ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة -3-
ومستند ابن عطاء الله في هذا، كلام الله عز وجل، وبيان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهديه العملي.أما الأول، فقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ } { سبأ: 34/46 } وأما الثاني، وهو بيان رسول الله ، فمن ذلك قوله، فيما رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وابن أبي الدنيا من حديث عقبة بن أبي عامر أنه سأل رسول الله: ما النجاة؟ فقال له: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك» .وأما الثالث، وهو النهج العملي الذي بلغنا من سيرة رسول الله ، فهو سلسلة الخلوات التي حببت إليه قبيل بعثته، وحديث بدء الوحي في ذلك معروف ومحفوظ، لا داعي إلى ذكره.قد يخيل إلى بعض منكم أنه ترك هذه العادة بعد البعثة، فلا حجة فيها.والحقيقة أنه لم يتركها بل واظب عليها بعد البعثة، ولكنه لم يلزم نفسه بالذهاب إلى غار حراء، ليجعل منه مثابة لخلواته. بل كان يؤدي هذه الوظيفة في داره. وكان أهم ساعات خلواته، إذا جنّ الليل ودخل الهزيع الثاني منه، كان كما تعلمون يقوم من فراشه فيسبغ الوضوء، ثم يخلو مع ربه مصلياً، تالياً ما شاء له الله من القرآن. وهذا كما تعلم أفضل موضوع يدور عليه الفكر أثناء مثل هذه الخلوة. وإني لأتساءل: لماذا يأمر الله رسوله أمر إيجاب بهذه الخلوة؟ بعبارة أخرى: لماذا يأمره أن يقوم الليل: { يا أَيُّها الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } { المزمل: 73/1-4 } الفرق هو التالي، ولتعلم أن رسول الله قدوة في هذا وغيره للمسلمين جميعاً:لو أدى رسول الله هذه الوظيفة في بياض النهار لما تحققت له هذه الخلوة التي يحفزنا ويدعونا إليها كتاب الله سبحانه وتعالى. الضجيج.. احتكاك الناس الذاهبين والآيبين.. السائلين والمتحدثين.. عوارض الدنيا ومشاغلها.. كل ذلك سيحول دون هدأة الفكر، وصفاء النفس!. ولكن فما هي الساعة أو الســــاعات التي هي مضرب المثل في بعث الصفـــاء في النفــس والهــدوء في الفكر؟.. إنه الهزيع الأخير من الليل،لا سيما ساعة السحر. فالليل ذاته، لا يشبه أوله آخره كم وكم بينهما من فرق!..ولعلّ هذا هو السبب فيما قاله العلماء من أن المتهجد لا يسمى متهجداً إلا إذا نام من الليل ثم استيقظ واتجه إلى الله سبحانه وتعالى بالصلاة والدعاء والمناجاة!.. يستيقظ وقد هدأت النأمة، وعلق الكرى بأنفاس الناس جميعاً، وطابت الخلوة مع الله، في تلك الحالة يتسنى للإنسان أن يشعر بصفاء روحه وهدوء باله، بعيداً عن المشوشات والمعكرات التي كانت تأخذه وتردّه أثناء النهار.فهذه من الخلوات التي فرضها الله على حبيبه المصطفى وجعلها سنة في حق أمته. * * *
ـ أثر العزلة الجزئية عندما يأخذ بها المسلم نفسه على صعيد الحياة السلوكية
والآن، تعالَ نتبين أثر هذه العزلة الجزئية عندما يأخذ المسلم بها نفسه، على صعيد التنفيذ والواقع العملي.افرض أنك تسير مع ثلة من إخوانك التجار في شارع كشارع الحمراء أو سوق كسوق الحميدية، والحديث دائر عن المال والدخل والاقتصاد، وجاء من يذكرك أثناء ذلك الضجيج بحديث رسول الله : «لو كان لابن آدم وادٍ من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» متفق عليه من حديث عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك. ماذا عسى أن يحدث هذا الكلام من التأثير على نفسك؟.. لن يحدث أي تأثير، بل ستتبرم بهذا الكلام الذي جاء في غير ميقاته، ولسوف تتغلب على فكرك ونفسك الحالة التي أنت فيها، والتيار الذي يحيط بك. وفي أحسن الأحوال الإيمانية لديك، ستحترم هذا الحديث وصاحبه، ثم تنساه بعد ثلاث دقائق. ولكن فافرض أنك قمت من الليل، وقد بقي منه الهزيع الأخير، وتأملت السكون الذي يلتف بك، وقد بعث في نفسك صفاء لا عهد لك به، وأنعش فكرك بطمأنينة طالما بحثت عنها ولم تعثر عليها، فاندفعت بوحي من تلك الحال، إلى أن تتوضأ فتقف بين يدي الله تناجيه من خلال ما تيسر من الركعات، ولما جلست تتأمل الحال التي لبستك من خلال مناجاتك لله، في هدأة الليل وسكونه، بعيداً عن الناس والأقران وشواغل التجارة والمال، سمعت من يذكرك بحديث رسول الله : «لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانياً..» الحديث أو يتلو عليك قوله : «يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت» رواه مسلم من حديث عبد الله بن الشخير وأبي هريرة. فما الذي يحدثه سماع هذا الكلام في فكرك ونفسك، وأنت في خلوتك تلك، مندمجاً في تلك الحال؟سيسري تأثير كبير من هذا الكلام إلى نفسك، وسيخبو شعاع الأمتعة والزينة المتناثرة من حولك، وستشعر أن كل ما قد استزدته فوق الحاجة من أموال الدنيا ومتعها قد تحول إلى عبء على كاهلك. ولن يعيدك إلى التعامل معها والاستزادة منها، إلاّ اندماجك ثانية في أعمال السوق وتعاملك مع رواده وأهله.لعلك تقول: فإذا كان العود إلى السوق وأعماله التجارية أمراً لا مناص منه، فما الفائدة من ساعة أخلو فيها إلى نفسي، كهذه الساعة التي وصفت من الليل؟والجواب أن الفائدة ستظهر وتتحقق من استمرار هذه الساعة واتخاذك ورداً لها، والفائدة لا تتمثل في إعراضك عن السوق وإدبارك عن الدنيا وإنما تتمثل في انضباطك أثناء السعي من أجلها، بأوامر الله عز وجل، فلا تقتحم شيئاً من السبل المحرمة إليها، كما تتمثل في تحولها من محبوب يهيمن على قلبك، إلى خادم زمامه بيدك. * * *
ـ والآن تعال نتساءل: لماذا يكرم أحدنا عينيه باليقظة في أول الليل ليلهو بهما عن مولاه، ولايكرمهما باليقظة في آخر الليل ليكون بهما مع الله
إذا عرفت هذا يا أخي المسلم، فتعال نتساءل:لماذا يكرم أحدنا عينيه باليقظة والسهر في أول الليل ليلهو عن مولاه الذي هو الله، ولا يكرمهما باليقظة في آخر الليل ليكون مع الله؟!.. وما أعظم الفرق بين الحالتين، ما أعظم الفرق بين من يساهر الليل، ليحجبه الليل عن الله، ومن ينام الليل ثم يستيقظ في آخره ليكون مع الله!..أخيراً، لا يسرينّ إلى فكرك وهم يخيل إليك أنني أسوقك إلى التصوف بهذا الكلام. دعك من هذه الحساسية التي كم أساءت وأفسدت!..إنني أدعوك بهذا إلى التحلي بما يدعو إليه الإسلام، بما كان عليه نبيك المصطفى عليه الصلاة والسلام.قد تسأل: في الناس من يقولون، إن الانضباط بهذه الخلوة يحتاج إلى مرشد، فهل الأمر كذلك؟وأقول في الجواب: متى كان التمسك بسنة رسول الله يتوقف على مرشد، بحيث إن لم يوجد المرشد تعطلت السنة وتقطع سبيل الناس إلى العمل بها؟..أجل.. لا نشك أن وجود المرشد نعمة كبرى، ولكن وجوده ليس شرطاً لإحياء السنة والتمسك بها، وإنما هو عامل إضافي لتذكير الناس بها، ثم إن ضرورة المرشد فرع عن ضرورة المربي، والتربية أساس اجتماعي لا بدّ منه.على أن الذي يتخذ من أعمال الإرشاد حرفة يتكسب من ورائها ويبني لنفسه مكانة وشهرة بين الناس بها، ليس مرشداً، بل هو صاحب حرفة وطالب معيشة ورزق، طاب له أن يطرق في ذلك باب الدين بدلاً من الدنيا.المرشد الذي هو مرشد حقاً، ذاك الذي تبصر بعلوم الشريعة الإسلامية بحيث أتيح له أن يجعل منها ضابطاً لسلوكه وتصرفاته، ثم إنه ذاك الذي فرغ قلبه من حب الدنيا والتعلق بها، فزهد فيها، وترفع فوق متعها وأهوائها، أعرض عن حظوظ نفسه، ولم يبتغ في شيء من أعماله إلا مرضاة ربّه.تساوى لديه ثناء الناس عليه، مع انتقاصهم له. إذ كانت معاملته مع الله لا مع الناس، وكانت قرة عينه متمثلة في رضا الله، لا في مديح الناس.إذا صادفك هذا المرشد، عليك به وتشبث بأذياله، إذ ما من شك أنه سييسر لك سبيل القرب إلى الله، وأسباب الابتعاد عن مزالق الشيطان، سيحبب إليك اتباع السنة ويجنبك الوقوع في البدع.ولكن لا تجعل سيرك إلى الله متوقفاً على عثورك عليه، إن صادفته سرت وإن لم تجده أعرضت وتوقفت.. يغنيك عن المرشد الحقيقي الذي قد لا تعثر عليه الإخوة الصالحون والناصحون، وما أكثرهم بحمد الله في كل مدينة وصقع.ثم أين أنت من المرشد الأعظم رسول الله ؟ اقرأ سيرته بتدبر، وداوم على الصلاة عليه، يقيض الله لك منه مرشداً يدلّك إن ضللت ويقومك إن اعوججت ويحبب إليك الإيمان، بفضل من الله، ويزينه في قلبك ويكرِّه إليك الفسوق والعصيان.
المراجع
شرح الحكم للبوطي
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin