بيان حسد الوزير
لقد كانت طبيعة هذا الوزير الصغير من الحسد ، ولذلك ضحىّ في سبيل الباطل بأذنيه وأنفه .
وكان أمله أن يسيري سمه من إبرة الحسد إلى نفوس هؤلاء المساكين .
وإنّ من يجدع أنفه من جرّاء الحسد يجعل نفسه بدون أذن ولا أنف “ 2 “ .
440 فالأنف هي التي تتنسم الأريج ، فيقودها ذلك الأريج إلى جانب الديار .
ومن لم يدركه الأريج فهو بلا أنف ، والأريج المقصود هنا دينيّ لا دينويّ .
..............................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهِّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود “ . ( البقرة ، 2 : 125 )
( 2 ) يفقد الإدراك النفسيّ إلى جانب فقدانه للادراك الحسي .
“ 131 “
فإذا اشتمّ المرء الأرجَ ، ولم يقم بالشكر عليه ، كان ذلك منه كفراً بالنعمة ، وصار كمن أكل أنفه .
فكُنْ شاكراً ، وكُنْ للشاكرين عبداً ، وكن في حضرتهم كالميت ولا تُبد حراكاً .
ولا تجعل ذخيرتك من قطع الطريق كما فعل الوزير ، ولا تصرف الخلق عن الصلاة .
445 - إنّ ذلك الوزير الكافر صار ناصحاً في الدين ، فكان من مكره أن وضع الثوم في اللوزينج .
كيف فهم حذاق النصارى مكر الوزير
لقد كان كلّ صاحب ذوق يجد في قول هذا الوزير لذة مقترنة بالمرارة .
كان يقول كلاماً لطيفاً ممتزجاً بكلام خبيث ، فقد صبّ السم في شراب الورد .
كان في الظاهر يدعو الأرواح إلى الجدّ في السير على الطريق ، ولكنه كان يعود فيحثها على التراخي .
وهكذا ظاهر الفضّة ، فهو إن كان أبيض جديداً إلا أنه يلوّث بالسواد اليد والثياب .
450 - والنار ترى وجهها أحمر من الشرر ، ومع ذلك ، فانظر كيف ينشأ السواد من فعلها .
والبرق يبدو نوراً لمن نظر ، مع أنّ من طبيعته أن يخطف البصر .
“ 132 “
فكل من لم يكن عارفاً صاحب ذوق (من النصارى)، أصبح أسيراً لكلمات ذلك الوزير “ 1 “.
ولقد ابتعد ذلك الوزير عن الملك ست سنين ، كان في أثنائها ملجاً لأتباع عيسى .
فأسلم له الخلق دينهم وقلوبهم ، وكانوا يبذلون الروح وفق أمره ، وطوع حكمه .
المراسلة في الخفاء بين الملك والوزير
455 - لقد جرت بين الملك وبين الوزير الرسائل ، وطمأنه الوزير في الخفاء .
فكتب الملك يقول : “ لقد حان الوقت - أيّها العزيز - فسارع ، وطمئن خاطري “
فأجاب الوزير قائلًا : “ ها أنذا في هذا العمل ، أيها الملك ! وإني لموقع الفتن في دين عيسى “ .
بيان الأسباط الاثني عشر الذين تبعهم النصارى
لقد كان لقوم عيسى اثنا عشر أميراً يحكمونهم ويتولوّن أمورهم .
وكان كل فريق تابعاً لأميره ، وقد جعل منه الطمع عبداً لذلك الأمير .
460 وهؤلاء الأمراء الإثنا عشر ، وأتباعهم صاروا عبيداً لذلك الوزير القبيح السمات .
...............................................................
( 1 ) الترجمة الحرفية : “ صارت كلمات ذلك الوزير طوقاً في عنقه “ .
“ 133 “
فكانوا جميعاً يثقون بقوله ، وكلهم كانوا يهتدون بسيره .
وكان كلّ أمير يرضى بأن يضحّي بالروح في التوّ واللحظة إذا طلب منه الوزير ذلك .
تخليط الوزير في أحكام الإنجيل
فأعدّ طومار باسم كل منهم وكتب في كلّ طومار خلاف ما كتب في الآخر .
فكان كل طومار ينطوي على أحكام تخالف ما جاء في غيره خلافاً يمتدّ من البداية إلى النهاية.
465 - ففي أحدهما جعل طريق الرياضة والجوع ركناً للتوبة وشرطاً للرجوع .
وفي طومار آخر قال: “ إنّه لا جدوى من الرياضة، وإنّه لا نجاة في ذلك الطريق إلا بالجود“.
وفي طومار ثالث قال : “ إنّ جوعك وجودك إشراك منك بمعبودك .
وكل ما جاوز التوكل والتسليم التام في حالي الغم والسرور فليس إلا مكراً وخداعاً “ .
وفي طومار قال : “ إنّ العبادة هي الواجب ( المفروض على العبد ) أما التفكر في التوكلّ فهو تهمة “ .
470 - وفي طومار قال : “ إنه ليس المقصود بأوامر اللَّه ونواهيه أن يتبعها الناس ، وإنما هي بيان لعجزنا وبرهان عليه !
فإذا ظهر لنا عجزنا عن اتباعها ، أدركنا - إذ ذاك - قدرة الحقّ “ .
“ 134 “
وفي طومار قال : “ لا تنظر إلى عجزك ! إنّ هذا العجز كفران بالنعمة ، فاحذره !
وانظر إلى قدرتك ، فإنّ هذه القدرة من اللَّه ، وهي نعمة منه جلّ شأنه “ .
وفي طومار قال : “ دعك من هاتين الصفتين ( القدرة والعجز ) فكلّ ما أتسمع له البصر فإنّه وثن “ .
475 وفي طومار قال : “ لا تطفئ شموع الإبصار ، فإنّ البصر هو الشمع الذي ( ينير الطريق ) للتأمل الباطنيّ .
وإذا أنت تركت النظر ، وتركت الخيال ، كنت كمن أطفأ في منتصف الليل شمع الوصال “ .
وفي طومار قال : “ لا تخفْ وأَطفىء هذا البصر ، تَلق عوضاً عنه مائة ألف من المشاهد !
فأنت بإطفائك شَموع البصر تقوّي شموع روحك وتصبح ليلاك - لا صطبارك عنها - مجنونة بك .
فكل من ترك الدنيا زُهداً فيها ، أقبلت عليه الدنيا رويداً رويداً “ .
480 - وفي طومار قال : “ إنّ ما وهبك إياه الحق جعلك تجد مذاقه حلواً عندما أوجده لك .
لقد يَسّر لك ما أعطاك فخذه ، وأنعم به ولا تُلق بنفسك إلى الآلام ! “ وفي طومار
قال : “ دع عنك كلّ ما يتصل بنفسك ، فإنّ قبولك طبع نفسك أمر لا يجوز وشر .
فهناك طرق مختلفة أصبح من اليسير طرقُها ، وكلُ غدا يعتزّ بملته
“ 135 “
اعتزازه بروحه .
ولو كان السير في طريق الحق يسيراً ، لكان كلُ يهودي ومحبوسى عارفاً باللَّه “ .
485 - وفي طومار قال : “ إنّ ( الطريق ) الميسّر هو الذي تكون فيه حياة للقلب وغذاء للروح .
فكل ما يوافق طباعنا الحسيّة - عندما يمضي - لا يترك محصولًا ولا ثمرة ، شأن الأرض المالحة .
وليس لذلك من حاصل سوى الندم ، ولا يجيء بيعه بشيء سوى الخسارة .
وكل ما لم يكن مُيسّر العاقبة فاسمه إذن يكون معسّر العاقبة “ .
فتعلمّ ( كيف تميز بين ) المُيَسّر والمُعَسَّر ، وتأمل في عاقبة الأمر جمال كل منهما ! “ .
490 - وفي طومار قال : “ اطلب مرشداً ، فلن يتحقق لك إدارك العاقبة بما لك من حسب .
فجميع أنواع الملل رأت العاقبة ( على هواها ) ، فلا جرم أن أصبح أتباعها أسارى الزلل .
وليس إدراك العاقبة ( يسيراً ) كإدارة نول يدويّ ، وإلا فكيف وقع الخلاف بين الأديان ؟ “ .
وفي طومار قال : “ إنّك أنت المرشد لأنك تعرف المرشد !
فكن رجلًا ولا تكن مُسُخّراً لغيرك من الرجال ، وامض ، وكن رابط الجأش ، وتخلصَّ من حيرتك “ .
“ 136 “
495 وفي طومار قال : “ إنّ تلك الكثرة التي نراها شيء واحد ، وكلّ من رآها شيئين فهو رجل صغير أحول “ .
وفي طومار قال : “ كيف تكون المائة واحدا ؟ إنّ من يتصور ذلك ليس إلا مجنوناً “ .
فكل قول قاله ، كان مناقضاً لأقواله الأخرى ! وكيف تتفق ( هذه الأقول ) ؟ أيكون السم والسكرّ شيئاً واحداً ؟
فإنْ أنت لم تكن قد انتهيت من التمييز بين السمّ والسكرّ ، فكيف تستطيع أنْ تتنسم عبير التفرد والوحدانية ؟
وهكذا كتب ذلك العدوّ لدين عيسى اثني عشر دفتراً من هذا النوع ، على تلك الوتيرة .
بيان أن هذا الخلاف إنما هو صورة السير وليس في حقيقة الطريق
500 - إنّه لم يكن مدركاً لوحدة اللون عند عيسى ، ولم يكن يميل إلى ذلك المزاج ( اللونيّ ) الذي احتواه وعاؤه .
فمن ذلك الوعاء الصافي صُبغ ثوب ذو مائة لون ، فصار ذا لون واحد متجانس ، كأنه الضياء “ 1 “ ! .
وليست هذه الوحدة اللونية من النوع الذي يجلب الملال ، بل هي على مثال السمك وهو في الماء الزلال .
ومع أن الأرض اليابسة تشتمل على آلاف من الألوان ، فإن ألاسماك
...............................................................
( 1 ) الضوء يمكن تحليله إلى ألوان عديدة ومع ذلك يبدو لوناً واحداً .
“ 137 “
في حرب دائمة مع الجفاف .
وما السمك وما البحر في ذلك المثل الذي ضربناه حتى نشبه بهما المليك عز وجل
505 ففي هذا الوجود مائة ألف بحر وسمكة ، تسجد أمام ذلك الإكرام والجود !
فكم من غيث عطاء همى ، فأصبح البحر بذلك الغيث ينثر الدرّ .
وكم شمس كرم أشرقت ، فتعلّم منها الحساب والبحر معنى الجود .
وشمس الحكمة قد ضربت أشعتُها التراب والطين، فأصبحت الأرض تتقبل البذرة ( وتنبتها ).
والأرض أمينة ، فكل مازرعته فيها تجني ثمرة من جنسه دون غش أو خديعة .
510 وقد أخذت الأرض أمانتها عن تلك الأمانة ( العلوية ) ، فقد أشرقت عليها شمس العدل ( الإلهي ) .
وما لم يجئ الربيع بعلامة من الحق فإن الأرض لا تذيع أسرارها .
فهذا الجواد الذي وهب الجماد تلك المعرفة ، وهذه الأمانة ، وذاك السداد .
يجعل جُوُده الجماد خبيراً ، ويجعل قهره العاقل ضريراً .
إن روحي وقلبي لا طاقة لهما بذلك الجيَشان، فمع من أتحدث وليس في هذا العالم أذن تسمع؟
515 - فالأذن - أينما كانت - تصبح ( بفضله ) عيناً ، والحصى - حيثما كان - يصير ( بفضله ) دُرّاً !
“ 138 “
إنه الكيماويُّ الحقّ ! فما الكيمياء ( بجانب كيميائه ) ؟
وهو مانح المعجزاته ، فما السحر ( بجانب معجزاته ) ؟
وهذا الثناء منّي هو تركُ للثناء ! فهو دليل على وجودي ( المنفصل )، ومثل هذا الوجود خطأ.
فأمام وجوده لا بد أن يكون ( كل شيء عدما ) فما الوجود أمامه ؟ إن أعمى تعس كئيب اللون ! “ 1 “ .
فلو لم يكن أعمى لانصر أمامه ، ولأدرك حرارة تلك الشمس ( الإلهية ) .
520 - ولو لم يكن أزرق اللون في ثياب الحداد، لما كان ذلك الجانب منه يبقى جامداً كالثلج.
بيان خسارة الوزير في هذا المكر
إنّ هذا الوزير كان جاهلًا غافلًا مثل الملك ، فكان يوجّه ضرباته نحو القديم الذي لا خلاص منه .
نحو هذا الإله ، الذي له من القدرة ، ما يجعله يخلق بنفخة منه مائة عالم كعالمنا !
فهو يُظهر لعينك مائة عالم كعالمنا ، حينما يجعل تلك العين مبصرة بنوره .
فإذا كان هذا العالم يبدو أمامك عظيماً لا أول له ولا آخر “ 2 “ ،
...............................................................
( 1 ) حرفياً : أزرق اللون .
( 2 ) ترجمنا كلمة “ بيبن “ بعبارة لا أول له ولا آخر ومعناها الأصلي لا قاع له ولا قرار .
“ 139 “
فاعلم أنّه لا يساوي ذرة أمام قدرة اللَّه .
525 - إنّ هذا العالم سجن لأرواحكم ، فتنبهوا ، وسيروا نحو تلك الناحية ، فهناك أرضكم الرحبة ! “ 1 “ .
فهذا العالم محدود ، وتلك بلا حدود ، ولكنّ الظواهر المادية ، والصور ، تقف حائلًا أمام تصوركم ذلك المعنى .
لقد كانت لفرعون آلاف من الرماح ، ولكنّ موسى حطمها جميعاً بعصا واحدة !
وجالينوس كانت له في الطب آلاف من طرق العلاج ، وكلها - أمام عيسى ونَفَسه - لم تكن إلا خرافة !
وكانت هناك آلاف من دفاتر الشعر ، ولكنّها جميعاً باءت بالعار ، أمام حرف من ( النبيّ ) الأميّ .
530 - فإذا لم يكن المرءُ خسيساً ، فكيف لا يموت أمام مثل هذا الإله الغالب ؟
فكم من قلب راسخ كالجبل بدّده ، ولم من طائر ذكيّ علقه من قدميه “ 2 “ .
إنّ الطريق ( إلى اللَّه ) لا يكون بشحذ الفهم والخاطر ، فلن ينال
..............................................................
( 1 ) الأرض الرحبة هنا ترجمة لكلمة “ صحراء “ في النَّص. فنحن لا نظن أنه يقصد هنا الصحراء بمعناها الضيق وانما هر يعني فيما نعتقد الأرض الواسعة المنبسطة.
ويتضح هذا المعنى أيضاً في الشطر الأول من البيت التالي وفيه يقول : “ فهذا العالم محدود وتلك بلا حدود “ .
( 2 ) يريد بهذا البيت أن الذكاء وسعة الحيلة لا يفيدان صاحبهما أمام اللَّه ما لم يصحبهما الإيمان .
“ 140 “
فضل اللَّه سوى الكسير “ 1 “ .
فكم من كانزين للذهب والفضة - يحفرون الأرض سعياً وراء الكنوز - أصبحوا ( أسارى ) ذلك الخيال ، كأنهم لحية ثور !
فما الثور حتى تصبح لحية له ؟ وما الأرض حتى تصبح عشباً لها ؟
535 - لقد مسخ اللَّه امرأة ، وجعل منها كوكب الزهرة عندما أصفرّ وجهها لفعلة سوء ( اقترفتها ) “ 2 “ .
فإذا كان مسخاً ما أصاب تلك المرأة - إذ أصبحت كوكب الزهرة - فماذا يكون تحول الإنسان إلى تراب وطين ، أيها العنيد ؟
إن الروح كانت تسمو بك إلى الأفق الأعلى ، ولكنّك اتجهت إلى الماء والطين في أسفل سافلين !
فمسخت نفسك بذلك التسفل، و ( خرجت ) عن ذلك الوجود ( الروحي ) الذي تحسده العقول.
فانظر إلى المسخ الذي عانيته ، كيف يبدو بالغ الحطة ، إذا قورن بالمسخ الذي أصاب تلك المرأة .
540 - لقد اندفعت بجواد الهمة نحو النجوم ، ولم تدرك أنّ آدم سجدت
...............................................................
( 1 ) ليس المقصود بالكسير هنا الذليل أمام الناس وإنما المقصود به العبد الخاضع أمام خالقه.
( 2 ) إشارة إلى قصة وردت في تفسير قوله تعالى : “ وما كفر سليمان ولكنّ الشياطين كفروا ، يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين “ .
يقال إن هذين الملكين صارا مثل البشر وركبت فيهما الشهودة ، فتعرضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على الشر والمعاصي ، ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما وقد حُكي هذا عن اليهود .
“ 141 “
له الملائكة ! “ 1 “ .
إنك ان آدم آخر الأمر فإلى متى تظن الحطة شرفاً أيها الخلف السيء ؟
وإلام تقول : “ لسوف أملك العالم ، وأجعل نفسي ملء الدنيا على الدوام “ .
فلو امتلأ العالم بالثلج من أقصاه إلى أقصاه ، فإنّ حرارة الشمس تصهر ذلك الثلج كله بلفحة واحدة منها !
وإنّ شرارة واحدة من ( رحمة ) اللَّه تمحو وزر هذا الوزير ، ومائة مثله ، بل ومائة ألف من أمثاله .
545 - إنه هو الذي يجعل من الوهم حكمة ، ويجعل من الماء المُسمّم شراباً ( طهورا ) .
وهو الذي يجعل الظنون يقيناً ، وينبت المحبة من أسباب العداوة والبغضاء !
وهو الذي رعى إبراهيم في النار ، وهو الذي يُحملّ الأمن في الروح محلّ الخوف !
وإني الحائر من إعدامه للأسباب والوسائل ، ( وإخفائها عني ) فأنا كالسوفسطائية في خيالاتي عنه ( لست متحققّاً من شيء ) .
كيف دبر الوزير مكراً آخر لاضلال هؤلاء القوم
لقد دبَّر هذا الوزير في ذهنه مكراً آخر ، فترك الوعظ وجلس في الخلوة .
...............................................................
( 1 ) يعنى أن الانسان أهم من كل ما يحيط به من مظاهر الوجود المادي حتى ولو كانت أفلاك السماء . فهو يعظم أموراً هو ذاته أهم منها .
“ 142 “
550 - فألقى بنار الشوق في قلوب مريديه ، وكان مقامه في الخلوة أربعين أو خمسين يوماً .
فجُنّ الخلقُ لشوقهم إليه ، ولا فتراقهم عن أحواله وأقواله وذوقه .
فكانوا يتضرعون إليه ويبكون ، وأما هو فقد انثنى ظهره من الرياضة في الخلوة .
فقالوا له : “ ليس لنا نور بدونك . وكيف تكون أحوال الأعمى إذا حرم من عصاه ؟
فمن أجل إكرامك لنا ، وبحقّ اللَّه ، لا تُبقنا مفترقين عنك أكثر من ذلك .
555 - فنحن كالأطفال ، وأنت لنا المربِّي ، وظلُّك وارف منبسط فوق رؤوسنا “ .
فقال لهم : “ إنّ روحي ليست بعيدة عن مريديّ ، ولكنيّ لا أملك إذناً بالخروج !
“ فأقبل هؤلاء الأمراء للشفاعة ، وجاء أولئك المريدون في حالة سيئة .
وقالوا : “ أيّ طالع سوء حاق بنا أيها الكريم ! لقد أصبحنا بدونك أيتاماً ، ( محرومين ) من قلوبنا وديننا .
إنك تقدم الأعذار ، ونحن من الألم تتصاعد زفراتنا الباردة ، من قلوبنا المحترقة .
560 - فقد اعتدنا على قولك الجميل ، واغتذينا من لبان حكمتك .
فبحق الإله لا تلتزم معنا هذه الجفوة ، واصنع الخير بنا اليوم ، ولا تؤجّله إلى الغد .
“ 143 “
أفيرضى قلبك ، لمن منحوك قلوبهم ، أن يعودوا في النهاية أصفار اليدين بدونك ؟
إنهم جميعا يتلوون ( من الألم ) ، كالسمك على اليابسة ، فارفع ذلك السدّ وأطلق الماء من النهر !
يا من ليس له في الدنيا نظير ! بحقّ الإله كن للخلق عوناً “ .
كيف رفض الوزير طلب مريديه .
565 - قال : “ حذار يا أسارى القول والبيان ! يا من تنشدون الوعظ ( المبنيّ على ) حديث اللسان واستماع الأذن .
وضعوا القطن في أُذن حِّكم الأسفل ، وحُلُّوا رباط الحس من أمام أعينكم .
إن أُذن الرأس حجاب لأذن الباطن ، فما لم تُصمّ أُذن الحسّ بقيتْ أُذن الباطن صماء .
فلتخلِّصوا أنفسكم من الحسّ والأذن والهوا جس ، حتى تسمعوا نداء” ارْجعي ““ 1 “ .
فما دمت مشغولًا في اليقظة بالقيل والقال ، فكيف يتأتى لك أن تدرك نفحة من حديث المنام ؟
570 - إن قولنا وفعلنا هما السلوك الظاهر ، وأما السلوك الباطن فمكانه أعالي السماء .
فالحس لم ير إلا اليابس، لأنه ولد من اليابس ، وأما عيسى الروح ، فقد مر بقدميه على الماء!
..............................................................
( 1 ) نداء العودة إلى عالم الروح . وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية “ . ( 89 : 27 ، 28 ) .
“ 144 “
فالجسم اليابس ، من شأنه أنْ يسير على اليابسة ، وأما الروح فمجراها في صميم البحر .
وما دمت قد قضيت عمرك في طرق اليابسة ، تارة في الجبل ، وتارة في البحر ،
وأُخرى في الصحراء ، فمن أين لك أن تجد ماء الحياة ، وأنَّى لك أن تشق عباب بحر ( الروح ) ؟
575 - إنّ الموج الأرضي هو وهمنا وفهمنا وفكرنا ، وأما الموج المائيّ فهو المحو والسكر والفناء .
فإذا بقيت في سكر ( ماديّ ) ، فأنت بعيد عن السكر الروحي .
وإنْ ظللت ثملًا بالمادة ، فأنت أعمى عن كأس الروح ! إنّ قول الظاهر وحديثه مثل الغبار “ 1 “ ،
فالجعل الصمت من طباعك برهة من الزمن ، وكن يقظاً “ .
كيف كرَّر المريدون دعوة الوزير إلى قطع الخلوة فقالوا جميعاً .
“ أيُّها الحكيم الذي يتلمس الأعذار ! لا تلق إلينا بذلك الحديث الخادع القاسي .
ولا تُحمِّل الدابة ، ما لا طاقة لها به ، واعهد إلى الضعفاء بالعمل الذي يلاثم قوتهم .
580 - فالحَّبة التي يغتذي بها كل طائر ، تكون على قدر طاقته ، وإلا فمتى كان التين يصلح غذاء لكل الطيور ؟
...............................................................
( 1 ) يذهب هباء .
“ 145 “
وإذا أنت أعطيت الطفل الخبز بدلًا من اللبن فاعلم أن الطفل المسكين سيقتله الخبز .
ولكنّ الطفل يطلب الخبز بنفسه ، عندما تنبت أسنانه .
والطائر الذي لم يكتمل بعد نمو جناحيه ، يصبح - حين يطير - لقمة لكل قطة ضارية .
فإذا ما اكتمل جناحاه ، طار وحده بلا تكلف ، وبدون صفير ( قد يريد به ) الخير أو الشرّ .
585 إنّ نطقك يلزم الشيطان الصمت ، وحديثك يجعل من آذاننا عقولا !
فآذاننا عقول حين تحدثنا ، ويبسنا يظفر بالماء حينما تكون أنت البحر !
والأرض ونحن معك خيرلنا من الفلك، يا من أضاء بك الكون من السماك إلى السمك “1 “!
وبدونك تغشانا الظلمة ونحن في الفلك ! وما الفلك إلى جانبك أيها القمر ؟
إنّ صورة الرفعة تنتمي إلى الأفلاك ، وأما معنى الرفعة فينتمي إلى الروح الطاهر .
590 وصورة الرفعة تتعلق بالأجسام ، والأجسام أمام الجوهر ليست إلا مجرد أسماء “ .
كيف أجابهم الوزير بأنه لن يقطع خلوت
فقال ( الوزير ) : “ أقصروا من جدالكم ودعوا النصح يجد سبيله إلى أرواحكم وقلوبكم .
...............................................................
( 1 ) في عقائد القدماء أن الأرض السابعة تحتها ثور يحمل الأرضين السبع وتحت الثور سمكة تحمل الثور وفوقه الأرضين .
“ 146 “
فإذا كنتُ أميناً فالأمين لا يُتهم ، حتى ولو قلت لكم إن السماء هي الأرض .
وإذا كنت كاملًا فما إنكاركم هذا لكمالي ؟ وإن لم أكن كذلك فما الداعي لمضايقتي وإيلامي “ 1 “ .
إنني لن أخرج من هذه الخلوة ، ذلك لأنني مشغول بأحوال باطنية ! “ .اعتراض المريدين على الخلوة
595 - فقالوا جميعاً : “ أيها الوزير ! إننا لسنا ( لكمالك ) منكرين ! وليس قولنا هذا مثل قول الغرباء .
إنّ دموع العين جارية لفراقك ، والآهات تتصاعد من صميم نفوسنا .
فالطفل لا ينارغ مربيه ، ولكنه يبكي ، وإن لم يدرك شرّاً ولا خيراً .
فنحن كالعود وأنت العارف ، فالأنغام الحزينة ليست منا وإنما أنت صانعها .
ونحن كالناي ، ولكنّ أنغامنا منك . ونحن كالجبل ، ولكن الصدى ( المتردّد ) فينا رجعُ لصوتك .
600 - بل نحن كقطع الشطرنج ، نمضي بين النصر والهزيمة ، ونصرنا وهزيمتنا منك أيها الطيّب الصفات !
فمن نحن حتى يكون لناً وجود بجانبك ؟ يا من أنت روحُ لروحنا !
...............................................................
( 1 ) المراد “ لماذا تضايقونني وتؤلمونني بإصراركم على إخراجي من خلوتي ؟ “ .
“ 147 “
نحن ووجودنا عدم ، وأنت الوجود المطلق ، وقد اتخذ مظهر الفاني ! ونحن جميعاً أسود ،
ولكنْ من النوع المصورّ على الأعلام ، وتلك يحركها الهواء في كل لحظة .
فحركاتها ظاهرة ، ولكن الهواء غير ظاهر ، فلا حُرمنا من ( هذه القوة ) التي لا تُرى .
605 - فهواؤنا “ 1 “ ، وكياننا من عطائك ، بل إنّ كلّ وجودنا من إيجادك ! لقد أبديت للعدم لذة الوجود ،
وذلك ( بعد أن ) جعلت العدم عاشقاً لك ! فلا تحبس ( عنا ) لذة إنعامك ، ولا تمسك عنا نقلك وخمرك وكأسك .
وإذا أنت حبستها ، فمن الذي يجرؤ على البحث عنها ؟ وهل للنقش من قوة أمام النقاش ؟
فلا تنظر إلينا ، ولا تسدّد بصرك نحونا ، ولكنْ انظر إلى كرمك وسخائك !
610 - إننا لم يكن لنا وجود ، ولم تكن لنا مطالب ، ولكنّ لطفك أصغى إلى ما لم ننطق به ( فأوجدنا ) .
فالنقش يكون عاجزاً أمام النقاش والقلم ، كأنه الطفل في الرحم .
وجملة الخلق في بلاط الانتظار “ 2 “ عاجزون أمام القدرة كالوشى أمام الإبرة .
فتارة ترسم بالوشى صورة الشيطان ، وتارة صورة آدم ، وحيناً تصور السرور ، وحيناً تصور الحزن .
وليس لأحد قوة ، تجعله يحرّك يداً للدفاع ، ولا نطق ينبس بكلمة عن الضر والنفع .
...............................................................
( 1 ) هواؤنا معناه القوة المحركة لنا .
( 2 ) بلاط الانتظار هو الدنيا .
148 “
615 - فاقرأ في القرآن تفسير البيت ( السابق ) ، فاللَّه تعالى يقول :” وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلكنَّ اللَّهَ رَمى ““ 1 “ .
فإذا رمينا بسهم فليس اندفاع السهم منا ، فنحن القوس ، وأما الذي يلقي بالسهم فهو اللَّه .
وليس ذلك قولًا بالجبر ، وإنما هو معنى الجبروت . وذكر الجبروت ( جاء ) لكي نستشعر الذلة .
وذُلّنا دليل اضطرارنا ، وأما خجلنا ( من الآثام ) فهو دليل اختيارنا .
ولو لم يكن هناك اختيار ، فما هذا الخجل ( من الإثم ) ؟ وما ذلك الأسف والتحرج والحياء ؟
620 - ولما ذا يكون زجر الأساتذة للتلاميذ ؟ ولماذا ينصرف الخاطر عما استقر عليه من تدبير ؟
فإن قلت : “ إنّ الغافل عن جبر اللَّه يصير قمرُ الحق مختفياً وراء سحابه “ “ 2 “ .
فإنّ لذلك جواباً مقنعاً ، لو استمعت إليه ، تركت الكفر ، وأمنت بالدين إنّ السحرة والذلّة تكونان في وقت المرض ، فذلك الوقتُ يكون كلّه يقظة ( للضمير ) .
فأنت حين يصيبك المرض ، تستغفر اللَّه لجرمك .
625 ويتجلى أمام عينيك قبح الإثم ، فتعتزم العودة إلى الطريق ( السويّ ) .
فتقسم وتعاهد ( اللَّه ) أنّك - بعد هذا - لن يكون لك من
...............................................................
( 1 ) سورة الأنفال ، 8 : 17 ، وفيها يخاطب اللَّه الرسول بعد غزوة بدر .
( 2 ) يصير حجاباً للحقيقة الواضحة البينة .
“ 149 “
عمل تختاره سوى الطاعة .
وبهذا يصحّ عندك ، أنّ المرض يمنحك الانتباه واليقظة ، فاعرف إذن هذا الأصل ، أيّها الباحث عن الأصول ! إنّ من كان ذا ألم تنسّم نفحة ( من الغيب ) .
فكل من زاد ألمه زادت يقظته ، وكلّ من ازداد معرفة زادت طلعته شحوباً .
630 - فإن كنت مدركاً لجبره ، فأين ذلّتك ؟ وأين مشاهدتك لأغلال جبروته ؟
وكيف للمقيد بالأغلال ، أن ينعم بالسرور ؟ ومتى كان أسير الحبس يمارس حريِّته ؟
وإذا كنت ترى أنّ قدميك ، مكبَّلان بالأغلال ، وأنّ جند السلطان قد جلسوا لحراستك ، فلا تتجبِّر بالتسلط على العاجزين ، فليس هذا طبع العاجز ، ولا شيمته .
فإنْ كنت لا ترى جبره ، فلا تتحدَّث عنه ، وإنْ كنت تراه فأين دليل ذلك ؟
635 - إنّك لترى قدرة نفسك عياناً في كلّ عمل يكون لك ميل إليه .
ولكنّك - عندما لا يكون العمل وفق ميلك وعلى مرادك - تصبح مُجبراً ( وتقول ) : “ إنّ هذا من اللَّه ! “ .
إنّ الأنبياء مجبرون فيما يتعلق بأمور الدنيا ! وأما الكفار فمجبرون فيما يتصل بأمور الآخرة .
فالأنبياء مختارون لأمور العقبى ، وأما الكفار فالاختيار عندهم لأمور الدنيا .
ذلك لأنّ كلّ طائر يقتفي أثر جنسه ، تتقدمه روحه .
“ 150 “
640 - ولما كان الكفار قد جاؤوا من جنس سجِّين “ 1 “ فإنّ سجن الدنيا وافق هواهم “ 2 “ .
وأما الأنبياء فإنهم إذا كانوا من جنس علّيين “ 3 “ فقد تساموا إلى علياء الروح والقلب .
إنّ هذا الكلام لا نهاية له ، فلنزجع إلى قصّتنا لنُتمّها .
كيف جعل الوزير أتباعه يانسين من تركه للخلوة
لقد صاح هذا الوزير من أعماقه ( قائلًا ) : “ أيّها المريدون ! اعلموا ذلك عنيّ .
إنّ عيسى قد بعث إلى برسالة ( قال فيها ) : افترق عن أصحابك وأقربائك .
645 - واتجه بوجهك إلى الحائط ، واجلس منفرداً ، واختر لنفسك الخلوة عن وجودك ! .
فبعد هذا الأمر ، لا قول عندي ، ولا شأن لي بالقيل والقال .
فالوداع أيّها الأحباب ، فإننّي ميّت ، وقد حملت متاعي إلى السماء الرابعة ،
...............................................................
( 1 ) الكتاب الذي تُسجّل فيه أعمال الفجرة ، وقيل هو المكان الذي يحفظ به هذا الكتاب في جهنم . ويمكن أن تطلق الكملة على الجحيم نفسه . وقد وردت في القرآن : “ كلا إن كتاب الفجار لفي سجِّين ، وما أدراك ما سجِّين “ . ( 83 : 6 ، 7 )
( 2 ) في هذا البيت اقتباس من حديث للرسول قال فيه : “ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر“.
( 3 ) عليّون ، عكس سجّين. وقد وردت في قوله تعالى : “ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليّون ، كتاب مرقوم“ ( 83 : 17 - 19 ).
“ 151 “
حتى لا أحترق كالحطب ، من العناء العطب ، تحت الفلك الناريّ “ 1 “ .
ولسوف أجلس بعد ذلك إلى جوار عيسى في أعالي السماء الرابعة .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin