الغيبة في الكتابات الخديمية
الغِيبةُ في كتاباتِ الشَّيخ الخديم – رضي الله عنه –
أعوذ بالله، بسم الله، إن وليي الله، وما توفيقي إلّا بالله، والصلاة والسلام على رسُول الله.
أما بعدُ: فهَذه رِسالة ونُكتة لطيفةٌ مُوجهة إلى سَائر الشَّباب تَحريتُ جَمعها هُنا ليَستَفيدَ منها الإخوةُ الفُضلاء والأخواتُ الفُضلياتُ وَعُنوانها ” الغِيبة فِي كتاباتِ الشَّيخ الخديم – رضي الله عنه – ” واختَرنا هَذه الرذيلة لانتِشارها بين الأفراد والمُجتمعاتِ وهي مِن أفاتِ اللسَان التي تُفضي إلى إشعالِ نَار الفتَن والعَداوة والبَغضاء وإشاعة الفَحشاء فِي المُجتمع ناسين أنَّ الإسلام الحَنيف حرَّمها وشبَّه المغتاب الذي يتناول أعراض النَّاس ويكشف عن عُيوبهم كَمن يتناولُ لَحم أخيه ميتا، وصاحبها بعيدٌ كلّ البُعد عَن كلِّ خير محروم من كلّ نعمة، وندعو الله أن يُجنِّبنا مِن هَذا الدَّاء الخَطير ويُوفقنا وإيَّاكم إلى طُرق الصَّواب، ويَرزقنا في الآخرة خَير ثواب.
وهَذه الرِّسالة تَشتملُ عَلى عِدّة عناصر مُهمة وسَنتعرف سَويا من خلالهِ بعد المقدّمة عَلى هَذه النقاط التالية:
حَقيقة الغِيبة عند العبد الخديم – رضي الله عنه –
حُكمُها عِند العبد الخَديم – رضي الله عنه –
أخبارُ تَشدُّده فِي أمر الغيبةِ – رضي الله عنه –
تحذيرُ أتباعِه مِن الغِيبة
خُطُورتُها عِند العبد الخديم – رضي الله عنه –
كان أبو المحامد – رضي الله عنه – يهدي الجهولَ ويرشدُ الحَيران و يطير بِجَناحَي الخَوف والرَّجاء يُحذِّر جميع أتباعه من الغيبة والنَّميمة وأحرى الكذب، ويحرضهم عَلى ملازمة الصِّدق وحِفظ اللسان والاعتصَام بالسُّنة، وكان لا يجاملُ أحدا فِي دين الله – جلَّ جلاله – لا تمنعه محبَّته لأيّ شخص من أن يكون مُنصفا.
حَقيقة الغِيبة عند الشيخ الخديم – رضي الله عنه – :
يقُول الشيخ الخديم – رضي الله عنه- في منظومته” الجَوهر النّفيس” في تعريف الغِيبةِ وقَد أحسن وأجادَ:
حَقيقة الغِيبة دُون رَيبِ = ذِكرُك حَالُ الشَّخصِ بَعد الغَيبِ
أو حَالَ ما به تعلَّق بِما = يَكره لو سَمعه فلتَعلما
أما إذا ذَكرتَه بِكلِّ مَا = لم يَكُ حَالَه فبُهتان سَما
ومنعُوا ذلك أيضًا فِي الحَضرْ = لأنهُ أكثرُ عَيبا وضَررْ
ثم استَطرد قائلا بعد هَذه الأبيات:
إن الذِي قَال بِغَير ذَا وَهِم = وغَرَّه مفهومُه وما فَهمْ
وحَقيقةُ الغِيبة: ذِكركَ أخاك بمَا فيهِ مما يكرهُ أنْ لَو سَمعَه. [ ينظر وصيته المسماة” فتح المنان في جواب عَبد الرحمان” ضمن “المجموعة الكبرى”، ص: (35)]
وفي هذا المعنى ورد الحديث عن أَبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ رسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: (( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟)) قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِما يَكْرَهُ)) قِيلَ: أفَرَأيْتَ إنْ كَانَ في أخِي مَا أقُولُ؟! قَالَ: (( إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فقد اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ )). [رواه مسلم، حديث (2589)، والترمذي، حديث (1934)]. يعني: قلت فيه بهتانا والبُهتان أعظم الكذب.
في هَذا الحديث: أن حَقيقة الغِيبة ذكر الإنسان بما فيه من المكُروه.
ويتضمن هَذا التعريف الذي أوردهُ أبُو المَحامد قول الشَّيخ سيدي المختار الكنتيّ – رضي الله عنه وأرضاه عنَّا، وجَعلنا ممن تولَّاه – كتاب ” نَصيحة البتِّ لجَميعِ كنتَ “: ” وأما حَقيقتُها: ذكرُ شَخص أخاهُ بما يكرهُ خلفهُ مما هو فيه وإن لم يَكُن فيه فبُهتانٌ، وكذلك لو ذكرتَ دابَّته أو ثوبَه أو دارهُ أو شَيئا مما يتعلَّق بهِ مما يكرهُ “. [ ينظر وصيته المسماة” فتح المنان في جواب عَبد الرحمان” ضمن “المجموعة الكبرى”، ص: (35)]
حُكمها فِي الإسلام وعند العبد الخديم – رضي الله عنه –
الغِيبةُ مُحرمة شَرعاً، وفي القرآن ذمُّها وتشبيهُها بأكلِ لحم الميتةِ، ومن الأدلة عَلى ذلك قول الله جل وعلا: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] يعني: كما تكرهُون أكل لحم أخيكم ميتا فكذلك اجتنبُوا ذكرهُ بالسُّوء غالبًا.
قال ابن عباس – رضي الله عنه -: ” إنما ضرب هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حَرام في الدّين ومُستقبحة في النفوس “.
وقال القاضي أبو يعلى عَن تمثيل الغيبة بأكل الميت: وهَذا تأكيد لتحريم الغيبة ، لأن أكل لحم المسلم محظور، ولأن النفوسَ تعافه من طَريق الطبع، فينبغِي أن تكون الغِيبة بمنزلته في الكراهة.
قوله: ((فَكرهتمُوهُ)) قال الفراء: أي فقد بغِّض إليكم. وقال الزجاج: والمعنى كما تكرهُون أكل لَحم ميتاً، فكَذلك تجنبوا ذكره بالسُّوء غائباً .
وقد أشار إلى ذلك شيخُنا الخديم – رضي الله عنه – بقوله في منظومته “الجوهر النَّفيس”:
حَسبُكَ فيهَا أنَّ فِي القُرآنِ = تشْبِيهَهَا بمَيتَة الإنسَانِ
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ – فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [سورة الحجرات آية: 12] قَالَ : نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَمَّ مَعَ كُلِّ رَجُلَيْنِ غَنِيَّيْنِ فِي السَّفَرِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَلِيلَ الشَّيْءِ؛ لِيُصِيبَ مَعَهُمَا مِنْ طَعَامِهِمَا، وَيَتَقَدَّمَهُمَا فِي الْمَنَازِلِ، وَيُهَيِّئَ لَهُمَا الْمَنْزِلَ وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا. وَقَدْ كَانَ ضَمَّ سَلْمَانَ إِلَى رَجُلَيْنِ، فَنَزَلَا مِنَ الْمَنَازِلِ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ يُهَيِّئْ لَهُمَا شيئًا، فَقَالَا لَهُ اذْهَبْ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَسَلْ لَنَا فَضْلَ إِدَامٍ. فَانْطَلَقَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حِينَ غَابَ عَنْهُمَا: إِنَّهُ لَوِ انْتَهَى إِلَى بِئْرِ كَذَا لَقَلَّ الْمَاءُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَبَلَّغَهُ الرِّسَالَةَ قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” قُلْ لَهُمَا قَدْ أَكَلْتُمَا الْإِدَامَ ” فَأَتَاهُمَا فَأَخْبَرَهُمَا فَأَتَيَاهُ فَقَالَا: مَا أَكَلْنَا مِنْ إِدَامٍ ! فَقَالَ: ” إِنِّي لَأَرَى حُمْرَةَ اللَّحْمِ فِي أَفْوَاهِكُمَا ” فَقَالَا: لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا شَيْءٌ، وَمَا أَكَلْنَا لَحْمًا الْيَوْمَ، فَقَالَ لَهُمَا: ” إِنَّكُمَا اغْتَبْتُمَا أَخَاكُمَا “. ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: ” أَتُحِبَّانِ أَنْ تَأْكُلَا لَحْمًا مَيِّتًا؟ ” فَقَالَا لَا. فَقَالَ لَهُمْ : ” فَكَمَا كَرِهْتُمَا أَنْ تَأْكُلَا لَحْمًا مَيِّتًا فَلَا تَغْتَابَا؛ فَإِنَّهُ مَنِ اغْتَابَ أَخَاهُ فَقَدْ أَكَلَ لَحْمَهُ “. فَنَزَلَتْ : { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [ سُورة الحُجرات آية: 12 ].
[ينظر: “تنبيه الغافلين بأحاديث سيّد الأنبياء والمُرسلين”، المؤلف: أبو الليث السَّمرقنديّ، حققه: محمد علي، و شريف عبد الله، الناشر: دار ابن الهيثم، الطبعة الأولى، 2006 م، 1427ه ، ص: (87)، وقد أورده الغزالي في إحياء علوم الدّين (3/228)]
ومما يدلُّ عَلى حُرمة الغِيبة قوله في منظومته ” مغالق النيران”:
وَحرَّم المنتقِمُ القهارُ = رذائلاً بها تصُول النَّارُ
قَد حَرَّم الكذبَ والغيبةَ معْ = نَميمةٍ كِبْرًا وعُجبًا قَد يقعْ
ثم رياءً سُمعةً بُغضًا حَسَدْ = رؤيةَ فضلٍ مطلقًا عَلى أحدْ
والهمزَ واللمزَ كذاكَ العَبثُ = سُخريةً زنًى كذاكَ رفثُ
مع أجنبِيةٍ كنَظرة كَذا = بِصَوتها قَد حَرَّم التلذُّذا
وهَذه الأبيات السَّالفة عَين قول الإمام الأخضريّ – رحمه الله تعالى – : ” وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، وَالْغِيبَةُ، وَالنَّمِيمَةُ، وَالْكِبْرُ، وَالْعُجْبُ، وَالرِّيَاءُ، وَالسُّمْعَةُ، وَالْحَسَدُ وَالْبُغْضُ، وَرُؤْيَةُ الْفَضْلِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْهَمْزُ وَاللَّمْزُ، وَالْعَبَثُ، وَالسُّخْرِيَةُ، وَالزِّنَا، وَالنَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، وَالتَّلَذُّذُ بِكَلَامِهَا “. [ مختصر الأخضري، ص: (2) النسخة التي نشرتها مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، بميدان الأزهر]
هَذا بالإضافة إلى ذلك أنَّ شَيخنا الخديم – رضي الله عنه – قال في منظومته ” الجوهر النفيس” مُبيِّنا ما يحرمُ على المُكلّفِ:
ويَحرُم الكِبرُ عَليه والرِّيا = وكذبٌ نميمةٌ فلتَدريَا
إلى أن يقُول:
والعُجبُ والغِيبَة والبُغضُ الحسَدْ = أيضًا وسُمعةٌ نَهى عَنها الصَّمدُ
وقال صاحبُ التَّصانيف العَديدة والمناقب الحَميدة في منظومته” الجوهر النَّفيس”:
وغِيبةُ المُسلمِ في قَول الخَبيرْ = أقبحُ مِن أكْلكَ جِيفةَ الحَميرْ
وقصَّةُ المرجُومِ والاِثنينِ = حَسبُكَ زاجرًا بِغيْرِ مَينِ
مَبدأُها أنَّ رسُولَ اللهِ = عَليه أزكَى صَلواتِ اللهِ
قَد كان ذاهبًا وجاءَه رجُلْ = فَقال: قدْ هلكتُ يا خيرَ الرسُلْ
قال لهُ: لِمَ؟ قَال إنِّي = زَنيتُ مُحْصِنا بِعَمْدٍ مِنِّي
قال لهُ: ادعُ النَّاسَ يَرجُمُوكَ، ثُمْ = دَعاهُم فقتلُوهُ إذْ يَؤُمْ
وبعدُ ذَا تبِعَهُ شَخْصانِ = للرَّجُل المَرجُومِ يغتَابانِ
حتَّى أتوْا جِيفةَ عَيْرٍ فَوقفْ = وقَال: يا ذانِ كُلاَ ذِي وحَلَفْ
إنِّي أرَى يَجُرُّ فِي الْجِنانِ = ثِيابَهُ فافْتَضحَ الشَّخْصانِ
يُشير إلى قصَّة الشَّخصين اللذين كانا يغتابانِ المرجُوم مَاعِز بن مالك الأسلمي – رضي الله عنه – ما يدل عَلى حُرمة الغِيبة، و التي أخرجها أبو داود في سنه، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك، ص: 148، 4428] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الصَّامِتِ ابْنَ عَمِّ أَبِى هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ جَاءَ الأَسْلَمِىُّ إِلَى نَبِىِّ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – فَأَقْبَلَ فِى الْخَامِسَةِ فَقَالَ « أَنِكْتَهَا؟ ». قَالَ نَعَمْ، قَالَ: « حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِى ذَلِكَ مِنْهَا ». قَالَ نَعَمْ، قَالَ: « كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِى الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءُ فِى الْبِئْرِ ؟» قَالَ نَعَمْ، قَالَ: « فَهَلْ تَدْرِى مَا الزِّنَا؟» قَالَ نَعَمْ، أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِى الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ حَلاَلاً. قَالَ: « فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟» قَالَ أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِى. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَسَمِعَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِى سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ، فَقَالَ « أَيْنَ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ؟» فَقَالاَ : نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ « انْزِلاَ فَكُلاَ مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ ». فَقَالاَ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ « فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ. وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهُ الآنَ لَفِى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْقَمِسُ فِيهَا».
وقال شَيخنا الخديم في منظومته ” الجوهر النَّفيس”:
وقَال قِيئِي خَيرُ الأنبيَا = تَكرُّرا لنُخبةِ النِّسَا
لَمَّا لِمَرأةٍ أتَتْهَا قَالتْ = هَذِي طَويلٌ ذيْلُهُا فَقاءتْ
فسَقَطتْ مُضغةُ لحْمٍ فَحَلفْ = صَلَّى عليه اللهُ مَا حَاز شَرفْ
بأنَّها لوْ هَضَمتْ لا بُدَّ مِنْ = دُخُولِها النَّارَ إذِ الموتُ يَعِنْ
ولا تُفيدُهَا لدَى الجَليلْ = نِسبتُها ثَمَّ إلى الرَّسُولْ
كأنه يُشِير إلى الحَديث الذي أوردهُ الشيخ المختار – رضي الله عنه وأرضاه عنَّا، وجَعلنا ممن تولَّاه – في كتابه ” نَصيحة البتِّ لجَميعِ كنتَ” : ” ومنهُ قَولُه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِعَائِشَةَ – قِيئِي قِيئِي قِيئِي لَمَّا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأةَ لَطَوِيلَةُ الذَّيْلِ، فَاسْتقَاءَتْ فَقَاءَتْ مُضْعَةَ لَحْمٍ، فَقَالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْمُتِّ وَهِيَ فِي بَطْنِكِ لدَخَلْتِ النَّارَ وَلاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا”. [ لم أقف على أصل له بهذا اللفظ ] [ ينظر وصيته المسماة” فتح المنان في جواب عَبد الرحمان” ضمن “المجموعة الكبرى”، ص: (35)]
وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – أنَّهَا قَالَتْ: ” لاَ يَغْتَابُ مِنْكُنَّ أَحَدٌ أَحَدًا، فَإِنِّي قُلْتُ لامْرَأَةٍ مَرَّةً وَأَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : إِنَّ هَذِهِ لَطَوِيلَةُ الذَّيْلِ، فَقَالَ: ” الْفُظِي الْفُظِي يا عَائشَةَ ” فَلَفَظْتُ بِضْعَةً مِنْ لَحْمٍ “. أخرجهُ ابن أبي الدنيا وابن مردويه في التفسير.
أخبارُ تَشدُّده فِي أمر الغيبةِ – رضي الله عنه –
ومن أخبَار تَشدّده – رَحِمَهُ اللهُ وَجَعَلَهُ مِنْ أَهْلِ فِرْدَوْسِهِ الأَعْلَى – فِي أمر الغِيبة ما رواه الشيخ محمد الأمين جُوب الدَّغاني: “… ووقعَت لبَعض الزائِرات أنَّها دخلتْ على أمهاتِ عيَال خَديم المُصطفى غوثِ زمانه وأعجُوبة أوانهِ – رضي الله عنه وقدس روحه ونفعنا بمعَارفه – فأكرمْن مَثواها، وجلست تتحَدَّث معهنَّ ثم أفرطتْ فِي حَديثها بمَسمع من هَذا الشيخِ الوَقور الجليلِ فلما بالغَت أشدَّ المُبالغة في كثرةِ الاغتيَاب والأمّهاتُ سَاكتات لما عَلمن من كُره الشيخ الخَديم للغيبَة واستِحيَائهنَّ مِن مَنعها، قَام الشيخ فنَهرهُنَّ طُرا فَهربْن، فأمر بنَار وحَطبٍ وحَرق الحَصير الذي كانت عليه المُغتابة فبقيَت آية ومَوعظة لكلِّ مَن بلغتُه هَذه الواقعة “. [ انتهت القصة باختصار من كتاب النبذة المباركة، للدغاني، مخطوط]
ولقد كفانَا هذه القصة المؤثرة واعظا ودليلا ساطعا وحجَّة واضحةً عَلى شدّة تحذيره لأتباعه من الغِيبةِ وقد أوردها الشيخ محمد الأمين جُوب الدغاني – رضي الله عنه – في سفره الصعب المنال المسمى بـ ” النبذة المباركة “.
ولا غرابة فِي ذلك لأنه وارث الرَّحمة المُهداة ظاهرة وباطنة وهَا هي أمُّ المؤمنين سيدتنا عائشة – رضي الله عنها- تقُول لرسُول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم- مشيرةً إلى قِصَر أمِّ المؤمنين صفية بنت حُيي – رضي الله عنها – حسبكَ من صفية هكذا (تعني أنّها قَصيرة)، فماذا قال رسُول الله – صلى الله عليه وسلّم – لعائشة أحبّ امرأة إليه ؟! قال – صلى الله عليه وسلَّم – : (( لقَد قلتِ كلمةً لو مزِجتْ بماءِ البَحر لمَزجتهُ )) أخرجه الترمذي بإسناد صحيح.
فمعَ محبَّته لها – عليه صلوات الله وسلامه – لعائشة لم يتركهَا هملا تخُوضُ فِي عِرض أُختهَا المسلمة وتغتابها. والغيبة – كما نعلم – من أكبر الكبَائر، وأعظم الجَرائر وما أشبه الليلة بالبَارحة !!
ومعلُوم أنَّه كان يمشِي ذات ليلةٍ فَمر بأُناس يغتابُون، فلما أصبحَ أمر بأن يقلِّبَ الأرض فيجعل عَاليها سافلها وسَافلها عَاليها ، ثم أمر بأن يتلُو القُرآن الكريم فِي ذلك المكان. [ وختان سَرين طوبى الجزء الأول، للشيخ الحاج امباكي، ص: 8 ]
ومما ذكره المُؤلف في شدّة كُره الشيخ الخديم – رضي الله عنهما – الغيبة قوله: ” وكان مُسافراً يوما مع بعض تلامذته فلقوا شيخا أوّلَ غدوتهم، حتى دنت القيلولة فلقيهمْ رجلٌ يطلب شخصًا، فقال أحد التلامذة: لقينا أسودَ قصيرًا، فتأوّه الشيخ – رضي الله عنه – وقال للمُريد: أبمثل هَذا تغتابون غَيركم ؟ ارجع حتى تراه واسْتَحْلِلْهُ مما نقَّصته بهِ.
[المنن، 1/136]
ولم يكن الشيخ الخديم – رضي الله عنه – بالدد ولا الدد منه ومما يدلُّ على ذلك أنَّ أحد المُريدين جلس ذات يَوم – عند مجلسه فكان ذلك المُريد يخط بيمينه على الأرض كلمة ( كن فيكون )، فلما رآه الشيخ الخديم قال له: (( من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ثم أمره بأن يكتب هذه العبارات: الكذب حرام، والغيبة حرام، والنميمة حرام. [ منقول من كتاب وختان سرين طوبى مخطوط باللولفية للشيخ الحاج امباكي بن سرين مصطفى حبص امباكي – أطال الله بقاءهما – ].
يقول الشيخ محمد البشير امباكي في كتابه النفيس الماتع في الفَصل الذي بيَّن وفصَّل حياء شيخه ووالده – رضي الله عنهما-: ” كان من حيائه – رضي الله عنه – أنه كان كثيرا ما يقف عَلى إنسان في داره يفسد أو يدخل في محل بالتعدّي، وهو لما يفعل كاره، وإذا عرف الشخص ولم يره هو، يستمر أدراجه خفيا إلى أن يخرج الفاعل، ثم لوجُوب الأمر بالمعروف والنّهي عَن المنكر، خُصوصا في حقّه معهم قد يَجمع الشَّخص مع أشخاص، ثم يعرض تعريضا عاما يفهم المَرء منه إن كانت له أذن، ثم لا يَزيد عَلى ذلك.
أما تجنبه الأعراض حَدث منه ولا حرج، فإنه بلغ من تحذير الغِيبة والنَّميمة مَبلغا لا يتجاسَر معه أحد في الوقُوع فيها، كائنا من كان حتى ما يقال: إنه ليسَ من الغِيبة الحَرام أن تحدث صاحبك بما في شَخص بينكما لا عن قصد غيبة، ولا إظهار منقصة، لا يقرُبُ هو منه ولا يُشافه بنحوه . فالغيبةُ والنَّميمة كثيرًا ما كان يعظم شأنهما ويحذر منهما في خُطبه ورسَائله ووصاياه.
وسَمعته يقُول: ” إنَّ أعراض الأولياء والأنبياء والعلماء العاملين مسمومة، فالتكلُّم فيهم بسُوء كشُرب السُّم النَّاقع “، وكان حديث : (( المُسلم من سَلم المُسلمون من يَده ولسِانه )) [ صحيح البخاري ومسلم ] وحديث: (( مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فليقل خيرا أو ليصمت )) [ صحيح البخاري ومسلم] يُكررهما كثيرا ويذكّر بِهما، وإن أحسَّ من فَحوى الكلام ما يُشير إلى الغِيبة والنّميمة يَزجر ابتداءً عنهُ “. [ ينظر:” منن الباقي القديم في سيرة الشيخ الخديم” للشيخ محمد البشير امباكي بتحقيق الدكتور محمد شقرون، مطبعة المعارف الجديدة، 2012م، ص: 39/1]
وقال العلامة الشِّنقيطيُّ مُحمد بن عبيد الرحمان العلويُّ – رحمه الله تعالى- : ” ومن أخلاقه – حَفظه الله – كظمُ الغيظ والصَّبرُ عَلى البَلاء والشِّدة، وما أتاهُ يوما أحدٌ بنميمة إلا وغَضبَ عَليه أشدّ الغضب وزجَره عَن ذلكَ. وكانَ يَشهدُ كلَّ سَاعة أنَّهُ عفا وغَفَر لكلّ أحد اغتَابهُ. وكان كلُّما نزلت مُصيبةٌ أوبَلاء أظهرَ السُّرورَ والفرحَ حتى يظنُّ النَّاسُ أنَّه هُو المتسبّبُ في ذلك، لما ورَد فِي القرآن والحَديث من التَّرغيبِِ فِي ذلكَ والوعدِ بالخَيرِ، وما زالتِ الأكابرُ من الحُكماء وغَيرهم يُوصُون عَلى ذلك ويرغبُون فيه. [ النفحات المسكية المحققة، ص: (186)]
تحذيرُ أتباعِه من الغِيبة
ولا يخفَى عَلى ذي بَصيرة ثاقبة أنَّ شيخُنا الخديم – رضي الله عنه – كان يحذر أتباعه الكرام كلَّ التحذير من الغِيبة لِخطُورتها، كما قال:
اجتَنبُوا الغيبةَ وهْيَ أقبحُ = من أكلِ جِيفة وذا مُتَّضِحُ
واجتنبُوا الحسَدَ وهْو يُذهبُ = بِالبركاتِ كلِّها فتَذهبُ
واجتنبُوا الكِبرَ فإنَّ الكِبرَا = يَجرُّ خَفضًا أذى وشَرَّا
[ المجموعة الكبرى، ص: 369]
وقال أيضا:
الأكلَ قلِّل والمنامَ يَا مُريدْ = ولا تُخالطِ الذي ليسَ يفيدْ
واجتنبِ الغِيبة إن رُمت الوصُولْ= والذّكر لازمْ فِي المَبيتِ والمقيلْ
تمنعُ مِن حَلاوةِ الطَّاعاتِ = كثرةُ أكل الشَّخصِ فِي الأوقاتِ
تطردُ يُمنَ العُمر كثرةُ المَنامْ = وخُلطةُ النَّاسِ أذى يوم القيامْ
لأنها لدَى الإلهِ تَمنعْ = مِن حُجَّة يوم القيامةِ تنفعْ
وكثرةُ الغِيبةِ مِن غَيرِ متابْ = يخرجُ توحيد الذي سِواهُ عابْ
يعنِي: أنَّ أربعَة أشياء تَمنعُ من أربعة أشياء:
الأولُ: كَثرةُ الأكلِ فَإنَّها تمنعُ مِن لذة الطاعة.
والثاني: كَثرة النَّوم فَإنَّها تمنعُ من بَركة العُمر.
والثَّالث: كَثرةُ مُخالطة النَّاس فإنَّها تمنعُ صاحبَها من أن تكون له حُجّة عند الله.
والرَّابع: الوقُوع فِي أعراض النَّاس فإنه من أكثر الغِيبة لا يخرجُ من الدُّنيا على التوحيدِ . وقال السَّيد إبراهيم بن أدهم – رضي الله عنه وعَن أمثاله -: ” إنه خدمَ ثلاثَ مائةِ وليّ وكلّ منهم يُوصيه بهذه الأربعةِ فَاحفظُوها” اه. [ ينظر: “المجموعة الصُّغرى”، ص: (19)]
وقال – رضي الله عنه كما هداهُ، وجعله خير مرزوق – : ” …. ولا تظلمُوا ربَّكم ولا تظالمُوا فِي أنفسكم وظُلمُ الربِّ تركُ امتثال أمره واقتحامُ نهيه، واللهُ غنيٌّ وظُلمه يُوجبُ ردَّ العمل – والعياذ بالله تعالى -، وظلمُ الحقّ كغيبةِ غيركَ وسبّه وشَتمه من غيرِ حقّ شرعي وهو فقير، فَإن ظلمته يؤخذُ لهُ من حسناتكَ إن كانت عندكَ حَسنات وإلا يُؤخذُ مِن سَياته لسَيئاتكَ “. [ ينظر: ” المجموعة الصُّغرى”، ص: (31)]
وقال: ” ليَعلم كلّ من وقَف على هَذا الكلام أنه صادرٌ من ناصِح لهُ أتركُوا الغِيبةَ، وليكُن الاشتغالُ بالتحرُّز والفِرار من العُيوب بَدلا من ذكر عُيوب المسلمين والمُسلمات، وليَسلم المُسلمون والمُسلمات من أذَى ألسنتِكم كما سَلموا وسَلمنَ من أذى أيدِيكُم …”. [ المجموعة الصُّغرى، ص: (64)، والكبرى، ص: (406- 407)]
وقال في قصيدة مقيّدة بـ” أعوذ بالله”
اجتَنبِ الكَذبَ والرِّياءَا = ولازمِ الحَقَّ تحُزْ ضِياءَا
ذُبَّ بتَركِ غِيبَةٍ عَنْ نفسِكَا = إنْ تَجتنِبهَا تعلُ فَوقَ جِنسِكَا
الغِيبةُ في كتاباتِ الشَّيخ الخديم – رضي الله عنه –
أعوذ بالله، بسم الله، إن وليي الله، وما توفيقي إلّا بالله، والصلاة والسلام على رسُول الله.
أما بعدُ: فهَذه رِسالة ونُكتة لطيفةٌ مُوجهة إلى سَائر الشَّباب تَحريتُ جَمعها هُنا ليَستَفيدَ منها الإخوةُ الفُضلاء والأخواتُ الفُضلياتُ وَعُنوانها ” الغِيبة فِي كتاباتِ الشَّيخ الخديم – رضي الله عنه – ” واختَرنا هَذه الرذيلة لانتِشارها بين الأفراد والمُجتمعاتِ وهي مِن أفاتِ اللسَان التي تُفضي إلى إشعالِ نَار الفتَن والعَداوة والبَغضاء وإشاعة الفَحشاء فِي المُجتمع ناسين أنَّ الإسلام الحَنيف حرَّمها وشبَّه المغتاب الذي يتناول أعراض النَّاس ويكشف عن عُيوبهم كَمن يتناولُ لَحم أخيه ميتا، وصاحبها بعيدٌ كلّ البُعد عَن كلِّ خير محروم من كلّ نعمة، وندعو الله أن يُجنِّبنا مِن هَذا الدَّاء الخَطير ويُوفقنا وإيَّاكم إلى طُرق الصَّواب، ويَرزقنا في الآخرة خَير ثواب.
وهَذه الرِّسالة تَشتملُ عَلى عِدّة عناصر مُهمة وسَنتعرف سَويا من خلالهِ بعد المقدّمة عَلى هَذه النقاط التالية:
حَقيقة الغِيبة عند العبد الخديم – رضي الله عنه –
حُكمُها عِند العبد الخَديم – رضي الله عنه –
أخبارُ تَشدُّده فِي أمر الغيبةِ – رضي الله عنه –
تحذيرُ أتباعِه مِن الغِيبة
خُطُورتُها عِند العبد الخديم – رضي الله عنه –
كان أبو المحامد – رضي الله عنه – يهدي الجهولَ ويرشدُ الحَيران و يطير بِجَناحَي الخَوف والرَّجاء يُحذِّر جميع أتباعه من الغيبة والنَّميمة وأحرى الكذب، ويحرضهم عَلى ملازمة الصِّدق وحِفظ اللسان والاعتصَام بالسُّنة، وكان لا يجاملُ أحدا فِي دين الله – جلَّ جلاله – لا تمنعه محبَّته لأيّ شخص من أن يكون مُنصفا.
حَقيقة الغِيبة عند الشيخ الخديم – رضي الله عنه – :
يقُول الشيخ الخديم – رضي الله عنه- في منظومته” الجَوهر النّفيس” في تعريف الغِيبةِ وقَد أحسن وأجادَ:
حَقيقة الغِيبة دُون رَيبِ = ذِكرُك حَالُ الشَّخصِ بَعد الغَيبِ
أو حَالَ ما به تعلَّق بِما = يَكره لو سَمعه فلتَعلما
أما إذا ذَكرتَه بِكلِّ مَا = لم يَكُ حَالَه فبُهتان سَما
ومنعُوا ذلك أيضًا فِي الحَضرْ = لأنهُ أكثرُ عَيبا وضَررْ
ثم استَطرد قائلا بعد هَذه الأبيات:
إن الذِي قَال بِغَير ذَا وَهِم = وغَرَّه مفهومُه وما فَهمْ
وحَقيقةُ الغِيبة: ذِكركَ أخاك بمَا فيهِ مما يكرهُ أنْ لَو سَمعَه. [ ينظر وصيته المسماة” فتح المنان في جواب عَبد الرحمان” ضمن “المجموعة الكبرى”، ص: (35)]
وفي هذا المعنى ورد الحديث عن أَبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ رسُولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: (( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟)) قالوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِما يَكْرَهُ)) قِيلَ: أفَرَأيْتَ إنْ كَانَ في أخِي مَا أقُولُ؟! قَالَ: (( إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فقد اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ )). [رواه مسلم، حديث (2589)، والترمذي، حديث (1934)]. يعني: قلت فيه بهتانا والبُهتان أعظم الكذب.
في هَذا الحديث: أن حَقيقة الغِيبة ذكر الإنسان بما فيه من المكُروه.
ويتضمن هَذا التعريف الذي أوردهُ أبُو المَحامد قول الشَّيخ سيدي المختار الكنتيّ – رضي الله عنه وأرضاه عنَّا، وجَعلنا ممن تولَّاه – كتاب ” نَصيحة البتِّ لجَميعِ كنتَ “: ” وأما حَقيقتُها: ذكرُ شَخص أخاهُ بما يكرهُ خلفهُ مما هو فيه وإن لم يَكُن فيه فبُهتانٌ، وكذلك لو ذكرتَ دابَّته أو ثوبَه أو دارهُ أو شَيئا مما يتعلَّق بهِ مما يكرهُ “. [ ينظر وصيته المسماة” فتح المنان في جواب عَبد الرحمان” ضمن “المجموعة الكبرى”، ص: (35)]
حُكمها فِي الإسلام وعند العبد الخديم – رضي الله عنه –
الغِيبةُ مُحرمة شَرعاً، وفي القرآن ذمُّها وتشبيهُها بأكلِ لحم الميتةِ، ومن الأدلة عَلى ذلك قول الله جل وعلا: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] يعني: كما تكرهُون أكل لحم أخيكم ميتا فكذلك اجتنبُوا ذكرهُ بالسُّوء غالبًا.
قال ابن عباس – رضي الله عنه -: ” إنما ضرب هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حَرام في الدّين ومُستقبحة في النفوس “.
وقال القاضي أبو يعلى عَن تمثيل الغيبة بأكل الميت: وهَذا تأكيد لتحريم الغيبة ، لأن أكل لحم المسلم محظور، ولأن النفوسَ تعافه من طَريق الطبع، فينبغِي أن تكون الغِيبة بمنزلته في الكراهة.
قوله: ((فَكرهتمُوهُ)) قال الفراء: أي فقد بغِّض إليكم. وقال الزجاج: والمعنى كما تكرهُون أكل لَحم ميتاً، فكَذلك تجنبوا ذكره بالسُّوء غائباً .
وقد أشار إلى ذلك شيخُنا الخديم – رضي الله عنه – بقوله في منظومته “الجوهر النَّفيس”:
حَسبُكَ فيهَا أنَّ فِي القُرآنِ = تشْبِيهَهَا بمَيتَة الإنسَانِ
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ – فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [سورة الحجرات آية: 12] قَالَ : نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَمَّ مَعَ كُلِّ رَجُلَيْنِ غَنِيَّيْنِ فِي السَّفَرِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَلِيلَ الشَّيْءِ؛ لِيُصِيبَ مَعَهُمَا مِنْ طَعَامِهِمَا، وَيَتَقَدَّمَهُمَا فِي الْمَنَازِلِ، وَيُهَيِّئَ لَهُمَا الْمَنْزِلَ وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا. وَقَدْ كَانَ ضَمَّ سَلْمَانَ إِلَى رَجُلَيْنِ، فَنَزَلَا مِنَ الْمَنَازِلِ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ يُهَيِّئْ لَهُمَا شيئًا، فَقَالَا لَهُ اذْهَبْ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَسَلْ لَنَا فَضْلَ إِدَامٍ. فَانْطَلَقَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ حِينَ غَابَ عَنْهُمَا: إِنَّهُ لَوِ انْتَهَى إِلَى بِئْرِ كَذَا لَقَلَّ الْمَاءُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَبَلَّغَهُ الرِّسَالَةَ قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” قُلْ لَهُمَا قَدْ أَكَلْتُمَا الْإِدَامَ ” فَأَتَاهُمَا فَأَخْبَرَهُمَا فَأَتَيَاهُ فَقَالَا: مَا أَكَلْنَا مِنْ إِدَامٍ ! فَقَالَ: ” إِنِّي لَأَرَى حُمْرَةَ اللَّحْمِ فِي أَفْوَاهِكُمَا ” فَقَالَا: لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا شَيْءٌ، وَمَا أَكَلْنَا لَحْمًا الْيَوْمَ، فَقَالَ لَهُمَا: ” إِنَّكُمَا اغْتَبْتُمَا أَخَاكُمَا “. ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: ” أَتُحِبَّانِ أَنْ تَأْكُلَا لَحْمًا مَيِّتًا؟ ” فَقَالَا لَا. فَقَالَ لَهُمْ : ” فَكَمَا كَرِهْتُمَا أَنْ تَأْكُلَا لَحْمًا مَيِّتًا فَلَا تَغْتَابَا؛ فَإِنَّهُ مَنِ اغْتَابَ أَخَاهُ فَقَدْ أَكَلَ لَحْمَهُ “. فَنَزَلَتْ : { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [ سُورة الحُجرات آية: 12 ].
[ينظر: “تنبيه الغافلين بأحاديث سيّد الأنبياء والمُرسلين”، المؤلف: أبو الليث السَّمرقنديّ، حققه: محمد علي، و شريف عبد الله، الناشر: دار ابن الهيثم، الطبعة الأولى، 2006 م، 1427ه ، ص: (87)، وقد أورده الغزالي في إحياء علوم الدّين (3/228)]
ومما يدلُّ عَلى حُرمة الغِيبة قوله في منظومته ” مغالق النيران”:
وَحرَّم المنتقِمُ القهارُ = رذائلاً بها تصُول النَّارُ
قَد حَرَّم الكذبَ والغيبةَ معْ = نَميمةٍ كِبْرًا وعُجبًا قَد يقعْ
ثم رياءً سُمعةً بُغضًا حَسَدْ = رؤيةَ فضلٍ مطلقًا عَلى أحدْ
والهمزَ واللمزَ كذاكَ العَبثُ = سُخريةً زنًى كذاكَ رفثُ
مع أجنبِيةٍ كنَظرة كَذا = بِصَوتها قَد حَرَّم التلذُّذا
وهَذه الأبيات السَّالفة عَين قول الإمام الأخضريّ – رحمه الله تعالى – : ” وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ، وَالْغِيبَةُ، وَالنَّمِيمَةُ، وَالْكِبْرُ، وَالْعُجْبُ، وَالرِّيَاءُ، وَالسُّمْعَةُ، وَالْحَسَدُ وَالْبُغْضُ، وَرُؤْيَةُ الْفَضْلِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْهَمْزُ وَاللَّمْزُ، وَالْعَبَثُ، وَالسُّخْرِيَةُ، وَالزِّنَا، وَالنَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، وَالتَّلَذُّذُ بِكَلَامِهَا “. [ مختصر الأخضري، ص: (2) النسخة التي نشرتها مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، بميدان الأزهر]
هَذا بالإضافة إلى ذلك أنَّ شَيخنا الخديم – رضي الله عنه – قال في منظومته ” الجوهر النفيس” مُبيِّنا ما يحرمُ على المُكلّفِ:
ويَحرُم الكِبرُ عَليه والرِّيا = وكذبٌ نميمةٌ فلتَدريَا
إلى أن يقُول:
والعُجبُ والغِيبَة والبُغضُ الحسَدْ = أيضًا وسُمعةٌ نَهى عَنها الصَّمدُ
وقال صاحبُ التَّصانيف العَديدة والمناقب الحَميدة في منظومته” الجوهر النَّفيس”:
وغِيبةُ المُسلمِ في قَول الخَبيرْ = أقبحُ مِن أكْلكَ جِيفةَ الحَميرْ
وقصَّةُ المرجُومِ والاِثنينِ = حَسبُكَ زاجرًا بِغيْرِ مَينِ
مَبدأُها أنَّ رسُولَ اللهِ = عَليه أزكَى صَلواتِ اللهِ
قَد كان ذاهبًا وجاءَه رجُلْ = فَقال: قدْ هلكتُ يا خيرَ الرسُلْ
قال لهُ: لِمَ؟ قَال إنِّي = زَنيتُ مُحْصِنا بِعَمْدٍ مِنِّي
قال لهُ: ادعُ النَّاسَ يَرجُمُوكَ، ثُمْ = دَعاهُم فقتلُوهُ إذْ يَؤُمْ
وبعدُ ذَا تبِعَهُ شَخْصانِ = للرَّجُل المَرجُومِ يغتَابانِ
حتَّى أتوْا جِيفةَ عَيْرٍ فَوقفْ = وقَال: يا ذانِ كُلاَ ذِي وحَلَفْ
إنِّي أرَى يَجُرُّ فِي الْجِنانِ = ثِيابَهُ فافْتَضحَ الشَّخْصانِ
يُشير إلى قصَّة الشَّخصين اللذين كانا يغتابانِ المرجُوم مَاعِز بن مالك الأسلمي – رضي الله عنه – ما يدل عَلى حُرمة الغِيبة، و التي أخرجها أبو داود في سنه، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك، ص: 148، 4428] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الصَّامِتِ ابْنَ عَمِّ أَبِى هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ جَاءَ الأَسْلَمِىُّ إِلَى نَبِىِّ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – فَأَقْبَلَ فِى الْخَامِسَةِ فَقَالَ « أَنِكْتَهَا؟ ». قَالَ نَعَمْ، قَالَ: « حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِى ذَلِكَ مِنْهَا ». قَالَ نَعَمْ، قَالَ: « كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِى الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءُ فِى الْبِئْرِ ؟» قَالَ نَعَمْ، قَالَ: « فَهَلْ تَدْرِى مَا الزِّنَا؟» قَالَ نَعَمْ، أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِى الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ حَلاَلاً. قَالَ: « فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟» قَالَ أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِى. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَسَمِعَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِى سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ، فَقَالَ « أَيْنَ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ؟» فَقَالاَ : نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ « انْزِلاَ فَكُلاَ مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ ». فَقَالاَ: يَا نَبِىَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ « فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ. وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهُ الآنَ لَفِى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْقَمِسُ فِيهَا».
وقال شَيخنا الخديم في منظومته ” الجوهر النَّفيس”:
وقَال قِيئِي خَيرُ الأنبيَا = تَكرُّرا لنُخبةِ النِّسَا
لَمَّا لِمَرأةٍ أتَتْهَا قَالتْ = هَذِي طَويلٌ ذيْلُهُا فَقاءتْ
فسَقَطتْ مُضغةُ لحْمٍ فَحَلفْ = صَلَّى عليه اللهُ مَا حَاز شَرفْ
بأنَّها لوْ هَضَمتْ لا بُدَّ مِنْ = دُخُولِها النَّارَ إذِ الموتُ يَعِنْ
ولا تُفيدُهَا لدَى الجَليلْ = نِسبتُها ثَمَّ إلى الرَّسُولْ
كأنه يُشِير إلى الحَديث الذي أوردهُ الشيخ المختار – رضي الله عنه وأرضاه عنَّا، وجَعلنا ممن تولَّاه – في كتابه ” نَصيحة البتِّ لجَميعِ كنتَ” : ” ومنهُ قَولُه – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِعَائِشَةَ – قِيئِي قِيئِي قِيئِي لَمَّا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأةَ لَطَوِيلَةُ الذَّيْلِ، فَاسْتقَاءَتْ فَقَاءَتْ مُضْعَةَ لَحْمٍ، فَقَالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْمُتِّ وَهِيَ فِي بَطْنِكِ لدَخَلْتِ النَّارَ وَلاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا”. [ لم أقف على أصل له بهذا اللفظ ] [ ينظر وصيته المسماة” فتح المنان في جواب عَبد الرحمان” ضمن “المجموعة الكبرى”، ص: (35)]
وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – أنَّهَا قَالَتْ: ” لاَ يَغْتَابُ مِنْكُنَّ أَحَدٌ أَحَدًا، فَإِنِّي قُلْتُ لامْرَأَةٍ مَرَّةً وَأَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : إِنَّ هَذِهِ لَطَوِيلَةُ الذَّيْلِ، فَقَالَ: ” الْفُظِي الْفُظِي يا عَائشَةَ ” فَلَفَظْتُ بِضْعَةً مِنْ لَحْمٍ “. أخرجهُ ابن أبي الدنيا وابن مردويه في التفسير.
أخبارُ تَشدُّده فِي أمر الغيبةِ – رضي الله عنه –
ومن أخبَار تَشدّده – رَحِمَهُ اللهُ وَجَعَلَهُ مِنْ أَهْلِ فِرْدَوْسِهِ الأَعْلَى – فِي أمر الغِيبة ما رواه الشيخ محمد الأمين جُوب الدَّغاني: “… ووقعَت لبَعض الزائِرات أنَّها دخلتْ على أمهاتِ عيَال خَديم المُصطفى غوثِ زمانه وأعجُوبة أوانهِ – رضي الله عنه وقدس روحه ونفعنا بمعَارفه – فأكرمْن مَثواها، وجلست تتحَدَّث معهنَّ ثم أفرطتْ فِي حَديثها بمَسمع من هَذا الشيخِ الوَقور الجليلِ فلما بالغَت أشدَّ المُبالغة في كثرةِ الاغتيَاب والأمّهاتُ سَاكتات لما عَلمن من كُره الشيخ الخَديم للغيبَة واستِحيَائهنَّ مِن مَنعها، قَام الشيخ فنَهرهُنَّ طُرا فَهربْن، فأمر بنَار وحَطبٍ وحَرق الحَصير الذي كانت عليه المُغتابة فبقيَت آية ومَوعظة لكلِّ مَن بلغتُه هَذه الواقعة “. [ انتهت القصة باختصار من كتاب النبذة المباركة، للدغاني، مخطوط]
ولقد كفانَا هذه القصة المؤثرة واعظا ودليلا ساطعا وحجَّة واضحةً عَلى شدّة تحذيره لأتباعه من الغِيبةِ وقد أوردها الشيخ محمد الأمين جُوب الدغاني – رضي الله عنه – في سفره الصعب المنال المسمى بـ ” النبذة المباركة “.
ولا غرابة فِي ذلك لأنه وارث الرَّحمة المُهداة ظاهرة وباطنة وهَا هي أمُّ المؤمنين سيدتنا عائشة – رضي الله عنها- تقُول لرسُول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم- مشيرةً إلى قِصَر أمِّ المؤمنين صفية بنت حُيي – رضي الله عنها – حسبكَ من صفية هكذا (تعني أنّها قَصيرة)، فماذا قال رسُول الله – صلى الله عليه وسلّم – لعائشة أحبّ امرأة إليه ؟! قال – صلى الله عليه وسلَّم – : (( لقَد قلتِ كلمةً لو مزِجتْ بماءِ البَحر لمَزجتهُ )) أخرجه الترمذي بإسناد صحيح.
فمعَ محبَّته لها – عليه صلوات الله وسلامه – لعائشة لم يتركهَا هملا تخُوضُ فِي عِرض أُختهَا المسلمة وتغتابها. والغيبة – كما نعلم – من أكبر الكبَائر، وأعظم الجَرائر وما أشبه الليلة بالبَارحة !!
ومعلُوم أنَّه كان يمشِي ذات ليلةٍ فَمر بأُناس يغتابُون، فلما أصبحَ أمر بأن يقلِّبَ الأرض فيجعل عَاليها سافلها وسَافلها عَاليها ، ثم أمر بأن يتلُو القُرآن الكريم فِي ذلك المكان. [ وختان سَرين طوبى الجزء الأول، للشيخ الحاج امباكي، ص: 8 ]
ومما ذكره المُؤلف في شدّة كُره الشيخ الخديم – رضي الله عنهما – الغيبة قوله: ” وكان مُسافراً يوما مع بعض تلامذته فلقوا شيخا أوّلَ غدوتهم، حتى دنت القيلولة فلقيهمْ رجلٌ يطلب شخصًا، فقال أحد التلامذة: لقينا أسودَ قصيرًا، فتأوّه الشيخ – رضي الله عنه – وقال للمُريد: أبمثل هَذا تغتابون غَيركم ؟ ارجع حتى تراه واسْتَحْلِلْهُ مما نقَّصته بهِ.
[المنن، 1/136]
ولم يكن الشيخ الخديم – رضي الله عنه – بالدد ولا الدد منه ومما يدلُّ على ذلك أنَّ أحد المُريدين جلس ذات يَوم – عند مجلسه فكان ذلك المُريد يخط بيمينه على الأرض كلمة ( كن فيكون )، فلما رآه الشيخ الخديم قال له: (( من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ثم أمره بأن يكتب هذه العبارات: الكذب حرام، والغيبة حرام، والنميمة حرام. [ منقول من كتاب وختان سرين طوبى مخطوط باللولفية للشيخ الحاج امباكي بن سرين مصطفى حبص امباكي – أطال الله بقاءهما – ].
يقول الشيخ محمد البشير امباكي في كتابه النفيس الماتع في الفَصل الذي بيَّن وفصَّل حياء شيخه ووالده – رضي الله عنهما-: ” كان من حيائه – رضي الله عنه – أنه كان كثيرا ما يقف عَلى إنسان في داره يفسد أو يدخل في محل بالتعدّي، وهو لما يفعل كاره، وإذا عرف الشخص ولم يره هو، يستمر أدراجه خفيا إلى أن يخرج الفاعل، ثم لوجُوب الأمر بالمعروف والنّهي عَن المنكر، خُصوصا في حقّه معهم قد يَجمع الشَّخص مع أشخاص، ثم يعرض تعريضا عاما يفهم المَرء منه إن كانت له أذن، ثم لا يَزيد عَلى ذلك.
أما تجنبه الأعراض حَدث منه ولا حرج، فإنه بلغ من تحذير الغِيبة والنَّميمة مَبلغا لا يتجاسَر معه أحد في الوقُوع فيها، كائنا من كان حتى ما يقال: إنه ليسَ من الغِيبة الحَرام أن تحدث صاحبك بما في شَخص بينكما لا عن قصد غيبة، ولا إظهار منقصة، لا يقرُبُ هو منه ولا يُشافه بنحوه . فالغيبةُ والنَّميمة كثيرًا ما كان يعظم شأنهما ويحذر منهما في خُطبه ورسَائله ووصاياه.
وسَمعته يقُول: ” إنَّ أعراض الأولياء والأنبياء والعلماء العاملين مسمومة، فالتكلُّم فيهم بسُوء كشُرب السُّم النَّاقع “، وكان حديث : (( المُسلم من سَلم المُسلمون من يَده ولسِانه )) [ صحيح البخاري ومسلم ] وحديث: (( مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فليقل خيرا أو ليصمت )) [ صحيح البخاري ومسلم] يُكررهما كثيرا ويذكّر بِهما، وإن أحسَّ من فَحوى الكلام ما يُشير إلى الغِيبة والنّميمة يَزجر ابتداءً عنهُ “. [ ينظر:” منن الباقي القديم في سيرة الشيخ الخديم” للشيخ محمد البشير امباكي بتحقيق الدكتور محمد شقرون، مطبعة المعارف الجديدة، 2012م، ص: 39/1]
وقال العلامة الشِّنقيطيُّ مُحمد بن عبيد الرحمان العلويُّ – رحمه الله تعالى- : ” ومن أخلاقه – حَفظه الله – كظمُ الغيظ والصَّبرُ عَلى البَلاء والشِّدة، وما أتاهُ يوما أحدٌ بنميمة إلا وغَضبَ عَليه أشدّ الغضب وزجَره عَن ذلكَ. وكانَ يَشهدُ كلَّ سَاعة أنَّهُ عفا وغَفَر لكلّ أحد اغتَابهُ. وكان كلُّما نزلت مُصيبةٌ أوبَلاء أظهرَ السُّرورَ والفرحَ حتى يظنُّ النَّاسُ أنَّه هُو المتسبّبُ في ذلك، لما ورَد فِي القرآن والحَديث من التَّرغيبِِ فِي ذلكَ والوعدِ بالخَيرِ، وما زالتِ الأكابرُ من الحُكماء وغَيرهم يُوصُون عَلى ذلك ويرغبُون فيه. [ النفحات المسكية المحققة، ص: (186)]
تحذيرُ أتباعِه من الغِيبة
ولا يخفَى عَلى ذي بَصيرة ثاقبة أنَّ شيخُنا الخديم – رضي الله عنه – كان يحذر أتباعه الكرام كلَّ التحذير من الغِيبة لِخطُورتها، كما قال:
اجتَنبُوا الغيبةَ وهْيَ أقبحُ = من أكلِ جِيفة وذا مُتَّضِحُ
واجتنبُوا الحسَدَ وهْو يُذهبُ = بِالبركاتِ كلِّها فتَذهبُ
واجتنبُوا الكِبرَ فإنَّ الكِبرَا = يَجرُّ خَفضًا أذى وشَرَّا
[ المجموعة الكبرى، ص: 369]
وقال أيضا:
الأكلَ قلِّل والمنامَ يَا مُريدْ = ولا تُخالطِ الذي ليسَ يفيدْ
واجتنبِ الغِيبة إن رُمت الوصُولْ= والذّكر لازمْ فِي المَبيتِ والمقيلْ
تمنعُ مِن حَلاوةِ الطَّاعاتِ = كثرةُ أكل الشَّخصِ فِي الأوقاتِ
تطردُ يُمنَ العُمر كثرةُ المَنامْ = وخُلطةُ النَّاسِ أذى يوم القيامْ
لأنها لدَى الإلهِ تَمنعْ = مِن حُجَّة يوم القيامةِ تنفعْ
وكثرةُ الغِيبةِ مِن غَيرِ متابْ = يخرجُ توحيد الذي سِواهُ عابْ
يعنِي: أنَّ أربعَة أشياء تَمنعُ من أربعة أشياء:
الأولُ: كَثرةُ الأكلِ فَإنَّها تمنعُ مِن لذة الطاعة.
والثاني: كَثرة النَّوم فَإنَّها تمنعُ من بَركة العُمر.
والثَّالث: كَثرةُ مُخالطة النَّاس فإنَّها تمنعُ صاحبَها من أن تكون له حُجّة عند الله.
والرَّابع: الوقُوع فِي أعراض النَّاس فإنه من أكثر الغِيبة لا يخرجُ من الدُّنيا على التوحيدِ . وقال السَّيد إبراهيم بن أدهم – رضي الله عنه وعَن أمثاله -: ” إنه خدمَ ثلاثَ مائةِ وليّ وكلّ منهم يُوصيه بهذه الأربعةِ فَاحفظُوها” اه. [ ينظر: “المجموعة الصُّغرى”، ص: (19)]
وقال – رضي الله عنه كما هداهُ، وجعله خير مرزوق – : ” …. ولا تظلمُوا ربَّكم ولا تظالمُوا فِي أنفسكم وظُلمُ الربِّ تركُ امتثال أمره واقتحامُ نهيه، واللهُ غنيٌّ وظُلمه يُوجبُ ردَّ العمل – والعياذ بالله تعالى -، وظلمُ الحقّ كغيبةِ غيركَ وسبّه وشَتمه من غيرِ حقّ شرعي وهو فقير، فَإن ظلمته يؤخذُ لهُ من حسناتكَ إن كانت عندكَ حَسنات وإلا يُؤخذُ مِن سَياته لسَيئاتكَ “. [ ينظر: ” المجموعة الصُّغرى”، ص: (31)]
وقال: ” ليَعلم كلّ من وقَف على هَذا الكلام أنه صادرٌ من ناصِح لهُ أتركُوا الغِيبةَ، وليكُن الاشتغالُ بالتحرُّز والفِرار من العُيوب بَدلا من ذكر عُيوب المسلمين والمُسلمات، وليَسلم المُسلمون والمُسلمات من أذَى ألسنتِكم كما سَلموا وسَلمنَ من أذى أيدِيكُم …”. [ المجموعة الصُّغرى، ص: (64)، والكبرى، ص: (406- 407)]
وقال في قصيدة مقيّدة بـ” أعوذ بالله”
اجتَنبِ الكَذبَ والرِّياءَا = ولازمِ الحَقَّ تحُزْ ضِياءَا
ذُبَّ بتَركِ غِيبَةٍ عَنْ نفسِكَا = إنْ تَجتنِبهَا تعلُ فَوقَ جِنسِكَا
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin