كتاب منطق الطير للعارف بالله فريد الدين أبو حامد محمد بن أبي بكر إبراهيم بن أبي يعقوب إسحاق العطار النيسابوري
المقالة الثالثة والأربعون في صفة وادي الحيرة الأبيات من 3779 - 3791
بعد ذلك يأتيك وادي الحيرة ، وفيه تصاب بالعمل المتواصل والألم والحسرة . وهنا يكون كل نفس سيفا مصوبا إليك ، وهنا تحمل كل لحظة الأسى إليك ،
وفيه تكثر الآهات والحركة والآلام ، ويكون النهار والليل لا ليلا ولا نهارا كذلك ، وفيه يتخيل الشخص أنه يقطر دما ، لا من السيف ، ولكن من جذر كل شعرة ، ويا للعجب !
والنار تؤلم رجل هذا الوادي ، فيحترق في الحيرة من آلام هذا الوادي ، وعندما يصل الرجل الحيران إلى هذه الأعتاب ، يظل في حيرة ويضيع منه الطريق ، كما يضيع منه كل ما حصلته روحه من توحيد .
وإذا قيل له : أأنت موجود أم لا ؟
ألا يليق بك أن تقول ، أموجود أنت أم لا ؟
أأنت بين الخلق أم خارج عنهم ، أم تتخذ منهم جانبا ؟
أأنت خفي أم ظاهر ؟
أأنت فان أم باق ، أم كلاهما معا ؟
أم أنك لست الاثنين ؟
أأنت أنت ، أم أنك لست أنت ؟
فإنه يقول : إنني - في الحقيقة - لا أعرف كنهي .
كما أنني لا أعرف نفسي ، إنني عاشق ، ولكن لا أعرف من أعشق .
ولست مسلما ولا كافرا . فماذا أكون ؟
ولكنني لست عالما بعشقي ، ولا أعرف أقلبي مليء بالعشق أم أنه خلو منه .
المقالة الثالثة والأربعون حكاية 1
الأبيات من 3792 - 3871
ذلك الملك الذي كانت الآفاق تحت إمرته ، كانت لديه فتاة جميلة كالقمر تعيش في بلاطه ، كانت كملاك رائع الجمال في الحسن ، أو كالربيع والسرو في الملاحة والحسن ،
وكم جرحت مئات القلوب بطرتها ، فكل شعرة منها عرق ترتبط به روح ، ووجها يبدو كالفردوس ، كما يبدو حاجبها وكأنه القوس ،
ولما كانت السهام تنطلق من هذا القوس ، فقد أقبل قاب قوسين مثنيا عليها ، أما عينها الشبيهة بالنرجسة الثملة المحاطة بأهداب شوكية ،
فقد أردت الكثيرين من أهل الحجا والعقل ، ووجه الشبيهة بالعذراء هذه ، في جمال شمس الفلك ، بل إنه يفوق في الحسن بدر الفلك ، ودرها وياقوتها وهما قوت الروح ،
قد جعلا روح القدس في دهشة على الدوام ، وإذا تبسمت شفتاها ، مات ماء الحياة صاديا ، وطلب الإحسان والإنعام من شفتيها ،
وكل من أدام النظر إلى ذقنها ، سقط منكس الرأس في قعر نونها ، وكل من أصبح أسير وجهها القمري ، سرعان ما تردى في نونها بلا رسن . .
أخيرا مثل أمام السلطان غلام في جمال البدر ، ليتولى الخدمة ، وما كان يتمتع به هذا الغلام من الجمال ،
قد أصاب الشمس والقمر بالمحاق والزوال ، وفي بسيط عالمه لا قرين له ، وفي الحسن الفتان لا مثيل له ، ومئات الألوف من الخلق في السوق والمحلة ، قد بهرهم ذلك الوجه كالشمس .
وقضاء وقدرا رأت تلك الفتاة ذات يوم وجه غلام السلطان ، ففقدت السيطرة على قلبها وغاصت في الأحزان ، وتوارى عقلها وراء الحجب ،
لقد ذهب العقل واشتد بها العشق ، وأصيبت روحها بالمرارة والألم ، وتملكها التفكر والتدبر وقتا من الزمن ، وفقدت في النهاية الراحة والاستقرار .
وذابت شوقا ، كما احترقت بألم الفراق ، وغص قلبها بالألم بسبب الذوبان والحرقة والاشتياق ، وكان لها عشر مطربات من الجواري الحسان ، وكن على مرتبة عالية في ترديد الأغاني ،
فكن في العزف كالبلبل الصداح ، ولحنهن الداودي كان يسعد الأرواح ، فشرحت لهن حالها في التو والحال ، وأقرت بفناء الاسم والشهرة والروح ، فكل من يتضح له عشق الأحبة ، كيف تستطيع روحه الاستقرار في موضعها ،
وقالت : إن أفصح للغلام عن عشقي ، يكن خطأ كبيرا ، لأن هذا بعيد عن الصواب .
كما أن الحشمة تصيبني بالكثير من المضار ، وأنى لهذا الغلام أن يصل من مثلي ؟ وإن لم أفصح عن قصتي ، أمت خلف الحجب متألمة متأوهة ، لقد قرأت زهاء مائة كتاب أملا في الصبر ! فماذا أفعل ؟ لقد نفذ صبري كما أصبحت عاجزة .
وما أبغيه من سروي القد ، أدرك أنه لا علم له به ، فإن يتم تحقيق مقصودي هذا ، فإن أمر روحي يكون وفق مرادي .
عندما سمعت المطربات هذا القول ، قلن لها : لا تحزني !
بالليل نحضره خفية أمامك ، ولن يكون لديه أي خبر عن ذلك .
وأخيرا ذهبت إحداهن متخفية أمام الغلام ،
وقالت : الآن أقدم له الخمر والكأس وأضع في الخمر دواء مذهبا للعقل ، فلا جرم أن يسري في أوصاله فقدان الشعور .
ما أن احتسى الغلام ذلك الخمر ، حتى فقد صوابه ، وهكذا كلل سعي تلك الجارية الفاتنة بالنجاح ، وظل الغلام الفضي الصدر ثملا لا يعرف شيئا عن كلا العالمين ، وذلك طوال اليوم حتى المساء .
ما أن أقبل الليل حتى جاءت الجواري صوبه في حذر واضطراب ، ثم وضعنه في فراشه ، وحملنه خفية إلى تلك الفتاة ، وبسرعة أجلسنه على عرش ونثرن عليه ماء الورد والمسك .
وفي منتصف الليل عندما بات الغلام نصف مفيق ، فتح عينيه الشبيهتين بالنرجسة عن آخرهما ، فرأى قصرا يشبه الفردوس في روائه ، ورأى عرشا ذهبيا يحيط به ،
وقد اشتعلت عشر شموع عنبرية أكثر مما تشتعل أعواد الحطب ، وشغلت الفتيات بالطرب والإنشاد ، حتى ودع العقل الروح ، وودعت الروح الجسد .
وكانت الفتاة تجلس وسط الجمع كأنها الشمس بفعل نور الشمع ، فجلس الغلام يتملكه السرور والفرح ، وفقد نفسه أمام طلعة الفتاة ،
وظل حائرا فاقدا العقل والروح ، بعيدا عن إدراك هذا العالم أو ذاك ، وامتلأ قلبه عشقا ، وعجز لسانه عن النطق ، وأدركت روحه الحال من الذوق ، وتعلقت عيناه بوجه الفتاة وأنصتت أذناه إلى صوت الألحان ، وتنسمت مشامه رائحة العنبر .
وأخيرا خرجت أنفاسه أكثر لهيبا من النار ، فأسرعت الفتاة وأعطته كأس خمر في الحال ، كما جعلت القبلة نقل الشراب
"" كما يقول الشاعر العربي :
وشربنا من المدام كئوسا * وجعلنا التقبيل نقل الشراب ""
، فظلت عينه معلقة بطلعتها ، ودهمته الحيرة من التطلع إلى وجهها ، ولما لم ينطق لسانه بكلمة ، ذرفت الفتاة الدمع ، وحكت رأسها جزعا ،
وهكذا ظلت الفتاة الفاتنة تذرف الدمع غزيرا منسابا على وجنتيها ، كما كانت تقبله قبلة كالسكر أحيانا أو تضع الملح في القبلة بلا شفقة أحيانا ،
وأحيانا تداعبه بطرتيها المضطربتين ، وأحيانا تفقد نفسها في عينيه الساحرتين .
ظل الغلام الثمل أمام الفتاة الجذابة محدقا عينيه ، لكنه ليس في صحو ولا غيبة ، وظل الغلام على هذه النظرة ، حتى أقبل الصبح بإشراقة تامة .
وما أن أقبل الصبح وهبت نسائم الصباح ، حتى فقد الغلام كل وعيه مما به من سكر ، وما أن نام الغلام العالي المنزلة ، حتى أسرعن بحمله إلى مكانه مرة أخرى .
ما أن ثاب الغلام الفضي الصدر إلى رشده آخر الأمر ، حتى تملكه الاضطراب ولم يعلم حقيقة ما حدث له ، وكيف حدث ما حدث ،
ولكن أي جدوى له من الاضطراب ؟
وعلى الرغم من أنه لم يصب بأي آلام أو مضرة ، فقد تصبب عرقا من الرأس إلى القدم ، فضرب بيده ثوبه ومزقه ، واقتلع شعره ، ونثر التراب على رأسه ،
فسألوه عن القصة فقال : إنني لا أستطيع ترديد ما حدث ، لأن ما رأيته وأنا ثمل نشوان ، لا يمكن أن يراه في منامه أي انسان .
وتلك الأمور التي تركتني في وحدتي حيران ، لا أعلم أنها حدثت لإنسان ، وما رأيته لا أستطيع التعبير عنه ، ولا يوجد سر أعجب مما حدث .
فقال الجميع : ثب إلى رشدك في النهاية .
واذكر ولو قليلا من الكثير الذي رأيته .
فقال : لقد ألم بي العجز كأي مضطرب ، ولا أعلم هل رأيت كل ذلك ، أم رأيت شيئا آخر ؟
كما أنني لا أعلم هل رأيته مما بي سكر ،
أم سمعته وأنا في صحو ورشد ؟
وهل سمعت كل شي أم لم أسمع شيئا ؟
وهل رأيت كل شي ، أم لم أر شيئا ؟
فقال له أحد العقلاء : لقد رأيت حلما ، فلم يتملكك الاضطراب والجنون ؟
قال : لا أعلم إذا كان ما رأيته في عالم الوهم أو في عالم اليقظة ، ولا حال أعجب من هذا في الدنيا ، فهذه حالة لا واضحة ولا خفية ، ولا أستطيع القول ، كما لا أستطيع الصمت ، وأنا في دهشة بين هذا وذاك .
ولن يمحى ذلك الزمان من روحي ، كما أنني لا أجد ذرة تدلني عليه ، لقد رأيت صاحبة جمال ، لا يضاهيها أحد في كمالها بأي حال ،
وليست الشمس أمام طلعتها إلا ذرة ، واللّه أعلم بالصواب ، وكيف أتكلم أكثر من هذا وأنا لا أعرف حقيقة ما حدث ،
وعلى الرغم من أنني قد وأيتها من قبل ، ولكن لا أعلم هل رأيتها أو لم أرها ؟
وها أنذا مضطرب بين هذا وذاك !
المقالة الثالثة والأربعون حكاية 2
الأبيات من 3872 - 3884
كانت إحدى الأمهات تقف على قبر ابنتها تبكيها ، فنظر إليها أحد السالكين ، وقال : لقد أحرزت هذه المرأة السبق على الرجال ، إنها ليست مثلنا ،
بل إنها تعرف تمام المعرفة من الذي افتقدته وأصبح بعيدا عنها ، ومن الذي سبب لها هذا الجزع الشديد .
إنها موفقة لأنها تدرك حالها ، وتدرك من أجل أي شي يجب البكاء .
أما أنا فقد اعتراني الهم ، وقد جلست أكابد الأحزان طول الليل والنهار ، ولا أعلم لماذا يتملكني الغم ، وعلى من أبكي وأذرف الدمع .
ولست أعلم شيئا ، لذا وقعت في الحيرة ، ولا أعلم عن من ابتعدت ، وأصبحت روحي واهنة .
إن هذه المرأة لها السبق على ألف من أمثالي ، لأنها تعرف جيدا من افتقدته ، أما أنا فلا أعلم شيئا ، وهذا يسبب لي الحسرة ، بل يكاد يقضي علي ويقتلني بالحيرة.
في مثل هذا المنزل لا يظهر أثر للقلب ، بل إن المنزل لا يظهر هو الآخر كذلك ، وقد أصيب العقل بالزوال، ومنى التفكير بالاضمحلال،
ومن يصل إلى هنا يدركه الفناء ، ويفقد أطرافه الأربعة ، وإذا أدرك أحد طريقا هنا ، فقد أدرك سر الكل في لحظة واحدة .
المقالة الثالثة والأربعون حكاية 3
الأبيات من 3885 - 3898
كان أحد الصوفية يمضي في طريق ، فسمع صوت شخص يقول :
لقد فقدت مفتاحا ، فمن ذا وجد مفتاحا في هذا المكان ؟
إن الباب مغلق ، وقد جلست على تراب الطريق .
ماذا أفعل ، لو ظل الباب موصدا أمامي ؟
وكيف أتصرف ، لو استمرت هذه الآلام ؟
فقال له الصوفي : من قال لك ابتئس ؟
فما دمت تعرف الباب ، فامض إليه ، وقل : لتظل مغلقا .
فإن تكثر الجلوس أمام الباب المغلق ، فسيفتحه شخص ما بدون أدنى شك ، أن أمرك يسير ، أما أمري فعسير ، لأن روحي تشتعل من التحير ،
وليس لأمري بداية ولا نهاية ، ولا باب له ولا مفتاح على الإطلاق .
ليت هذا الصوفي قد أسرع ، ووجد بابا مغلقا أو مفتوحا ، فليس للآدميين سوى الخيال ، وليس لأي انسان أن يعلم حقيقة هذا الحال .
كل من تردى في وادي الحيرة ، تردى كل آونة في مائة عالم من الحسرة ، فإلام أتحمل الحسرة والاضطراب ؟
وإذا كان هؤلاء قد ضلوا الطريق ، فكيف أدركه أنا ؟
ولا أعلم وليتني أعلم !
فإن أعلم أسقط في الحيرة ، وهنا يحق للرجل أن يستعذب الشكاية ، فقد صار الكفر إيمانا ، وصار الإيمان كفرا .
المقالة الثالثة والأربعون حكاية 4
الأبيات من 3899 - 3912
أصابت الآلام الشيخ نصر آباد ، وقد حج أربعين حجة متوكلا على اللّه ، فما أعظمه من رجل ! وبعد ذلك ابيض شعره ونحل جسده ،
ثم رآه أحد الأشخاص عاري الجسد إلا من إزار ، حيث كان قلبه مفعما بالحرقة ، وروحه غاصة باللهيب ، فعقد الزنار ،
وبسط كفه ، وأقبل متخليا عن كل كذب ورياء ، وانهمك في الطواف حول معبد النار .
فقال ذلك الشخص : يا عظيم العصر ، أي فعلة هذه تبدر منك ؟
ألا يتملكك الخجل في آخر الأمر ؟
لقد أديت فريضة الحج كثيرا ، وحزت أسباب السعادة ، فهل يكون الكفر هو النهاية ؟ إن هذا العمل لا يتم إلا عن جهالة ،
وبسببك أصيب أهل القلوب بسوء السمعة ، وأي شيخ طاف بهذا الطريق ؟
ألا تعلم أن هذا هو معبد النار ؟
فقال الشيخ : لقد اشتد بي الحال ، وأصابت النار جسدي وكل ما أملك ، وأسلمت النار كل حصادي للريح ، كما أسلمت إليها كل شهرتي وسيرتي ،
وتملكتني الحيرة والوله من أمري ، ولا أعلم حيلة لما اعتراني .
وإذا كانت تلك النار قد سيطرت على روحي ، فكيف يبقى لي اسمي وشهرتي لحظة واحدة ؟
وعندما أصبحت أسير هذا العمل ، مللت كل من الكعبة والكنيسة ، وإن تصبك ذرة من الحيرة هكذا ، فستصاب بمئات الحسرات مثلي !
"" الشيخ نصر آباد : اسمه إبراهيم بن محمد بن محمويه ، ولد في نيسابوري وأقام بها ، وكان شيخ زمانه في الحقائق وعلوم التصوف.
تتلمذ على إبراهيم الشيباني ، ورأى الشبلي والواسطي ، وصادق كلا من أبي علي الرودباري والمرتعش وأبي بكر طاهر الأبهري ، وفي نهاية عمره رحل إلى مكة واستقر بها حتى فاضت روحه هناك عام 371 هـ.
(انظر نفحات الأنس طبعة طهران ص 230 ) .""
المقالة الثالثة والأربعون حكاية 5
الأبيات من 3913 - 3919
كان لمريد حدث قلب وضاء كالشمس ، فرأى شيخه ذات ليلة في منامه ،
فقال له : لقد سيطر الحزن على قلبي من الحيرة ، فخبرني كيف مضى أمرك هناك ؟ لقد احترق قلبي لفراقك ،
واحترقت من الحسرة لبعادك ، وأصبحت من حسرتي أبحث عن السر ، فخبرني كيف يكون أمرك هناك ؟
فقال الشيخ : لقد بقيت حائرا ثملا ، وأعض أناملي غيظا ، وما أكثر ما وقعنا في قعر هذا السجن والبئر ،
فنحن في هذا المكان أكثر حيرة منكم وذرة واحدة من الحيرة في العقبى ، تكون عندي أكبر من مائة جبل في الدنيا .
المقالة الثالثة والأربعون في صفة وادي الحيرة الأبيات من 3779 - 3791
بعد ذلك يأتيك وادي الحيرة ، وفيه تصاب بالعمل المتواصل والألم والحسرة . وهنا يكون كل نفس سيفا مصوبا إليك ، وهنا تحمل كل لحظة الأسى إليك ،
وفيه تكثر الآهات والحركة والآلام ، ويكون النهار والليل لا ليلا ولا نهارا كذلك ، وفيه يتخيل الشخص أنه يقطر دما ، لا من السيف ، ولكن من جذر كل شعرة ، ويا للعجب !
والنار تؤلم رجل هذا الوادي ، فيحترق في الحيرة من آلام هذا الوادي ، وعندما يصل الرجل الحيران إلى هذه الأعتاب ، يظل في حيرة ويضيع منه الطريق ، كما يضيع منه كل ما حصلته روحه من توحيد .
وإذا قيل له : أأنت موجود أم لا ؟
ألا يليق بك أن تقول ، أموجود أنت أم لا ؟
أأنت بين الخلق أم خارج عنهم ، أم تتخذ منهم جانبا ؟
أأنت خفي أم ظاهر ؟
أأنت فان أم باق ، أم كلاهما معا ؟
أم أنك لست الاثنين ؟
أأنت أنت ، أم أنك لست أنت ؟
فإنه يقول : إنني - في الحقيقة - لا أعرف كنهي .
كما أنني لا أعرف نفسي ، إنني عاشق ، ولكن لا أعرف من أعشق .
ولست مسلما ولا كافرا . فماذا أكون ؟
ولكنني لست عالما بعشقي ، ولا أعرف أقلبي مليء بالعشق أم أنه خلو منه .
المقالة الثالثة والأربعون حكاية 1
الأبيات من 3792 - 3871
ذلك الملك الذي كانت الآفاق تحت إمرته ، كانت لديه فتاة جميلة كالقمر تعيش في بلاطه ، كانت كملاك رائع الجمال في الحسن ، أو كالربيع والسرو في الملاحة والحسن ،
وكم جرحت مئات القلوب بطرتها ، فكل شعرة منها عرق ترتبط به روح ، ووجها يبدو كالفردوس ، كما يبدو حاجبها وكأنه القوس ،
ولما كانت السهام تنطلق من هذا القوس ، فقد أقبل قاب قوسين مثنيا عليها ، أما عينها الشبيهة بالنرجسة الثملة المحاطة بأهداب شوكية ،
فقد أردت الكثيرين من أهل الحجا والعقل ، ووجه الشبيهة بالعذراء هذه ، في جمال شمس الفلك ، بل إنه يفوق في الحسن بدر الفلك ، ودرها وياقوتها وهما قوت الروح ،
قد جعلا روح القدس في دهشة على الدوام ، وإذا تبسمت شفتاها ، مات ماء الحياة صاديا ، وطلب الإحسان والإنعام من شفتيها ،
وكل من أدام النظر إلى ذقنها ، سقط منكس الرأس في قعر نونها ، وكل من أصبح أسير وجهها القمري ، سرعان ما تردى في نونها بلا رسن . .
أخيرا مثل أمام السلطان غلام في جمال البدر ، ليتولى الخدمة ، وما كان يتمتع به هذا الغلام من الجمال ،
قد أصاب الشمس والقمر بالمحاق والزوال ، وفي بسيط عالمه لا قرين له ، وفي الحسن الفتان لا مثيل له ، ومئات الألوف من الخلق في السوق والمحلة ، قد بهرهم ذلك الوجه كالشمس .
وقضاء وقدرا رأت تلك الفتاة ذات يوم وجه غلام السلطان ، ففقدت السيطرة على قلبها وغاصت في الأحزان ، وتوارى عقلها وراء الحجب ،
لقد ذهب العقل واشتد بها العشق ، وأصيبت روحها بالمرارة والألم ، وتملكها التفكر والتدبر وقتا من الزمن ، وفقدت في النهاية الراحة والاستقرار .
وذابت شوقا ، كما احترقت بألم الفراق ، وغص قلبها بالألم بسبب الذوبان والحرقة والاشتياق ، وكان لها عشر مطربات من الجواري الحسان ، وكن على مرتبة عالية في ترديد الأغاني ،
فكن في العزف كالبلبل الصداح ، ولحنهن الداودي كان يسعد الأرواح ، فشرحت لهن حالها في التو والحال ، وأقرت بفناء الاسم والشهرة والروح ، فكل من يتضح له عشق الأحبة ، كيف تستطيع روحه الاستقرار في موضعها ،
وقالت : إن أفصح للغلام عن عشقي ، يكن خطأ كبيرا ، لأن هذا بعيد عن الصواب .
كما أن الحشمة تصيبني بالكثير من المضار ، وأنى لهذا الغلام أن يصل من مثلي ؟ وإن لم أفصح عن قصتي ، أمت خلف الحجب متألمة متأوهة ، لقد قرأت زهاء مائة كتاب أملا في الصبر ! فماذا أفعل ؟ لقد نفذ صبري كما أصبحت عاجزة .
وما أبغيه من سروي القد ، أدرك أنه لا علم له به ، فإن يتم تحقيق مقصودي هذا ، فإن أمر روحي يكون وفق مرادي .
عندما سمعت المطربات هذا القول ، قلن لها : لا تحزني !
بالليل نحضره خفية أمامك ، ولن يكون لديه أي خبر عن ذلك .
وأخيرا ذهبت إحداهن متخفية أمام الغلام ،
وقالت : الآن أقدم له الخمر والكأس وأضع في الخمر دواء مذهبا للعقل ، فلا جرم أن يسري في أوصاله فقدان الشعور .
ما أن احتسى الغلام ذلك الخمر ، حتى فقد صوابه ، وهكذا كلل سعي تلك الجارية الفاتنة بالنجاح ، وظل الغلام الفضي الصدر ثملا لا يعرف شيئا عن كلا العالمين ، وذلك طوال اليوم حتى المساء .
ما أن أقبل الليل حتى جاءت الجواري صوبه في حذر واضطراب ، ثم وضعنه في فراشه ، وحملنه خفية إلى تلك الفتاة ، وبسرعة أجلسنه على عرش ونثرن عليه ماء الورد والمسك .
وفي منتصف الليل عندما بات الغلام نصف مفيق ، فتح عينيه الشبيهتين بالنرجسة عن آخرهما ، فرأى قصرا يشبه الفردوس في روائه ، ورأى عرشا ذهبيا يحيط به ،
وقد اشتعلت عشر شموع عنبرية أكثر مما تشتعل أعواد الحطب ، وشغلت الفتيات بالطرب والإنشاد ، حتى ودع العقل الروح ، وودعت الروح الجسد .
وكانت الفتاة تجلس وسط الجمع كأنها الشمس بفعل نور الشمع ، فجلس الغلام يتملكه السرور والفرح ، وفقد نفسه أمام طلعة الفتاة ،
وظل حائرا فاقدا العقل والروح ، بعيدا عن إدراك هذا العالم أو ذاك ، وامتلأ قلبه عشقا ، وعجز لسانه عن النطق ، وأدركت روحه الحال من الذوق ، وتعلقت عيناه بوجه الفتاة وأنصتت أذناه إلى صوت الألحان ، وتنسمت مشامه رائحة العنبر .
وأخيرا خرجت أنفاسه أكثر لهيبا من النار ، فأسرعت الفتاة وأعطته كأس خمر في الحال ، كما جعلت القبلة نقل الشراب
"" كما يقول الشاعر العربي :
وشربنا من المدام كئوسا * وجعلنا التقبيل نقل الشراب ""
، فظلت عينه معلقة بطلعتها ، ودهمته الحيرة من التطلع إلى وجهها ، ولما لم ينطق لسانه بكلمة ، ذرفت الفتاة الدمع ، وحكت رأسها جزعا ،
وهكذا ظلت الفتاة الفاتنة تذرف الدمع غزيرا منسابا على وجنتيها ، كما كانت تقبله قبلة كالسكر أحيانا أو تضع الملح في القبلة بلا شفقة أحيانا ،
وأحيانا تداعبه بطرتيها المضطربتين ، وأحيانا تفقد نفسها في عينيه الساحرتين .
ظل الغلام الثمل أمام الفتاة الجذابة محدقا عينيه ، لكنه ليس في صحو ولا غيبة ، وظل الغلام على هذه النظرة ، حتى أقبل الصبح بإشراقة تامة .
وما أن أقبل الصبح وهبت نسائم الصباح ، حتى فقد الغلام كل وعيه مما به من سكر ، وما أن نام الغلام العالي المنزلة ، حتى أسرعن بحمله إلى مكانه مرة أخرى .
ما أن ثاب الغلام الفضي الصدر إلى رشده آخر الأمر ، حتى تملكه الاضطراب ولم يعلم حقيقة ما حدث له ، وكيف حدث ما حدث ،
ولكن أي جدوى له من الاضطراب ؟
وعلى الرغم من أنه لم يصب بأي آلام أو مضرة ، فقد تصبب عرقا من الرأس إلى القدم ، فضرب بيده ثوبه ومزقه ، واقتلع شعره ، ونثر التراب على رأسه ،
فسألوه عن القصة فقال : إنني لا أستطيع ترديد ما حدث ، لأن ما رأيته وأنا ثمل نشوان ، لا يمكن أن يراه في منامه أي انسان .
وتلك الأمور التي تركتني في وحدتي حيران ، لا أعلم أنها حدثت لإنسان ، وما رأيته لا أستطيع التعبير عنه ، ولا يوجد سر أعجب مما حدث .
فقال الجميع : ثب إلى رشدك في النهاية .
واذكر ولو قليلا من الكثير الذي رأيته .
فقال : لقد ألم بي العجز كأي مضطرب ، ولا أعلم هل رأيت كل ذلك ، أم رأيت شيئا آخر ؟
كما أنني لا أعلم هل رأيته مما بي سكر ،
أم سمعته وأنا في صحو ورشد ؟
وهل سمعت كل شي أم لم أسمع شيئا ؟
وهل رأيت كل شي ، أم لم أر شيئا ؟
فقال له أحد العقلاء : لقد رأيت حلما ، فلم يتملكك الاضطراب والجنون ؟
قال : لا أعلم إذا كان ما رأيته في عالم الوهم أو في عالم اليقظة ، ولا حال أعجب من هذا في الدنيا ، فهذه حالة لا واضحة ولا خفية ، ولا أستطيع القول ، كما لا أستطيع الصمت ، وأنا في دهشة بين هذا وذاك .
ولن يمحى ذلك الزمان من روحي ، كما أنني لا أجد ذرة تدلني عليه ، لقد رأيت صاحبة جمال ، لا يضاهيها أحد في كمالها بأي حال ،
وليست الشمس أمام طلعتها إلا ذرة ، واللّه أعلم بالصواب ، وكيف أتكلم أكثر من هذا وأنا لا أعرف حقيقة ما حدث ،
وعلى الرغم من أنني قد وأيتها من قبل ، ولكن لا أعلم هل رأيتها أو لم أرها ؟
وها أنذا مضطرب بين هذا وذاك !
المقالة الثالثة والأربعون حكاية 2
الأبيات من 3872 - 3884
كانت إحدى الأمهات تقف على قبر ابنتها تبكيها ، فنظر إليها أحد السالكين ، وقال : لقد أحرزت هذه المرأة السبق على الرجال ، إنها ليست مثلنا ،
بل إنها تعرف تمام المعرفة من الذي افتقدته وأصبح بعيدا عنها ، ومن الذي سبب لها هذا الجزع الشديد .
إنها موفقة لأنها تدرك حالها ، وتدرك من أجل أي شي يجب البكاء .
أما أنا فقد اعتراني الهم ، وقد جلست أكابد الأحزان طول الليل والنهار ، ولا أعلم لماذا يتملكني الغم ، وعلى من أبكي وأذرف الدمع .
ولست أعلم شيئا ، لذا وقعت في الحيرة ، ولا أعلم عن من ابتعدت ، وأصبحت روحي واهنة .
إن هذه المرأة لها السبق على ألف من أمثالي ، لأنها تعرف جيدا من افتقدته ، أما أنا فلا أعلم شيئا ، وهذا يسبب لي الحسرة ، بل يكاد يقضي علي ويقتلني بالحيرة.
في مثل هذا المنزل لا يظهر أثر للقلب ، بل إن المنزل لا يظهر هو الآخر كذلك ، وقد أصيب العقل بالزوال، ومنى التفكير بالاضمحلال،
ومن يصل إلى هنا يدركه الفناء ، ويفقد أطرافه الأربعة ، وإذا أدرك أحد طريقا هنا ، فقد أدرك سر الكل في لحظة واحدة .
المقالة الثالثة والأربعون حكاية 3
الأبيات من 3885 - 3898
كان أحد الصوفية يمضي في طريق ، فسمع صوت شخص يقول :
لقد فقدت مفتاحا ، فمن ذا وجد مفتاحا في هذا المكان ؟
إن الباب مغلق ، وقد جلست على تراب الطريق .
ماذا أفعل ، لو ظل الباب موصدا أمامي ؟
وكيف أتصرف ، لو استمرت هذه الآلام ؟
فقال له الصوفي : من قال لك ابتئس ؟
فما دمت تعرف الباب ، فامض إليه ، وقل : لتظل مغلقا .
فإن تكثر الجلوس أمام الباب المغلق ، فسيفتحه شخص ما بدون أدنى شك ، أن أمرك يسير ، أما أمري فعسير ، لأن روحي تشتعل من التحير ،
وليس لأمري بداية ولا نهاية ، ولا باب له ولا مفتاح على الإطلاق .
ليت هذا الصوفي قد أسرع ، ووجد بابا مغلقا أو مفتوحا ، فليس للآدميين سوى الخيال ، وليس لأي انسان أن يعلم حقيقة هذا الحال .
كل من تردى في وادي الحيرة ، تردى كل آونة في مائة عالم من الحسرة ، فإلام أتحمل الحسرة والاضطراب ؟
وإذا كان هؤلاء قد ضلوا الطريق ، فكيف أدركه أنا ؟
ولا أعلم وليتني أعلم !
فإن أعلم أسقط في الحيرة ، وهنا يحق للرجل أن يستعذب الشكاية ، فقد صار الكفر إيمانا ، وصار الإيمان كفرا .
المقالة الثالثة والأربعون حكاية 4
الأبيات من 3899 - 3912
أصابت الآلام الشيخ نصر آباد ، وقد حج أربعين حجة متوكلا على اللّه ، فما أعظمه من رجل ! وبعد ذلك ابيض شعره ونحل جسده ،
ثم رآه أحد الأشخاص عاري الجسد إلا من إزار ، حيث كان قلبه مفعما بالحرقة ، وروحه غاصة باللهيب ، فعقد الزنار ،
وبسط كفه ، وأقبل متخليا عن كل كذب ورياء ، وانهمك في الطواف حول معبد النار .
فقال ذلك الشخص : يا عظيم العصر ، أي فعلة هذه تبدر منك ؟
ألا يتملكك الخجل في آخر الأمر ؟
لقد أديت فريضة الحج كثيرا ، وحزت أسباب السعادة ، فهل يكون الكفر هو النهاية ؟ إن هذا العمل لا يتم إلا عن جهالة ،
وبسببك أصيب أهل القلوب بسوء السمعة ، وأي شيخ طاف بهذا الطريق ؟
ألا تعلم أن هذا هو معبد النار ؟
فقال الشيخ : لقد اشتد بي الحال ، وأصابت النار جسدي وكل ما أملك ، وأسلمت النار كل حصادي للريح ، كما أسلمت إليها كل شهرتي وسيرتي ،
وتملكتني الحيرة والوله من أمري ، ولا أعلم حيلة لما اعتراني .
وإذا كانت تلك النار قد سيطرت على روحي ، فكيف يبقى لي اسمي وشهرتي لحظة واحدة ؟
وعندما أصبحت أسير هذا العمل ، مللت كل من الكعبة والكنيسة ، وإن تصبك ذرة من الحيرة هكذا ، فستصاب بمئات الحسرات مثلي !
"" الشيخ نصر آباد : اسمه إبراهيم بن محمد بن محمويه ، ولد في نيسابوري وأقام بها ، وكان شيخ زمانه في الحقائق وعلوم التصوف.
تتلمذ على إبراهيم الشيباني ، ورأى الشبلي والواسطي ، وصادق كلا من أبي علي الرودباري والمرتعش وأبي بكر طاهر الأبهري ، وفي نهاية عمره رحل إلى مكة واستقر بها حتى فاضت روحه هناك عام 371 هـ.
(انظر نفحات الأنس طبعة طهران ص 230 ) .""
المقالة الثالثة والأربعون حكاية 5
الأبيات من 3913 - 3919
كان لمريد حدث قلب وضاء كالشمس ، فرأى شيخه ذات ليلة في منامه ،
فقال له : لقد سيطر الحزن على قلبي من الحيرة ، فخبرني كيف مضى أمرك هناك ؟ لقد احترق قلبي لفراقك ،
واحترقت من الحسرة لبعادك ، وأصبحت من حسرتي أبحث عن السر ، فخبرني كيف يكون أمرك هناك ؟
فقال الشيخ : لقد بقيت حائرا ثملا ، وأعض أناملي غيظا ، وما أكثر ما وقعنا في قعر هذا السجن والبئر ،
فنحن في هذا المكان أكثر حيرة منكم وذرة واحدة من الحيرة في العقبى ، تكون عندي أكبر من مائة جبل في الدنيا .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin