إحسان الإحسان - 6 -
المحدثون والصوفية
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[والمحدث ما شرطه لكي يكافئ الصوفي؟ ماذا ذهب السيوطي يفعل عند الشاذلية يشيد طريقتهم ويشيد بها؟ أليس هو العلم البارز في عصره الجامع لشتات العلوم، المشارك المحدث الذي حقق المشروع الضخم أو كاد، مشروع جمع الحديث وتخريجه؟]:
إن السيوطي كان من العلماء العاملين؛ وكل عالم يعمل بعلمه، فلا بد من أن يطمح إلى الترقي وسلوك الطريق إلى ما هو فوق المرتبة العامة المشتركة من الدين؛ وإلا يكون غاشا لنفسه، قبل أن يغش المسلمين. وإن انضمام أعيان الفقهاء والمحدثين عبر الزمان، إلى أهل زمانهم من المسلكين، لم يكن بدعة ولا شذوذا عن القاعدة؛ بل هو ما ينبغي أن يكون عليه الصادقون، بعكس ما هم عليه المتأخرون ممن لم يبق لهم من الفقه الأول إلا بعض كلام مقطوع عن أصله، وكأنه لا طريق إلى الله يُطلب ولا وصول يُرجى. ولقد وصل الناس مع هؤلاء، إلى مثل ما هم عليه الكتابيون، من لزوم تدين جامد، يُستعاض فيه عن الحركة (الترقي) بالتعصب للمظاهر المذهبية، في غفلة شبه تامة عن المآل والمصير. إن ما يدل عليه الكاتب هنا ركن من أركان الدين، ما تزال الأمة بخير ما اعتبرته وعملت عليه. هذا من حيث المبدأ؛ ويبقى من جهة التنزيل ما لا بد من تبيّنه، حتى لا يكون الضلال نهاية من يبغي تحقيق الغاية. والنية وحدها لا تكفي، إلا لمن كان بالحال من المتوكلين؛ وهم قليل.
[مازال بين أهل الحديث على مر العصور حوار ووصال منذ العهد الأول مع من تسموا بالصوفية. وما نقرأ عنه من خصام عنيف عند أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو المحدث الناطق عن نفسه وعن طائفة من أهل الحديث الحنابلة، ما كان يستهدف الصوفية الصادقين، بل كان موجها لمن اعتبرهم أهل الحديث المتأخرون أدعياء منحرفين.]:
هذا الكلام فيه مغالطات كبيرة، ما كان ينبغي للأستاذ الوقوع فيها. فابن تيمية ليس شيخا للإسلام إلا عند الضالين من أتباعه الذين زاغوا عن طريق الإسلام حقيقة، من دون أن نكفّرهم. وهو لم يُعرف بما عُرف به من ابتداع في العقيدة، بسبب كونه محدثا؛ بل لأنه فهم الوحي -قرآنا وسنة- فهما عقليا ظلاميا بحسبه، وإن زعم غير ذلك. فعلى أقل تقدير، كان ينبغي لابن تيمية أن لا يُلزم الناس ببنات عقله، وهو يزعم التزام السنة. نعم، لا شك أن زمن ابن تيمية كانت تغلب فيه الغفلة على العامة، وإلا ما كان أحد سار خلفه في ضلالاته؛ ولكن الأعجب من هذا، هو وقوع عبد السلام ياسين في حباله، مع زعمه أنه قد "شب عن الطوق" وأنه قد صار ينادي في الناس: "من هنا الطريق"، على غرار أئمة الهدى من كل عصر. فكيف يدعو إلى الطريق من لا يعرفه، ويدل على ضال مضل سبقه في مخالفة شطر من أصول الدين وفروعه؟!... وقول الكاتب بأن ابن تيمية لم يكن يستهدف الصوفية الصادقين جهل، إن لم يكن كذبا؛ لأن ابن تيمية اشتد نكيره على من هو إمام أهل الطريق جميعا وختمهم: الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قُدّس سره؛ ومن طعن في إمام قوم، فقد طعن في جميعهم بالتبع؛ لا ينقص من هذا، قدح بعض عوام الصوفية أنفسهم في الإمام. بل إن ابن تيمية اجترأ على أبي حامد الغزالي وهو من هو في رجاحة العقل وسعة الأفق!... لكن هذا غير مستغرب ممن عميت بصيرته، فاستوى عنده النور بالظلمة. وإيراد الكاتب لموقف ابن تيمية من التصوف للمرة الثانية، يدل منه على أمرين: الأول، أنه هو نفسه ما عرف التصوف؛ لأنه لو عرفه، لاكتفى بما وقف عليه منه بنفسه؛ ولأمكنه بعد ذلك من معرفة مدى صواب أو خطأ كلام ابن تيمية وغيره، ممن أبدوا رأيهم في التصوف من مرتبة الإسلام المشتركة. ومتى كان يسوغ للأدنى أن يحكم على الأعلى، لولا الانتكاس الحاصل لدى من تكلم ولدى من سمع!... والأمر الثاني: أن عبد السلام ياسين يسير على نهج ابن تيمية في ضلاله، لتشابه بين الرجلين سيظهر جليا فيما بعد إن شاء الله. وهذا الذي وصلنا إليه وحده، كفيل بأن يجعلنا نتوقف عن النظر في كتاب "الإحسان"، الذي ليس إحسانا إلا للتدليس إن جاز الجمع بين اللفظين؛ لولا ما نراه من انحرافٍ لكثيرين به...
وقبل أن نمضي، لا بد من أن نقرر أن أهل الحديث وظيفتهم معرفة درجات الحديث بمعرفة رجال الأسناد؛ فمهمتهم تمحيصية تثبُّتية لا غير. نعني من هذا، لو أن الناس لم يجر عليهم الكذب ولم يصبهم النسيان، ما كنا عرفنا علما اسمه "علم الحديث". أما فهم "المحدثين" في الحديث، وإخراجه للناس على أنه مذهب أهل الحديث، فلا يصح؛ لأن إدراك معنى الحديث، لا يدخل في اختصاص المحدث، إلا إن كان هو نفسه مشتغلا بمجال الفقه العام، فيكون تحديثه خادما لفقهه؛ وهذا هو ما كان عليه الإمام أحمد رضي الله عنه. وأما ابن تيمية، فليس من هذا الطراز؛ لأنه دخل بفهمه في الحديث إلى مجال العقائد، الذي يُعد الكلام فيه من الأصل بدعة. فنتج عن بدعته الأولى، بدعة أشد منها وأسوأ، وهي تحريف الدين باستحداث "سلف" للأمة على صورة عقله ذاته، في عملية إعادة صياغة للدين، ستكون أخطر ما طرأ على الأمة من التحريف وأشد ما أصابها من إضلال. ولعل الرد على ابن تيمية فيما اعتبره كاتبنا تمييزا منه للتصوف الحق من تصوف الضلال، سيأتي عند الدخول في تفاصيل الأقوال؛ لأن مذهبنا في تناول المسائل هنا، هو محاكمة الكلام لا المتكلم، عند حسابه على هذه الطائفة أو تلك. نعني من هذا، أننا نتتبع العلم لا الرجال، وأننا نبني رأينا بناء علميا نستغني فيه عن الاستناد إلى مكانة القائلين للأقوال؛ لأن هذا المنهج قد أضر كثيرا بالأمة، عندما صار الحق يُعرف بالرجال، بعكس ما دل الإمام عليّ عليه السلام بجوابه لحارث بن حوط، وقد قال له الحارث: يا علي! أتظن أن طلحة والزبير على باطل؟ وأنت على حق؟ فقال عليه السلام: "يا حارث! إنه ملبوس عليك؛ وإن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه."[1].
[في العهود الأولى كان احترام متبادل وتعاون على البر والتقوى. كان من الصوفية من تخرجوا في علم الرواية، وكان من المحدثين من تصوفوا على يد مشايخ متصوفين. لم تكن هناك قطيعة ولا سوء ظن. ومن أئمة الحديث، أولياء الله إن كان لله ولي، من جلس في مجالس القوم ومن آخى مشايخ القوم، مع التسليم والمصافاة.]:
في الكلام تدليس ومغالطة، تجعل القارئ يتوهم أن الاشتغال برواية الحديث، يكافئ التصوف الذي ينبني في أساسه على "التزكية" التي هي فرض عين على العباد، من حيث هي محور التدين كله. ورغم ما لعلم الحديث من مكانة في حفظ الدين من جهة النصوص المؤسِّسة (في شطر منها)، فإنه ليس من التكاليف الفردية؛ بل إن الله لم يكلف عباده الاشتغال بحفظ القرآن نفسه -وهو أعلى مكانة من الحديث- عن ظهر قلب كله، ويجزئ منه -كما هو معلوم- ما تقوم به صلاة العبد على الخصوص. وهذه التسوية بين ما هو من التكاليف الفردية، وما هو من الواجبات الكفائية، تدليس يُقصد منه أخذ الناس إلى ما يراد منهم، من غير تبصير لهم بحقيقة ما هم مقبلون عليه. ولقد اعتمد هذا الأسلوب الضلالي كثير من أئمة الضلال الذين نجد أكبرهم في تاريخ الأمة ابن تيمية نفسه. لكن انخراط الأستاذ عبد السلام في هذا الطريق، بالبناء على بنائه وانتهاج طريقه باتباع طريقته، يجعلنا نحذّر منه، ولا نوافقه في شيء من كلامه إلا بعد فحصه فحصا، لكي لا يكون حسنُ الظن به سببا في الضلال لأحد من الناظرين في هذا الكتاب. وقبل أن نمضي في تعليقاتنا، لا بد من أن نذكر لمَ كان إضلال ابن تيمية من أكبر صنوف الإضلال؛ حتى يعلم الناس بعض وجوه ردنا لكلامه، فنقول: إن المـُضِل من شياطين الإنس والجن الذي يدعو الناس إلى الكفر الصُّراح، أو إلى المعصية المبينة، لا يُخاف على عوام المسلمين منه، لأنهم سيتجنبونه ولا يلتفتون إلى شيء مما يقول، لعلمهم بمخالفته لديهم للأصول؛ لكن من يستدل بآيات القرآن وبالأحاديث على غير معانيها، ويحض على طاعة الله -بزعمه- ويحذر من المعصية في مقابلها، ويشتد على المبتدعة -بحسبه- إلى حد التكفير المبالغ فيه، لن يعلم العوام منه السم الذي يدسه في عسله، لكونهم ليسوا من أهل العلم ولا من أهل النور. لهذا كله، كان هذا الصنف من الضلال، أشده. ولقد عمل إضلال ابن تيمية في الأمة، ما لم يعمله ضلال الضالين من الفرق الضالة نفسها، كالباطنية وغيرهم. ويكفي ما تعرفه الأمة من اقتتال في هذه الحقبة، والذي نجد أصحابه يستندون في كثير منه، إلى آرائه وإيحاءاته. وبانضمام عبد السلام ياسين إلى فرقة المعظمين لابن تيمية، نكون شاهدين على ميلاد فرع من فروع الضلال التيمي من أحد وجوهه الجديدة، ضمن تصوف تيمي إن صحت النسبة؛ بما أن الأستاذ قد عافاه الله من اعتقاد الباطل الذي عليه ابن تيمية فيما يتعلق بمرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووساطته التعريفية في الحد الأدنى. وهذا لأننا بدأنا نستشف من الكلام، أن الكاتب لم يكن له خبر عن الوساطة المحمدية الوجودية؛ ونعني بهذا، أنه لم يكن على علم بالحقيقة المحمدية. وبالنتيجة، يكون غير واصل في عرف القوم؛ ما دام الوصول يُشترط فيه معرفة ما ذكرنا. وهذا يجعله محتاجا بعدُ إلى شيخ يكمل به الطريق، بحسب القواعد والأصول... وإن إمامة الناقص في التربية القلبية لمن هو أنقص منه، لا يمكن أن تعطي ثمارا حقيقية لدى المتدينين. ولعل هذا، هو ما جعل جماعة "العدل والإحسان" لا تَعُد ضمن صفوفها عارفا واحدا؛ بل إننا نخاف مع الانحراف المذكور آنفا، أن لا يخرج من بينهم مؤمن واحد (من أهل مرتبة الإيمان)، كما نعلمها من القرآن والسنة -اللذين ما فتئ الأستاذ يؤكد التزامه لهما- لا كما يدل عليها بكلامه.
ثم إن كلام الكاتب، يوهم بضرورة اجتماع المحدّثين والصوفية على معلوم واحد؛ وهو غير صحيح البتة؛ لأن أهل الحديث لا نأخذ منهم إلا لفظ الحديث وحده، وأما فهمهم فيه أو عقائدهم التي يكونون عليها، فهو شأن آخر يخصهم؛ بل إن علماء الدين عموما -ومنهم المحدثون- لا يستغنون عن سلوك طريق التزكية على أيدي الصوفية، إن هم أرادوا تحقيق كمال تدينهم بالترقي في الدين. ونعني -بعكس ما يذهب إليه الأستاذ- أن الموفقين من أهل الحديث لم يكونوا أندادا للصوفية، وإنما كانوا تلاميذ!...
[نقل تاج الدين ابن السبكي في «طبقات الشافعية» عن الحافظ الكبير أبي عبد الله الحاكم قصة الإمام أحمد ابن حنبل مع الشيخ الحارث المحاسبي. قال الحاكم بسنده المتصل إلى إسماعيل بن إسحاق السراج، قال إسماعيل: «قال لي أحمد بن حنبل: بلغني أن الحارث هذا يكثر الكون عندك (يكثر من الحضور في بيتك) فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأستمع كلامه. فقصدت الحارث وسألته أن يحضر تلك الليلة وأن يحضر أصحابه. فقال: فيهم كثرة، فلا تزدهم على الكسب (الخبز) والتمر، فأتيت أبا عبد الله (ابن حنبل) فأعلمته فحضر إلى غرفة واجتهد في ورده. وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا. ثم صلوا العتمة (العشاء) ولم يصلوا بعدها. وقعدوا بين يدي الحارث لا ينطقون إلى قريب نصف الليل. ثم ابتدأ رجل منهم فسأل مسألة، فأخذ الحارث في الكلام، وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطير. فمنهم من يبكي، ومنهم من يحن، ومنهم من يزعق وهو في كلامه. فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي عبد الله، فوجدته قد بكى حتى غشي عليه.]:
الحكاية -إن صحت- بها عِبر ينبغي الوقوف عندها، وتحتوي حكما لا يُستغنى عن إبرازها؛ لأن القارئ غير الخبير، لا يكاد يخرج منها بأمر يقيني يعمل به في تدينه؛ ونحن نبغي تزويد العباد بما يعينهم في طريقهم الخاص. ومما يستخلص ما يلي:
1. إن الإمام (في الفقه) أحمد بن حنبل رحمه الله، لا يتجاوز علمُه المنشور، مرتبة الإسلام من الدين؛ وأما الحارث المحاسبي فقد كان من علماء المراتب العليا. وتوهُّم ابن حنبل المقدرة على الحكم على المحاسبي، هو ما استمر في الأمة إلى اليوم، من تسويغ حكم الأدنى على الأعلى، الذي لا يصح من الناحية المنهجية في أي علم من العلوم.
2. طلب الإمام أحمد من صاحب البيت أن يُجلسه حيث لا يراه المحاسبي، لا يجوز شرعا؛ لأنه من التجسس المنهي عنه. وبالنظر إلى مكانة الإمام أحمد الفقهية، فإنه كان يجدر به مجالسة القوم، وإبداء رأيه لهم فيما هم عليه؛ فربما قد يسمع منهم ما ليس عنده. ولكن الفقهاء هذا دأبهم، مع كون الإمام أحمد من مبرزيهم، الذين لا يتطرق الشك إلى أحد فيهم.
3. اختيار المحاسبي لأن يكون الطعام خبزا وتمرا وحدهما، ينبئ عن فقه يجمع بين عدم تكليف رب البيت ما لا يطيق، وإلزام أصحابه الكفاية وما به البلاغ. وهذا من التحقق بالزهد، في بعض وجوهه.
4. قعود الضيوف بين يدي المحاسبي إلى منتصف الليل من دون كلام، يدل على أنهم كانوا من أهل المراقبة، التي هي أولى درجتي الإحسان.
5. كلام المحاسبي لأصحابه، كان عن سؤال؛ لأن القوم لا يشتغلون بالوعظ كما قد يتوهم الناس. وهذا الكلام من التعليم الذي يشمل ما يعرض للسالكين في أثناء سيرهم؛ وهو ما سميناه من قبل فقه السلوك. وقد يخلط الشيخ المربي الكلام في فقه السلوك، بشيء من الكلام في الحقائق، ليشحذ الهمم ويقوي القلوب، على احتمال المشاق في سبيل ما ينتظر الواصل من كرامة. وهذا الصنف من الكلام هو أعلى ما يكون من العلوم الدينية، لتعلقه بالجناب العلي الأقدس.
6. بكاء الإمام أحمد إلى حد أن يُغشى عليه، يدل على صدقه رضي الله عنه، وعلى صفاء سريرته وإخلاصه في علمه وعمله. فهذا الصنف من الناس عندما يسمع كلام الربانيين، يكاد يموت؛ بل إن منهم من يموت، كما حدث للشاب الذي سأل شيخه أن يرى البسطامي رضي الله عنه، فلما أخذه إليه سقط ميتا من مجرد الرؤية. وهذا كله يدل على علو مكانة أئمة الطريق رضي الله عنهم.
[فانصرفت إليهم. ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا وذهبوا. فصعدت إلى أبي عبد الله فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل. ومع هذا فلا أرى لك صحبتهم. ثم قام فخرج».]:
شهادة الإمام أحمد بأنه لم ير مثل أولئك القوم، ولا سمع مثل كلام المحاسبي، شهادة حق من عالم بفقه مرتبة الإسلام، يؤديها بصدق؛ معتبرا من جهة لما وجده من أثر في قلبه من جراء سماع ما سمع؛ ومن جهة أخرى لجهله بمعاني الكلام وخروجه عن إدراكه. وهذا الجهل، هو ما دفعه إلى أن ينصح المضيف بعدم صحبة القوم؛ فإنه لا يريد أن يدل على ما لا يعلم. هذا ما تعطيه مرتبة الإمام أحمد، وهذا ما ينبغي عليه قوله. وكل من يدعي أنه ما كان عليه أن ينهى عن صحبة الصوفية، فهو جاهل بأحكام المراتب، راغب في استصدار شهادة زور من الإمام أحمد. وأما من سيفسرون من الصوفية كلامه على أنه كان على علم خاص يجعله يقول ما يقول، فهو من الانحجاب بحسن الظن؛ وهو أيضا جهل.
[وفي رواية أخرى أن أحمد قال: «لا أنكر من هذا شيئا». قال ابن السبكي: «قلت: تأمل هذه الحكاية بعين البصيرة واعلم أن أحمد بن حنبل إنما لم ير لهذا الرجل صحبتهم لقصوره عن مقامهم. فإنهم في مقام ضيق لا يسلكه كل أحد، فيخاف على سالكه. وإلا فأحمد قد بكى وشكر الحارث هذا الشكر. ولكل رأي واجتهاد، حشرنا الله معهم أجمعين في زمرة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم». وأضيف بضراعة المقصرين الراجين عفوه تعالى: اللهم آمين.]:
عدم إنكار الإمام أحمد لشيء مما سمع صحيح، لأن الإنكار ينبغي أن يكون عن بينة، كالإثبات سواء بسواء. وعدم الإنكار مع عدم الإثبات، هو ما يُسمى التوقف. فهذا ما ينبغي أن يكون عليه أولو العلم، عندما يغيب عنهم الدليل؛ وأما من يسارع إلى إثبات شيء أو إلى إنكاره، من دون أن يكون له سند من الوحي، فلا يمكن أن يُنسب إلى العلم، بل إلى الهوى. وأما كلام السبكي فليس صحيحا؛ لأن نهي الإمام أحمد لم يكن عن علم بما يسمع من جهة الدليل الفقهي المعلوم له؛ وإلا فإنه سيكون كاتما للعلم، حاكما بغير ما يعلم؛ وهو ما لا يليق بأمثاله رضي الله عنه. ولقد غلب على السبكي في حكمه على صاحب البيت عند نسبة القصور إليه، تعظيم أئمة الفقه -الذين منهم الإمام أحمد- تعظيما مطلقا لا يستند إلى العلم؛ بل هو مما يُشرَّبُه الناس منذ طفولتهم. والتعظيم عندما يسبق إلى القلب، فإنه يحجب عن النظر إلى حقيقة حال الرجال، بالمعايير العلمية المجردة. ولو كان الرجل قاصرا كما يقول السبكي، ما كان ليصحب المحاسبي ويدعوه مرارا إلى بيته، حتى يعلم بعد ذلك الإمام أحمد به. وهذا يعني أن السبكي راعى مقام الإمام أحمد، ولم يراع مرتبة المحاسبي؛ بسبب شيوع الإنكار على الصوفية في الأمة، بأكثر مما يكون على أئمة الفقه. وهذا أيضا، يحدث بسبب غلبة منطق العوام، على منطق الخواص؛ وإن أثر هذه الغلبة يبلغ في مداه، حتى إلى آراء العلماء من أمثال السبكي، من دون أن يشعروا. ولقد استمر هذا الكلام غير الدقيق بين العلماء في الأمة، من القرون الأولى إلى أيامنا هذه؛ وهو وإن كان يحفظ حرمة أئمة الفقه بإبراز مكانتهم للعامة حتى يتبعوهم في العمل بالشريعة كما هو مأمول، فإنه قد طمس معالم مراتب الدين، حتى ما عاد أحد يفرق بين فقه مرتبة الإسلام، وفقه المراتب الأخرى. ولهذا السبب، نجد المسلمين يقطعون بعلو درجة الأئمة الأربعة في الولاية على كل ولي من أولياء الأمة، من دون أن يترددوا؛ خصوصا عندما يكون الولي تابعا في الفقه لأحد الأربعة، كما كان في ظاهر الأمر الشيخ عبد القادر الجيلاني حنبليا، والإمام الرفاعي شافعيا، وأبو الحسن الشاذلي مالكيا. وهذا الظن غير صحيح البتة!... وهذه المسألة، لَهِي مما ينبغي تصحيحه في زماننا، إن كنا نريد العودة بالأمة إلى أصل الدين، كما عرفه الصحابة رضي الله عنهم.
[ماذا ذهب شيخ المحدثين يفعل عند البكائين؟ وهل يغشى عليه من وعظهم لو لم يكن أبكى منهم وأخشع؟ له ورده يجتهد فيه كما لهم أوراد. ويزيد عليهم بخدمة العلم.]:
هذا ليس صحيحا بالضرورة!... وإنما هو تسرع في الحكم، ومجاوزة للمعايير. ولقد وقع الكاتب، فيما وقع فيه السبكي ذاته؛ بل لعل كلام السبكي وأضرابه، هو ما جعل الكاتب يسلّم لأئمة الفقه بالسبق في كل العلوم، عند تأثره به!... وقد قلنا إنه غير صحيح. وهذا كله من باب معرفة الحق بالرجال الذي مررنا به في فقرة سابقة، والذي ليس خليقا بالعلماء (بالمعنى اللغوي).
[إن أهل الحديث رضي الله عنهم هم أهل الإحسان بالمعاني المتعددة للكلمة: إحسان في العبادة، وإتقان لصناعتهم الجليلة، وإحسان للخلق كافة بما حفظوا عليهم من هذا الدين. صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة خدمة واتباع ومحبة. خدموه بأبدانهم يرحلون الرحلات الشاقة البعيدة لسماع حديث أو تحقيق كلمة. وخدموه بعقولهم في تصحيح إسناد ونقد رجال وإثبات تاريخ وتقويم متن. وخدموه بقلوبهم غيرة على حديث خير البرية أن يزور أو يحرف. لا جرم يعم فضلهم الأمة ويوصي ابن حنبل صاحب الدار، ولعله كان تلميذا له، أن يترك حلق الذكر الخاصة الخاص نفعها ليتفرغ للعلم الذي يعم نفعه كل طائفة وكل مكان وكل جيل.]:
إن كل ما يذكره الكاتب من فضائل أهل الحديث، هو مما لا يُنكر بل يُشكر؛ لكنه لا يخرج بهم عن مرتبة الإسلام، إلا بقرينة. وإن كان الكاتب من ذكره لإحسانهم (بالمعنى اللغوي) يريد أن يجعل لهم قدما في مرتبة الإحسان، فهو واهم. وقولنا عنهم إنهم لا يخرجون عن مرتبة الإسلام، لا يعني أنهم مساوون لكل مسلم من العوام في الدرجة، كما يخشى أن يفهم من لا علم له؛ لأنهم أئمة في مرتبة الإسلام لا من آحاد أفرادها. والإمام من كل مرتبة، لا يستوي هو ومن يكون من أتباعه فيها، أو من أتباع أحد أقرانه. كل هذا من مقتضيات العلم بالمراتب، الذي أصبح مجهولا عند الخاص والعام.
وأما ما ذكره الكاتب، من تفسيره لما نصح به الإمام صاحب البيت، فلا يصح؛ لأن مجلس المحاسبي، لم يكن مجلس ذكر وحده؛ بل كان مجلس علم أعلى مما كان لدى الإمام أحمد؛ يدل على هذا، جواب المحاسبي لمن سأله من تلامذته. وبالتالي، فإن هذا العلم، أعلى مما يعقل الكاتب نفسه؛ وإلا لَكان تبيّن ما نذكره نحن هنا. وحتى لو كان المجلس مجلس ذكر، فإنه يفضل مجلس العلم الذي يتعلق به فقه الفقهاء بما لا يقارن؛ إلا فيما يعود إلى إثبات الأحكام عند الضرورة؛ لأن الأعمال عند الضرورات، هو ما يسميه العلماء واجب الوقت؛ وواجب الوقت أولى من غيره من الأعمال، وإن كان العمل الآخر أعلى منه في الاعتبار العام المجرد. نقول كل هذا، مع إصرارنا على التفريق بين الذكر صورة والذكر من حيث المعنى؛ لأن هذا التفريق من مقتضيات العلم بالمراتب. وقول الكاتب، بأن ما يعم نفعه كعلمي الفقه والحديث أولى بالاعتبار مما خص كعلم المحاسبي، لا يصح أيضا؛ لكون علم السلوك مما يعم نفعه، بسبب كون الخطاب بالتزكية متوجها من الشارع إلى كل مسلم. وعلم الفقه المعلوم -مع العلوم المجاورة له كالحديث والتفسير- لا يجزئ في مجال التزكية؛ بل قد يكون مانعا عنها. وهذا نعلمه نحن من ذوقنا للسلوك، وليس منا تحكما كما قد يبدو؛ ويبقى علم الحقائق بعد ذلك، خاصا بأعلى طبقة من أهل الدين. فهذا هو ما لا يجوز بثه للعموم وحده، من كونه فوق إدراكهم، لا من كونه لا ينفعهم. ومن خوطب بما لا يدرك، انقلب عليه الخطاب فتنة، إلا إن صحبه التسليم؛ وهو قليل. ومن أخص أسباب ذهاب التسليم، حكم الفقهاء المقلدين (بعكس الأئمة) على ما لا يعلمون بعدم الصحة. فهم أئمة الإنكار في الأمة، وأئمة سوء الظن، بجدارة واستحقاق.
[ما كل من حمل الحديث بمنزلة الإمام أحمد ولا كل من تسمى صوفيا بمعزل عن اللوم.]:
الشطر الأول من الكلام صحيح، وإن كان لا يعم؛ لأن من أهل الحديث من يفضل الإمام أحمد في صنعة الحديث نفسها؛ ومن أعيان الفقهاء من يفضل الأئمة الأربعة، كالليث بن سعد وابن أبي ذئب رحمهما الله. والليث هو من قال فيه الشافعي: [اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ][2]؛ وأما ابن أبي ذئب فقال فيه أحمد: [ابن أبي ذئب في هذا أكبر من مالك! وابن أبي ذئب أصلح في دينه وأورع ورعاً، وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين. وقد دخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر، فلم يهبه أن قال له الحق. قال: "الظلم فاشٍ ببابك!"؛ وأبو جعفر، أبو جعفر! (يقصد في ظلمه وبطشه حتى إنه قتل عمه)][3]. أما الشطر الثاني، فإن الكاتب يريد منه التأسيس للنظر المعكوس، الذي يجعل علماء مرتبة الإسلام أعلى من علماء مرتبتي الإيمان والإحسان؛ وبالتالي يجعل علم الفقه والحديث والتفسير، أعلى من علمي السلوك والحقائق. وهذا انقلاب في النظر، لا يكون عليه إلا المخذولون من الناس؛ وخلط لا يليق إلا بالعوام. ولعل الكاتب يريد -كما أشرنا إلى ذلك سابقا- تأليف حنابلة العصر، الذين ليس لهم عن ورع الإمام أحمد وتقواه خبر. يؤكد هذا، ما يهيئ له الشطر الثاني من طعن فيمن قد يراهم الكاتب من الصوفية الذين ليسوا بمعزل عن اللوم (هكذا بالتعميم الذي يعطيه الإبهام)، ليجعل منهم قربانا إلى المتسلفة، لعلهم يلتفتون إلى دعوته... وهذا لا يصح منه، إلا إن ذكر الصوفي الملوم، ومناط اللوم لديه؛ لنعلم حجته في ذلك ومكانتها من الوحي، بالدليل والبرهان. وليته يأتي في الفصول القادمة بما يراه سندا له في مقولته هذه، حتى نمحصها بإذن الله. فنحن لسنا مع أحد من الصوفية، ولا ضد أحد من الفقهاء، كما قد يُفهم؛ بل نحن مع العلم نرفع به من يرفعه، ونضع به من يضعه. هذا -على الأقل- مذهبنا الذي عليه عزمنا؛ ونعوذ بالله من أن نتبع الهوى أو أن ندل عليه!...
[أمثال أحمد الذين تشربوا حب المصطفى صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وإكبار أمره وأفنوا أعمارهم في خدمته قليل. هم أئمة الهدى. يقول الإمام الشافعي متحدثا عن الجناب الشريف: «فصلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون. وصلى عليه في الأولين والآخرين، أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه، وزكانا وإياكم بالصلاة عليه أفضل ما زكى أحدا من أمته بصلاته عليه. والسلام عليه ورحمته وبركاته. وجزاه الله عنا أفضل ما جزى مرسلا عن من أرسل إليه. فإنه أنقذنا من الهلكة، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس، دائنين بدينه الذي ارتضى، واصطفى به ملائكته ومن أنعم عليه من خلقه. فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت، نلنا بها حظا في دين ودنيا، أو دفع بها عنا مكروه فيهما أو في واحد منهما، إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها».]:
المحدثون والصوفية
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[والمحدث ما شرطه لكي يكافئ الصوفي؟ ماذا ذهب السيوطي يفعل عند الشاذلية يشيد طريقتهم ويشيد بها؟ أليس هو العلم البارز في عصره الجامع لشتات العلوم، المشارك المحدث الذي حقق المشروع الضخم أو كاد، مشروع جمع الحديث وتخريجه؟]:
إن السيوطي كان من العلماء العاملين؛ وكل عالم يعمل بعلمه، فلا بد من أن يطمح إلى الترقي وسلوك الطريق إلى ما هو فوق المرتبة العامة المشتركة من الدين؛ وإلا يكون غاشا لنفسه، قبل أن يغش المسلمين. وإن انضمام أعيان الفقهاء والمحدثين عبر الزمان، إلى أهل زمانهم من المسلكين، لم يكن بدعة ولا شذوذا عن القاعدة؛ بل هو ما ينبغي أن يكون عليه الصادقون، بعكس ما هم عليه المتأخرون ممن لم يبق لهم من الفقه الأول إلا بعض كلام مقطوع عن أصله، وكأنه لا طريق إلى الله يُطلب ولا وصول يُرجى. ولقد وصل الناس مع هؤلاء، إلى مثل ما هم عليه الكتابيون، من لزوم تدين جامد، يُستعاض فيه عن الحركة (الترقي) بالتعصب للمظاهر المذهبية، في غفلة شبه تامة عن المآل والمصير. إن ما يدل عليه الكاتب هنا ركن من أركان الدين، ما تزال الأمة بخير ما اعتبرته وعملت عليه. هذا من حيث المبدأ؛ ويبقى من جهة التنزيل ما لا بد من تبيّنه، حتى لا يكون الضلال نهاية من يبغي تحقيق الغاية. والنية وحدها لا تكفي، إلا لمن كان بالحال من المتوكلين؛ وهم قليل.
[مازال بين أهل الحديث على مر العصور حوار ووصال منذ العهد الأول مع من تسموا بالصوفية. وما نقرأ عنه من خصام عنيف عند أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو المحدث الناطق عن نفسه وعن طائفة من أهل الحديث الحنابلة، ما كان يستهدف الصوفية الصادقين، بل كان موجها لمن اعتبرهم أهل الحديث المتأخرون أدعياء منحرفين.]:
هذا الكلام فيه مغالطات كبيرة، ما كان ينبغي للأستاذ الوقوع فيها. فابن تيمية ليس شيخا للإسلام إلا عند الضالين من أتباعه الذين زاغوا عن طريق الإسلام حقيقة، من دون أن نكفّرهم. وهو لم يُعرف بما عُرف به من ابتداع في العقيدة، بسبب كونه محدثا؛ بل لأنه فهم الوحي -قرآنا وسنة- فهما عقليا ظلاميا بحسبه، وإن زعم غير ذلك. فعلى أقل تقدير، كان ينبغي لابن تيمية أن لا يُلزم الناس ببنات عقله، وهو يزعم التزام السنة. نعم، لا شك أن زمن ابن تيمية كانت تغلب فيه الغفلة على العامة، وإلا ما كان أحد سار خلفه في ضلالاته؛ ولكن الأعجب من هذا، هو وقوع عبد السلام ياسين في حباله، مع زعمه أنه قد "شب عن الطوق" وأنه قد صار ينادي في الناس: "من هنا الطريق"، على غرار أئمة الهدى من كل عصر. فكيف يدعو إلى الطريق من لا يعرفه، ويدل على ضال مضل سبقه في مخالفة شطر من أصول الدين وفروعه؟!... وقول الكاتب بأن ابن تيمية لم يكن يستهدف الصوفية الصادقين جهل، إن لم يكن كذبا؛ لأن ابن تيمية اشتد نكيره على من هو إمام أهل الطريق جميعا وختمهم: الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قُدّس سره؛ ومن طعن في إمام قوم، فقد طعن في جميعهم بالتبع؛ لا ينقص من هذا، قدح بعض عوام الصوفية أنفسهم في الإمام. بل إن ابن تيمية اجترأ على أبي حامد الغزالي وهو من هو في رجاحة العقل وسعة الأفق!... لكن هذا غير مستغرب ممن عميت بصيرته، فاستوى عنده النور بالظلمة. وإيراد الكاتب لموقف ابن تيمية من التصوف للمرة الثانية، يدل منه على أمرين: الأول، أنه هو نفسه ما عرف التصوف؛ لأنه لو عرفه، لاكتفى بما وقف عليه منه بنفسه؛ ولأمكنه بعد ذلك من معرفة مدى صواب أو خطأ كلام ابن تيمية وغيره، ممن أبدوا رأيهم في التصوف من مرتبة الإسلام المشتركة. ومتى كان يسوغ للأدنى أن يحكم على الأعلى، لولا الانتكاس الحاصل لدى من تكلم ولدى من سمع!... والأمر الثاني: أن عبد السلام ياسين يسير على نهج ابن تيمية في ضلاله، لتشابه بين الرجلين سيظهر جليا فيما بعد إن شاء الله. وهذا الذي وصلنا إليه وحده، كفيل بأن يجعلنا نتوقف عن النظر في كتاب "الإحسان"، الذي ليس إحسانا إلا للتدليس إن جاز الجمع بين اللفظين؛ لولا ما نراه من انحرافٍ لكثيرين به...
وقبل أن نمضي، لا بد من أن نقرر أن أهل الحديث وظيفتهم معرفة درجات الحديث بمعرفة رجال الأسناد؛ فمهمتهم تمحيصية تثبُّتية لا غير. نعني من هذا، لو أن الناس لم يجر عليهم الكذب ولم يصبهم النسيان، ما كنا عرفنا علما اسمه "علم الحديث". أما فهم "المحدثين" في الحديث، وإخراجه للناس على أنه مذهب أهل الحديث، فلا يصح؛ لأن إدراك معنى الحديث، لا يدخل في اختصاص المحدث، إلا إن كان هو نفسه مشتغلا بمجال الفقه العام، فيكون تحديثه خادما لفقهه؛ وهذا هو ما كان عليه الإمام أحمد رضي الله عنه. وأما ابن تيمية، فليس من هذا الطراز؛ لأنه دخل بفهمه في الحديث إلى مجال العقائد، الذي يُعد الكلام فيه من الأصل بدعة. فنتج عن بدعته الأولى، بدعة أشد منها وأسوأ، وهي تحريف الدين باستحداث "سلف" للأمة على صورة عقله ذاته، في عملية إعادة صياغة للدين، ستكون أخطر ما طرأ على الأمة من التحريف وأشد ما أصابها من إضلال. ولعل الرد على ابن تيمية فيما اعتبره كاتبنا تمييزا منه للتصوف الحق من تصوف الضلال، سيأتي عند الدخول في تفاصيل الأقوال؛ لأن مذهبنا في تناول المسائل هنا، هو محاكمة الكلام لا المتكلم، عند حسابه على هذه الطائفة أو تلك. نعني من هذا، أننا نتتبع العلم لا الرجال، وأننا نبني رأينا بناء علميا نستغني فيه عن الاستناد إلى مكانة القائلين للأقوال؛ لأن هذا المنهج قد أضر كثيرا بالأمة، عندما صار الحق يُعرف بالرجال، بعكس ما دل الإمام عليّ عليه السلام بجوابه لحارث بن حوط، وقد قال له الحارث: يا علي! أتظن أن طلحة والزبير على باطل؟ وأنت على حق؟ فقال عليه السلام: "يا حارث! إنه ملبوس عليك؛ وإن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه."[1].
[في العهود الأولى كان احترام متبادل وتعاون على البر والتقوى. كان من الصوفية من تخرجوا في علم الرواية، وكان من المحدثين من تصوفوا على يد مشايخ متصوفين. لم تكن هناك قطيعة ولا سوء ظن. ومن أئمة الحديث، أولياء الله إن كان لله ولي، من جلس في مجالس القوم ومن آخى مشايخ القوم، مع التسليم والمصافاة.]:
في الكلام تدليس ومغالطة، تجعل القارئ يتوهم أن الاشتغال برواية الحديث، يكافئ التصوف الذي ينبني في أساسه على "التزكية" التي هي فرض عين على العباد، من حيث هي محور التدين كله. ورغم ما لعلم الحديث من مكانة في حفظ الدين من جهة النصوص المؤسِّسة (في شطر منها)، فإنه ليس من التكاليف الفردية؛ بل إن الله لم يكلف عباده الاشتغال بحفظ القرآن نفسه -وهو أعلى مكانة من الحديث- عن ظهر قلب كله، ويجزئ منه -كما هو معلوم- ما تقوم به صلاة العبد على الخصوص. وهذه التسوية بين ما هو من التكاليف الفردية، وما هو من الواجبات الكفائية، تدليس يُقصد منه أخذ الناس إلى ما يراد منهم، من غير تبصير لهم بحقيقة ما هم مقبلون عليه. ولقد اعتمد هذا الأسلوب الضلالي كثير من أئمة الضلال الذين نجد أكبرهم في تاريخ الأمة ابن تيمية نفسه. لكن انخراط الأستاذ عبد السلام في هذا الطريق، بالبناء على بنائه وانتهاج طريقه باتباع طريقته، يجعلنا نحذّر منه، ولا نوافقه في شيء من كلامه إلا بعد فحصه فحصا، لكي لا يكون حسنُ الظن به سببا في الضلال لأحد من الناظرين في هذا الكتاب. وقبل أن نمضي في تعليقاتنا، لا بد من أن نذكر لمَ كان إضلال ابن تيمية من أكبر صنوف الإضلال؛ حتى يعلم الناس بعض وجوه ردنا لكلامه، فنقول: إن المـُضِل من شياطين الإنس والجن الذي يدعو الناس إلى الكفر الصُّراح، أو إلى المعصية المبينة، لا يُخاف على عوام المسلمين منه، لأنهم سيتجنبونه ولا يلتفتون إلى شيء مما يقول، لعلمهم بمخالفته لديهم للأصول؛ لكن من يستدل بآيات القرآن وبالأحاديث على غير معانيها، ويحض على طاعة الله -بزعمه- ويحذر من المعصية في مقابلها، ويشتد على المبتدعة -بحسبه- إلى حد التكفير المبالغ فيه، لن يعلم العوام منه السم الذي يدسه في عسله، لكونهم ليسوا من أهل العلم ولا من أهل النور. لهذا كله، كان هذا الصنف من الضلال، أشده. ولقد عمل إضلال ابن تيمية في الأمة، ما لم يعمله ضلال الضالين من الفرق الضالة نفسها، كالباطنية وغيرهم. ويكفي ما تعرفه الأمة من اقتتال في هذه الحقبة، والذي نجد أصحابه يستندون في كثير منه، إلى آرائه وإيحاءاته. وبانضمام عبد السلام ياسين إلى فرقة المعظمين لابن تيمية، نكون شاهدين على ميلاد فرع من فروع الضلال التيمي من أحد وجوهه الجديدة، ضمن تصوف تيمي إن صحت النسبة؛ بما أن الأستاذ قد عافاه الله من اعتقاد الباطل الذي عليه ابن تيمية فيما يتعلق بمرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووساطته التعريفية في الحد الأدنى. وهذا لأننا بدأنا نستشف من الكلام، أن الكاتب لم يكن له خبر عن الوساطة المحمدية الوجودية؛ ونعني بهذا، أنه لم يكن على علم بالحقيقة المحمدية. وبالنتيجة، يكون غير واصل في عرف القوم؛ ما دام الوصول يُشترط فيه معرفة ما ذكرنا. وهذا يجعله محتاجا بعدُ إلى شيخ يكمل به الطريق، بحسب القواعد والأصول... وإن إمامة الناقص في التربية القلبية لمن هو أنقص منه، لا يمكن أن تعطي ثمارا حقيقية لدى المتدينين. ولعل هذا، هو ما جعل جماعة "العدل والإحسان" لا تَعُد ضمن صفوفها عارفا واحدا؛ بل إننا نخاف مع الانحراف المذكور آنفا، أن لا يخرج من بينهم مؤمن واحد (من أهل مرتبة الإيمان)، كما نعلمها من القرآن والسنة -اللذين ما فتئ الأستاذ يؤكد التزامه لهما- لا كما يدل عليها بكلامه.
ثم إن كلام الكاتب، يوهم بضرورة اجتماع المحدّثين والصوفية على معلوم واحد؛ وهو غير صحيح البتة؛ لأن أهل الحديث لا نأخذ منهم إلا لفظ الحديث وحده، وأما فهمهم فيه أو عقائدهم التي يكونون عليها، فهو شأن آخر يخصهم؛ بل إن علماء الدين عموما -ومنهم المحدثون- لا يستغنون عن سلوك طريق التزكية على أيدي الصوفية، إن هم أرادوا تحقيق كمال تدينهم بالترقي في الدين. ونعني -بعكس ما يذهب إليه الأستاذ- أن الموفقين من أهل الحديث لم يكونوا أندادا للصوفية، وإنما كانوا تلاميذ!...
[نقل تاج الدين ابن السبكي في «طبقات الشافعية» عن الحافظ الكبير أبي عبد الله الحاكم قصة الإمام أحمد ابن حنبل مع الشيخ الحارث المحاسبي. قال الحاكم بسنده المتصل إلى إسماعيل بن إسحاق السراج، قال إسماعيل: «قال لي أحمد بن حنبل: بلغني أن الحارث هذا يكثر الكون عندك (يكثر من الحضور في بيتك) فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني فأستمع كلامه. فقصدت الحارث وسألته أن يحضر تلك الليلة وأن يحضر أصحابه. فقال: فيهم كثرة، فلا تزدهم على الكسب (الخبز) والتمر، فأتيت أبا عبد الله (ابن حنبل) فأعلمته فحضر إلى غرفة واجتهد في ورده. وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا. ثم صلوا العتمة (العشاء) ولم يصلوا بعدها. وقعدوا بين يدي الحارث لا ينطقون إلى قريب نصف الليل. ثم ابتدأ رجل منهم فسأل مسألة، فأخذ الحارث في الكلام، وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطير. فمنهم من يبكي، ومنهم من يحن، ومنهم من يزعق وهو في كلامه. فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبي عبد الله، فوجدته قد بكى حتى غشي عليه.]:
الحكاية -إن صحت- بها عِبر ينبغي الوقوف عندها، وتحتوي حكما لا يُستغنى عن إبرازها؛ لأن القارئ غير الخبير، لا يكاد يخرج منها بأمر يقيني يعمل به في تدينه؛ ونحن نبغي تزويد العباد بما يعينهم في طريقهم الخاص. ومما يستخلص ما يلي:
1. إن الإمام (في الفقه) أحمد بن حنبل رحمه الله، لا يتجاوز علمُه المنشور، مرتبة الإسلام من الدين؛ وأما الحارث المحاسبي فقد كان من علماء المراتب العليا. وتوهُّم ابن حنبل المقدرة على الحكم على المحاسبي، هو ما استمر في الأمة إلى اليوم، من تسويغ حكم الأدنى على الأعلى، الذي لا يصح من الناحية المنهجية في أي علم من العلوم.
2. طلب الإمام أحمد من صاحب البيت أن يُجلسه حيث لا يراه المحاسبي، لا يجوز شرعا؛ لأنه من التجسس المنهي عنه. وبالنظر إلى مكانة الإمام أحمد الفقهية، فإنه كان يجدر به مجالسة القوم، وإبداء رأيه لهم فيما هم عليه؛ فربما قد يسمع منهم ما ليس عنده. ولكن الفقهاء هذا دأبهم، مع كون الإمام أحمد من مبرزيهم، الذين لا يتطرق الشك إلى أحد فيهم.
3. اختيار المحاسبي لأن يكون الطعام خبزا وتمرا وحدهما، ينبئ عن فقه يجمع بين عدم تكليف رب البيت ما لا يطيق، وإلزام أصحابه الكفاية وما به البلاغ. وهذا من التحقق بالزهد، في بعض وجوهه.
4. قعود الضيوف بين يدي المحاسبي إلى منتصف الليل من دون كلام، يدل على أنهم كانوا من أهل المراقبة، التي هي أولى درجتي الإحسان.
5. كلام المحاسبي لأصحابه، كان عن سؤال؛ لأن القوم لا يشتغلون بالوعظ كما قد يتوهم الناس. وهذا الكلام من التعليم الذي يشمل ما يعرض للسالكين في أثناء سيرهم؛ وهو ما سميناه من قبل فقه السلوك. وقد يخلط الشيخ المربي الكلام في فقه السلوك، بشيء من الكلام في الحقائق، ليشحذ الهمم ويقوي القلوب، على احتمال المشاق في سبيل ما ينتظر الواصل من كرامة. وهذا الصنف من الكلام هو أعلى ما يكون من العلوم الدينية، لتعلقه بالجناب العلي الأقدس.
6. بكاء الإمام أحمد إلى حد أن يُغشى عليه، يدل على صدقه رضي الله عنه، وعلى صفاء سريرته وإخلاصه في علمه وعمله. فهذا الصنف من الناس عندما يسمع كلام الربانيين، يكاد يموت؛ بل إن منهم من يموت، كما حدث للشاب الذي سأل شيخه أن يرى البسطامي رضي الله عنه، فلما أخذه إليه سقط ميتا من مجرد الرؤية. وهذا كله يدل على علو مكانة أئمة الطريق رضي الله عنهم.
[فانصرفت إليهم. ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا وذهبوا. فصعدت إلى أبي عبد الله فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل. ومع هذا فلا أرى لك صحبتهم. ثم قام فخرج».]:
شهادة الإمام أحمد بأنه لم ير مثل أولئك القوم، ولا سمع مثل كلام المحاسبي، شهادة حق من عالم بفقه مرتبة الإسلام، يؤديها بصدق؛ معتبرا من جهة لما وجده من أثر في قلبه من جراء سماع ما سمع؛ ومن جهة أخرى لجهله بمعاني الكلام وخروجه عن إدراكه. وهذا الجهل، هو ما دفعه إلى أن ينصح المضيف بعدم صحبة القوم؛ فإنه لا يريد أن يدل على ما لا يعلم. هذا ما تعطيه مرتبة الإمام أحمد، وهذا ما ينبغي عليه قوله. وكل من يدعي أنه ما كان عليه أن ينهى عن صحبة الصوفية، فهو جاهل بأحكام المراتب، راغب في استصدار شهادة زور من الإمام أحمد. وأما من سيفسرون من الصوفية كلامه على أنه كان على علم خاص يجعله يقول ما يقول، فهو من الانحجاب بحسن الظن؛ وهو أيضا جهل.
[وفي رواية أخرى أن أحمد قال: «لا أنكر من هذا شيئا». قال ابن السبكي: «قلت: تأمل هذه الحكاية بعين البصيرة واعلم أن أحمد بن حنبل إنما لم ير لهذا الرجل صحبتهم لقصوره عن مقامهم. فإنهم في مقام ضيق لا يسلكه كل أحد، فيخاف على سالكه. وإلا فأحمد قد بكى وشكر الحارث هذا الشكر. ولكل رأي واجتهاد، حشرنا الله معهم أجمعين في زمرة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم». وأضيف بضراعة المقصرين الراجين عفوه تعالى: اللهم آمين.]:
عدم إنكار الإمام أحمد لشيء مما سمع صحيح، لأن الإنكار ينبغي أن يكون عن بينة، كالإثبات سواء بسواء. وعدم الإنكار مع عدم الإثبات، هو ما يُسمى التوقف. فهذا ما ينبغي أن يكون عليه أولو العلم، عندما يغيب عنهم الدليل؛ وأما من يسارع إلى إثبات شيء أو إلى إنكاره، من دون أن يكون له سند من الوحي، فلا يمكن أن يُنسب إلى العلم، بل إلى الهوى. وأما كلام السبكي فليس صحيحا؛ لأن نهي الإمام أحمد لم يكن عن علم بما يسمع من جهة الدليل الفقهي المعلوم له؛ وإلا فإنه سيكون كاتما للعلم، حاكما بغير ما يعلم؛ وهو ما لا يليق بأمثاله رضي الله عنه. ولقد غلب على السبكي في حكمه على صاحب البيت عند نسبة القصور إليه، تعظيم أئمة الفقه -الذين منهم الإمام أحمد- تعظيما مطلقا لا يستند إلى العلم؛ بل هو مما يُشرَّبُه الناس منذ طفولتهم. والتعظيم عندما يسبق إلى القلب، فإنه يحجب عن النظر إلى حقيقة حال الرجال، بالمعايير العلمية المجردة. ولو كان الرجل قاصرا كما يقول السبكي، ما كان ليصحب المحاسبي ويدعوه مرارا إلى بيته، حتى يعلم بعد ذلك الإمام أحمد به. وهذا يعني أن السبكي راعى مقام الإمام أحمد، ولم يراع مرتبة المحاسبي؛ بسبب شيوع الإنكار على الصوفية في الأمة، بأكثر مما يكون على أئمة الفقه. وهذا أيضا، يحدث بسبب غلبة منطق العوام، على منطق الخواص؛ وإن أثر هذه الغلبة يبلغ في مداه، حتى إلى آراء العلماء من أمثال السبكي، من دون أن يشعروا. ولقد استمر هذا الكلام غير الدقيق بين العلماء في الأمة، من القرون الأولى إلى أيامنا هذه؛ وهو وإن كان يحفظ حرمة أئمة الفقه بإبراز مكانتهم للعامة حتى يتبعوهم في العمل بالشريعة كما هو مأمول، فإنه قد طمس معالم مراتب الدين، حتى ما عاد أحد يفرق بين فقه مرتبة الإسلام، وفقه المراتب الأخرى. ولهذا السبب، نجد المسلمين يقطعون بعلو درجة الأئمة الأربعة في الولاية على كل ولي من أولياء الأمة، من دون أن يترددوا؛ خصوصا عندما يكون الولي تابعا في الفقه لأحد الأربعة، كما كان في ظاهر الأمر الشيخ عبد القادر الجيلاني حنبليا، والإمام الرفاعي شافعيا، وأبو الحسن الشاذلي مالكيا. وهذا الظن غير صحيح البتة!... وهذه المسألة، لَهِي مما ينبغي تصحيحه في زماننا، إن كنا نريد العودة بالأمة إلى أصل الدين، كما عرفه الصحابة رضي الله عنهم.
[ماذا ذهب شيخ المحدثين يفعل عند البكائين؟ وهل يغشى عليه من وعظهم لو لم يكن أبكى منهم وأخشع؟ له ورده يجتهد فيه كما لهم أوراد. ويزيد عليهم بخدمة العلم.]:
هذا ليس صحيحا بالضرورة!... وإنما هو تسرع في الحكم، ومجاوزة للمعايير. ولقد وقع الكاتب، فيما وقع فيه السبكي ذاته؛ بل لعل كلام السبكي وأضرابه، هو ما جعل الكاتب يسلّم لأئمة الفقه بالسبق في كل العلوم، عند تأثره به!... وقد قلنا إنه غير صحيح. وهذا كله من باب معرفة الحق بالرجال الذي مررنا به في فقرة سابقة، والذي ليس خليقا بالعلماء (بالمعنى اللغوي).
[إن أهل الحديث رضي الله عنهم هم أهل الإحسان بالمعاني المتعددة للكلمة: إحسان في العبادة، وإتقان لصناعتهم الجليلة، وإحسان للخلق كافة بما حفظوا عليهم من هذا الدين. صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة خدمة واتباع ومحبة. خدموه بأبدانهم يرحلون الرحلات الشاقة البعيدة لسماع حديث أو تحقيق كلمة. وخدموه بعقولهم في تصحيح إسناد ونقد رجال وإثبات تاريخ وتقويم متن. وخدموه بقلوبهم غيرة على حديث خير البرية أن يزور أو يحرف. لا جرم يعم فضلهم الأمة ويوصي ابن حنبل صاحب الدار، ولعله كان تلميذا له، أن يترك حلق الذكر الخاصة الخاص نفعها ليتفرغ للعلم الذي يعم نفعه كل طائفة وكل مكان وكل جيل.]:
إن كل ما يذكره الكاتب من فضائل أهل الحديث، هو مما لا يُنكر بل يُشكر؛ لكنه لا يخرج بهم عن مرتبة الإسلام، إلا بقرينة. وإن كان الكاتب من ذكره لإحسانهم (بالمعنى اللغوي) يريد أن يجعل لهم قدما في مرتبة الإحسان، فهو واهم. وقولنا عنهم إنهم لا يخرجون عن مرتبة الإسلام، لا يعني أنهم مساوون لكل مسلم من العوام في الدرجة، كما يخشى أن يفهم من لا علم له؛ لأنهم أئمة في مرتبة الإسلام لا من آحاد أفرادها. والإمام من كل مرتبة، لا يستوي هو ومن يكون من أتباعه فيها، أو من أتباع أحد أقرانه. كل هذا من مقتضيات العلم بالمراتب، الذي أصبح مجهولا عند الخاص والعام.
وأما ما ذكره الكاتب، من تفسيره لما نصح به الإمام صاحب البيت، فلا يصح؛ لأن مجلس المحاسبي، لم يكن مجلس ذكر وحده؛ بل كان مجلس علم أعلى مما كان لدى الإمام أحمد؛ يدل على هذا، جواب المحاسبي لمن سأله من تلامذته. وبالتالي، فإن هذا العلم، أعلى مما يعقل الكاتب نفسه؛ وإلا لَكان تبيّن ما نذكره نحن هنا. وحتى لو كان المجلس مجلس ذكر، فإنه يفضل مجلس العلم الذي يتعلق به فقه الفقهاء بما لا يقارن؛ إلا فيما يعود إلى إثبات الأحكام عند الضرورة؛ لأن الأعمال عند الضرورات، هو ما يسميه العلماء واجب الوقت؛ وواجب الوقت أولى من غيره من الأعمال، وإن كان العمل الآخر أعلى منه في الاعتبار العام المجرد. نقول كل هذا، مع إصرارنا على التفريق بين الذكر صورة والذكر من حيث المعنى؛ لأن هذا التفريق من مقتضيات العلم بالمراتب. وقول الكاتب، بأن ما يعم نفعه كعلمي الفقه والحديث أولى بالاعتبار مما خص كعلم المحاسبي، لا يصح أيضا؛ لكون علم السلوك مما يعم نفعه، بسبب كون الخطاب بالتزكية متوجها من الشارع إلى كل مسلم. وعلم الفقه المعلوم -مع العلوم المجاورة له كالحديث والتفسير- لا يجزئ في مجال التزكية؛ بل قد يكون مانعا عنها. وهذا نعلمه نحن من ذوقنا للسلوك، وليس منا تحكما كما قد يبدو؛ ويبقى علم الحقائق بعد ذلك، خاصا بأعلى طبقة من أهل الدين. فهذا هو ما لا يجوز بثه للعموم وحده، من كونه فوق إدراكهم، لا من كونه لا ينفعهم. ومن خوطب بما لا يدرك، انقلب عليه الخطاب فتنة، إلا إن صحبه التسليم؛ وهو قليل. ومن أخص أسباب ذهاب التسليم، حكم الفقهاء المقلدين (بعكس الأئمة) على ما لا يعلمون بعدم الصحة. فهم أئمة الإنكار في الأمة، وأئمة سوء الظن، بجدارة واستحقاق.
[ما كل من حمل الحديث بمنزلة الإمام أحمد ولا كل من تسمى صوفيا بمعزل عن اللوم.]:
الشطر الأول من الكلام صحيح، وإن كان لا يعم؛ لأن من أهل الحديث من يفضل الإمام أحمد في صنعة الحديث نفسها؛ ومن أعيان الفقهاء من يفضل الأئمة الأربعة، كالليث بن سعد وابن أبي ذئب رحمهما الله. والليث هو من قال فيه الشافعي: [اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ][2]؛ وأما ابن أبي ذئب فقال فيه أحمد: [ابن أبي ذئب في هذا أكبر من مالك! وابن أبي ذئب أصلح في دينه وأورع ورعاً، وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين. وقد دخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر، فلم يهبه أن قال له الحق. قال: "الظلم فاشٍ ببابك!"؛ وأبو جعفر، أبو جعفر! (يقصد في ظلمه وبطشه حتى إنه قتل عمه)][3]. أما الشطر الثاني، فإن الكاتب يريد منه التأسيس للنظر المعكوس، الذي يجعل علماء مرتبة الإسلام أعلى من علماء مرتبتي الإيمان والإحسان؛ وبالتالي يجعل علم الفقه والحديث والتفسير، أعلى من علمي السلوك والحقائق. وهذا انقلاب في النظر، لا يكون عليه إلا المخذولون من الناس؛ وخلط لا يليق إلا بالعوام. ولعل الكاتب يريد -كما أشرنا إلى ذلك سابقا- تأليف حنابلة العصر، الذين ليس لهم عن ورع الإمام أحمد وتقواه خبر. يؤكد هذا، ما يهيئ له الشطر الثاني من طعن فيمن قد يراهم الكاتب من الصوفية الذين ليسوا بمعزل عن اللوم (هكذا بالتعميم الذي يعطيه الإبهام)، ليجعل منهم قربانا إلى المتسلفة، لعلهم يلتفتون إلى دعوته... وهذا لا يصح منه، إلا إن ذكر الصوفي الملوم، ومناط اللوم لديه؛ لنعلم حجته في ذلك ومكانتها من الوحي، بالدليل والبرهان. وليته يأتي في الفصول القادمة بما يراه سندا له في مقولته هذه، حتى نمحصها بإذن الله. فنحن لسنا مع أحد من الصوفية، ولا ضد أحد من الفقهاء، كما قد يُفهم؛ بل نحن مع العلم نرفع به من يرفعه، ونضع به من يضعه. هذا -على الأقل- مذهبنا الذي عليه عزمنا؛ ونعوذ بالله من أن نتبع الهوى أو أن ندل عليه!...
[أمثال أحمد الذين تشربوا حب المصطفى صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وإكبار أمره وأفنوا أعمارهم في خدمته قليل. هم أئمة الهدى. يقول الإمام الشافعي متحدثا عن الجناب الشريف: «فصلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون. وصلى عليه في الأولين والآخرين، أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه، وزكانا وإياكم بالصلاة عليه أفضل ما زكى أحدا من أمته بصلاته عليه. والسلام عليه ورحمته وبركاته. وجزاه الله عنا أفضل ما جزى مرسلا عن من أرسل إليه. فإنه أنقذنا من الهلكة، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس، دائنين بدينه الذي ارتضى، واصطفى به ملائكته ومن أنعم عليه من خلقه. فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت، نلنا بها حظا في دين ودنيا، أو دفع بها عنا مكروه فيهما أو في واحد منهما، إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها».]:
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin