المؤمنُ بين مخافتين
جهلان إسماعيل
تتوالى علينا الأيام والشهور والسنون وتمضي بنا الحياة بحلوها ومرها وخيرها وشرها ، ونرى ونشاهد بأعيننا كل يوم أحبة لنا كانوا بيننا تخطفتهم أيدي المنون ، منهم الشيخ المسن ، ومنهم الشاب اليافع ، ومنهم ما دون ذلك ، ونعجب عندما نعرف أن فلانا قضى فجأة ولم يشكو يوما من داء ، وننسى أن الحياة أنفاس معدودة فمن استنفذ هذه الأنفاس رحل عن هذه الدنيا إلى مستقره الدائم وموطنه الأبدي ليس معه إلا ما قدم من عمل صالح. وقد يتأثر الواحد منا بمشهد من المشاهد ولكنه سرعان ما ينسى ويعود على سابق عهده من الغفلة والضياع.
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ) الأنبياء 1
يقول أبو العتاهية:
أيَـا مَـن يَـدّعي الـفَهْـم .. .. إلِـى كـَمْ يَـاأخَـا الـوَهْـمْ
تـُعَـبـِّي الـذنـبَ والـذّم .. .. وتـُخطِـي الخـطـأ الجَـمّ
أمَـا بَـانَ لـكَ الـعـَيـبْ .. .. أمَــا أنـذرك الـشـَّيـب
وَمَــا في نـُصْحِـه رَيـبْ .. .. وَلا سَمـعُـك قـَد صَـمّ
أمَـا نـَـادَى بـِكَ المَـوتْ .. .. أمَـا أسْمَعَــكَ الصَّـوْتْ
أمَــا تخشَـى مِنَ الـفـَوْت … … فـَتحـتــَاط َوَتهْـتـَمّ
إن أسوأ ما يصيب المرء المسلم في هذه الحياة هو داء الغفلة الذي يجعله كالسكران الذي يعيش في نشوة سكره ولا يبالي بما حوله، أو كالمريض الذي أصيب بغيبوبة فتعطلت كل جوارحه عن ممارسة وظائفها.
إن الشخص المصاب بداء الغفلة شخص لا همة له ولا همّ له في هذه الدنيا إلا ما يأكله وما يشربه وما يلبسه وما يشبع شهواته، وهو مقطوع عن الآخرة لا يفكر فيها ولايعمل لها
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر 72
والغفلة إنما تنتج عن رضا المرء عن نفسه وإعجابه بحاله. يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله :
” أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها . ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه فأي علم لعالمٍ يرضى عن نفسه ؟ وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه ؟
يعني أن النظر إلى النفس بعين الرضا يوجب تغطية عيوبها ويصير قبيحها حسناً . والنظر إليها بعين السخط يكون بضد ذلك على حد قول القائل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ..كما أن عين السخط تبدي المساويا
فمن رضي عن نفسه استحسن حالها فتستولي عليه الغفلة عن الله تعالى فينصرف قلبه عن مراعاة خواطره فتثور عليه الشهوة وتغلبه لعدم وجود المراقبة القلبية التي تدفعها فيقع في المعاصي لا محالة .
وإنما كان الرضا عن النفس أصل كل المعصية لأنها أمارة بالسوء فهي العدو الملازم . و في الأثر : ” أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ” وناهيك قول يوسف الصديق : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي أن النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } ( 53 ) يوسف .
وخالف النفس والشيطان واعصهما.. وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصماً ولا حكما.. فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
إن الإنسان المؤمن يحتاج إلى قدر كبير من اليقظة والانتباه لأنه محصور بين مخافتين كما ورد في بعض الآثار:
(إِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ : أَجَلٌ قَدْ مَضَى لا يَدْرِي مَا اللَّهُ فَاعِلٌ فِيهِ , وَأَجَلٌ قَدْ بَقِيَ لا يَدْرِي مَا اللَّهُ قَاضٍ فِيهِ ، فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ , وَمِنْ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ , وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْكِبَرِ , وَمِنَ الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ )
إن يقظة العبد المؤمن هي الضمان الوحيد- بعد توفيق الله عز وجل- للنجاة من مخافتيّ الماضي المستقبل ،فمن استيقظ وانتبه من رقدة الغفلة فإنه يستطيع أن يتدارك ما وقع منه من تفريط وتقصير في حق الله تعالى واستخفاف بأمر الآخرة وذلك بالتوبة النصوح والإنابة إلى الله عز وجل والإكثار من الإستغفار والعمل الصالح فيما بقي يستقبل من عمره
ونختم بأبيات من قصيدة للدكتور عائض القرني:
ياغافلاً عن إله الكون يا لاهي… تعيش عمرك كالمذهول كالساهي
الجأ إلى الله واكسب قربه كرماً… والله والله لاتلقى سوى الله
فوِّض له الأمر واقصد بابه فله … لطفٌ خفيٌّ ونعم الآمر الناهي
اللهم لا تدعنا في غمرة ولا تأخذنا على غرة ولا تجعلنا من الغافلين.
جهلان إسماعيل
تتوالى علينا الأيام والشهور والسنون وتمضي بنا الحياة بحلوها ومرها وخيرها وشرها ، ونرى ونشاهد بأعيننا كل يوم أحبة لنا كانوا بيننا تخطفتهم أيدي المنون ، منهم الشيخ المسن ، ومنهم الشاب اليافع ، ومنهم ما دون ذلك ، ونعجب عندما نعرف أن فلانا قضى فجأة ولم يشكو يوما من داء ، وننسى أن الحياة أنفاس معدودة فمن استنفذ هذه الأنفاس رحل عن هذه الدنيا إلى مستقره الدائم وموطنه الأبدي ليس معه إلا ما قدم من عمل صالح. وقد يتأثر الواحد منا بمشهد من المشاهد ولكنه سرعان ما ينسى ويعود على سابق عهده من الغفلة والضياع.
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ) الأنبياء 1
يقول أبو العتاهية:
أيَـا مَـن يَـدّعي الـفَهْـم .. .. إلِـى كـَمْ يَـاأخَـا الـوَهْـمْ
تـُعَـبـِّي الـذنـبَ والـذّم .. .. وتـُخطِـي الخـطـأ الجَـمّ
أمَـا بَـانَ لـكَ الـعـَيـبْ .. .. أمَــا أنـذرك الـشـَّيـب
وَمَــا في نـُصْحِـه رَيـبْ .. .. وَلا سَمـعُـك قـَد صَـمّ
أمَـا نـَـادَى بـِكَ المَـوتْ .. .. أمَـا أسْمَعَــكَ الصَّـوْتْ
أمَــا تخشَـى مِنَ الـفـَوْت … … فـَتحـتــَاط َوَتهْـتـَمّ
إن أسوأ ما يصيب المرء المسلم في هذه الحياة هو داء الغفلة الذي يجعله كالسكران الذي يعيش في نشوة سكره ولا يبالي بما حوله، أو كالمريض الذي أصيب بغيبوبة فتعطلت كل جوارحه عن ممارسة وظائفها.
إن الشخص المصاب بداء الغفلة شخص لا همة له ولا همّ له في هذه الدنيا إلا ما يأكله وما يشربه وما يلبسه وما يشبع شهواته، وهو مقطوع عن الآخرة لا يفكر فيها ولايعمل لها
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر 72
والغفلة إنما تنتج عن رضا المرء عن نفسه وإعجابه بحاله. يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله :
” أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها . ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه فأي علم لعالمٍ يرضى عن نفسه ؟ وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه ؟
يعني أن النظر إلى النفس بعين الرضا يوجب تغطية عيوبها ويصير قبيحها حسناً . والنظر إليها بعين السخط يكون بضد ذلك على حد قول القائل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ..كما أن عين السخط تبدي المساويا
فمن رضي عن نفسه استحسن حالها فتستولي عليه الغفلة عن الله تعالى فينصرف قلبه عن مراعاة خواطره فتثور عليه الشهوة وتغلبه لعدم وجود المراقبة القلبية التي تدفعها فيقع في المعاصي لا محالة .
وإنما كان الرضا عن النفس أصل كل المعصية لأنها أمارة بالسوء فهي العدو الملازم . و في الأثر : ” أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ” وناهيك قول يوسف الصديق : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي أن النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } ( 53 ) يوسف .
وخالف النفس والشيطان واعصهما.. وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصماً ولا حكما.. فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
إن الإنسان المؤمن يحتاج إلى قدر كبير من اليقظة والانتباه لأنه محصور بين مخافتين كما ورد في بعض الآثار:
(إِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ : أَجَلٌ قَدْ مَضَى لا يَدْرِي مَا اللَّهُ فَاعِلٌ فِيهِ , وَأَجَلٌ قَدْ بَقِيَ لا يَدْرِي مَا اللَّهُ قَاضٍ فِيهِ ، فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ , وَمِنْ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ , وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْكِبَرِ , وَمِنَ الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ )
إن يقظة العبد المؤمن هي الضمان الوحيد- بعد توفيق الله عز وجل- للنجاة من مخافتيّ الماضي المستقبل ،فمن استيقظ وانتبه من رقدة الغفلة فإنه يستطيع أن يتدارك ما وقع منه من تفريط وتقصير في حق الله تعالى واستخفاف بأمر الآخرة وذلك بالتوبة النصوح والإنابة إلى الله عز وجل والإكثار من الإستغفار والعمل الصالح فيما بقي يستقبل من عمره
ونختم بأبيات من قصيدة للدكتور عائض القرني:
ياغافلاً عن إله الكون يا لاهي… تعيش عمرك كالمذهول كالساهي
الجأ إلى الله واكسب قربه كرماً… والله والله لاتلقى سوى الله
فوِّض له الأمر واقصد بابه فله … لطفٌ خفيٌّ ونعم الآمر الناهي
اللهم لا تدعنا في غمرة ولا تأخذنا على غرة ولا تجعلنا من الغافلين.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin