..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: ينابيع المودة ـ الشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:59 من طرف Admin

» كتاب: إيثار الحق على الخلق ـ للإمام عز الدين محمد بن إبراهيم بن الوزير الحسنى
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:56 من طرف Admin

» كتاب: الذين رأوا رسول الله في المنام وكلّموه ـ حبيب الكل
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:51 من طرف Admin

» كتاب: طيب العنبر فى جمال النبي الأنور ـ الدكتور عبدالرحمن الكوثر
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:47 من طرف Admin

» كتاب: روضة الأزهار فى محبة الصحابة للنبي المختار ـ الدكتور عبدالرحمن الكوثر
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:42 من طرف Admin

» كتاب: دلائل المحبين فى التوسل بالأنبياء والصالحين ـ الشيخ فتحي سعيد عمر الحُجيري
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:39 من طرف Admin

» كتاب: ريحانة الارواح في مولد خير الملاح لسيدي الشيخ علي أمين سيالة
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:37 من طرف Admin

» كتاب: قواعد العقائد فى التوحيد ـ حجة الإسلام الإمام الغزالي
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:35 من طرف Admin

» كتاب: سر الاسرار باضافة التوسل ـ الشيخ أحمد الطيب ابن البشير
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:33 من طرف Admin

» كتاب: خطوتان للحقيقة ـ الأستاذ محمد مرتاض ــ سفيان بلحساين
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:27 من طرف Admin

» كتاب: محمد صلى الله عليه وسلم مشكاة الأنوار ـ الشيخ عبدالله صلاح الدين القوصي
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:25 من طرف Admin

» كتاب: النسمات القدوسية شرح المقدمات السنوسية الدكتور النعمان الشاوي
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:23 من طرف Admin

» كتاب: المتمم بأمر المعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ الشيخ ناصر الدين عبداللطيف ناصر الدين الخطيب
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:20 من طرف Admin

» كتاب: الجواهر المكنونة فى العلوم المصونة ـ الشيخ عبدالحفيظ الخنقي
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:16 من طرف Admin

» كتاب: الرسالة القدسية في أسرار النقطة الحسية ـ ابن شهاب الهمداني
كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Emptyاليوم في 19:09 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68472
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري Empty كتاب: إحسان الإحسان - 4 - عبد الغني العمري

    مُساهمة من طرف Admin 23/10/2020, 21:23

    إحسان الإحسان - 4 -
    علم التصوف فقه واجتهاد
    يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله:
    [قصدي في هذه الصفحات أن أدل على الله وعلى الطريق إليه. قصدي أن أستنهض الراقد وأستحث الفاتر وأنادي ذوي الهمم العالية إلى مأدبة الله. ما قصدي أن أعرض علم التصوف عرضا أكاديميا تاريخيا موثقا. وما يغني العلم إذا كان وراءه فضول فكري فقط. حديثي حديث القلب إلى القلوب الحرة. نحتاج في حوارنا إلى استبصار العقل وإلى الاطلاع على أحوال القوم لنقوم ننافسهم ونسابقهم في الخيرات كما أمرنا الله جل شأنه.]:
    أولا، ينبغي أن نفرق بين الدلالة على الله، والدلالة على الطريق إليه سبحانه. فالأولى تكون للعباد الربانيين الذين صاروا مظاهر للحقيقة المحمدية، كلّ بحسب رتبته وحظه؛ والثانية، هي للفقهاء المبيّنين لأحكام الدين، الصادقين في ذلك التبيين. وما بين مرتبة الربانيين ومرتبة الفقهاء، ما بين السماء والأرض من جهة المكانة؛ وبالتالي فإن الإمامة في الدين التي يظن كثير من المسلمين أنها للفقهاء، هي للربانيين؛ علم الناس أم لم يعلموا، قُدّم أولئك أم خُلِّفوا. وما كان على الأستاذ عبد السلام أن يستهل كلامه في هذا الفصل، بهذا الخلط المخل، الذي ستنجر عنه أخطاء كبيرة ستسم تصورات وعمل الإسلاميين، الذين من بينهم جماعته ذاتها. وأما عدوله عن العرض الأكاديمي للتصوف، فهو جيد؛ لأنه لن يفيد شيئا، بعكس ما يظن الظانّون. وسنرى فيما هو آت من كلامه، مدى إدراكه لأحوال القوم؛ وكيف هي دلالته عليها...
    [يحتد الخصام حول التصوف في زماننا احتدادا شديدا. كل جدران الاحتياط التي أقامها نقاد التصوف السابقون خرقها بعض كتبة العصر يسايرون في غلوهم هذا تلامذة المستشرقين الذين يسعون جهدهم أن يقدموا التصوف على أنه علم دخيل، والصوفية على أنهم تلامذة البراهمة والغنوصيين. ما مثل هؤلاء إلا كمثل من رأى مائدة حافلة حولها ضيف مكرمون ومن حوالي الضيف ذباب يتطاير ويطن، فزعم أن المائدة ما نصبها إلا الذباب وأن الضيف المحلقين ما هم إلا ذباب كبير.]:
    يريد الكاتب للناس أن يميّزوا بين الصوفية والمتصوفة؛ فالضيف المكرمون في مثاله، هم الصوفية الأصلاء، الجامعون بين فقهي الظاهر والباطن، والعالمون بالشريعة والحقيقة؛ والذباب، هم المتصوفة الذين يتشبهون بالصوفية في بعض مظاهرهم أو بتكرار بعض كلامهم، من دون أن يكونوا على قداستهم (طهارتهم) ذاتها، وعلمهم عينه. ولقد أصاب -رحمه الله- في الإشارة إلى تلامذة المستشرقين عندنا، الذين يأخذون التعاريف عن أئمتهم الغربيين، فيخالفون بذلك الحقيقة كما هي في نفسها، ويتنازلون عن عقولهم التي كان ينبغي أن يُعملوها عند النظر في تراثهم.
    [نعم طرأ بعد القرون الفاضلة الثلاثة هجوم الفكر الفلسفي الهيليني وتأثير التأله الفارسي والهندي والصابئي.]:
    إن ما أصاب الأمة الإسلامية من تأثير ما ذكر الأستاذ، لم يكن متعلقا بالتصوف في المرتبة الأولى، كما يظن من يعتمد في نظره المقارنة الصورية السطحية؛ ولكنه قد شاب المتكلمين قبل غيرهم، عندما دخلت عليهم الفلسفة اليونانية ومنطقها. وفقهاء الكلام هم من يسهل أخذهم حيث يُراد -بسبب غياب النور لديهم- عند مطالبتهم بتفسير المتشابه من الوحي، وبالتقعيد للإلهيات الإسلامية على غرار ما كان لدى الكتابيين السابقين. وأما الصوفية الأحقاء، فقد كانوا على مر الزمان يأخذون علمهم عن الله، وإن استنكر حالهم الفقهاءُ الذين لا مشاركة لهم في أذواقهم. يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ [كارتداد الفقهاء والمتكلمين بالمعنى المنهجي] عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [فهم خواصه من عباده] أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [بإعزاز الله وذلا له سبحانه] يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [بكل أصناف الجهاد الذي في مقدمته جهاد أنفسهم فيه] وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [لأنهم لا يُعاملون إلا الله] ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [إن فوزهم بهذه المكانة وما تقتضيه ليس لعمل أو لصفة لديهم، بل هو اصطفاء إلهي أزلي، ظهر في صورة مناسبات تقتضيها الحكمة] وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [واسع يسع بفضله من يشاء، وعليم بمن هو من أهل الاختصاص ومن هو من غيرهم]} [المائدة: 54].
    [وطرأ بعد الإمام الغزالي الذي حاول إصلاح ذات البين بين فقهاء الأحكام وفقهاء التربية تسلل الفلسفة الإشراقية وعقائد الحلول والاتحاد الملعونة.]:
    كأن الكاتب قد بدأ يذكر لنا نماذج من "خبراء التربية"، الذين وعد في الفصل السابق بالوقوف عندهم. ولقد أصاب في اعتبار الغزالي أحد أعلامهم، وفي اعتبار تصوفه -رضي الله عنه- مفصليا في تحديد معنى التصوف لدى كل من بعده؛ فهو الذي سيجدد له (في نطاق معلوم) بعد انحراف وضعف، قوته وأصالته الدينية. لكنه بعكس ما يظن الناس من تأثرٍ لديه بالفلسفة، لم يعمل إلا على إدخال وسائلها كالمنطق في منهجه، ليقرب التصوف إلى العقول التي أصبحت لا تستغني عن بعض تفلسف في البرهنة والبناء المعرفيين. أما الفلسفة الإشراقية، التي يُتهم بعض الصوفية بتقليد المذاهب الآسيوية فيها، فالقول بها لا يصح بالمعنى المعروف؛ كما لا تصح نسبتها إلى بعض الأعلام كالسهروردي "الشهيد" (بدل المقتول)، والذي له كتاب يحمل عنوان: "حكمة الإشراق". وليس الأمر فيها على غرار ما هو لدى غير المسلمين، وإن ظهرت بعض أوجه التشابه السطحية جامعة بين هذه وتلك في عين الناظر غير الخبير؛ بل إن حكمة الإشراق لدى السهروردي أو غيره ممن سيُنسب إلى هذا المذهب من المسلمين، صنف من صنوف التصوف ومظهر من مظاهره، اصطبغ بصبغة عصره ومصره فحسب. وهذا إثراء لوجوه التدين لدى المسلمين داخل دائرة السنة من غير شك، وبديل من الحق عن مقابله في الباطل؛ لأن الدين الحق مغن لأهله عن الباطل في كل المجالات المعرفية التي عرفتها البشرية أو ستعرفها يوما؛ وهذا من الحجة التي لله على خلقه، لو كانوا يشعرون. فكما أن الله في مجال الحس يدعو عباده إلى الهجرة من بلد إلى آخر في قوله سبحانه: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]، فكذلك في المجالات المعرفية، ليس لأحد حجة بزعمه أنه لم يكن يجد عن علوم المبطلين بديلا في الدين الحق؛ ومن ذلك البديل الحكمة الإشراقية الإسلامية في ظروفها. ولهذا الصنف من التصوف، أساس متين في الحقائق يعضده، لن نذكره بسبب عدم تعلق الكتاب به. ومعلوم عند أهله، أن الحقائق هي الأساس الذي تنبني عليه كل الأبنية المعرفية والخَلقية من جميع التجليات الإلهية المحيطة. ومن عرف أساس بناء ما، فقد عرف وجه الحق منه!...
    وأما عقائد الحلول والاتحاد التي ذكرها الكاتب، ويريد نفيها عن التصوف، فهو في ذلك محق مبطل من وجهين: فهو محق في نفيها، لأن الصوفية ما قالوا بها ولا عملوا عليها يوما؛ وإنما هي من قول من قصر عقله عن إدراك المعاني التي خاضوا فيها، فلم يجد لها تخريجا إلا القول بما قال. نعلم هذا نحن، وكأننا نراه رأي العين!... فالقول بالحلول والاتحاد، يُلزم القائل، ولا يُلزم التصوف ولا الصوفية. وهو مبطل، لأن الربط بين التصوف والقول بالحلول والاتحاد لا يصح، لعدم انبناء التصوف على شيء من ذلك من حيث قواعده التي لا خلاف على شرعيتها الإسلامية؛ وهذا يعني أن هذا الأمر لا يحتاج منا نفيا من أصله. وأما ورود لفظي الحلول والاتحاد في كلام بعض الصوفية، فهو أمر آخر، يُفهم منه غير ما يدعو إليه اللفظ في العادة؛ خصوصا وأن جل ذلك قد كان شعرا؛ والشعر لا تؤخذ الألفاظ منه في أحيان كثيرة على ما تعطيه في اللغة، بسبب كثرة الاستعارة والتشبيه والكناية وغير ذلك من مقتضيات الشعر الموسِّعة للغته ولمعانيه. ومن الأمثلة على ذلك: قول الحلاج رضي الله عنه:
    أنا من أهوى ومن أهوى أنا *** نـــــحن روحان حللنا بدنا
    فـإذا أبصرتني أبصــــــرته *** وإذا أبصــرته كــــان أنـــا
    روحه روحي وروحي روحه *** من رأى روحين حلا بدنـا
    فورود لفظ "حللنا" هنا، لا يدل على الحلول، وإنما هي كناية عما يحصل للولي من تحقق بالحق. والدليل على هذا، هو أن المحلول فيه، إن اعتبرناه المخلوق، عدمٌ محقق العدمية عند الحلاج وأقرانه. والحلول بهذا الاعتبار سيخرج حتما عن ذاك الذي يقول به القائلون من أهل الحجاب؛ بل إن هذا الحلول، هو مدلول قول الله نفسه سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، وأمثالِه من القرآن والسنة؛ من دون حاجة إلى تطويل. فهذا من التوحيد الخاص، الذي لا نرى للأستاذ عبد السلام قدما فيه، وليس من الشرك كما يزعم الزاعمون؛ بل إن من يفهم الحلول من كلام الصوفية، هو الذي يكون حتما من المشركين (الشرك الملازم للعوام). وأما من توقف عند لفظ "روحين"، فليعلم أن المقصود المعنيين، لا الروحين بالمعنى المعروف؛ من باب كون المعنى روحا للفظ حيث كان. والمقصود من المعنيين: معنى الوجود ومعنى العدم؛ لأن العدم معنى وإن لم يكن وجوديا. وإيراده للبدن بالإفراد إشارة منه -رضي الله عنه- إلى ظهور معنى العدم في الوجود، لكونه لا يقوم بنفسه؛ فهو يريد أن يقول: ما ظهر في الوجود إلا الوجود الحق، لا العدم. وأما إن سأل سائل: لمَ يتكلم الحلاج وأمثاله عن هذه المعاني في هذه القوالب المتشابهة، الموحية بما لا يصح؟ أجبنا: إنهم يفعلون ذلك مضطرين، لتداول معان مشتركة بينهم: يأنس فيها أحدهم بصاحبه، أو يُعلِّم بها أستاذ تلميذه، من دون حاجة إلى إفصاح؛ لعلمهم بأن العقول الضعيفة لا تتمكن من تبيّنه، وبهذا فهي تأمن فتنته. نعني أن الصوفية لو صرحوا بعلومهم، لضاقت عنها العبارة وانحرف المعنى، ولفُتن الناس بكلامهم أشد بكثير مما هو واقع الآن؛ وهذا خلاف مرادهم بالقطع. لذلك كان الأفضل للقاصرين أن لا يخوضوا في مثل هذه العلوم، حتى لا يهلكوا بها وفيها. ومن ذلك أيضا قول ابن الفارض:
    وها أنا أبدي في اتِّحادي مـبـادئي *** وأنهي انتهائي في تواضع رفعـتـي
    وورود لفظ "اتحادي" هنا، كورود لفظ "حلا" و"حللنا" من شعر الحلاج السابق. نعني فكما أن حلول الحلاج ليس حلولا بالمعنى المتعارف لدى المنكرين، فكذلك اتحاد ابن الفارض ليس ذاك الممجوج من قِبلهم؛ لأن المعنى الذي يقصده ابن الفارض قيام الصورة العدمية بالوجود؛ وهذا يعطي مشهودا واحدا ومعلومين. فمن أدرك هذا فقد أدرك، ومن فاته فلا يطمعن في نيله من جهة تفكره وحده. فكم اشرأبت إلى التوحيد الخاص أعناق، لم تحظ به، مع بذلها فيه النفس والنفيس لعزته. ولقد كان جديرا بالكاتب أن ينبه إلى ما ذكرنا، إن كان من أهله، حتى لا يؤكد للواهمين وهمهم ويشاركهم إثمهم.
    وأما إن كان مراد الأستاذ القدح في تصوف الصوفية، ليُثبت شرعية تصوف المتصوفة الذي هو عليه، فهو إخلال بمقتضى العلم؛ لأن العلم لا يسمح للأدنى الجاهل بالاعتراض على الأعلى العالم، وإلا صار الجهلة أئمة في المجتمعات، يقودونها إلى أسفل سافلين. نعني من هذا أن الاعتراض أو الاستدراك أو التصويب، ينبغي أن يكون بين أصحاب الطبقة ذاتها، أو من الأعلى إلى الأدنى، لا بالعكس. وهذا مبدأ يُغفله الناس كثيرا، فيقعون في الخلط وبالتالي في الغلط.
    ولا بأس هنا من باب تكميل الكلام، أن نذكر حقيقة القول بـ"وحدة الوجود"، والذي يكاد يُلصقه الجميع بأئمة للتصوف منزهين تنزيها عنه وعن أمثاله. ولنشر باختصار إلى مكمن الغلط لدى القائلين، زيادة على ما ذكرناه بخصوص الحلول والاتحاد، فإنه يشاركهما في تلك الأوجه. ففي البداية، مصطلح "وحدة" لا يصح، لأن القول بها يُثبت تلقائيا "الكثرة" في مقابلها. والكثرة في الوجود لا تصح. فالأصوب -أولا- فيما يتعلق بالوجود وحده، القول بـ"أحدية الوجود". وقد كنا كتبنا في هذا المعنى رسالة في الرد على سعيد فودة -وفقه الله- ربما سنزيد فيها -بتوفيق الله- ونخرجها إلى العموم. وثانيا، إن الكلام في الوجود هو كلام في الذات، لا في الصفات كما يُظن. وكل كلام في الذات فهو منهي عنه من قِبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لقوله: «تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللهِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللهِ!» [1]. ومن كان من أهل التوحيد الخاص، فإنه سيعلم لمَ وقع النهي. ومخالفة هذا النهي من قِبل المتكلمين، هي ما أدى إلى الضلالات المختلفة التي انتشرت في الأمة. وهكذا، فإنه لا يزيغ أحد عن الصراط، إلا إن خالف أمرا أو نهيا نبويين!... فمتى يعزم المسلمون على العودة إلى السنة حقيقة؟!...
    [موكب النور من كتائب أهل الله ما سار منذ عهد النبوة إلا على هدي أصيل وإن جدت مصطلحات دعت إليها ضرورة التفاهم بين أهل الاختصاص، وجدت هيآت وتكتلات دعت إليها ضرورة التعاون. تماما كما جدت مصطلحات وتكتلات في مدارس التفسير والحديث وعلم أصول الفقه وعلم فروعه وعلم أصول الدين وعلم اللغة وسواها.]:
    يقيس الأستاذ التصوف -في عملية تقريب إلى من لا يعلمه- على سائر العلوم الدينية، التي ما استقل بعضها عن بعض، ولا امتازت مصطلحات بعضها عن بعض، إلا بعد فترة من تأسيس الدين في عصر ما يُسمى بـ"التدوين". فكأن كل هذه العلوم التفصيلية، بسط لكل ما كان مجملا فيما جاء تحت لفظ "العلم" في اصطلاح الوحي. وهذا القياس -وإن كان جيدا- فإن الأستاذ لم يكن أول قائل به، ولا هو (القياس) أفضل مدخل لتقريب التصوف إلى الناس؛ لأن أصحاب العلوم المقيس عليها، منهم من يُنكره مع ذلك. فكأنهم يقولون بلسان حالهم: لو كان التصوف علما شرعيا، لأثبتناه نحن، عند إثباتنا للعلوم المذكورة. وبما أننا لا نقره، فهذا يجعله في نظر السامع -على الأقل- مشكوكا فيه. وأما الصواب في هذه المسألة، فهو أن الفقه شطران، كما الإنسان حقيقتان: شطر متعلق بالباطن، وشطر متعلق بالظاهر. وليس الباطن هنا، إلا باطن الإنسان (قلبه)؛ وليس الظاهر إلا ظاهر الإنسان (بدنه وصورته الطينية). وقد يطلق لفظ الظاهر في العلم، على ما يُدرك بالحواس أو بالعقل من حيث هو آلة فكر وقياس. والعلوم الدينية التي يشتغل بها علماء الدين في العادة، هي ظاهرية بسبب كونها لا تخرج عن الإدراك العقلي المذكور آنفا، والذي يتأسس على الإدراك الحسي العام والمشترك. وأما ما يتعلق من العلم بالباطن، فهو ما يُدرك بالإذن الخاص من الله ورسوله، ويكون غير محسوس ولا مستنبط بالعقل؛ وهذا هو ما يُصطلح عليه بالكشف وبالعلم اللدني.
    [لكي يطمئن حوارنا نثق بعلمائنا، فنستمع إلى حكمهم على علم التصوف، ولا نصدق المغرضين الذين يعملون معاول الهدم في سلفنا الصالح يحاربون الإيمان بالغيب وبسمو الروح وكمال الإحسان ويؤلهون العقل والمادة.]:
    يريد الكاتب رحمه الله، أن يجعلنا نعتبر كلام علماء الدين المرموقين من سلف الأمة، والذين كانوا يُجلون التصوف وأهله؛ بل إن كثيرا منهم -رحمهم الله- لم يكونوا يستغنون عن صحبة صوفية عصورهم، ليزدادوا في علومهم نورا، وتصيب البركة أقوالهم وفتاواهم. ولقد جمع بين علمي الظاهر والباطن رجال منهم: أبو القاسم الجنيد، وعبد القادر الجيلاني، وأبو حامد الغزالي، ومحيي الدين بن العربي، وعبد الوهاب الشعراني، وغيرهم كثير... وأما من عُرفوا بعلم الباطن وحده، فعددهم لا يحصره عادّ. وعندما نقول إنهم عُرفوا بعلم الباطن، فمن باب التغليب، وإلا فإن باطنا بلا ظاهر لا يقوم أبدا؛ إلا إن كان المرء من أرباب الأحوال الذين رفع عنهم التكليف؛ فأولئك صنف مستقل لوحدهم.
    ويحذر الأستاذ من مغرضي فقهاء الظاهر، الذين جهلوا مكانة العلوم المتعلقة بالقلب، وتحاملوا على أهلها، وبلغ الأمر بهم أن كفّروا شطرا منهم، أو بدّعوهم وفسّقوهم؛ لا لشيء، إلا لأنهم لم يُدركوا مراميهم، ولم يعلموا أصل ذلك من الوحي. وقد اعتبر الكاتب هذا الصنف من العلماء هادما للدين، محاربا للإيمان بالغيب([2]). وقد أصاب رحمه الله في هذا الحكم، وأحسن إذ نبه إليه من يريد الحفاظ على دينه. وأما المؤلهون للعقل وللمادة، فرغم أن الصنف السابق يدخل ضمنهم جزئيا، فإنه لا يصدق وصفهم على التمام، إلا على الملحدين (المعطلة) قديما وحديثا؛ الذين لا يقرون إلا ما يدركون بحواسهم. وهؤلاء، لا يكونون على دين بالمعنى المعروف، وإن كانوا في الحقيقة يعبدون أنفسهم وأمثالهم من دون أن يشعروا.
    [ولا نصدق مقلدة قاصرين تبنوا عن انطماس في العقل والبصيرة وعن جهل بموضوع الجدال وأوائله وتواليه معارك قديمة.]:
    يحذر الكاتب من الاستماع إلى أقوال المتعصبين للمذاهب، الطاعنين في أهل التصوف بغير علم، وإنما انتصارا لأئمتهم فحسب. وكلامه عنهم من كونهم غير مؤهلين لأن يُجادلوا، صحيح؛ بسبب عدم إلمامهم بطرائق الحجاج. فالحجة عندهم قول إمامهم ورأيه، لا دليله. وما أكثر هذا الصنف في الناس، عند ذهاب العلم وذهاب أهله. وهو يعرّض هنا -من غير شك- بالتيميين الوهابيين...
    [نستمع أولا إلى فارس الإسلام وشيخه ابن تيمية رحمه الله. نستمع إليه لأمرين: أحدهما أن كثيرا من معاصرينا يعتبرون شهادته هي الكلمة الفصل، فلا نحب أن نفجعهم وهم في مهد الإعجاب غير المشروط بوضع الفارس الجليل في مكان نسبيته. والاعتبار الثاني هو أن شيخ الإسلام رحمه الله من أجل من حارب الإلحاد والفلسفة ومنطقها.]:

    ليس ابن تيمية من خبراء التربية الذين أراد الكاتب الاعتضاد بأقوالهم. وهو قد أتى على ذكره لكونه (ابن تيمية) من أكبر المدلسين؛ بل إنه من الآن سيقتفي أثره في التدليس، علم أم لم يعلم. فشهادته لابن تيمية بمشيخة الإسلام، والتي يقلد فيها أتباعه من مطموسي البصائر السابقين والمعاصرين، قد خرج بها من الصنف الذي أوصانا باعتبارهم والأخذ عنهم، في كلامه السابق. فكأنه نظّر لنا، ولم يُحسن التطبيق العملي (التنزيل) لنفسه. وقد استحضر الكاتب في شهادته ابن تيمية لسببين، سنفحصهما سريعا:
    الأول: هو أن أتباع ابن تيمية كثر في عصرنا، وهو لا يريد أن "يفجعهم"؛ وهذا يدل على أنه عالم بانحراف ابن تيمية ولكنه يراعي الأتباع؛ وهذا من السياسة لا من العلم. فهو يريد تجسير الهوة بينه وبين التيميين، ليلتحقوا بدعوته. وهذا الأسلوب، هو ما سميناه تدليسا من طرف الكاتب.
    الثاني: هو كون ابن تيمية، من أشد من حارب الفلسفة ومنطقها (بزعم الكاتب). فكأنه يريد الاقتداء به فيما فعل، ليعود بالناس إلى الدين الأصلي الذي يعتمد على التلقي. والحقيقة هي أن ابن تيمية كان من أكثر الناس إعمالا للمنطق العام (الذي ليس إلا شطر المنطق الديني)؛ وأنه قد تفلسف -من غير شك- من داخل الدين، وإن حارب الفلسفة التي خارجه. ونعني بالتفلسف لديه ولدى غيره من علماء الدين عبر العصور، ما يُنتجه العقل بطرائقه. وهو بهذا الفعل داخل ضمن المتكلمين المتأخرين، وإن لم يعدده العلماء منهم لتدليسه.
    وهذه السقطة من الأستاذ عبد السلام، والتي يبغي من ورائها تألُّف التيميين، لن تنفعه من جهة العلم، بل ستضره؛ ولكنها ستنفعه في اجتلاب شطر من المتسلفة التيميين إلى حركته، لِيُبْقوا على عدم التجانس مستمرا من بداية التأسيس وإلى الآن، مع فارق في القوة والضعف في هذه الصفة بحسب المراحل الزمنية المتعاقبة.
    [فللمرتاحين في المهد نقدم جواز المرور، وللمتعسفين نقدم جبهة إسلامية واحدة، ابن تيمية ابنها وفارسها، خصامها بينها من داخلها، خصامها ظاهرة صحية تبرهن على قدرتها أن تنتقد أخطاءها وتتحاور وتصلح.]:
    يدعو كاتبنا التيميين بصنفيهم المعتدلين (ولا اعتدال في الحقيقة) والمتشددين، إلى حوار فيما بينهم، يلجئهم جميعا إلى التزام كلام إمامهم وعدم تجاوزه، لكي يجد هو أرضية مشتركة يدعوهم منها إلى ما يريد من أمر. ولعل هذا قد أفلح مع بعضهم، ممن كان له انجذاب إلى العمل الحركي، على غرار ما فعله السروريون من جمع بين الأمرين في الجزيرة العربية على الخصوص. والتحدي الذي سيواجه الأستاذ عبد السلام، كما واجه كل من شابهه قبله، هو: إلى أي حد سيمكنه التوفيق بين التزام المبادئ واستقطاب الناس؟ لأن العمل الحركي، قد يستدعي تنازلات مختلفة -بحسب المخاطَب والظروف والمتغيرات- قلما يسلم الأمر معها لصاحب دعوة من الدعوات!...
    [قال شيخ الإسلام: «والصواب أنهم (أي الصوفية) مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم في طاعة الله. ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين. وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ. وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب». وقال: «وإنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي».]:
    سنرد هنا على ابن تيمية، من أجل الرد على عبد السلام ياسين:
    1. ابن تيمية، لا يفهم من "طاعة الله"، إلا طاعة الأبدان باعتبار العمل القلبي الوحيد، المناسب لأهل مرتبة الإسلام، والذي هو النية. فقياسه طاعة الصوفية على طاعة غيرهم، لا يصح منه، لاختلاف مراتب الطاعة، بحسب كل مرتبة من مراتب الدين، والتي هي: الإسلام – الإيمان – الإحسان. وقد كان يجدر بالكاتب أن يعتبر هذا، إن كان يريد الكلام -كما يدل عنوان الكتاب- عن الإحسان/المرتبة. وحيث إنه لم يفعل، علِمنا أنه (الكاتب) يجهل ما يتعلق بالمراتب من علم، إجمالا وتفصيلا.
    2. إن المراتب الدينية التي هي متراتبة عموديا، ليكون أدناها الإسلام وأعلاها الإحسان، لا علم لابن تيمية بحقيقتها؛ لذلك هو يفهمها على نحو أفقي، يُجاور بعضها في مرتبة الإسلام (التي يخلط بينها وبين الدين) البعض الآخر. ويبني فهمه السقيم هذا جهلا، على قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]. وقد بنى ابن تيمية نظريته التي أعمى بها بصائر كل من اتبعه، على قاعدة ثلاثية يتوهم منها أنه سيحيط بكل مراتب الدين بحسبه، لا بحسب التعريف النبوي الذي مررنا به في حديث جبريل المعروف. فهو يجعل الظالم لنفسه مرتكب الذنوب، والمقتصد من يأتي بالفرائض وحدها، والسابق بالخيرات من يأتي بالمستحبات إلى جنب الفرائض. وكما لا يخفى، فإن ابن تيمية لم يخرج في فهمه هذا، عن مألوف مقلدة الفقهاء وصغارهم، بله أن يكون من أهل الاجتهاد في الفقه كما يزعم ذلك له أتباعه، وكما انخدع الكاتب، حتى وصفه باللقب الذي يحلو لعُمْي البصائر أن يخلعوه عليه: "شيخ الإسلام". ولقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المقصود من هذه الآية الأمة المحمدية. وأن معنى وراثتها الكتاب، هو بسبب مآل التنزيل والوحي إليها، من كونها مَن تلقت القرآن الذي هو من الكتب المهيمن الجامع الشامل الخاتم. وأن الأصناف الثلاثة عند جل المفسرين من أهل الجنة الذين يدخلونها؛ لكن لا على الهيئة ذاتها ولا في الدرجة عينها. فالسابقون بالخيرات بحسب هذا التقسيم، هم من يدخلون الجنة بغير حساب؛ والمقتصدون هم من يدخلونها بعد الحساب، والظالمون لأنفسهم، هم من يدخلونها بعد المغفرة لذنوبهم، أو بعد قضاء مدة عقوبتهم في النار وخروجهم منها. هذا ما يوافق علم الظاهر، وما يبدو جليا أن ابن تيمية قد نزل عنه، إلى ما يمكن أن نسميه "معوجّ الظاهر". وأما ما يتعلق بالباطن، فنورد له نحن مرتبتين: مرتبة سلوكية، ومرتبة تحقيقية. فنقول فيما يؤول إلى المرتبة السلوكية: الظالم لنفسه، هو المجاهد لها بغية ترويضها؛ والمجاهدة كما يعلمها أهلها تقوم في معظمها على ظلم النفس وإيلامها ظاهرا وباطنا. وأما المقتصد، فهو بمعنيين: أدنى من الظالم، وهو الملتزم لأحكام الفقه الظاهر من أهل مرتبة الإسلام، الذين لم يدخلوا في مجاهدة قط؛ وأعلى: وهو من فرغ من المجاهدة وعاد إلى تحكيم الأحكام الفقهية الأصلية (باعتبار أن أحكام المجاهدة استثنائية). وأما السابق بالخيرات، فهو الرباني الذي انتفت ظلمته وتحقق بربه؛ فهذا سابق غير مسبوق، وأعماله بربه لا بنفسه. والفقه لا خبر له عن حكم أعمال من كانت هذه مرتبته. وهذه المرتبة، تكون لأئمة الدين من هذه الأمة، بالمعنى الصحيح للإمامة لا المجازي. وأما المرتبة التحقيقية من التفسير فتعطي: أن الظالم لنفسه هو الولي الخامل، الذي يعمل على إخفاء خصوصيته؛ ويكون المقتصد، هو من يظهر ويختفي بحسب المواطن؛ وهذا، لا يكون إلا من كبار العلماء بالله الذين لهم علم خاص في كل شيء؛ وأما السابق بالخيرات فهو الظاهر بربه في ظهوره والباطن به في بطونه، بحيث يكون حكمه حكم الحق ذاته من غير زيادة ولا نقصان. وهؤلاء ليسوا إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم خواص أتباعه من الأئمة الذين منهم الخلفاء وأئمة أهل البيت على الجميع السلام. والكلام في تفاصيل الآية يطول، ونحن نبغي الاختصار بإذن الله.
    3. يظهر من كلام الكاتب أنه موافق لابن تيمية في تقسيمه، وبذلك ينبئنا أنه يتكلم من مرتبة الإسلام، وإن كنا نحن نحسبه أعلى من ابن تيمية نفسه، وأنه من أهل مرتبة الإيمان إن شاء الله. وعدم إدراكه لتفاصيل المراتب، يحكم عليه بعدم بلوغه مرتبة الكمال الوراثي، لأن هذه العلوم من توابعها. ولعل مقبلَ كلامه، سيحدد لنا مرتبته شيئا فشيئا. وعلى كل حال فنحن إلى جنبه، نحب أن نثبت له أعلى المقامات وأسنى الأحوال، إن وجدنا ما يعزز إرادتنا فيه. فالحمد لله، نحن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا...
    وأما إيراده لقول ابن تيمية: «وإنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي»، فلا يصح؛ لأن الصوفية لا يصدرون عن آرائهم، وإنما هم أهل كشف وتعليم إلهي. ولا يتعلق الرأي منهم أحيانا لا دائما، إلا بطرائق تربية مريديهم إن كانوا شيوخا مربين. وكون عبد السلام ياسين استدل بهذا القول، يجعلنا نعي أنه موافق له؛ ومن كونه كذلك، فهو لا زال على فكر ديني وإن كان أقل سوءا من ابن تيمية، كما أسلفنا؛ لأن الواحد من أهل الله عندما يُدرك المعاني على وجهها، لا يتمكن من النزول إلى موافقة أهل النقص في نقصهم. هذه قاعدة ينبغي أن تُعتبر!...
    [وقال تلميذ ابن تيمية الإمام ابن القيم: «وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولا من وصف حالتهم وعدم الاتصاف بها. بل ما شممنا لها رائحة. ولكن محبة القوم (أي الصوفية والكلمة مصطلح) تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها. وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة (...) ومنها أن هذا العلم (يعني علم التصوف) هو من أشرف علوم العباد، وليس بعد علم التوحيد أشرف منه، وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة». حياك الله من رجل!]:
    أولا، ابن القيم ليس إماما من الأئمة الذين أشرنا نحن إلى مرتبتهم سابقا، وإن رام الكاتب جعله من خبراء التربية. أما إن كان يُقصد من الصفة معناها اللغوي الذي يجعل كل متبوع إماما، فهو سائغ في حقه وفي حق غيره؛ لكنه لا يُسعفنا في رحلتنا المعرفية هذه. وعلى كل حال، فكلام ابن القيم أعلى من كلام شيخه ابن تيمية، وأدخَلُ في الأدب اللائق بالعلماء، وأنفع لصاحبه عند ربه إن شاء الله. ثانيا، وكما أخبر رحمه الله عن نفسه، فما شم رائحة مرتبة الصوفية حتى يُخبر عنها؛ وإنما هو متصور متمثل. وإن ما يدل على ما نقول في حقه، قوله: "ليس بعد علم التوحيد أشرف منه (أي التصوف)"، وهذا يعني أنه على التوحيد العام المشوب، الذي نزل به ابن تيمية عما هو مناسب لمرتبتي الإسلام والإيمان وحدهما. وإيراد الأستاذ لهذا الكلام من ابن القيم، يدل على أنه أيضا، لا قدم له في علم التوحيد الخاص الذي هو مناسب لمرتبة الإحسان فما فوق؛ والذي كان ينبغي -بحسب عنوان الكتاب- أن يفصّل الكلام في كل ما يتصل به (التوحيد) من علوم ومقامات.
    [نجد عند الغزالي وهو من أكابر القوم ما يلي: «ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب. ويدلك عليه قوله عز وجل: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ﴾. وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة».]:

    يقول الشيخ الأكبر عن الغزالي إنه من عوام الطريق!... هذا يدل على بُعد ما بين المرتبة والأخرى في هذا العلم؛ وإن كان الأدنى لن يعلم من أمر الأعلى شيئا في الحقيقة. فكلام الغزالي -مثلا- في الإحياء، لا يُجاوز مرتبة الإيمان، ولا يشير إلى مرتبة الإحسان إلا إجمالا عندما يذكر أن المسألة الفلانية تتعلق بعلم المكاشفة. وما يشير إليه الغزالي -رضي الله عنه- بكلامه هنا، هو ما ذكرناه نحن آنفا من تعلق العلم بباطن الإنسان في مقابل العلم الظاهري. وأسلوب الغزالي في الدلالة على ضرورة تحقيق الكمال العلمي، الذي هو الجمع بين شقّيه الظاهر والباطن، هو من الصرامة العقلية والحبك المنطقي، بحيث يقل في الأمة من يجاريه في ذلك. فجزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين، ونفع به إلى يوم الدين.
    [ونجد عند الفقيه الأصولي الإمام الشاطبي تفصيلا: فالتصوف عنده قسمان: «أحدهما التخلق بكل خلق سني، والتجرد عن كل خلق دني. والثاني أنه الفناء عن نفسه والبقاء بربه. وهما في التحقيق إلى معنى واحد، إلا أن أحدهما يصلح التعبير به عن البداية والآخر يصلح التعبير به عن النهاية (...) فالتصوف بالمعنى الأول لا بدعة في الكلام فيه (...) وهو فقه صحيح. وأصوله في الكتاب والسنة ظاهرة. فلا يقال في مثله بدعة إلا إذا أطلق على فروع الفقه التي لم يلف مثلها في السلف الصالح أنها بدعة، كفروع أبواب السلم ومسائل السهو (...) وأما بالمعنى الثاني فهو على أضرب، أحدهما يرجع إلى العوارض الطارئة على السالكين إذا دخل عليهم نور التوحيد الوجداني. فيتكلم فيها بحسب الوقت والحال وما يحتاج فيه في النازلة الخاصة رجوعا إلى الشيخ المربي وما بين له في تحقيق مناطها بفراسته الصادقة في السالك بحسبه وبحسب العارض. فيداويه بما يليق به من الوظائف الشرعية والأذكار الشرعية. (...) فمثل هذا لا بدعة فيه لرجوعه إلى أصل شرعي». ويذكر رحمه الله الضرب الثاني وهو ما يتعلق بالكرامات وهو لا بدعة فيه، وعن الضرب الثالث وهو البحث في عالم الغيب وماهية الملائكة والشياطين وعالم الأرواح وهو بدعة، وعن الضرب الرابع وهو النظر في حقيقة الفناء وهو فقه متعلق بأهواء النفس لا بدعة فيه.]:
    الشاطبي لا يُعتدّ بكلامه عن التصوف والصوفية، لأنه يحكم من خارج المجال، ومع تحقق عدم إحاطته بمعانيه؛ وإن كنا نرى أنه من صنف الفقهاء المنصفين الذين لا يُسارعون إلى سوء الظن بعباد الله. وأما كلامه عن الفناء فهو جهل محض، وتصور لا يخلو من تكلف. والسبب في جهالة الفقهاء (الجهالة فعل الجاهل)، هو توهمهم القدرة من أنفسهم على الحكم على كل ما يعرض لهم؛ وهذا غلط بيّن وخفة لا تخفى. ونحن لما ميّزنا سابقا بين الشق الظاهر من العلم والشق الباطن، فإنما أردنا أن لا يُجاوز أهل الظاهر مكانتهم بالحكم على ما هو من علم الباطن، حتى لا تنكشف عورتهم وتبدو سوأتهم. وأما أهل الباطن، فلهم أن يحكموا على أهل الظاهر، لأنهم ينظرون بنور الله؛ ونور الله لا ينحجب عنه شيء. وقد عرف التاريخ علماء معتبرين من أهل الفقه المعلوم، وقد تتلمذوا لشيوخ من الأميين، كأحمد بن مبارك مع شيخه القطب الدباغ من المغرب، والشعراني مع شيخه عليّ الخواص من أهل المشرق. فهذا يؤكد ما ذهبنا إليه في كلامنا، فليُعتبر.
    وأما الأستاذ عبد السلام، فإنه بإيراده لكلام الشاطبي بعد من مروا، يريد أن يصل بدعوته إلى كل أصناف أهل الدين، بوصوله إلى الفقهاء (الأصوليين)؛ ليجمع أكبر عدد منهم، فيما يكون نموذجا مصغرا للأمة كلها، أو للشطر الأكبر منها على أقل تقدير. لكن يبدو أن الفقهاء المعتبرين في المغرب على الخصوص، لم تستهوهم دعوته، وبقوا على خدمة النظام بما ينفعهم في التوسع في الدنيا وفي نيل المكانة عند العامة كما يشتهون. فهم يقولون بلسان حالهم، له ولمن شابهه: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]؛ وإن كان الأستاذ ليس على حق في معارضة الملِك، ولا يدعو إلى قتال أو عنف كما هو معروف عنه...
    [وعند الإمام السهروردي أحد أعلام القوم رضي الله عنهم نجد ما يلي: «وعلوم هؤلاء القوم لا تحصل مع محبة الدنيا ولا تنكشف إلا بمجانبة الهوى ولا تدرس إلا في مدرسة التقوى». يقصد رضي الله عنه العلوم التي تنقدح في القلوب بعد صفائها بالعمل الصالح والذكر والمجاهدة، لا تلك التي تحويها الطروس.]:
    كلام جيد من الرجلين، لكنه يبقى عاما، لا يصلح إلا للوعظ.
    [وما كان القوم رضي الله عنهم أهل بطالة يتسلون بمضغ العبارات كما يفعل المتحذلقون، بل كان همهم الله ونيل رضاه. لذلك كانوا أصحاب عمل وجد واجتهاد. ما الفقه الذي أثلوه إلا قواعد مستنبطة، مذكرات وصف السالكون فيها مراحل سفرهم الروحي، تتلقاها الأجيال الصالحة من بعدهم نصيحة وتحديا وضرب موعد هناك في المقامات العالية.]:
    هذا كلام جيد، ولكنه يبقى كسابقه وصفيا إنشائيا، لا يدخل في صنف العلم الصارم.
    [قال الإمام الغزالي في إحيائه: «ومنها (أي علامات علماء الآخرة) أن يكون أكثر اهتمامه بعلم الباطن ومراقبة القلب ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه وصدق الرجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة. فإن المجاهدة تفضي إلى المشاهدة، ودقائق علوم القلب تتفجر بها ينابيع الحكمة من القلب. وأما الكتب والتعليم فلا تفي بذلك».(1) وقال: «ومنها أن يكون اعتماده في علومه على بصيرته وإدراكه بصفاء قلبه، لا على الصحف والكتب، ولا على تقليد ما يسمعه من غيره».]:
    كل هذا الكلام يُعبَّر عنه بجملة واحدة، وهي أن علم القوم ذوقي لا مجرد. والذوق -حتى لا ينصرف الذهن من القارئ إلى المعنى المحرف الذي يُستعمل في مجال الفنون على الخصوص- هو علم تجريبي في النفس. نعني أن كل تجربة خارج النفس، في أي علم من العلوم، لا تُعدّ ذوقا. والتصوف من كونه ذوقيا، ينبغي للسالك فيه أن ينزل في مقامات الدين ومراتبه ودرجاته بكليته (بظاهره وباطنه، بعلمه وعمله ومعاملاته)، ليعلم من ذلك علما لا تعطيه مطالعة الكتب ولا سماع الدروس والمحاضرات.
    نخلص في نهاية هذا الفصل، إلى أن الأستاذ عبد السلام ياسين، عرّف التصوف بتعريفات الآخرين: فمن ابن تيمية إلى ابن القيم إلى الغزالي ثم الشاطبي والسهروردي؛ وقد كان يجدر به أن يعرفه هو على ضوء تجربته الشخصية (ذوقه)، حتى نعلم مقدار تحصيله منه، ومبلغ علمه فيه. أما هذه النقول -في مقابل النقول التي وعد بتجنبها سابقا- فإنها من طور المريدين أو من طور المتصوفة الذين يتشبهون بالقوم، من دون أن يكونوا منهم. وأما من ذكرهم من علماء الدين، متوسما فيهم "الإمامة" و"الخبرة"، فشطرهم نجده من عوامهم، والشطر الآخر من خارجهم. وبهذا يبقى كلام الكاتب مخلوطا كعادته، لا يليق بمن يزعم لنفسه الأهلية في الإرشاد العام (الذي يخص الشعب بأسره)...
    [1] . أخرجه أبو نعيم في الحلية، وابن أبي شيبة في كتاب العرش موقوفا، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
    [2] . كان ينبغي أن يقول: محاربين للإيمان؛ لأن الإيمان من أصله، لا يتعلق إلا بالغيب.

      الوقت/التاريخ الآن هو 23/9/2024, 21:19