"المرتبة الثامنة من رسالة مراتب الكمال": "الجهاد ومدارجه"
"المرتبة الثامنة من رسالة مراتب الكمال": "الجهاد ومدارجه"؛:-
أما الجهاد، فهو: الدعاء إلى الدين الحق، أو خلو عن الراحة، وترك الرخصة، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: «ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» رواه أحمد، وذلك لحماية الدين والأمة، والشوق إلى لقاء الله تعالى، والفوز بما أعده لعباده الصالحين، من الدعاة والمجاهدين، من الدرجات والنعيم المقيم. "ومراتب الجهاد كثيرة":-
فمنها: جهاد العدو، لإعلاء كلمة الحق، وإخفاء راية الباطل من الكفرة والمنافقين، كما قال ـ جلَّ شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وقال ـ جلَّ ثناؤه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}.
ومنها: جهاد الشياطين وحزبهم ـ من أهل البدع والضلالات، كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، وقال ـ عزَّ كماله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُون}، وقال ـ جلَّ جلاله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}، وقال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» رواه مسلم.
ومنها: جهاد القلب كما في الحديث الشريف؛ وهو بغضهم، وبغض حالهم، التي هي عقيدة الولاء والبراء؛ بدونها لا يصير الإنسان مؤمناً؛ فسمى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل القلب هذا جهاداً، كما سمى فعل اللسان جهاداً، إذاً من باب أولى يسمى فعل اليد جهاداً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. فالأمانة؛ "قضية الدين والقلوب والأمة". فتنبه .
ومنها: جهاد النفس، قال أهل العلم: النفس من الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوّة الحياة والحس والحركة الإرادية، وسماها الحكيم: الروح الحيوانية، فهو جوهر مشرق للبدن فعند الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وباطنه . وأما في وقت النوم فينقطع عن ظاهر البدن دون باطنه، فثبت أن النوم والموت من جنس واحد، لأن الموت هو الانقطاع الكلي، والنوم هو الانقطاع الناقص، فثبت أن القادر الحكيم ـ جل وعلا، دَبْرَ تعلق جوهر النفس بالبدن على أضرب: إن بلغ ضوء النفس إلى جميع أجزاء البدن ، ظاهره وباطنه، فهو اليقظة، وان أنقطع ضوؤها عن ظاهره دون باطنه، فهو النوم، أو بالكلية فهو الموت، وبينهما تقارب بقدرة القادر الحكيم، كما كان يقول أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم - عند الاستيقاظ : "الْحَمد لله الَّذِي أَحْيَانا بَعْدَمَا أماتنا وَإِلَيْهِ النشور ". متفق عليه . فسبحان الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والذي باسمه الحي كانت الحياة، فإذا كنا مع الله، فحياتنا لا تنقطع بأُنسها وجمالها، وإذا ابتعد العبد عن الله، فانقطاعه سريع وموته حزن وعذاب . فتنبه.
"أي سادة": إن النفس هي من أعدى الأعداء، فوجب الانتباه إلى مخاطرها وخفاياها ، ولزم المسلم كبح جماحها وعدم الانصياع لها ، وورد: «أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ». ولله در القائل:-
تعرف النفس لا تأمن غوائلها فالنفسُ أخبث من سبعين شيطانا
فمجاهدتك لنفسك يُعد الجهاد الأكبر، كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «هبطتم من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر، وهو : جهاد النفس»، فإذا انفصل أحدهما عن الآخر؛ كان صغيراً، وإذا اجتمعا؛ كانا كبيرينً.
ـ وكن حذراً أن تفصل بين الجهاد والمحبة، فإنَّ الله جمع بينهما في قرآنه المجيد، فقال ـ جلَّ مجده: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين}، وكذلك العمل "لوحدتنا وإخلاصنا"، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} فثباتنا في الجهاد وبأنواعه ـ كجهاد العدو، وجهاد النفس، وجهاد الدعوة والإرشاد، والثبات في المحن والشدائد، والثبات على الحق، ودحض الباطل، والثبات مع تشكيل الأحوال في الله عزَّ وجل؛ وهي الاستقامة على طريق الدين والمحبة والدعوة، وهي من مواهب الرحمن لعباده وأحبابه؛ وذلك من الثبات والرباط في سبيل الله - تبارك وتعالى.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، أي: بدعائكم بالثبات والنصر لهذه الأمة المرحومة؛ واعلموا أن الدعاء مستجاب بعد الطاعات، والصبر في الشدائد التي تقع على هذه الأمة المرحومة، ومن هذه الأذكار: أذكار السُّنة، وخاصة ما كان يدعو أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، في أوقات الشدائد والمحن، وكذلك تلاوة القرآن المجيد، وحضور الفكر في أوقاتك، وذكر الله في القلب؛ حتى لا تضيع الأوقات والأحوال، من هذه الأحوال التي هي من منازل الآخرة.
ولله در الإمام الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه، حيث قال:-
وما تقلبت من نومي وفي سنتي إلا وذكرك بين النفس والنفس
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، أي: بكل ما يأمران به، بل يجب في الدين طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، كذلك يجب طاعة أولي الأمر منكم، والعلماء ورثة الأنبياء؛ وبذلك حياة الأمة.
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، "أي سادة": لو عملتم بكل ما تقدم، ولكن حصل التنازع ولا تقام دولة وتستمر، ولا تحفظ لكم قوتكم الظاهرة والباطنة، ولو حصل شيء يخشى أن يكون استدراجا، والاعتراض بما لا علم لك به، وما يظهره الله لعبده، فهو بتوفيق الله عليه، والاعتراض في ذلك تنازع، قال مفتي الحنابلة في القرن الخامس الهجري في بغداد، الإمام الربّانيّ الشيخ عبد القادر الجيلاني، في قصيدته ـ ومنها هذا البيت:-
ولا تعترض فيما جهلت من أمره عليه فإن "الاعتراض تنازع"
والكافرون بعضهم أولياء بعض، والمؤمنون الصالحون في تنازع وتحاسد، والأمة في شقاق وخلاف؛ وإن لم تفعلوا لوحدتنا وإخلاصنا، وعدم التنازع فيما بيننا؛ تحصل فتنة في الأرض وفساد كبير، وذلك يُضعف الإسلام، ويكسر شوكته، ويظهر الكفر والبِدع، ويُعلي رايتهم، كما قال جلَّ شأنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}. اتخذ المسلمون بطانتهم من غيرهم، وولوا أعداء الدين لأجل مناصبهم، ومصالحهم الدنيوية الدنيئة الفانية. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
"أي إخوتي": التنازع فشل وخسران، وضياع للأمة، وتضييع الأمانة، وخشية الخيانة؛ فكم اليوم نحن بحاجة إلى وحدتنا وإخلاصنا وخدمة أمتنا، وأرجو قائلاً: -
أملـي بكـم حـال اندمـاج لا يفرق الدهر بيننا في كل حال
ثم الصّلاة والسّلام على خـيــر حبـيــب شــرف الأحـوال
قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رواه مسلم.
{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فلو جُمع الأمر عليكم بتوفيق الله فيما ذكر، فعلينا بعد ذلك بالصبر، فإنَّ الاختبار مُنحة؛ فبعد كل مِحنة مُنحة، بعد ذلك لعباده وأحبابه الدعاة الصادقين، والمؤمنين الصالحين، "وعلامة رضاء الله، الرضا بما قدره الله"، سُئل سيدنا علي المرتضى ـ رضي الله عنه، وكرم الله وجهه، عن القضاء والقدر، فقال: ليلٌ مظلم، وبحرٌ عميق، وسرُّ الله الأعظم؛ فمن رضي به فله الرضا، ومن سخط فله السخط. قال ـ جلَّ ثناؤه: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
"أي سادة": قد بشر الله تعالى الذين ينهون نفوسهم عن اتباع الهوى بالجنّة، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، قال العلامة الآلوسي في "تفسيره": {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}، أي: مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى. {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي زجرها وكفها عن الهوى المردي، وهو الميل إلى الشهوات، وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخيرات، ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها، ولم يغتر بزخارفها وزينتها، علماً بوخامة عاقبتها؛ وعن ابن عباس ومقاتل: إنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يديّ ربّه سبحانه فيخاف فيتركها.
"أي سادة": أفضل الأعمال مخالفة هوى النفس، ولتهذيبها، وترويضها ـ بتوفيق الله ورحمته ـ جلَّ وعلا، منازل في التزكية والتربية، أولاً: أنْ لا توافقها في أي أمرٍ ظاهراً كان أو باطناً مخالفاً للشريعة الغراء. ثانياً: أنْ لا تَنْشغِلَ بخِواطرها؛ لأن اللصَ لا يَدخُلُ بيتاً فارغاً، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»، رواه الإمام البخاري، وفي أخرى، قال عليه السلام: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»، متفق عليه.
ثالثاً: وكن غيرَ راضٍ عن خَواطِرها السيئة، وَاحْرص على أن تَضْحَكَ على تلك الخواطر؛ لأنك إذا صغرت قيمته عندك، وهان كيده عليك، وإذا تم علمك بمضره وما يُلقي إليك من تلك الوسوسة أو الخواطر، مع معرفتك بقوته عليكَ، وضعفك عنه، فحينئذ أُعطيت القدرة على رّد كيده، ولم يعط القوة على أن يُكرِهك على ما يُريد منك، بإذن الله تعالى. كل هذا حتى لا تُشْغلَ بوسواسها عن تهذيبها، وتزكيتها، وتعيق ترقيك إلى الله ـ عزَّ وجلَّ.
وإذا رأيت بعد ذلك التهذيب تكاسلاً عن الطاعة، أو ميلاً إلى المعصية فاعلم بأن الله يسمعك ويَراك، ويَعلم سِركَ ونَجواكَ: قال ـ جلَّ ثناؤه: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}، ثم تذكر أن لك ملكين كريمين يكتبان لك حسناتك وسيئاتك: كما قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}؛ ثم انهض بهمةٍ تُفتح لك الأبواب بإذن الله تعالى كما قال ـ عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، والمعنى: سيمُدّكَ ـ عزَّ وجلَّ؛ بالنصر والمعونة والتوفيق.
واعلم: أن الموت غيبٌ ينتظر أمر الله عليك بأي لحظةٍ، ثم تنتقل إلى الخلود الأبدي، فما أنت صانعٌ؟ والله ـ تعالى، يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} واعلم: أن التقيَّ في جنّاتٍ ونهر، وأن المُقَصِّرَ والمُجْرم في عذابٍ وسُعر: كما قال ـ جَلّتْ قُدرَتُهُ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} .
فعليك أيها الأعز الصالح: أن تكبح جماح نفسِكَ الأمارة بالسوء، وان تكسّر سيوفها ورماحها وتصدَّ عن الجوارح والفكر والقلب رياحها، وتقهر حتى ينقطع خداعها وجراحها، وتطوّع كيما يستوي مسارها وغدوها ورواحها، ثم يهدي إليها استقرارها وأمانها وفلاحها وعندئذ فهي النفس المزكاة مريدة القلب في أمره والإِشارات، بتوفيق الله تعالى وفضله.
ومنها: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، فجهاد العدو، وجهاد النفس، وجهاد الدعوة والإرشاد، والثبات في المحن والشدائد، والثبات على الحق، ودحض الباطل، والثبات مع تشكيل الأحوال والمقامات في الله ـ عزَّ وجلَّ؛ وهي الاستقامة على طريق الدين والمحبة والدعوة، وهي من مواهب الرحمن ـ جلَّ وعلا ـ لعباده وأحبابه؛ فإنَّ القضية: "قضية دين"، "وقلوب"، "وأمة"؛ وذلك من الثبات والرباط في سبيل الله ـ تبارك وتعالى.
اللّهمَّ؛ بسطوة جبروت قهرك، وبسرعة إغاثة نصرك، وبعزَّتك لانتهاك حرمتك، وبحمايتك لمن احتمى بآياتك، نسألك يا الله يا سميع يا مجيب يا قريب يا منتقم يا قهار، يا شديد البطش، يا من لا يُعجزه قهر الجبابرة، ولا يعظم عليه هلاك المُتمرِّدة، من الملوك والأكاسرة، والأعداء الفاجرة، أن تجعل كيد من كادنا في نحره، ومكر من مكر بنا عائداً إليه، وحُفرة من حفر لنا واقعاً هو فيها، ومن نصب لنا شبكة الخداع، اجعله يا سيّدي مَسُوقاً إليها وحصيداً فيها وأسيراً لديها. احتجبنا بنور الله، وبنور عرش الله، وبكل اسم لله من عدوّنا وعدوِّ الله، ومن شر كلِّ خَلْقِ الله، بمائَةَ أَلْفِ أَلْفِ "لا حول ولا قوة إلا بالله"، خَتمت على نفسي وديني وأهلي وإخواني بمحبة ربّي وجميع ما أعطاني ربّي بخاتم الله القدُّوس المنيع الذي ختم به أقطار السماوات والأرض، {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. وصلَّى اللهُ على سيِّدنا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم.
لحضرة الشيخ عباس السيد فاضل السيد علي الحسني
"المرتبة الثامنة من رسالة مراتب الكمال": "الجهاد ومدارجه"؛:-
أما الجهاد، فهو: الدعاء إلى الدين الحق، أو خلو عن الراحة، وترك الرخصة، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: «ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» رواه أحمد، وذلك لحماية الدين والأمة، والشوق إلى لقاء الله تعالى، والفوز بما أعده لعباده الصالحين، من الدعاة والمجاهدين، من الدرجات والنعيم المقيم. "ومراتب الجهاد كثيرة":-
فمنها: جهاد العدو، لإعلاء كلمة الحق، وإخفاء راية الباطل من الكفرة والمنافقين، كما قال ـ جلَّ شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وقال ـ جلَّ ثناؤه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}.
ومنها: جهاد الشياطين وحزبهم ـ من أهل البدع والضلالات، كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، وقال ـ عزَّ كماله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُون}، وقال ـ جلَّ جلاله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}، وقال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» رواه مسلم.
ومنها: جهاد القلب كما في الحديث الشريف؛ وهو بغضهم، وبغض حالهم، التي هي عقيدة الولاء والبراء؛ بدونها لا يصير الإنسان مؤمناً؛ فسمى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعل القلب هذا جهاداً، كما سمى فعل اللسان جهاداً، إذاً من باب أولى يسمى فعل اليد جهاداً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. فالأمانة؛ "قضية الدين والقلوب والأمة". فتنبه .
ومنها: جهاد النفس، قال أهل العلم: النفس من الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوّة الحياة والحس والحركة الإرادية، وسماها الحكيم: الروح الحيوانية، فهو جوهر مشرق للبدن فعند الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وباطنه . وأما في وقت النوم فينقطع عن ظاهر البدن دون باطنه، فثبت أن النوم والموت من جنس واحد، لأن الموت هو الانقطاع الكلي، والنوم هو الانقطاع الناقص، فثبت أن القادر الحكيم ـ جل وعلا، دَبْرَ تعلق جوهر النفس بالبدن على أضرب: إن بلغ ضوء النفس إلى جميع أجزاء البدن ، ظاهره وباطنه، فهو اليقظة، وان أنقطع ضوؤها عن ظاهره دون باطنه، فهو النوم، أو بالكلية فهو الموت، وبينهما تقارب بقدرة القادر الحكيم، كما كان يقول أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم - عند الاستيقاظ : "الْحَمد لله الَّذِي أَحْيَانا بَعْدَمَا أماتنا وَإِلَيْهِ النشور ". متفق عليه . فسبحان الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والذي باسمه الحي كانت الحياة، فإذا كنا مع الله، فحياتنا لا تنقطع بأُنسها وجمالها، وإذا ابتعد العبد عن الله، فانقطاعه سريع وموته حزن وعذاب . فتنبه.
"أي سادة": إن النفس هي من أعدى الأعداء، فوجب الانتباه إلى مخاطرها وخفاياها ، ولزم المسلم كبح جماحها وعدم الانصياع لها ، وورد: «أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ». ولله در القائل:-
تعرف النفس لا تأمن غوائلها فالنفسُ أخبث من سبعين شيطانا
فمجاهدتك لنفسك يُعد الجهاد الأكبر، كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «هبطتم من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر، وهو : جهاد النفس»، فإذا انفصل أحدهما عن الآخر؛ كان صغيراً، وإذا اجتمعا؛ كانا كبيرينً.
ـ وكن حذراً أن تفصل بين الجهاد والمحبة، فإنَّ الله جمع بينهما في قرآنه المجيد، فقال ـ جلَّ مجده: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين}، وكذلك العمل "لوحدتنا وإخلاصنا"، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} فثباتنا في الجهاد وبأنواعه ـ كجهاد العدو، وجهاد النفس، وجهاد الدعوة والإرشاد، والثبات في المحن والشدائد، والثبات على الحق، ودحض الباطل، والثبات مع تشكيل الأحوال في الله عزَّ وجل؛ وهي الاستقامة على طريق الدين والمحبة والدعوة، وهي من مواهب الرحمن لعباده وأحبابه؛ وذلك من الثبات والرباط في سبيل الله - تبارك وتعالى.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، أي: بدعائكم بالثبات والنصر لهذه الأمة المرحومة؛ واعلموا أن الدعاء مستجاب بعد الطاعات، والصبر في الشدائد التي تقع على هذه الأمة المرحومة، ومن هذه الأذكار: أذكار السُّنة، وخاصة ما كان يدعو أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، في أوقات الشدائد والمحن، وكذلك تلاوة القرآن المجيد، وحضور الفكر في أوقاتك، وذكر الله في القلب؛ حتى لا تضيع الأوقات والأحوال، من هذه الأحوال التي هي من منازل الآخرة.
ولله در الإمام الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه، حيث قال:-
وما تقلبت من نومي وفي سنتي إلا وذكرك بين النفس والنفس
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، أي: بكل ما يأمران به، بل يجب في الدين طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، كذلك يجب طاعة أولي الأمر منكم، والعلماء ورثة الأنبياء؛ وبذلك حياة الأمة.
{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، "أي سادة": لو عملتم بكل ما تقدم، ولكن حصل التنازع ولا تقام دولة وتستمر، ولا تحفظ لكم قوتكم الظاهرة والباطنة، ولو حصل شيء يخشى أن يكون استدراجا، والاعتراض بما لا علم لك به، وما يظهره الله لعبده، فهو بتوفيق الله عليه، والاعتراض في ذلك تنازع، قال مفتي الحنابلة في القرن الخامس الهجري في بغداد، الإمام الربّانيّ الشيخ عبد القادر الجيلاني، في قصيدته ـ ومنها هذا البيت:-
ولا تعترض فيما جهلت من أمره عليه فإن "الاعتراض تنازع"
والكافرون بعضهم أولياء بعض، والمؤمنون الصالحون في تنازع وتحاسد، والأمة في شقاق وخلاف؛ وإن لم تفعلوا لوحدتنا وإخلاصنا، وعدم التنازع فيما بيننا؛ تحصل فتنة في الأرض وفساد كبير، وذلك يُضعف الإسلام، ويكسر شوكته، ويظهر الكفر والبِدع، ويُعلي رايتهم، كما قال جلَّ شأنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}. اتخذ المسلمون بطانتهم من غيرهم، وولوا أعداء الدين لأجل مناصبهم، ومصالحهم الدنيوية الدنيئة الفانية. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
"أي إخوتي": التنازع فشل وخسران، وضياع للأمة، وتضييع الأمانة، وخشية الخيانة؛ فكم اليوم نحن بحاجة إلى وحدتنا وإخلاصنا وخدمة أمتنا، وأرجو قائلاً: -
أملـي بكـم حـال اندمـاج لا يفرق الدهر بيننا في كل حال
ثم الصّلاة والسّلام على خـيــر حبـيــب شــرف الأحـوال
قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رواه مسلم.
{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فلو جُمع الأمر عليكم بتوفيق الله فيما ذكر، فعلينا بعد ذلك بالصبر، فإنَّ الاختبار مُنحة؛ فبعد كل مِحنة مُنحة، بعد ذلك لعباده وأحبابه الدعاة الصادقين، والمؤمنين الصالحين، "وعلامة رضاء الله، الرضا بما قدره الله"، سُئل سيدنا علي المرتضى ـ رضي الله عنه، وكرم الله وجهه، عن القضاء والقدر، فقال: ليلٌ مظلم، وبحرٌ عميق، وسرُّ الله الأعظم؛ فمن رضي به فله الرضا، ومن سخط فله السخط. قال ـ جلَّ ثناؤه: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
"أي سادة": قد بشر الله تعالى الذين ينهون نفوسهم عن اتباع الهوى بالجنّة، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، قال العلامة الآلوسي في "تفسيره": {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}، أي: مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى. {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي زجرها وكفها عن الهوى المردي، وهو الميل إلى الشهوات، وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخيرات، ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها، ولم يغتر بزخارفها وزينتها، علماً بوخامة عاقبتها؛ وعن ابن عباس ومقاتل: إنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يديّ ربّه سبحانه فيخاف فيتركها.
"أي سادة": أفضل الأعمال مخالفة هوى النفس، ولتهذيبها، وترويضها ـ بتوفيق الله ورحمته ـ جلَّ وعلا، منازل في التزكية والتربية، أولاً: أنْ لا توافقها في أي أمرٍ ظاهراً كان أو باطناً مخالفاً للشريعة الغراء. ثانياً: أنْ لا تَنْشغِلَ بخِواطرها؛ لأن اللصَ لا يَدخُلُ بيتاً فارغاً، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»، رواه الإمام البخاري، وفي أخرى، قال عليه السلام: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»، متفق عليه.
ثالثاً: وكن غيرَ راضٍ عن خَواطِرها السيئة، وَاحْرص على أن تَضْحَكَ على تلك الخواطر؛ لأنك إذا صغرت قيمته عندك، وهان كيده عليك، وإذا تم علمك بمضره وما يُلقي إليك من تلك الوسوسة أو الخواطر، مع معرفتك بقوته عليكَ، وضعفك عنه، فحينئذ أُعطيت القدرة على رّد كيده، ولم يعط القوة على أن يُكرِهك على ما يُريد منك، بإذن الله تعالى. كل هذا حتى لا تُشْغلَ بوسواسها عن تهذيبها، وتزكيتها، وتعيق ترقيك إلى الله ـ عزَّ وجلَّ.
وإذا رأيت بعد ذلك التهذيب تكاسلاً عن الطاعة، أو ميلاً إلى المعصية فاعلم بأن الله يسمعك ويَراك، ويَعلم سِركَ ونَجواكَ: قال ـ جلَّ ثناؤه: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}، ثم تذكر أن لك ملكين كريمين يكتبان لك حسناتك وسيئاتك: كما قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}؛ ثم انهض بهمةٍ تُفتح لك الأبواب بإذن الله تعالى كما قال ـ عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، والمعنى: سيمُدّكَ ـ عزَّ وجلَّ؛ بالنصر والمعونة والتوفيق.
واعلم: أن الموت غيبٌ ينتظر أمر الله عليك بأي لحظةٍ، ثم تنتقل إلى الخلود الأبدي، فما أنت صانعٌ؟ والله ـ تعالى، يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} واعلم: أن التقيَّ في جنّاتٍ ونهر، وأن المُقَصِّرَ والمُجْرم في عذابٍ وسُعر: كما قال ـ جَلّتْ قُدرَتُهُ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} .
فعليك أيها الأعز الصالح: أن تكبح جماح نفسِكَ الأمارة بالسوء، وان تكسّر سيوفها ورماحها وتصدَّ عن الجوارح والفكر والقلب رياحها، وتقهر حتى ينقطع خداعها وجراحها، وتطوّع كيما يستوي مسارها وغدوها ورواحها، ثم يهدي إليها استقرارها وأمانها وفلاحها وعندئذ فهي النفس المزكاة مريدة القلب في أمره والإِشارات، بتوفيق الله تعالى وفضله.
ومنها: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، فجهاد العدو، وجهاد النفس، وجهاد الدعوة والإرشاد، والثبات في المحن والشدائد، والثبات على الحق، ودحض الباطل، والثبات مع تشكيل الأحوال والمقامات في الله ـ عزَّ وجلَّ؛ وهي الاستقامة على طريق الدين والمحبة والدعوة، وهي من مواهب الرحمن ـ جلَّ وعلا ـ لعباده وأحبابه؛ فإنَّ القضية: "قضية دين"، "وقلوب"، "وأمة"؛ وذلك من الثبات والرباط في سبيل الله ـ تبارك وتعالى.
اللّهمَّ؛ بسطوة جبروت قهرك، وبسرعة إغاثة نصرك، وبعزَّتك لانتهاك حرمتك، وبحمايتك لمن احتمى بآياتك، نسألك يا الله يا سميع يا مجيب يا قريب يا منتقم يا قهار، يا شديد البطش، يا من لا يُعجزه قهر الجبابرة، ولا يعظم عليه هلاك المُتمرِّدة، من الملوك والأكاسرة، والأعداء الفاجرة، أن تجعل كيد من كادنا في نحره، ومكر من مكر بنا عائداً إليه، وحُفرة من حفر لنا واقعاً هو فيها، ومن نصب لنا شبكة الخداع، اجعله يا سيّدي مَسُوقاً إليها وحصيداً فيها وأسيراً لديها. احتجبنا بنور الله، وبنور عرش الله، وبكل اسم لله من عدوّنا وعدوِّ الله، ومن شر كلِّ خَلْقِ الله، بمائَةَ أَلْفِ أَلْفِ "لا حول ولا قوة إلا بالله"، خَتمت على نفسي وديني وأهلي وإخواني بمحبة ربّي وجميع ما أعطاني ربّي بخاتم الله القدُّوس المنيع الذي ختم به أقطار السماوات والأرض، {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. وصلَّى اللهُ على سيِّدنا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم.
لحضرة الشيخ عباس السيد فاضل السيد علي الحسني
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin