الأستاذ سرين
ين امباكي جوب خضر
الخِدمةُ مفهومُها وفضلُها ومجالاتها
لا يشكُّ أحد أنَّ الخِدمةَ مَبدأ وطيدٌ من أهم مَبادئ الطريقة المُريدية التي تَرتكر عليها دَعائمها وهي من مميزات المُريدين في جَميع الأقطار وبِها أنجزُوا ما أنجزوا من الانجازات القيمة التي لا تُعدُّ ولا تُحصى.
مفهُوم الخدمة
الخدمة مصطلح شائع في الأدب الصوفي عموما وفي الأدب المريدي على وجه الخصوص.
ويعني هذا المصطلح – من بين ما يعني- إيصال النفع إلى المسلم ابتغاء وجه الله، أويقصد بها: إيصال النفع إلى العبادات إبتغاء مرضات الله تعالى. أو – بعبارة أكثر شمولا – النشاط الذي يقوم به الشخص لنيل مرضاة الله أو بدافع معنوي آخر لا لمجرد عائد مادي، يرجع إلى القائم بالنشاط [1]. وهي في بعدها الفلسفي “كل حركة فاعلة ذات قيمة معنوية قصدية تؤدى في الخطاب الإنساني تجاه الكون والحياة شكرا لله في أريحية العبودة الحقة [2]“.
والمصطلح الحديث الذي يرادف الخدمة هو العمل التطوعي الذي أصبح له دور بارز في علاقة الأفراد بأوطانهم وفي العلاقات بين شعوب العالم.
وتعني الخدمة أيضا: القيام بمصالح العباد الدنيوية والدينية نيابة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وهي خِصلة حميدة تحلّى بها الشيخ نفسه قبل أن يدعُو إليها غيره، وها هو ذا يتشرف بلقب خديم الرسول حيث يقول في (مفاتح البشر الكبرى):
سَمَّيتني قطعًا بعبدِك الخَديم = يا من يقُود لِي بشاراتٍ تدومْ
وقال النجم الثاقب وهو يُوضّح لنا كونه عبد الله وخديمَ رسول الله – صَلوات الله عليه وسلامه – في قصيدته ” فتح الفتاح في مدح المفتاح”:
هبْ لي يا ربِّ بجاههِ العظيم = كونِيَ له هُنا وفي غد خَديم
وقال أيضا في قصيدة مطرزة بـ” محمّد المعظم “:
درجتِي كونيَ عبد الله = خديمَ عبده ابنِ عبد الله
دعوتُ ربِّي ودُعائيَ يُجيب = كونِيَ عبدَ اللهِ خادم الحَبيب
وقال أيضا في قصيدة (نور الدارين في خِدمة الحامي عن النارين):
واشهَد لي اليومَ بكونِي عبدِكا = خديمَه عند جميعِ جُندكا
وقال أيضا في قصيدته (أطاب لي الممر كالأوطان):
رضيتُ عمَّن جادَ لي بكونِي = عبدًا له خديمَ خير الكونِ
وقال في (مفاتح البشر الكبرى):
جعَلتنِي عبدَ الإلهِ وخَديم = رسُولك الذي السيادةُ تَدوم
وقال في قصيدة مطرزة بـ” لا إله الله محمَّد رسول الله “:
دَرى الورى أنَّني عَبد الله = خَديم عَبدهِ ابن عبدِ الله
وقال في قصيدة مقيدة بـ(يوم عرفة بلسَش):
سَعادتي بغير محو كُتبت = وكونيَ العبدَ الخديمَ قد ثبت
وقال أيضا في قصيدته المقيَّدة بـ(الله):
الله قد جعَلني خديمًا = للمُصطفى الذِي حَوى التقديما
وقال في قصيدة مقيدة بحروف ( الله محمّد غيري):
غاب مقامِي عن سِوى الباقي القدِيم = وإنَّني عبدٌ خديم لا يَريم
وقال في قصيدة مقيدة بحروف ” صفر”:
فرَّحنِي الجميلُ تفريحاً يدوم = بأنني عبدٌ له خيرُ خديم
ولسنا بمبالغين إذا قلنا بأنه حجِي بالسَّبق في مجال الخدمة والمحبة بلا شك ولا ارتياب لمن صُفى قلبه ونُزع منه الغل والحقد، كما قال الشاعر البارع السَّالم الموريتاني ابن حنبل – رضي الله عنه – :
يا من يُحاول شأوَ الشيخ إنَّ له = شأوًا يفوقُ الورى إدراكُ مضماره.
[ ينظر: محبَّة الشَّيخ الخدِيم للنَّبي الإكليل الهُمَام العظيم، لكاتب هذا البحث ]
مَراحل الخِدمة في الفكر الخديمي
والخِدمة، فِي تطوّر فكر الشيخ أحمد بمبا، مرت بمراحل ثلاث نوجزها فيما يلي:
مرحلةُ الإضمَار (1301هـ/1883م 1311هـ/ 1893/1894م): وهي فترة ولادة الفكرة، أي نيّة تَخصيص الخِدمة للرسُول – صلى الله عليه وسلّم – دون غيره.
وأظهَر الخِدمة عام جَيسش = وقَلبه أضمرها من أسشِ
مرحلةُ البيعةِ (1311هـ/1893- 1894م): وهو العام الذي عقد بيعة الخِدمة مع الرسُول – صلى الله عليه وسلّم – ، كما قال في قصيدتهِ ” فتوح المكرّم في أمداحِ المُكرّم “:
أبايِعُ اليومَ الرسُول المُصطفَى = بِخدمَة وأسألُ اللهَ الوَفا والجدير بالتَّسجيلِ هُنا، أن الشيخ أحمد بامبا فِي إبرامه هَذا العقد قد أحدثَ فِي الفكر الصُّوفي ثورية انقلابية لم يسبق لها مثيل فِي التاريخ الأفريقي ككلّ؛ وذلك لما قام به – وهو الرَّجل الأسود – مِن قطيعة عِرفانية مع شيُوخ زمانه وتَخصيص الخِدمة للرسُول – صلى الله عليه وسلّم – دُون غيره. فهو بهذا، أول سُوداني – فيما نعلم – عَلت همته إلى اتخاذ الرسُول – صَلى الله عليه وسلَّم – وسيلة له حتَّى استقل بطريقته الخاصّة.
مرحَلة الإظهار الرّسمي أو عام الخُروج (1313هـ/1895م): وهي خُروج الخِدمة من الخَلوة إلى الجَلوة، أي الإعلان الرَّسمي لها، وتشير إلى مرحلة بداية الخدمة البَحرية” التي هي سرّ إبعاده إلى غابُون (Gabon) من قبل السُّلطات الاستعماريةِ. وأظهَر الخِدمةَ عام جَيسَشِ = وقلبُه أضْمرهَا مِن أسش
[ ينظر: المُريدية ومؤسِّسها: نبذة تاريخية، كتبها الأستاذ مُحمد غالاي انجاي ضمن دراسات حَول المُريدية، من ثمرات ائرة روض الرياحين، سنة 2010م 1431ه ، ص: (15- 16)، بتصرف]
من فوائدِها
والعمل للعارف بالله يُوجب البركة في الرزق والعمر، لذلك قال الشيخ الخديم في قصيدتهِ ” مطلب الفوزين” طالبا المغفرة لمن خدمه أو زاره:
وكلُّ من خَدمنِي أو زارا = فنَجه واغفِر له أوزارَا
والخِدمة من الأمور التي تزيل الكبر عن المريد السالك، لأن خير الناس خادمهم؛وقد أشار أبُو المحامد والمعالِي شيخنا الخديم – رضي الله عنه – إشارة قويةً إلى فَوائد خدمتهِ في مَعرض ابتهالاته وتضرُّعاتهِ فذكر منها قضاء الحَوائج ونيلَ الفتوحاتِ فِي العلُوم العَقلية والنَّقلية، ومُفارقة العيوب المذمُومة، والفَوزِ بالرِّضوان العظيم وغُفران الذُّنوب المُهلكة، وحصُول الكراماتِ الممزُوجة بالبَركةِ لِمَن صَدق وأخلصَ فِي خِدمته غَاية الإخلاص والصِّدقِ، حيثُ يقول في قصيدته المطرزة بـ ” هَذا جزاء الإحسان للخُدام” داعيا ربَّه لِخُدامه :
الحَمدُ لله الذي يُجازِي = من أحسَنوا بالخَير والمَفاز
وصَلواتُه علَى التِّهامِ = وآله وصَحبهِ الخُدَّام
هَذا وإنِّي اليومَ ذُو رضَاء = وذُو مَحبةٍ لهؤلاء
لذاكَ قلتُ طالبًا مِن الكريم = جزاءَهم بجَاه ذِي الجَاه العَظيم
يا ربَّنا يا ربَّنا يا ربَّنا = يا ربَّنا يا ربَّنا يا ربَّنا
صلِّ عَلى خَير الوَرى مُحمدِ = وآله مع الصِّحابِ العبَّد
واغفر ذنُوبي وذُنوبَ المُسلمين = والمُسلماتِ يا غفور يا مُعين
واقضِ حَوائجَ الذين دامُوا = فِي خِدمتي وهَبْ لهُم ما رامُوا
وارزقهمُ الإيمانَ والإسلامَا = والفتحَ والإحسانَ واستِسلامَا
وجَازهم عنيَ بالغفرانِ = وبالكراماتِ وبالرضوان
واجذبهمُ إلى الهُدى والخَير = واصْرِفْهُمُ عن الرَّدَى والضير
واغْفر لهُم كلَّ لغًى وَذنبِ = وهبْ لهم معا صَلاح القلبِ
وَكُنْ مُعِينَهُمْ عَلَى أمورِ = الدينِ والدُّنيا مَدَى الدُّهورِ
ولا تؤاخِذهم بمَا قد أجرمُوا = في السِّر والجَهر فأنتَ الأكرمُ
وافتَح عليهِم في العلُوم فَتحا = يزيل عَنهمْ دَنسًا وقُبحا
وهبْ لهمْ سَعَادَةً تدومُ = يَا بَرُّ يَا مُجِيبُ يَا كَرِيمُ
واصرفْ قُلُوبَهمْ إلى الطَّاعَاتِ = بِالعِلْمِ وَالعَمَلِ وَالأَوْقَاتِ
بِـجاهِ أَفْضَلِ الوَرَى مُحَمَّدِ = وَحَقِّ شَهْرِ رَمَضَانَ الْأَمْجَدِ
وَحَقِّ آلِهِ وَصَحْبِهِ جَمِيعْ = وَحَقِّ كُلِّ ذِي عِبَادةٍ مُطِيعْ
وَصَلِّيَنْ عَلَيْهِ ثُمَّ سَلِّمَا = وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَكَرِّمَا
مَا دَامَتِ الخِدْمَةُ سُلَّمًا إِلَى = سَعَادَةٍ وَلِنَجَاةٍ وَعُلَى
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الخدمة لها فضل كبير، من ذلك قول الشيخ الخديم – رضي الله عنه – في قصيدته ” حقَّ البُكاء “:
طُوبَى لعبدٍ مُريد صَادق لهمُ = بخدمة أو بِحبٍّ أوهَدياتِ
وقال أيضا – رضي الله عنه -:
بَرَكَةٌ بِنَيْلِ خَيْرِ نِعْمَهْ = تُنْسِي الْمُرِيدِينَ عَنَاءَ الْخِدْمَهْ
وقال أيضا:
إنَّ الذينَ سارعُوا لخِدمتِي = فلَهُم الدِّيار وسط الجنةْ
ورد في القرآن الكريم والسنة كثير مما يدل على عظم فضل الخدمة وإسداء المعروف للغير. ويندرج في ذلك كل ما يتعلق بالإنفاق في سبيل الله وبإعانة الضعيف والمحتاج. ويكفي الخدمة فضلا أنها تكون سببا للخيرية في الدنيا وللسبق إلى الجنة في الآخرة.
وكما يذكر فضلها في منظومته ” مسالك الجنان ” :
وَقِيلَ إِنْ حَضَرَ يَوْمُ الْبَارِي = وَضُرِبَ الصِّرَاطُ فَوْقَ النَّارِ
وَكَابَدَ الْوَرَى الجَوَى وَالْغُمَّهْ = نَادَى مُنَادٍ: “أَيْنَ أَهْلُ الخِدْمَهْ
لِلْمُسْلِمِينَ؟” فَأَجَابُوا أَجْمَعِينْ = فَيُؤْمَرُونَ لِلْجِنَانِ مُسْرِعِينْ
بِأَنْ يُقَالَ لَهُمُ امْضُوا الجّنَّهْ = بِغَيْرِ فِتْنَةٍ وَغَير مِحْنَهْ [3]
ولله درُّ الشيخ إبراهيم جوب المَشعري – رضي الله عنه – في مَدح شيخهِ مصرّحا بالفوائِد التي تكمن في خدمته كالسَّعادةِ والبعد عن المُوبقاتِ:
فمَا يَخدمُ الشيخَ إلا سَعيدٌ = عن النَّار والموبقات بَعيدْ
الفوز بالبشر كما قال أيضا:
بُشرى لكُلّ مُريدٍ ظلَّ مُجتهدَا = في خدمةِ الشيخ مَن فازتْ بهِ السُّعداءُ
[ ينظر” ديوان الشيخ إبراهيم جوب المَشعري – رضي الله عنه -، حققه ورتبه وعلق عليه: الشيخ عبد القادر بن شيخ ميمونة الكبرى امباكي وأبو مدين شعيب تياو، طوبى السنغال 1438ه 2017م، ص: 152، و118]
قال الجُلالُ الهُمامُ الشيخ إبراهيم جوب المشعري :
وقَد يعتَري يَومًا مَلالٌ لِخادمٍ = وخادمُه ما إنْ عراهُ مَلالُ
[المصدر نفسه، ص: 255]
كلُّ هذه الأبيات تدلُّ عَلى أنَّه رفع الله ذكرَه بذكر حبيبه وخليله وأضاف اسمه على اسم النبي – صلى الله عليه وسلم – أي: خادم الرسول أو خديم الرسول ذلك اللقب الذي صار علما وسَجية له لشهرته به كَنار على عَلم، ولقيامه بالخدمة السنية لصاحب الدرجة العظمى الذي لا نظير له في خِدمة صَفي الله قرنا بعد قرن وجِيلا بعد جيل لخُلو خدمته من جميع محبطات الأعمال الظاهرة والباطنة. وللخُدّام أسوة حَسنة فيه – لقوله في قصيدته المُطرزة بـ(له ربيع الأوّل):
لم ينحُني فِي خدَمي غِشٌّ ولاَ = ملَلٌ اَو ما يُوجبُ التقوُّلا
وكان الشيخ الخديم – رضي الله عنه – يخصّص لأهل خدمته أماكن خاصّة، ويقول الشيخ محمد الفاضل امباكي في إحدى خطاباته : ” وكان يأمرهُم بإخلاص العبادة لله تعالى ويحثهم علَى ملازمة الخدمةِ، ويُربيهم ويحملهم علَى أكمل التأدُّب والترفع عن سَفاسف الأمور، والتخلق بمكارم الأخلاقِ، وبهمته العالية يرقيهم فامتثلُوا. ولكل ما يريده منهم انقادوا، فوصلُوا حقيقة الوصول ببَركتهِ، ونالوا ما نالُوا، فظهر لهم خوارق عادات، وكرامات متعدّدات “.
فها هُو ذا الشيخ محمد البشير امباكّي – رضي الله عنه – يقُولُ: ومن ورعِه ما حَكاه عليَّ أحد تلاميذه الكبار مخَرجه أنه كان يقول لهم – ومَخرجَه رئيس الخدمة حينئذ -: ” شيء الغير لا تقربُوه ” ويكرره عليهم. ومنه أني رأيت ذات يوم، أتاه رفيق لأحد التلامذة بغير إذن الغير، وكان مع التلامذة أياما في الخدمة ثم أعلم بأمره، وكان لسيده إخوة شركاء في العبد، فقال شيخنا للمريدين: ” مُروه أن يرجع إلى سادته، ولا تقبلوا بعد هذا أحدا ممن هو على هذه الصِّفة، وانظروا أيامه هنا وأَعطوه قيمتها لأهله “. [ المِنن المحقّق، 2012 م، ص: (41)]
ومما رواه الدَّغاني نقلا عن ابن خاله سرين امباكي بوسُو – رضي الله عنهما – في كتابه ” إرواء النديم من عذب حبِّ الخديم ” : ” أخبرني شيخنا وابن خال شيخنا محمد بن محمد بوسو المعروف بامباكي بوسو أن سببَ بناء الشيخ في أرض جُولوف أنَّ الناس لما كثروا في طوبى، وتزوج كثير من الأصحاب، وانتقل إليها كثير ممن تأهلوا في القرى بأهاليهم اختلطت أهل تربيته المحضة بغيرهم فاختل من نظام الأمر ركن، وهو ما كان يُريد من اعتزال المتعلمين قرآنا وعلما جانبا، وأخذ أخل الخدمة المحضة جانبا، و شقَّ عليه اختلاط النوعين، واختلاطهم بغيرهم أشق … إلى أن قال : وشَاورني في إنشاء مَحل يتمكن فيه من تمييز الفريقين من غيرهم، والتمييز بينهم هم أيضا ليتمكن أهل التعلم من التعلم، وعين لتعليم القرآن الشيخ عبد الرحمن لوح، ولتعليم العلم أخاه الشيخ إبر فاط يذهب معهما بحزبيهما إلى المحل الجديد دون غيرهم من عياله الخاص وذوي العيال من الأصحاب، ثم قال لي: ” وأنت إذن تبقى في طوبى كبير العائلة ينزل عليك الزوار بالهدايا توصل من أوصلت إلينا برأيك، وترد من ترد، كل ذلك بموافقة منا ومنهم … فوافقته، وقلت: هذا رأي مبارك إن شاء الله . فشرع يتهيأ لكن بخفية من غير الخواص، فلما قوي عزمه على هذا المقصد وكان بخفية من والدنا خالهِ، وكان سَاكتا في أمري معه يؤثره بي، كأن لم يحتج إليَّ، عَلم الشيخ أن لا بد من إعلام الخال بالأمر، فعلمه وشق عليه ذلك لما عَلم من غيرة ملوك جُلوف وقلة صبرهم، خلاف هؤلاء وأن طلبته كذلك لا يسمحون بأولادهم وتلامذتهم ولا يصبرون خلاف طلبة هذه البلدة، وخاف أن يؤتى الشيخ من كل ناحية من كلا فريقيهمَا، ثم نَهاه بمُلاطفة ونبهه على دقائق عوائد البلدان من طول ما عَهد، وعلم أن مُراده لا يُوافق عوائدهم، ولكنَّ الشيخ مُصمِّم نافذ العزيمة ككبار الصوفية؛ لأن نفوذ العزيمة من أصول طُرقهم، فحَلُّ العزيمة عندهم ضَرب من الارتداد، فالموت أهون منه عليهم “. [ الإرواء المحقّق فصل في بنائه “جُلف” أولا وسببه، ص: 105 وما بعدها]
وقال الزعيمُ الأكبرُ والمرشدُ الأبرُّ الشيخُ أحمد الخديم – عليه رضوان الباقِي القديم -: (( مَن شغلته الصَّلاةُ عَن الأشياءِ انتفَع بها وبالأشيَاء، ومَن شَغلته الأشيَاء عَن الصَّلاة فلا يَنتفعُ بهَا ولاَ بالأشيَاء، وإن العبادة هي الخدمة، وإنما العادات معينة على العبادات؛ فـ “قو أنفسكم وأهليكم نارا “. [ المجموعة، ص (37 و38 )].
مَجالاتُ الخِدمة
نقصد بمَجالات الخدمة الجهات التي تتجلى فيها. وهي كثيرة ابتداء من الوالدين وانتهاء بعامة المسلمين. وإليكم بعض ما ذكره الشيخ أحمد بامبا في هذا الصدد بإيجاز.
1- في خِدمة الوالدين:
وَبُرَّ وَالِدَيْكَ وَارْفُقْ بِهِمَا = وَكُنْ مُبَادِرًا إِلى أَمْرِهِمَا
وَانْتَهِ عَنْ جُمْلَةِ مَا قَدْ نَهَيَاكْ = عَنْهُ لِرَبِّكَ فَيَزْدَادَ عُلاكْ
2- في خِدمة الشيخ المُربِّي:
وَغَايَةَ التَّوْقِيرِ وَقِّرْ شَيْخَكَا = وَاجْعَلْهُ سَيِّدًا، لَهُ هَبْ خَيْرَكَا
وَاقْضِ الحَوَائِجَ لَهُ مَا عِشْتَا = بِالْبَذْلِ وَالخِدْمَةِ مَا اسْتَطَعْتَا
3- في خِدمة العُلماء والصَّالحين:
وَزُرْ خِيَارَ الْعُلَمَا وَالصَّالِحِينْ = وَاخْدِمْهُمُ لِلَّهِ جَلَّ كُلَّ حِينْ
وَاطْلُبْ دُعَاءَهُمْ وَمِنْهُمْ أَبَدَا = كُنْ ذَا تَبَرُّكٍ فَتَزْدَادَ الهُدَى
فَإِنَّمَا إِجْلالُ عَالِمٍ عَمِلْ = إِجْلالُ رَبِّ الْعَرْشِ فِيمَا قَدْ نُقِلْ
4- في خِدمة الكبير في السِّنِّ:
وَحَيْثُمَا صَاحَبْتَ شَخْصًا أَكْبَرَا = مِنْكَ فَلا تَزَلْ لَهُ مُوَقِّرَا
وَاخْدِمْهُ في جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ = إِلَيْهِ تُقْضَ لَكَ بَعْدُ الحَاجُ
5- في خِدمة رفقة السَّفر:
وَحَيْثُمَا صَاحَبْتَ قَوْمًا في سَفَرْ = فَكُنْ مُعِينَهُمْ عَلَى كُلِّ وَطَرْ
وَاخْدِمْهُمُ وَارْعَ رَوَاحِلَهُمُ = وَحَاضِنَ امْتِعَتَهُمْ بَعْدَهُمُ
6- في خِدمة كلِّ المُسلمين:
فَاخْدِمْهُمُ طُرًّا لِوَجْهِ اللهِ = فَقَطْ بِلا مَنٍّ وَلا تَبَاهِ
وعَلى أساسِ الخِدمة بنيت المساجد والمستشفيات والمدارس وأضيئت الطرق وأقيمت البنى التحتية خدمة لله في عباده في كلّ مدينة مريدية. من العادة في الطريقة المُريدية أن ترى شيخا يبيع ما عنده من مقتنيات ليقيم مدرسة أو مسجدا أو يدفع راتبا شهريّا لمدرّس، فالشيخ عبد الأحد امباكي خير مثال على ذلك، هذا كلّه يدلّ على ما لهذا المبدأ عند المُريدين من معنى وأهميّة. فلننظر إلى الشيخ صالح امباكي آخر خلفاء الشيخ من أبنائه بما قام به من جهد جهيد وتضحيات ليجمع أموال طائلة وينفقها في خدمة الإسلام، فقد ترك ورائه مليارات قام بجمعها وقفا لله، وحرم أبنائه من أن يرثوها، وهكذا فعل ويفعل جلّ شيوخ الطريقة. فالشيخ محمد المرتضى امباكي من الأمثلة الحية للخدمة أيضا، فقد أنفق أمواله المقدّرة بالمليارات في إقامة مدارس ومساجد وشركات لاستعمال أبناء المسلمين وتعليمهم . [ فلسفة الشيخ الخديم الصوفية، بقلم الشيخ عبد القادر كيبي]
بقلم الباحث والكاتب سرين امباكي جوب خضر الطوباوي خريج معهد الدُّروس الإسلامية ومعلم اللغة العربية والعلوم الشَّرعية.
الهوامشُ:
1- ينظر: العَملُ والخِدمة في المُريدية ضمن كتاب دراسة حول المُريدية ” دائرة روض الرياحين ” طوبى السنغال 1431ه / 2010 م ، إعداد/ الأستاذ شيخنا امباكّي عبد الودود والدكتور خادم سيلا والمفتش محمد المنتقى جتر والأستاذ مصطفى جوب الكُكِّي.
2- ينظر تعريف الخدمة بأبعادها المختلفة في بحث الأستاذ مصطفى جوب الكوكي ” نظرية الخِدمة “.
3- ينظر: العَملُ والخِدمة في المُريدية ضمن كتاب دراسة حول المُريدية ” دائرة روض الرياحين ” طوبى السنغال 1431ه / 2010 م ، إعداد/ الأستاذ شيخنا امباكّي عبد الودود والدكتور خادم سيلا والمفتش محمد المنتقى جتر والأستاذ مصطفى جوب الكُكِّي، والخدمة ومفاهيمها وفضلها ضمن كتابنا ” نبذة حول المريدية والتصوف الإسلامي” نوفمبر 2010م ، ذو الحجة 1431ه .
ين امباكي جوب خضر
الخِدمةُ مفهومُها وفضلُها ومجالاتها
لا يشكُّ أحد أنَّ الخِدمةَ مَبدأ وطيدٌ من أهم مَبادئ الطريقة المُريدية التي تَرتكر عليها دَعائمها وهي من مميزات المُريدين في جَميع الأقطار وبِها أنجزُوا ما أنجزوا من الانجازات القيمة التي لا تُعدُّ ولا تُحصى.
مفهُوم الخدمة
الخدمة مصطلح شائع في الأدب الصوفي عموما وفي الأدب المريدي على وجه الخصوص.
ويعني هذا المصطلح – من بين ما يعني- إيصال النفع إلى المسلم ابتغاء وجه الله، أويقصد بها: إيصال النفع إلى العبادات إبتغاء مرضات الله تعالى. أو – بعبارة أكثر شمولا – النشاط الذي يقوم به الشخص لنيل مرضاة الله أو بدافع معنوي آخر لا لمجرد عائد مادي، يرجع إلى القائم بالنشاط [1]. وهي في بعدها الفلسفي “كل حركة فاعلة ذات قيمة معنوية قصدية تؤدى في الخطاب الإنساني تجاه الكون والحياة شكرا لله في أريحية العبودة الحقة [2]“.
والمصطلح الحديث الذي يرادف الخدمة هو العمل التطوعي الذي أصبح له دور بارز في علاقة الأفراد بأوطانهم وفي العلاقات بين شعوب العالم.
وتعني الخدمة أيضا: القيام بمصالح العباد الدنيوية والدينية نيابة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وهي خِصلة حميدة تحلّى بها الشيخ نفسه قبل أن يدعُو إليها غيره، وها هو ذا يتشرف بلقب خديم الرسول حيث يقول في (مفاتح البشر الكبرى):
سَمَّيتني قطعًا بعبدِك الخَديم = يا من يقُود لِي بشاراتٍ تدومْ
وقال النجم الثاقب وهو يُوضّح لنا كونه عبد الله وخديمَ رسول الله – صَلوات الله عليه وسلامه – في قصيدته ” فتح الفتاح في مدح المفتاح”:
هبْ لي يا ربِّ بجاههِ العظيم = كونِيَ له هُنا وفي غد خَديم
وقال أيضا في قصيدة مطرزة بـ” محمّد المعظم “:
درجتِي كونيَ عبد الله = خديمَ عبده ابنِ عبد الله
دعوتُ ربِّي ودُعائيَ يُجيب = كونِيَ عبدَ اللهِ خادم الحَبيب
وقال أيضا في قصيدة (نور الدارين في خِدمة الحامي عن النارين):
واشهَد لي اليومَ بكونِي عبدِكا = خديمَه عند جميعِ جُندكا
وقال أيضا في قصيدته (أطاب لي الممر كالأوطان):
رضيتُ عمَّن جادَ لي بكونِي = عبدًا له خديمَ خير الكونِ
وقال في (مفاتح البشر الكبرى):
جعَلتنِي عبدَ الإلهِ وخَديم = رسُولك الذي السيادةُ تَدوم
وقال في قصيدة مطرزة بـ” لا إله الله محمَّد رسول الله “:
دَرى الورى أنَّني عَبد الله = خَديم عَبدهِ ابن عبدِ الله
وقال في قصيدة مقيدة بـ(يوم عرفة بلسَش):
سَعادتي بغير محو كُتبت = وكونيَ العبدَ الخديمَ قد ثبت
وقال أيضا في قصيدته المقيَّدة بـ(الله):
الله قد جعَلني خديمًا = للمُصطفى الذِي حَوى التقديما
وقال في قصيدة مقيدة بحروف ( الله محمّد غيري):
غاب مقامِي عن سِوى الباقي القدِيم = وإنَّني عبدٌ خديم لا يَريم
وقال في قصيدة مقيدة بحروف ” صفر”:
فرَّحنِي الجميلُ تفريحاً يدوم = بأنني عبدٌ له خيرُ خديم
ولسنا بمبالغين إذا قلنا بأنه حجِي بالسَّبق في مجال الخدمة والمحبة بلا شك ولا ارتياب لمن صُفى قلبه ونُزع منه الغل والحقد، كما قال الشاعر البارع السَّالم الموريتاني ابن حنبل – رضي الله عنه – :
يا من يُحاول شأوَ الشيخ إنَّ له = شأوًا يفوقُ الورى إدراكُ مضماره.
[ ينظر: محبَّة الشَّيخ الخدِيم للنَّبي الإكليل الهُمَام العظيم، لكاتب هذا البحث ]
مَراحل الخِدمة في الفكر الخديمي
والخِدمة، فِي تطوّر فكر الشيخ أحمد بمبا، مرت بمراحل ثلاث نوجزها فيما يلي:
مرحلةُ الإضمَار (1301هـ/1883م 1311هـ/ 1893/1894م): وهي فترة ولادة الفكرة، أي نيّة تَخصيص الخِدمة للرسُول – صلى الله عليه وسلّم – دون غيره.
وأظهَر الخِدمة عام جَيسش = وقَلبه أضمرها من أسشِ
مرحلةُ البيعةِ (1311هـ/1893- 1894م): وهو العام الذي عقد بيعة الخِدمة مع الرسُول – صلى الله عليه وسلّم – ، كما قال في قصيدتهِ ” فتوح المكرّم في أمداحِ المُكرّم “:
أبايِعُ اليومَ الرسُول المُصطفَى = بِخدمَة وأسألُ اللهَ الوَفا والجدير بالتَّسجيلِ هُنا، أن الشيخ أحمد بامبا فِي إبرامه هَذا العقد قد أحدثَ فِي الفكر الصُّوفي ثورية انقلابية لم يسبق لها مثيل فِي التاريخ الأفريقي ككلّ؛ وذلك لما قام به – وهو الرَّجل الأسود – مِن قطيعة عِرفانية مع شيُوخ زمانه وتَخصيص الخِدمة للرسُول – صلى الله عليه وسلّم – دُون غيره. فهو بهذا، أول سُوداني – فيما نعلم – عَلت همته إلى اتخاذ الرسُول – صَلى الله عليه وسلَّم – وسيلة له حتَّى استقل بطريقته الخاصّة.
مرحَلة الإظهار الرّسمي أو عام الخُروج (1313هـ/1895م): وهي خُروج الخِدمة من الخَلوة إلى الجَلوة، أي الإعلان الرَّسمي لها، وتشير إلى مرحلة بداية الخدمة البَحرية” التي هي سرّ إبعاده إلى غابُون (Gabon) من قبل السُّلطات الاستعماريةِ. وأظهَر الخِدمةَ عام جَيسَشِ = وقلبُه أضْمرهَا مِن أسش
[ ينظر: المُريدية ومؤسِّسها: نبذة تاريخية، كتبها الأستاذ مُحمد غالاي انجاي ضمن دراسات حَول المُريدية، من ثمرات ائرة روض الرياحين، سنة 2010م 1431ه ، ص: (15- 16)، بتصرف]
من فوائدِها
والعمل للعارف بالله يُوجب البركة في الرزق والعمر، لذلك قال الشيخ الخديم في قصيدتهِ ” مطلب الفوزين” طالبا المغفرة لمن خدمه أو زاره:
وكلُّ من خَدمنِي أو زارا = فنَجه واغفِر له أوزارَا
والخِدمة من الأمور التي تزيل الكبر عن المريد السالك، لأن خير الناس خادمهم؛وقد أشار أبُو المحامد والمعالِي شيخنا الخديم – رضي الله عنه – إشارة قويةً إلى فَوائد خدمتهِ في مَعرض ابتهالاته وتضرُّعاتهِ فذكر منها قضاء الحَوائج ونيلَ الفتوحاتِ فِي العلُوم العَقلية والنَّقلية، ومُفارقة العيوب المذمُومة، والفَوزِ بالرِّضوان العظيم وغُفران الذُّنوب المُهلكة، وحصُول الكراماتِ الممزُوجة بالبَركةِ لِمَن صَدق وأخلصَ فِي خِدمته غَاية الإخلاص والصِّدقِ، حيثُ يقول في قصيدته المطرزة بـ ” هَذا جزاء الإحسان للخُدام” داعيا ربَّه لِخُدامه :
الحَمدُ لله الذي يُجازِي = من أحسَنوا بالخَير والمَفاز
وصَلواتُه علَى التِّهامِ = وآله وصَحبهِ الخُدَّام
هَذا وإنِّي اليومَ ذُو رضَاء = وذُو مَحبةٍ لهؤلاء
لذاكَ قلتُ طالبًا مِن الكريم = جزاءَهم بجَاه ذِي الجَاه العَظيم
يا ربَّنا يا ربَّنا يا ربَّنا = يا ربَّنا يا ربَّنا يا ربَّنا
صلِّ عَلى خَير الوَرى مُحمدِ = وآله مع الصِّحابِ العبَّد
واغفر ذنُوبي وذُنوبَ المُسلمين = والمُسلماتِ يا غفور يا مُعين
واقضِ حَوائجَ الذين دامُوا = فِي خِدمتي وهَبْ لهُم ما رامُوا
وارزقهمُ الإيمانَ والإسلامَا = والفتحَ والإحسانَ واستِسلامَا
وجَازهم عنيَ بالغفرانِ = وبالكراماتِ وبالرضوان
واجذبهمُ إلى الهُدى والخَير = واصْرِفْهُمُ عن الرَّدَى والضير
واغْفر لهُم كلَّ لغًى وَذنبِ = وهبْ لهم معا صَلاح القلبِ
وَكُنْ مُعِينَهُمْ عَلَى أمورِ = الدينِ والدُّنيا مَدَى الدُّهورِ
ولا تؤاخِذهم بمَا قد أجرمُوا = في السِّر والجَهر فأنتَ الأكرمُ
وافتَح عليهِم في العلُوم فَتحا = يزيل عَنهمْ دَنسًا وقُبحا
وهبْ لهمْ سَعَادَةً تدومُ = يَا بَرُّ يَا مُجِيبُ يَا كَرِيمُ
واصرفْ قُلُوبَهمْ إلى الطَّاعَاتِ = بِالعِلْمِ وَالعَمَلِ وَالأَوْقَاتِ
بِـجاهِ أَفْضَلِ الوَرَى مُحَمَّدِ = وَحَقِّ شَهْرِ رَمَضَانَ الْأَمْجَدِ
وَحَقِّ آلِهِ وَصَحْبِهِ جَمِيعْ = وَحَقِّ كُلِّ ذِي عِبَادةٍ مُطِيعْ
وَصَلِّيَنْ عَلَيْهِ ثُمَّ سَلِّمَا = وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَكَرِّمَا
مَا دَامَتِ الخِدْمَةُ سُلَّمًا إِلَى = سَعَادَةٍ وَلِنَجَاةٍ وَعُلَى
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الخدمة لها فضل كبير، من ذلك قول الشيخ الخديم – رضي الله عنه – في قصيدته ” حقَّ البُكاء “:
طُوبَى لعبدٍ مُريد صَادق لهمُ = بخدمة أو بِحبٍّ أوهَدياتِ
وقال أيضا – رضي الله عنه -:
بَرَكَةٌ بِنَيْلِ خَيْرِ نِعْمَهْ = تُنْسِي الْمُرِيدِينَ عَنَاءَ الْخِدْمَهْ
وقال أيضا:
إنَّ الذينَ سارعُوا لخِدمتِي = فلَهُم الدِّيار وسط الجنةْ
ورد في القرآن الكريم والسنة كثير مما يدل على عظم فضل الخدمة وإسداء المعروف للغير. ويندرج في ذلك كل ما يتعلق بالإنفاق في سبيل الله وبإعانة الضعيف والمحتاج. ويكفي الخدمة فضلا أنها تكون سببا للخيرية في الدنيا وللسبق إلى الجنة في الآخرة.
وكما يذكر فضلها في منظومته ” مسالك الجنان ” :
وَقِيلَ إِنْ حَضَرَ يَوْمُ الْبَارِي = وَضُرِبَ الصِّرَاطُ فَوْقَ النَّارِ
وَكَابَدَ الْوَرَى الجَوَى وَالْغُمَّهْ = نَادَى مُنَادٍ: “أَيْنَ أَهْلُ الخِدْمَهْ
لِلْمُسْلِمِينَ؟” فَأَجَابُوا أَجْمَعِينْ = فَيُؤْمَرُونَ لِلْجِنَانِ مُسْرِعِينْ
بِأَنْ يُقَالَ لَهُمُ امْضُوا الجّنَّهْ = بِغَيْرِ فِتْنَةٍ وَغَير مِحْنَهْ [3]
ولله درُّ الشيخ إبراهيم جوب المَشعري – رضي الله عنه – في مَدح شيخهِ مصرّحا بالفوائِد التي تكمن في خدمته كالسَّعادةِ والبعد عن المُوبقاتِ:
فمَا يَخدمُ الشيخَ إلا سَعيدٌ = عن النَّار والموبقات بَعيدْ
الفوز بالبشر كما قال أيضا:
بُشرى لكُلّ مُريدٍ ظلَّ مُجتهدَا = في خدمةِ الشيخ مَن فازتْ بهِ السُّعداءُ
[ ينظر” ديوان الشيخ إبراهيم جوب المَشعري – رضي الله عنه -، حققه ورتبه وعلق عليه: الشيخ عبد القادر بن شيخ ميمونة الكبرى امباكي وأبو مدين شعيب تياو، طوبى السنغال 1438ه 2017م، ص: 152، و118]
قال الجُلالُ الهُمامُ الشيخ إبراهيم جوب المشعري :
وقَد يعتَري يَومًا مَلالٌ لِخادمٍ = وخادمُه ما إنْ عراهُ مَلالُ
[المصدر نفسه، ص: 255]
كلُّ هذه الأبيات تدلُّ عَلى أنَّه رفع الله ذكرَه بذكر حبيبه وخليله وأضاف اسمه على اسم النبي – صلى الله عليه وسلم – أي: خادم الرسول أو خديم الرسول ذلك اللقب الذي صار علما وسَجية له لشهرته به كَنار على عَلم، ولقيامه بالخدمة السنية لصاحب الدرجة العظمى الذي لا نظير له في خِدمة صَفي الله قرنا بعد قرن وجِيلا بعد جيل لخُلو خدمته من جميع محبطات الأعمال الظاهرة والباطنة. وللخُدّام أسوة حَسنة فيه – لقوله في قصيدته المُطرزة بـ(له ربيع الأوّل):
لم ينحُني فِي خدَمي غِشٌّ ولاَ = ملَلٌ اَو ما يُوجبُ التقوُّلا
وكان الشيخ الخديم – رضي الله عنه – يخصّص لأهل خدمته أماكن خاصّة، ويقول الشيخ محمد الفاضل امباكي في إحدى خطاباته : ” وكان يأمرهُم بإخلاص العبادة لله تعالى ويحثهم علَى ملازمة الخدمةِ، ويُربيهم ويحملهم علَى أكمل التأدُّب والترفع عن سَفاسف الأمور، والتخلق بمكارم الأخلاقِ، وبهمته العالية يرقيهم فامتثلُوا. ولكل ما يريده منهم انقادوا، فوصلُوا حقيقة الوصول ببَركتهِ، ونالوا ما نالُوا، فظهر لهم خوارق عادات، وكرامات متعدّدات “.
فها هُو ذا الشيخ محمد البشير امباكّي – رضي الله عنه – يقُولُ: ومن ورعِه ما حَكاه عليَّ أحد تلاميذه الكبار مخَرجه أنه كان يقول لهم – ومَخرجَه رئيس الخدمة حينئذ -: ” شيء الغير لا تقربُوه ” ويكرره عليهم. ومنه أني رأيت ذات يوم، أتاه رفيق لأحد التلامذة بغير إذن الغير، وكان مع التلامذة أياما في الخدمة ثم أعلم بأمره، وكان لسيده إخوة شركاء في العبد، فقال شيخنا للمريدين: ” مُروه أن يرجع إلى سادته، ولا تقبلوا بعد هذا أحدا ممن هو على هذه الصِّفة، وانظروا أيامه هنا وأَعطوه قيمتها لأهله “. [ المِنن المحقّق، 2012 م، ص: (41)]
ومما رواه الدَّغاني نقلا عن ابن خاله سرين امباكي بوسُو – رضي الله عنهما – في كتابه ” إرواء النديم من عذب حبِّ الخديم ” : ” أخبرني شيخنا وابن خال شيخنا محمد بن محمد بوسو المعروف بامباكي بوسو أن سببَ بناء الشيخ في أرض جُولوف أنَّ الناس لما كثروا في طوبى، وتزوج كثير من الأصحاب، وانتقل إليها كثير ممن تأهلوا في القرى بأهاليهم اختلطت أهل تربيته المحضة بغيرهم فاختل من نظام الأمر ركن، وهو ما كان يُريد من اعتزال المتعلمين قرآنا وعلما جانبا، وأخذ أخل الخدمة المحضة جانبا، و شقَّ عليه اختلاط النوعين، واختلاطهم بغيرهم أشق … إلى أن قال : وشَاورني في إنشاء مَحل يتمكن فيه من تمييز الفريقين من غيرهم، والتمييز بينهم هم أيضا ليتمكن أهل التعلم من التعلم، وعين لتعليم القرآن الشيخ عبد الرحمن لوح، ولتعليم العلم أخاه الشيخ إبر فاط يذهب معهما بحزبيهما إلى المحل الجديد دون غيرهم من عياله الخاص وذوي العيال من الأصحاب، ثم قال لي: ” وأنت إذن تبقى في طوبى كبير العائلة ينزل عليك الزوار بالهدايا توصل من أوصلت إلينا برأيك، وترد من ترد، كل ذلك بموافقة منا ومنهم … فوافقته، وقلت: هذا رأي مبارك إن شاء الله . فشرع يتهيأ لكن بخفية من غير الخواص، فلما قوي عزمه على هذا المقصد وكان بخفية من والدنا خالهِ، وكان سَاكتا في أمري معه يؤثره بي، كأن لم يحتج إليَّ، عَلم الشيخ أن لا بد من إعلام الخال بالأمر، فعلمه وشق عليه ذلك لما عَلم من غيرة ملوك جُلوف وقلة صبرهم، خلاف هؤلاء وأن طلبته كذلك لا يسمحون بأولادهم وتلامذتهم ولا يصبرون خلاف طلبة هذه البلدة، وخاف أن يؤتى الشيخ من كل ناحية من كلا فريقيهمَا، ثم نَهاه بمُلاطفة ونبهه على دقائق عوائد البلدان من طول ما عَهد، وعلم أن مُراده لا يُوافق عوائدهم، ولكنَّ الشيخ مُصمِّم نافذ العزيمة ككبار الصوفية؛ لأن نفوذ العزيمة من أصول طُرقهم، فحَلُّ العزيمة عندهم ضَرب من الارتداد، فالموت أهون منه عليهم “. [ الإرواء المحقّق فصل في بنائه “جُلف” أولا وسببه، ص: 105 وما بعدها]
وقال الزعيمُ الأكبرُ والمرشدُ الأبرُّ الشيخُ أحمد الخديم – عليه رضوان الباقِي القديم -: (( مَن شغلته الصَّلاةُ عَن الأشياءِ انتفَع بها وبالأشيَاء، ومَن شَغلته الأشيَاء عَن الصَّلاة فلا يَنتفعُ بهَا ولاَ بالأشيَاء، وإن العبادة هي الخدمة، وإنما العادات معينة على العبادات؛ فـ “قو أنفسكم وأهليكم نارا “. [ المجموعة، ص (37 و38 )].
مَجالاتُ الخِدمة
نقصد بمَجالات الخدمة الجهات التي تتجلى فيها. وهي كثيرة ابتداء من الوالدين وانتهاء بعامة المسلمين. وإليكم بعض ما ذكره الشيخ أحمد بامبا في هذا الصدد بإيجاز.
1- في خِدمة الوالدين:
وَبُرَّ وَالِدَيْكَ وَارْفُقْ بِهِمَا = وَكُنْ مُبَادِرًا إِلى أَمْرِهِمَا
وَانْتَهِ عَنْ جُمْلَةِ مَا قَدْ نَهَيَاكْ = عَنْهُ لِرَبِّكَ فَيَزْدَادَ عُلاكْ
2- في خِدمة الشيخ المُربِّي:
وَغَايَةَ التَّوْقِيرِ وَقِّرْ شَيْخَكَا = وَاجْعَلْهُ سَيِّدًا، لَهُ هَبْ خَيْرَكَا
وَاقْضِ الحَوَائِجَ لَهُ مَا عِشْتَا = بِالْبَذْلِ وَالخِدْمَةِ مَا اسْتَطَعْتَا
3- في خِدمة العُلماء والصَّالحين:
وَزُرْ خِيَارَ الْعُلَمَا وَالصَّالِحِينْ = وَاخْدِمْهُمُ لِلَّهِ جَلَّ كُلَّ حِينْ
وَاطْلُبْ دُعَاءَهُمْ وَمِنْهُمْ أَبَدَا = كُنْ ذَا تَبَرُّكٍ فَتَزْدَادَ الهُدَى
فَإِنَّمَا إِجْلالُ عَالِمٍ عَمِلْ = إِجْلالُ رَبِّ الْعَرْشِ فِيمَا قَدْ نُقِلْ
4- في خِدمة الكبير في السِّنِّ:
وَحَيْثُمَا صَاحَبْتَ شَخْصًا أَكْبَرَا = مِنْكَ فَلا تَزَلْ لَهُ مُوَقِّرَا
وَاخْدِمْهُ في جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ = إِلَيْهِ تُقْضَ لَكَ بَعْدُ الحَاجُ
5- في خِدمة رفقة السَّفر:
وَحَيْثُمَا صَاحَبْتَ قَوْمًا في سَفَرْ = فَكُنْ مُعِينَهُمْ عَلَى كُلِّ وَطَرْ
وَاخْدِمْهُمُ وَارْعَ رَوَاحِلَهُمُ = وَحَاضِنَ امْتِعَتَهُمْ بَعْدَهُمُ
6- في خِدمة كلِّ المُسلمين:
فَاخْدِمْهُمُ طُرًّا لِوَجْهِ اللهِ = فَقَطْ بِلا مَنٍّ وَلا تَبَاهِ
وعَلى أساسِ الخِدمة بنيت المساجد والمستشفيات والمدارس وأضيئت الطرق وأقيمت البنى التحتية خدمة لله في عباده في كلّ مدينة مريدية. من العادة في الطريقة المُريدية أن ترى شيخا يبيع ما عنده من مقتنيات ليقيم مدرسة أو مسجدا أو يدفع راتبا شهريّا لمدرّس، فالشيخ عبد الأحد امباكي خير مثال على ذلك، هذا كلّه يدلّ على ما لهذا المبدأ عند المُريدين من معنى وأهميّة. فلننظر إلى الشيخ صالح امباكي آخر خلفاء الشيخ من أبنائه بما قام به من جهد جهيد وتضحيات ليجمع أموال طائلة وينفقها في خدمة الإسلام، فقد ترك ورائه مليارات قام بجمعها وقفا لله، وحرم أبنائه من أن يرثوها، وهكذا فعل ويفعل جلّ شيوخ الطريقة. فالشيخ محمد المرتضى امباكي من الأمثلة الحية للخدمة أيضا، فقد أنفق أمواله المقدّرة بالمليارات في إقامة مدارس ومساجد وشركات لاستعمال أبناء المسلمين وتعليمهم . [ فلسفة الشيخ الخديم الصوفية، بقلم الشيخ عبد القادر كيبي]
بقلم الباحث والكاتب سرين امباكي جوب خضر الطوباوي خريج معهد الدُّروس الإسلامية ومعلم اللغة العربية والعلوم الشَّرعية.
الهوامشُ:
1- ينظر: العَملُ والخِدمة في المُريدية ضمن كتاب دراسة حول المُريدية ” دائرة روض الرياحين ” طوبى السنغال 1431ه / 2010 م ، إعداد/ الأستاذ شيخنا امباكّي عبد الودود والدكتور خادم سيلا والمفتش محمد المنتقى جتر والأستاذ مصطفى جوب الكُكِّي.
2- ينظر تعريف الخدمة بأبعادها المختلفة في بحث الأستاذ مصطفى جوب الكوكي ” نظرية الخِدمة “.
3- ينظر: العَملُ والخِدمة في المُريدية ضمن كتاب دراسة حول المُريدية ” دائرة روض الرياحين ” طوبى السنغال 1431ه / 2010 م ، إعداد/ الأستاذ شيخنا امباكّي عبد الودود والدكتور خادم سيلا والمفتش محمد المنتقى جتر والأستاذ مصطفى جوب الكُكِّي، والخدمة ومفاهيمها وفضلها ضمن كتابنا ” نبذة حول المريدية والتصوف الإسلامي” نوفمبر 2010م ، ذو الحجة 1431ه .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin