت ! إنه لذة الإلهام والوحي والأسرار !
فهذا المطرب - حين شاخ وضعف - أصبح - لا نعدام كسبه - رهين رغيف واحد .
فقال : “ يا إلهي ! لقد أطلت عمري ومهلتي ، وأنعمت على خسيس بألطافك ! لقد اقترفتُ الآثام سبعين عاماً ، لكنك لم تحجب عني نوالك يوماً !
2085 - فاليوم لا كسب لي ، وإني ضيفك ! وهأنذا أضرب الصنج من أجلك ، فإني لك “ .
ورفع الصنج بيده ، ومضى طالباً ربه ، واتجه - وهو يتأوه - إلى مقابر يثرب .
وقال : “ إني أطلب من اللَّه ثمن حرير ( الأوتار ) ، فهو الذي يتقبل برحمةٍ منه زائف النقد “ .
لقد أطال العزف ثم مال برأسه باكياً ، فتوسد الصنج وسقط فوق أحد القبور !
فأخذه النوم ، وأفلت طائر روحه من الجس ، فترك الصنج والعارف وانطلق .
2090 - لقد تخلّص من البدن ، وألم الدنيا ، إلى عالم بسيط “ 1 “ ، وإلى ما للروخ من سهوب فساح .
فهناك كانت روحه تتغنى بما اعتراها ، ( قائلة ) : “ ليتني أُترك ههنا !
فما أسعد روحي بهذا البستان وذلك الربيع ! إنها سكرى بهذا المرج ، وبرياض أزاهير الغيب .
..........................................................................
( 1 ) عالم روحي خالص وليس مركباً من الروح والمادة كعالم الدنيا .
“ 286 “
فهأنذا أُسافر بلا رأس ولا قدم “ 1 “ ! وهأنذا أتذوق السكر بلا شفة ولا أسنان !
وهأنذا ألهو مع سكان السماء ، وقد خلصت ذاكرتي وفكري من آلام الدماغ !
2095 - وهأنذا أرى عالماً ( بأسره ) وعيناي مغمضتان ! وهأنذا - بلا كف - أجتني الورد والرياحين ! “ .
إنّ طائر الماء أصبح غريق بحر من العسل ، وأضحى نبع أيوب له شراباً ومغتسلًا “ 2 “ .
هذا الذي بمائه أصبح أيوب - من قمة الرأس إلى القدم - بريئاً من الآلام مثل نور المشرق !
فلو كان المثنوي في حجم الفلك ، لما اتسع لنصف مثقال من هذا ( السرّ الإلهيّ ) .
فإنّ هذه الأرض ، وتلك السماء - على سعتهما - مزقتا قلبي إرباً بضيقهما “ 3 “ !
2100 - وأما ذلك العالم تجلى لي في المنام فقد أطلق برحابته قوادم جناحيّ وخوالفهما .
فلو ظهر للعيان ذلك العالم واتضح سبيله ، لما بقي أحدُ لحظةً واحدة في هذا العالم ( الماديّ ) .
لقد كان الأمر يأتيه ( قائلًا ) : “ لا تكن طامعاً ! وما دامت الشوكة قد خرجت من قدمك فلتمش ! “ .
.......................................................................
( 1 ) بلا رأس يدبرو لا قدم تسعى .
( 2 ) قال تعالى : “ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، راكض برجلك هذا مغتصل بارد وشراب “ . ( سورة ص ، 38 : 40 - 41 ) .
( 3 ) عاد الشاعر هنا إلى رواية حديث عازف الصنج .
“ 287 “
لكن روحه كانت تمضي متأنية ، مستغرقة في فضاء رحمة اللَّه وإحسانه .
كيف أمر الهاتف عمر رضي اللَّه عنه في منامه قائلا :
“ أعط قدراً من ذهب بيت المال لذلك الرجل النائم في القابر “
وفي ذلك الوقت أرسل اللَّه إلى عمر نوماً لم يستطيع أن يتمالك منه نفسه .
2105 - فاستولى عليه العجب ( وقال ) : “ إنّ هذا ليس بمعهود ! لقد جاء من الغيب ، وليس أمراً غير مقصود “ .
فوسد رأسه وأخذه النوم ، فرأى في المنام أنّ نداء جاءه من الحق ، سمعته روحه .
فذلك النداء هو أصل كل صيحة ، وكل صوت . إنه النداء ( الحق ) ، وكل ما عداه فهو صدى .
فالترك والكرد والفرس والعرب فهموا هذا النداء بدون ( حاجة ) إلى أُذن وشفة .
بل أي مكان للترك والعرب والزنج ( هنا ) ؟ إنّ هذا النداء قد فهمته الأخشاب والأحجار !
2110 - ففي كل لحظة يجيء منه ( نداءُ )” أَ لَسْتُ ““ 1 “ ، فتتخذ الجواهر
.........................................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى :” وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ منْ بَني آدَمَ منْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسهمْ أَ لَسْتُ برَبِّكُمْ قالُوا بَلى “. ( الأعراف ، 7 : 171 ) .
وتفسير الآية : واذكر إذ أخرج ربك من أصلاب بني آدم ذريتهم على ما يكونون عليه في حياتهم المقبلة جيلًا بعد جيل ، وأظهر لهم دلائل ألوهيته ، ووهبهم من العقول ما مكنهم من إدراكها ثم أشهدهم على أنفسهم بقوله : “ ألست بربكم “ فقالوا : “ بلى “ .
“ 288 “
والأعراض صفة الوجود .
ولو لم تجب تلك بقولها : “ بلى “ فإنّ مجيئها من العدم إلى الوجود هو الجواب بالإيجاب .
ولكي تتبين ما قلته عن الإدراك عند الأحجار والأخشاب ، استمع جيداً إلى هذه القصة .
كيف ناح الجذع الحنّان حينما أقيم منبر للرسول عليه السلام وذلك لأن المسلمين وقد ازداد المبارك حين تعظنا “ .
وكيف سمع الرسولُ وأصحابهُ نواح الجذع وكيف جرى الحديث بصريح العبارة بين المصطفى وبين الجذع “ 1 “
لقد كان الجذع الحنّان ينوح - من جراّء هجر الرسول - كأنه من أرباب العقول .
فقال الرسول : “ ما ذا تريد أيها الجذع ؟ “ . فقال الجذع : “ إن روحي قد أصبحت - بفراقك - دماً !
2115 لقد كنتُ مَسْنداً لك ، فتخليّت عني ، واتخذت لك مَسنداً فوق رأس المنبر “ .
.................................................................................
( 1 ) اتفق البخاري وأبو داود في الرواية عن جابر قال : “ كان النبي إذا خطب استند على جذع نخلة من سواري المسجد ، فلما صُنع له المنبر صاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق ، فنزل عليه السلام حتى أخذها وضمها اليه فجعلت تئن أنين الصبى الذي يسكت حتى استقرت فقال عليه السلام : “ بكت على ما كانت تسمع من الذكر “ . ( المنهج القوي ج 1 ، ص 388 ) .
“ 289 “
فقال الرسول : “ أتود أن تُصبح نخلةً يجتنى منها الشرقيُّ والغربيُّ الثمار ؟
أم تريد أن تغدوَ في هذا العالم سرواً ، فتبقى إلى الأبد ريّان نضراً ؟ “ فقال الجذع : “ إنني أبتغي ما يدوم له البقاء ! “ . فلتستمع ( إلى ذلك ) أيها الغافل ! ولا تكن أقلّ ( إدراكاً ) من الخشبة ! ولقد دَفَنَ الرسولُ ذلك الجذعَ تحت التراب حتى يُحشَرَ كالناس يوم القيامة .
2120 حتى تعلم أنّ كلّ من دعاه اللَّه ( إليه ) بقي مُنصرفاً عن كل مشاغل الدنيا .
فكل من كان له مع اللَّه عمل وشؤون ، يجد سبيلًا إلى هناك ( عالم الروح ) ، وينصرف عن عمل ( الدنيا ) .
وأما من لم يكن ذا حظّ من الأسرار ، فأنى له أن يصدق نواح الجماد ؟
إنه يبدي الموافقة ، ولا يكون ذلك بقلبه ، بل من أجل الوفاق ، حتى لا يقال له إنه من أهل النفاق “ 1 “ .
ولو لم يكن بالدنيا من هم واقفون على “ أمركُنْ “ “ 2 “ لكان هذا الكلام مردوداً .
2125 فمئات الألوف من أهل التقليد والظاهر ، قد أوقعهم نصف وهمٍ في الظنون “ 3 “ .
...........................................................
( 1 ) حتى لا يتهم بأنه ينافق في دينه .
( 2 ) “ أمركُنْ “ هو مقدرة الخالق على الخلق .
( 3 ) الشطر الثاني من هذا البيت في طبعة نيكولسون هو : “ أفگند در قعر يك آسيبشان “ . ولكنا اختزنا في ترجمتنا رواية أخرى لهذ الشطر وردت في المنهج القوي ، كما وردت في أقدم المخطوطات التي اعتمد عليها نيكولسون في طبعته وهي : “ أفگند شان نيم وهمي درگمان “ ، لأنها أكثر مجاراة لمعاني الأبيات التالية .
“ 290 “
فكلّ ما لهم من تقليد واستدلال ، قائم على الظنّ وهكذا جملد قوادمم وخوالفهم “ 1 “ .
فهذا الشيطان الخسيس يثير الشبهة ، فينقلب كل هؤلاء العُمى فوق رؤوسهم .
إنّ هؤلاء الاستدلاليّين يسعون على ساق خشبية ، والساق الخشبية متعثرة واهية !
فهم على خلال قطب الزمان ، صاحب البصيرة ، من تذهل من ثباته الجبال .
2130 والعصا هي ساق الأعمى ، وهي معه حتى لا يتعثر بالحصا فينقلب على رأسه .
إنّ الفارس وسيلة الجيش إلى الظفر ، فمن مثله لأهل الدين ؟ إنّ ( لهم ) أربابَ البصر .
والعمي - وإن أبصروا الطريق بالعصيّ - فهم في رعاية الخلق المبصرين .
فلو لم يكن هناك مبصرون ، وملوك ( روحيّون ) ، لهلك جيمع من في الدنيا من العميان !
فما يتأتى من العميان زرع ولا حصاد ، ولا عمارة ولا تجارة ولا ربح .
2135 ولو لم يرحمك اللَّه ، ويتفضل عليك ، لكسر لك عصا استدلالك .
فما هذه العصا ؟ إنها القياسات والأدلة ! ومن وهبها للناس ؟ إنه المبصر الجليل ! وما دامت هذه العصا قد أصبحت آلة للحرب والنزاع ، فلتحطمها ولتبددها “ 2 “ أيها الضرير !
.........................................................................
( 1 ) يريد بالقوادم والخوالف هنا الوسائل التي كانوا يستخدمونها في الوصول إلى الحقائق .
( 2 ) حرفياً : “ فلتحطمها قطَعاً أيها الضرير ! “ .
“ 291 “
لقد أعطاك هذه العصا لكي تتقدم بها ( نحوه ) ، فإذا بك في غضبك تتهجم بها عليه .
فيا حلقة العميان ! ماذا أنتم فاعلون ؟ ألا فلتحضروا بينكم مبصراً هادياً .
2140 ولتعتصموا بحبل من وهبكم العصا ! وللتأملوا ما لقية آدم من العصيان ! ولتنظروا إلى معجزتيْ موسى وأحمد ، وكيف صارت العصا حيّة أو جذعاً يعقل ! فمن العصا تنطلق الحيّة ، ومن الجذع تنطلق الحنين ، خمس مرات - كل يوم - من أجل الدين “ 1 “ ! فلو لم يكن هذا الذوق غير معقول ، فإية حاجة كانت لكل هذه المعجزات ؟
فكل ما كان معقولًا يتقبله “ 2 “ العقل ، بدون حاجة إلى إظهار المعجزات ولا الجدال .
2145 فمهما أبصرت هذا الطريق البكر غير معقول “ 3 “ ، فانظر ( كيف ) أنه مقبول لدى قلب كل مجدود الطالع .
فكما هربت الجن والوحوش إلى الجزر خوفاً من الإنسان وحسداً له ، فإنّ المنكرين أخفوا رؤوسهم تحت العشب ، خوفاً من معجزات الأنبياء !
وذلك ليعيشوا بالنفاق ، مشتهرين بالإسلام ، فلا تدري من يكونون .
فهم كالمزيفين ، يمسحون النقد الزائف بالفضة ، ( ويضعون عليه ) اسم الملك .
.............................................................................
( 1 ) أي أنّ المعجزات التي تبرهن على الدين الحق لا تنقطع .
( 2 ) حرفياً : يأكله العقل .
( 3 ) حرفياً : فانظر هذا الطريق البكر غير معقول وانظر . . . والمعنى : إن كان نظر يريك هذا الطريق غير معقول فإنه مقبول لدى قلوب السعداء المهتدين .
“ 292 “
2150 فظاهر ألفاظهم التوحيد والشرع ، وأما باطنها فهو كالخبز الذي حوى حبوباً تصرع الإنسان .
إنّ المتفلسف لا قدرة له من أن ينطق بكلمة ، ولو نطق بها فإنّ الدين الحقّ يُفحمه !
فيده ورجله من الجماد ، وهما تطيعان كل ما تأمر به روحه .
ومع أنّ ( المنكرين ) تنطق ألسنتهم بالتُهَم ، فإن أيديهم وأرجلهم تشهد عليهم “ 1 “ .
إظهار معجزة الرسول عليه السلام بنطق الحصى في يد أبي جهل عليه اللعنة
وكيف شهد الحصى بصدق محمد عليه السلام
لقد أطبق أبو جهل بكفه على بعض الحصى ، وقال : “ يا أحمد ! عجّل ، وقل لي ماذا بكفي !
2155 فإن كنتَ رسولًا ( فلتخبرني ) ما الذي اختفى بكفي ، ما دمت تعلم أسرار السماء “ .
فقال الرسول : “ وكيف تريد أن أخبرك ؟ أأقول لك ماذا تكون ( هذه الأشياء ) ، أم تقول لك هي أنني حقّ وصدق ؟
“ فقال أبو جهل : “ إنّ الأمر الثاني أكثر غرابة ( من الأول “ 2 “ ) “ .
فقال الرسول : “ نعم ، ولكن الحق أقدر على ما فوق ذلك “ .
فانطلقت كل حصاة في كفه - بدون تخلف - ناطقة بالشهادة .
..................................................................
( 1 ) قال تعالى : “ اليوم نختم على أقواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما وكانوا يكسبون “ . ( يس ، 36 : 65 ) .
( 2 ) أمعن في غرابته .
“ 293 “
وقالت “ لا إله إلا اللَّه “ ، ونظمت جواهر “ محمد رسول اللَّه “ .
2160 فحين سمع أبو جهل هذا من الحصى ، رماه على الأرض غاضباً
.بقية قصة المطرب وكيف أن أمير المؤمنين عمر رضي اللَّه عنه
أبلغه الرسالة التي نطق بها الهاتف
فلتعد ولتستمع إلى حال المطرب ، فإنّ هذا المطرب أعياه الانتظار .
لقد هتف النداء بعمر ( قائلًا ) : “ يا عمر ! خلصّ عبدنا من الحاجة !
إنّ لنا عبداً ذا حظوة واحترام ، فجشّم قدميك التوجّه إلى المقابر .
يا عمر ! عجلّ ، وخذ بيدك “ 1 “ سبعمائة دينار من بيت المال العالم !
2165 واحملها إليه ( قائلًا ) : “ يا من أنت مختارنا ومصطفانا ! خذ هذا القدر الآن ، واعذرنا .
إنّ هذا القدر ثمن الحرير ، فأنفقه ! وحين ينفد ، عُدْ إلى هذا المكان !
“ فقفز عمر من هيبة هذا الصوت ، وشدّ حزامه للقيام بتلك الخدمة .
لقد اتجه عمر نحو المقابر مسرعاً ، باحثاً ، وقد تأبط كيساً .
ودار كثيراً حول المقابر ، فلم يجد هناك أحداً سوى هذا الشيخ .
2170 فقال : “ ليس هذا ! “ ، وجرى مرة أُخرى فتعب ولم ير غير هذا الشيخ .
فقال : “ لقد دعاني الحق ( بقوله ) : إنّ لنا عبداً صافياً مباركاً !
.................................................................
( 1 ) حرفياً : وضع في يدك .
“ 294 “
فمتى كان عازف الصنج من خواصّ اللَّه ؟ ألا أيها السرّ الخفي ! ما أروعك وما أبهاك ! “ .
ودار مرة أُخرى حول المقابر ، كما يدور أسد مفترس حول البرية .
فلما أيقن أن ليس هناك سوى هذا الشيخ قال : “ إنّ في الظلمة لكثيراً من القلوب النيّرة ! “ .
2175 وجاء ، وجلس هناك في آدب جمّ ، وانتابته عطسة فقفز الشيخ .
ورأى عمر فتولاه العجب ، وهم بالمسير ، فأصاب الارتعاش بدنه .
فحدث نفسه قائلًا : “ يا إلهي ! لقد التمست منك العطاء ، ( ولكن ) ها هو ذا المحتسب قد وقع على مطرب شيخ ! “ .
وحين وقع نظر عمر على وجه هذا الشيخ ، رآه خجلًا شاحباً .
فقال له عمر : “ لا تخف ! ولا تهرب مني ! لقد جئتك ببشارة من الحقّ .
2180 - لقد أفاض اللَّه في مدح صفاتك حتى جعل عمر عاشقاً لمحيّاك ! فالجس أمامي ، ولا تهجرني ، حتى أحدثك بسرّ عن الإقبال !
إنَّ الحق يسلّم عليك ويسألك : كيف أنت في الملك وهمومك التي لا تحدّ ؟
إليك بعض النقود ( لتدفع ) ثمن الحرير ، فأنفقها ، وعد ثانية إلى هذا المكان ! “ .
فلما سمع الشيخ هذا ( الكلام ) ارتجف ، وعضّ يده ، ومزق ثيابه
2185 - وصاح : “ أيها الإله الذي لا نظير له ! حسبك أنّ هذا الشيخ المسكين قد ذاب حياء !
“ ولما طال به البكاء وطغى عليه الألم ، قذف بالصنج على الأرض فحطمّه .
وقال : “ سحقاً لك ) ، أيها الصنج الذي كان لي حجاباً عن الإله ! يا من كنت قاطع طريق يصدني عن سبيل المَلك !
“ 295 “
يا من شربت دمي سبعين عاماً ! يا من اسود وجهي - منك - أمام ربّ الكمال ! فيا إلهي ! يا ربّ العطاء والوفاء ! رحمة بعمر تقضى في الجفاء ( والعصيان ) !
2190إنّ الحقّ وهبني عمراً ، وليس سواه يعرف قيمة اليوم الواحد منه .
ولقد أنفقت عمري لحظة لحظة ، ونفخته كله في النغم الخفيض والعالي .
آها فإني - لإمعاني الفكر بموسيقى العراق وأنغامه - لم تخطر بيالي لحظة الفراق المرّ .
وآهاً فإنّ طراوة مقام “ زير افگند “ “ 1 “ الصغير قد أذبلت زرع قلبي ، فمات القلب .
وآهاً فإني - ( لا نشغالي ) بالأصوات الأربعة والعشرين - تركتْني القافلة ، وانقضى النهار .
2195 يا الهي ! إنني أستغيث بك من تلك ( النفس ) الضارعة إليك ! وما أطلب إنصافك إلا من تلك ( النفس ) المللتمسة إنصافك !
فما أنا واجد لنفسي الإنصاف إلا عنده ، فهو أقرب اليّ من نفسي .
إنّ هذه الأنانيني تأتيني منه لحظة بعد لحظة ، ولهذا فإني لن أراه إلا حين تنقص هذه مني “ 2 “ .
فمثله كمثل الذي يعدّ ذلك الذهب . إنك لتتجه بنظرك إليه ، لا إلى نفسك .
.......................................................................
( 1 ) اسم لا حد الأنغام الموسيقية ومعناه النغمة الخفيضة أو نغمة القرار .
( 2 ) إن عطاءه الذي يصل إليّ في كل لحظة يجعلني أنانياً ، إذ أنني أنظر إلى العطاء ، وأغفل عن الواهب ، مع أن الواجب أن أنظر إلى الوهاب قبل العطاء .
“ 296 “
كيف حول عمر رضي اللَّه عنه نظر المطرب عن مقام البكاء الذي هو
وجود إلى مقام الاستغراق الذي هو فناء
فقال له عمر : “ إنّ انتخابك هذا إنما هو أيضاً من آثار إحساسك بذاتك !
2200 فطريق الواصل إلى الفناء طريق آخر ، كما أنّ الإحساس بالذات إثم آخر .
“ 282 “
ما خشن ، فإنها دعامة لدينك .
فلو كان كلام ( الوليّ ) حاراً أو بارداً ، فتقبّله بقبول حسن ، فإنك به تفرّ من البرد ومن الحرّ ومن السعير .
إنّ حرارته وبرودته إنما هما ربيع جديد للحياة ، وهما أصل الصدق واليقين والخضوع .
وهو إذ كان حياة لبستان الروح ، وكان بحر قلبه حافلًا بتلك الجواهر ، فإنّ قلب العاقل تنتابه آلاف الهموم ، لو نقص من بستان القلب عود خلال .
كيف سألت الصدّيقة المصطفى قائلة : “ ماذا كان سرّ أمطار اليوم ؟ “
2060 - قالت الصدّيقة : “ يا زبدة الوجود ! ماذا كانت الحكمة وراء أمطار اليوم ؟
أكانت هذه أمطار الرحمة ، أم أنها كانت للتهديد ، ( وبيان ) عدل الكبرياء ؟
أكانت هذه من الألطاف الربيعيّة ، أم أنها كانت خريفيّة حافلة بالآفات ؟ “
فقال : “ لقد كانت هذه لتسكين الهموم ، التي ( أوقعتها ) المصائبُ على الجنس الآدميّ “ “ 1 “ .
....................................................................
( 1 ) المعنى أن هذه الأمطار الغيبية التي أبصرتها الصديقة لم تكن إلا نفحات من الرحمة الإلهية بعث بها الخالق لتسكين هموم البشر .
“ 283 “
فلو أقام الآدمي على تلك النار زمناً، لوقع الكثير من الخراب والضياع “ 1 “،
2065 - ولأصبح هذا العالم - في الحال - خرباً ، ولا نطلقت نوازع الحرص من نفوس البشر .
أيتها الروح ! إنّ الغفلة “ 2 “ إنما هي دعامة هذا العالم ، كما أن اليقظة “ 3 “ آفة لهذه الدنيا .
فاليقظة إنما هي من العالم الآخر ، فحين تصبح لها الغلبة ، يتداعى هذا العالم !
إنّ اليقظة هي الشمس وأما الحرص فهو الثلج “ 4 “ . اليقظة هي الماء ، وأما هذا العالم فهو الوسخ “ 5 “ .
وإنا لتصلنا رشحات قليلة من ذلك العالم ( الروحيّ ) ، حتى لا يزمجر الحرص والحسد في هذا العالم .
2070 - فلو زادت الرشحات من عالم الغيب لما بقي في هذا العالم فضل ولا عيب “ 6 “ .
إنّ هذا ( البحث ) لا نهاية لا ، فلنعد إلى البداية ، ولنرجع إلى قصة الرجل المطرب .
.......................................................
( 1 ) حرفياً : النقصان .
( 2 ) الغفلة عن هوان هذه الدنيا وعن جمال العالم الروحي .
( 3 ) اليقظة الروحية .
( 4 ) اليقظة تقضي على الحرص كما تذيب الشمس الثلوج .
( 5 ) كذلك تزيل اليقظة الحرص كما يزيل الماء الوسخ .
( 6 ) لو غلب عالم الغيب على هذا العالم المادي لقضى على ما فيه من قيم ومقاييس أوحت بها للإنسان حياته في الدنيا .
“ 284 “
بقية قصة عازف الصنج الهرم وبيان مغزاها
إنّ هذا المطرب الذي طربت له الدنيا ، والذي انبعثت من صوته الخيالات العجب ،
من - بشدوه - كان طائر القلب يحلّق ، ومن بصدى ( نغماته ) حار عقل الروح !
حينما مضى عليه الزمن وشاخ ، أصبح بازيّ روحه - من العجز - صيّاد للبعوض .
2075 - لقد تقّوس ظهره كظهر الإبريق ، وغدت حواجبه فوق عينيه ، كالحَبْل فوق دُبُر الدابة .
وأصبح صوته اللطيف - الذي كان ينعش الروح - قبيحاً ، لا يرى أحدُ أنه يستحق شيئاً .
وأنغامه التي كانت - ذات يوم - مثاراً لحسَد الزهرة “ 1 “ صارت مثل نهيق حمار هرم .
وأيّ جميل لم يَغْدُ قبيحاً ؟ أم أي سقف لم يصبح مساوياً للأرض “ 2 “ ؟
إلا ألاصوات في صدور ( الأولياء ) الأعزاء “ 3 “ ، وهؤلاء هم الذين يكون نفخ الصور من صدى نفاسهم !
2080 - فباطنهم هو الذي سكرت به البواطن ، وفناؤهم “ 4 “ هو الذي استعمد وجودُنا منه الوجود .
...................................................................
( 1 ) من المعتقد قديماً أن الزهرة كانت امرأة وقع عليها المسخ فأصبحت نجماً .
كما يصور شعراء الفرس هذا النجم مغنياً عارفاً .
( 2 ) حرفياً : لم يصبح مفرشاً .
( 3 ) يستثني الشاعر هنا أصوات الأولياء من الحكم الذي ذكره في البيت السابق وهو أن كل جميل يغدو قبيحاً .
( 4 ) الفناء عن العالم المادي ، والخلاص من تأكيد الذات .
“ 285 “
إن الوليّ هو كهرباء الفكر وكل صوت ! إنه لذة الإلهام والوحي والأسرار !
فهذا المطرب - حين شاخ وضعف - أصبح - لا نعدام كسبه - رهين رغيف واحد .
فقال : “ يا إلهي ! لقد أطلت عمري ومهلتي ، وأنعمت على خسيس بألطافك ! لقد اقترفتُ الآثام سبعين عاماً ، لكنك لم تحجب عني نوالك يوماً !
2085 - فاليوم لا كسب لي ، وإني ضيفك ! وهأنذا أضرب الصنج من أجلك ، فإني لك “ .
ورفع الصنج بيده ، ومضى طالباً ربه ، واتجه - وهو يتأوه - إلى مقابر يثرب .
وقال : “ إني أطلب من اللَّه ثمن حرير ( الأوتار ) ، فهو الذي يتقبل برحمةٍ منه زائف النقد “ .
لقد أطال العزف ثم مال برأسه باكياً ، فتوسد الصنج وسقط فوق أحد القبور !
فأخذه النوم ، وأفلت طائر روحه من الجس ، فترك الصنج والعارف وانطلق .
2090 - لقد تخلّص من البدن ، وألم الدنيا ، إلى عالم بسيط “ 1 “ ، وإلى ما للروخ من سهوب فساح .
فهناك كانت روحه تتغنى بما اعتراها ، ( قائلة ) : “ ليتني أُترك ههنا !
فما أسعد روحي بهذا البستان وذلك الربيع ! إنها سكرى بهذا المرج ، وبرياض أزاهير الغيب .
..........................................................................
( 1 ) عالم روحي خالص وليس مركباً من الروح والمادة كعالم الدنيا .
“ 286 “
فهأنذا أُسافر بلا رأس ولا قدم “ 1 “ ! وهأنذا أتذوق السكر بلا شفة ولا أسنان !
وهأنذا ألهو مع سكان السماء ، وقد خلصت ذاكرتي وفكري من آلام الدماغ !
2095 - وهأنذا أرى عالماً ( بأسره ) وعيناي مغمضتان ! وهأنذا - بلا كف - أجتني الورد والرياحين ! “ .
إنّ طائر الماء أصبح غريق بحر من العسل ، وأضحى نبع أيوب له شراباً ومغتسلًا “ 2 “ .
هذا الذي بمائه أصبح أيوب - من قمة الرأس إلى القدم - بريئاً من الآلام مثل نور المشرق !
فلو كان المثنوي في حجم الفلك ، لما اتسع لنصف مثقال من هذا ( السرّ الإلهيّ ) .
فإنّ هذه الأرض ، وتلك السماء - على سعتهما - مزقتا قلبي إرباً بضيقهما “ 3 “ !
2100 - وأما ذلك العالم تجلى لي في المنام فقد أطلق برحابته قوادم جناحيّ وخوالفهما .
فلو ظهر للعيان ذلك العالم واتضح سبيله ، لما بقي أحدُ لحظةً واحدة في هذا العالم ( الماديّ ) .
لقد كان الأمر يأتيه ( قائلًا ) : “ لا تكن طامعاً ! وما دامت الشوكة قد خرجت من قدمك فلتمش ! “ .
.......................................................................
( 1 ) بلا رأس يدبرو لا قدم تسعى .
( 2 ) قال تعالى : “ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، راكض برجلك هذا مغتصل بارد وشراب “ . ( سورة ص ، 38 : 40 - 41 ) .
( 3 ) عاد الشاعر هنا إلى رواية حديث عازف الصنج .
“ 287 “
لكن روحه كانت تمضي متأنية ، مستغرقة في فضاء رحمة اللَّه وإحسانه .
كيف أمر الهاتف عمر رضي اللَّه عنه في منامه قائلا :
“ أعط قدراً من ذهب بيت المال لذلك الرجل النائم في القابر “
وفي ذلك الوقت أرسل اللَّه إلى عمر نوماً لم يستطيع أن يتمالك منه نفسه .
2105 - فاستولى عليه العجب ( وقال ) : “ إنّ هذا ليس بمعهود ! لقد جاء من الغيب ، وليس أمراً غير مقصود “ .
فوسد رأسه وأخذه النوم ، فرأى في المنام أنّ نداء جاءه من الحق ، سمعته روحه .
فذلك النداء هو أصل كل صيحة ، وكل صوت . إنه النداء ( الحق ) ، وكل ما عداه فهو صدى .
فالترك والكرد والفرس والعرب فهموا هذا النداء بدون ( حاجة ) إلى أُذن وشفة .
بل أي مكان للترك والعرب والزنج ( هنا ) ؟ إنّ هذا النداء قد فهمته الأخشاب والأحجار !
2110 - ففي كل لحظة يجيء منه ( نداءُ )” أَ لَسْتُ ““ 1 “ ، فتتخذ الجواهر
.........................................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى :” وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ منْ بَني آدَمَ منْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسهمْ أَ لَسْتُ برَبِّكُمْ قالُوا بَلى “. ( الأعراف ، 7 : 171 ) .
وتفسير الآية : واذكر إذ أخرج ربك من أصلاب بني آدم ذريتهم على ما يكونون عليه في حياتهم المقبلة جيلًا بعد جيل ، وأظهر لهم دلائل ألوهيته ، ووهبهم من العقول ما مكنهم من إدراكها ثم أشهدهم على أنفسهم بقوله : “ ألست بربكم “ فقالوا : “ بلى “ .
“ 288 “
والأعراض صفة الوجود .
ولو لم تجب تلك بقولها : “ بلى “ فإنّ مجيئها من العدم إلى الوجود هو الجواب بالإيجاب .
ولكي تتبين ما قلته عن الإدراك عند الأحجار والأخشاب ، استمع جيداً إلى هذه القصة .
كيف ناح الجذع الحنّان حينما أقيم منبر للرسول عليه السلام وذلك لأن المسلمين وقد ازداد المبارك حين تعظنا “ .
وكيف سمع الرسولُ وأصحابهُ نواح الجذع وكيف جرى الحديث بصريح العبارة بين المصطفى وبين الجذع “ 1 “
لقد كان الجذع الحنّان ينوح - من جراّء هجر الرسول - كأنه من أرباب العقول .
فقال الرسول : “ ما ذا تريد أيها الجذع ؟ “ . فقال الجذع : “ إن روحي قد أصبحت - بفراقك - دماً !
2115 لقد كنتُ مَسْنداً لك ، فتخليّت عني ، واتخذت لك مَسنداً فوق رأس المنبر “ .
.................................................................................
( 1 ) اتفق البخاري وأبو داود في الرواية عن جابر قال : “ كان النبي إذا خطب استند على جذع نخلة من سواري المسجد ، فلما صُنع له المنبر صاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق ، فنزل عليه السلام حتى أخذها وضمها اليه فجعلت تئن أنين الصبى الذي يسكت حتى استقرت فقال عليه السلام : “ بكت على ما كانت تسمع من الذكر “ . ( المنهج القوي ج 1 ، ص 388 ) .
“ 289 “
فقال الرسول : “ أتود أن تُصبح نخلةً يجتنى منها الشرقيُّ والغربيُّ الثمار ؟
أم تريد أن تغدوَ في هذا العالم سرواً ، فتبقى إلى الأبد ريّان نضراً ؟ “ فقال الجذع : “ إنني أبتغي ما يدوم له البقاء ! “ . فلتستمع ( إلى ذلك ) أيها الغافل ! ولا تكن أقلّ ( إدراكاً ) من الخشبة ! ولقد دَفَنَ الرسولُ ذلك الجذعَ تحت التراب حتى يُحشَرَ كالناس يوم القيامة .
2120 حتى تعلم أنّ كلّ من دعاه اللَّه ( إليه ) بقي مُنصرفاً عن كل مشاغل الدنيا .
فكل من كان له مع اللَّه عمل وشؤون ، يجد سبيلًا إلى هناك ( عالم الروح ) ، وينصرف عن عمل ( الدنيا ) .
وأما من لم يكن ذا حظّ من الأسرار ، فأنى له أن يصدق نواح الجماد ؟
إنه يبدي الموافقة ، ولا يكون ذلك بقلبه ، بل من أجل الوفاق ، حتى لا يقال له إنه من أهل النفاق “ 1 “ .
ولو لم يكن بالدنيا من هم واقفون على “ أمركُنْ “ “ 2 “ لكان هذا الكلام مردوداً .
2125 فمئات الألوف من أهل التقليد والظاهر ، قد أوقعهم نصف وهمٍ في الظنون “ 3 “ .
...........................................................
( 1 ) حتى لا يتهم بأنه ينافق في دينه .
( 2 ) “ أمركُنْ “ هو مقدرة الخالق على الخلق .
( 3 ) الشطر الثاني من هذا البيت في طبعة نيكولسون هو : “ أفگند در قعر يك آسيبشان “ . ولكنا اختزنا في ترجمتنا رواية أخرى لهذ الشطر وردت في المنهج القوي ، كما وردت في أقدم المخطوطات التي اعتمد عليها نيكولسون في طبعته وهي : “ أفگند شان نيم وهمي درگمان “ ، لأنها أكثر مجاراة لمعاني الأبيات التالية .
“ 290 “
فكلّ ما لهم من تقليد واستدلال ، قائم على الظنّ وهكذا جملد قوادمم وخوالفهم “ 1 “ .
فهذا الشيطان الخسيس يثير الشبهة ، فينقلب كل هؤلاء العُمى فوق رؤوسهم .
إنّ هؤلاء الاستدلاليّين يسعون على ساق خشبية ، والساق الخشبية متعثرة واهية !
فهم على خلال قطب الزمان ، صاحب البصيرة ، من تذهل من ثباته الجبال .
2130 والعصا هي ساق الأعمى ، وهي معه حتى لا يتعثر بالحصا فينقلب على رأسه .
إنّ الفارس وسيلة الجيش إلى الظفر ، فمن مثله لأهل الدين ؟ إنّ ( لهم ) أربابَ البصر .
والعمي - وإن أبصروا الطريق بالعصيّ - فهم في رعاية الخلق المبصرين .
فلو لم يكن هناك مبصرون ، وملوك ( روحيّون ) ، لهلك جيمع من في الدنيا من العميان !
فما يتأتى من العميان زرع ولا حصاد ، ولا عمارة ولا تجارة ولا ربح .
2135 ولو لم يرحمك اللَّه ، ويتفضل عليك ، لكسر لك عصا استدلالك .
فما هذه العصا ؟ إنها القياسات والأدلة ! ومن وهبها للناس ؟ إنه المبصر الجليل ! وما دامت هذه العصا قد أصبحت آلة للحرب والنزاع ، فلتحطمها ولتبددها “ 2 “ أيها الضرير !
.........................................................................
( 1 ) يريد بالقوادم والخوالف هنا الوسائل التي كانوا يستخدمونها في الوصول إلى الحقائق .
( 2 ) حرفياً : “ فلتحطمها قطَعاً أيها الضرير ! “ .
“ 291 “
لقد أعطاك هذه العصا لكي تتقدم بها ( نحوه ) ، فإذا بك في غضبك تتهجم بها عليه .
فيا حلقة العميان ! ماذا أنتم فاعلون ؟ ألا فلتحضروا بينكم مبصراً هادياً .
2140 ولتعتصموا بحبل من وهبكم العصا ! وللتأملوا ما لقية آدم من العصيان ! ولتنظروا إلى معجزتيْ موسى وأحمد ، وكيف صارت العصا حيّة أو جذعاً يعقل ! فمن العصا تنطلق الحيّة ، ومن الجذع تنطلق الحنين ، خمس مرات - كل يوم - من أجل الدين “ 1 “ ! فلو لم يكن هذا الذوق غير معقول ، فإية حاجة كانت لكل هذه المعجزات ؟
فكل ما كان معقولًا يتقبله “ 2 “ العقل ، بدون حاجة إلى إظهار المعجزات ولا الجدال .
2145 فمهما أبصرت هذا الطريق البكر غير معقول “ 3 “ ، فانظر ( كيف ) أنه مقبول لدى قلب كل مجدود الطالع .
فكما هربت الجن والوحوش إلى الجزر خوفاً من الإنسان وحسداً له ، فإنّ المنكرين أخفوا رؤوسهم تحت العشب ، خوفاً من معجزات الأنبياء !
وذلك ليعيشوا بالنفاق ، مشتهرين بالإسلام ، فلا تدري من يكونون .
فهم كالمزيفين ، يمسحون النقد الزائف بالفضة ، ( ويضعون عليه ) اسم الملك .
.............................................................................
( 1 ) أي أنّ المعجزات التي تبرهن على الدين الحق لا تنقطع .
( 2 ) حرفياً : يأكله العقل .
( 3 ) حرفياً : فانظر هذا الطريق البكر غير معقول وانظر . . . والمعنى : إن كان نظر يريك هذا الطريق غير معقول فإنه مقبول لدى قلوب السعداء المهتدين .
“ 292 “
2150 فظاهر ألفاظهم التوحيد والشرع ، وأما باطنها فهو كالخبز الذي حوى حبوباً تصرع الإنسان .
إنّ المتفلسف لا قدرة له من أن ينطق بكلمة ، ولو نطق بها فإنّ الدين الحقّ يُفحمه !
فيده ورجله من الجماد ، وهما تطيعان كل ما تأمر به روحه .
ومع أنّ ( المنكرين ) تنطق ألسنتهم بالتُهَم ، فإن أيديهم وأرجلهم تشهد عليهم “ 1 “ .
إظهار معجزة الرسول عليه السلام بنطق الحصى في يد أبي جهل عليه اللعنة
وكيف شهد الحصى بصدق محمد عليه السلام
لقد أطبق أبو جهل بكفه على بعض الحصى ، وقال : “ يا أحمد ! عجّل ، وقل لي ماذا بكفي !
2155 فإن كنتَ رسولًا ( فلتخبرني ) ما الذي اختفى بكفي ، ما دمت تعلم أسرار السماء “ .
فقال الرسول : “ وكيف تريد أن أخبرك ؟ أأقول لك ماذا تكون ( هذه الأشياء ) ، أم تقول لك هي أنني حقّ وصدق ؟
“ فقال أبو جهل : “ إنّ الأمر الثاني أكثر غرابة ( من الأول “ 2 “ ) “ .
فقال الرسول : “ نعم ، ولكن الحق أقدر على ما فوق ذلك “ .
فانطلقت كل حصاة في كفه - بدون تخلف - ناطقة بالشهادة .
..................................................................
( 1 ) قال تعالى : “ اليوم نختم على أقواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما وكانوا يكسبون “ . ( يس ، 36 : 65 ) .
( 2 ) أمعن في غرابته .
“ 293 “
وقالت “ لا إله إلا اللَّه “ ، ونظمت جواهر “ محمد رسول اللَّه “ .
2160 فحين سمع أبو جهل هذا من الحصى ، رماه على الأرض غاضباً
.بقية قصة المطرب وكيف أن أمير المؤمنين عمر رضي اللَّه عنه
أبلغه الرسالة التي نطق بها الهاتف
فلتعد ولتستمع إلى حال المطرب ، فإنّ هذا المطرب أعياه الانتظار .
لقد هتف النداء بعمر ( قائلًا ) : “ يا عمر ! خلصّ عبدنا من الحاجة !
إنّ لنا عبداً ذا حظوة واحترام ، فجشّم قدميك التوجّه إلى المقابر .
يا عمر ! عجلّ ، وخذ بيدك “ 1 “ سبعمائة دينار من بيت المال العالم !
2165 واحملها إليه ( قائلًا ) : “ يا من أنت مختارنا ومصطفانا ! خذ هذا القدر الآن ، واعذرنا .
إنّ هذا القدر ثمن الحرير ، فأنفقه ! وحين ينفد ، عُدْ إلى هذا المكان !
“ فقفز عمر من هيبة هذا الصوت ، وشدّ حزامه للقيام بتلك الخدمة .
لقد اتجه عمر نحو المقابر مسرعاً ، باحثاً ، وقد تأبط كيساً .
ودار كثيراً حول المقابر ، فلم يجد هناك أحداً سوى هذا الشيخ .
2170 فقال : “ ليس هذا ! “ ، وجرى مرة أُخرى فتعب ولم ير غير هذا الشيخ .
فقال : “ لقد دعاني الحق ( بقوله ) : إنّ لنا عبداً صافياً مباركاً !
.................................................................
( 1 ) حرفياً : وضع في يدك .
“ 294 “
فمتى كان عازف الصنج من خواصّ اللَّه ؟ ألا أيها السرّ الخفي ! ما أروعك وما أبهاك ! “ .
ودار مرة أُخرى حول المقابر ، كما يدور أسد مفترس حول البرية .
فلما أيقن أن ليس هناك سوى هذا الشيخ قال : “ إنّ في الظلمة لكثيراً من القلوب النيّرة ! “ .
2175 وجاء ، وجلس هناك في آدب جمّ ، وانتابته عطسة فقفز الشيخ .
ورأى عمر فتولاه العجب ، وهم بالمسير ، فأصاب الارتعاش بدنه .
فحدث نفسه قائلًا : “ يا إلهي ! لقد التمست منك العطاء ، ( ولكن ) ها هو ذا المحتسب قد وقع على مطرب شيخ ! “ .
وحين وقع نظر عمر على وجه هذا الشيخ ، رآه خجلًا شاحباً .
فقال له عمر : “ لا تخف ! ولا تهرب مني ! لقد جئتك ببشارة من الحقّ .
2180 - لقد أفاض اللَّه في مدح صفاتك حتى جعل عمر عاشقاً لمحيّاك ! فالجس أمامي ، ولا تهجرني ، حتى أحدثك بسرّ عن الإقبال !
إنَّ الحق يسلّم عليك ويسألك : كيف أنت في الملك وهمومك التي لا تحدّ ؟
إليك بعض النقود ( لتدفع ) ثمن الحرير ، فأنفقها ، وعد ثانية إلى هذا المكان ! “ .
فلما سمع الشيخ هذا ( الكلام ) ارتجف ، وعضّ يده ، ومزق ثيابه
2185 - وصاح : “ أيها الإله الذي لا نظير له ! حسبك أنّ هذا الشيخ المسكين قد ذاب حياء !
“ ولما طال به البكاء وطغى عليه الألم ، قذف بالصنج على الأرض فحطمّه .
وقال : “ سحقاً لك ) ، أيها الصنج الذي كان لي حجاباً عن الإله ! يا من كنت قاطع طريق يصدني عن سبيل المَلك !
“ 295 “
يا من شربت دمي سبعين عاماً ! يا من اسود وجهي - منك - أمام ربّ الكمال ! فيا إلهي ! يا ربّ العطاء والوفاء ! رحمة بعمر تقضى في الجفاء ( والعصيان ) !
2190إنّ الحقّ وهبني عمراً ، وليس سواه يعرف قيمة اليوم الواحد منه .
ولقد أنفقت عمري لحظة لحظة ، ونفخته كله في النغم الخفيض والعالي .
آها فإني - لإمعاني الفكر بموسيقى العراق وأنغامه - لم تخطر بيالي لحظة الفراق المرّ .
وآهاً فإنّ طراوة مقام “ زير افگند “ “ 1 “ الصغير قد أذبلت زرع قلبي ، فمات القلب .
وآهاً فإني - ( لا نشغالي ) بالأصوات الأربعة والعشرين - تركتْني القافلة ، وانقضى النهار .
2195 يا الهي ! إنني أستغيث بك من تلك ( النفس ) الضارعة إليك ! وما أطلب إنصافك إلا من تلك ( النفس ) المللتمسة إنصافك !
فما أنا واجد لنفسي الإنصاف إلا عنده ، فهو أقرب اليّ من نفسي .
إنّ هذه الأنانيني تأتيني منه لحظة بعد لحظة ، ولهذا فإني لن أراه إلا حين تنقص هذه مني “ 2 “ .
فمثله كمثل الذي يعدّ ذلك الذهب . إنك لتتجه بنظرك إليه ، لا إلى نفسك .
.......................................................................
( 1 ) اسم لا حد الأنغام الموسيقية ومعناه النغمة الخفيضة أو نغمة القرار .
( 2 ) إن عطاءه الذي يصل إليّ في كل لحظة يجعلني أنانياً ، إذ أنني أنظر إلى العطاء ، وأغفل عن الواهب ، مع أن الواجب أن أنظر إلى الوهاب قبل العطاء .
“ 296 “
كيف حول عمر رضي اللَّه عنه نظر المطرب عن مقام البكاء الذي هو
وجود إلى مقام الاستغراق الذي هو فناء
فقال له عمر : “ إنّ انتخابك هذا إنما هو أيضاً من آثار إحساسك بذاتك !
2200 فطريق الواصل إلى الفناء طريق آخر ، كما أنّ الإحساس بالذات إثم آخر .
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin