إحسان الإحسان - 17 -
جناية المصطلحات
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾. اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري. وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي. وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي. واجعل الحياة زيادة لي في كل خير. واجعل الموت راحة لي من كل شر.]
[إن كانت عقبَات الصمم عن سماع النداء الموجه للفطرة، وعقبات الكبرياء المانعة من الأخذ عن الأكابر، وعقبات البعد عن عهد النبوة والصحابة، وعقبات الدنيا والشهوات المانعة من التوبة واليقظة، وعقبات الانغماس والانطماس عن طلب المعالي حواجزَ شاهقة وسدودا غَالقة عن الاقتحام فإن من أهم العقبات وجود آراء مسبقة عن شيء يسمى التصوف، يتحدث جهابذة علمائه عن "سبيل الدين الغامض"، وعن المعرفة واللحظ، وعن ميلاد القلوب، وعن ضرورة الشيخ، ويستعملون مصطلحات محدثة. وعندي وعند المسلمين أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.]:
يشير الكاتب هنا، إلى حال كثير من المسلمين إزاء التصوف عموما، وإزاء مصطلحاته التي يبدو أنها مستحدثة في الدين. وهذا يكون لأهل مرتبة الإسلام، الذين لا يعقلون من الدين إلا إياها، مع ظنهم أن لا مرتبة وراءها. وهذا الغلط قد وقع فيه علماء الدين قبل العوام؛ واستمر الغلط في الأمة قرونا متتالية، صار يُنظر معه إلى الدين نظرة غير مطابقة لما هو عليه في أصله. ومن يزعم أنه يعلم من الدين أصلا، حتى يتكلم عنه! وإنما هي مقاربات يأنس إليها الناس، ويتقوى ترجيحهم لها بحسب المذهب الذي هم عليه في بلدانهم، وبحسب آراء العلماء الذين يتبعونهم.
وبما أن التصوف استكشاف للدين بالسير عبر المراتب والمقامات، فإنه سيبقى خارج إحاطة أصحاب علم اللسان، وسيُنظر إليه من طرف من لا سلوك لهم (وهم الأغلبية) على أنه شيء مخالف للدين المعلوم. ولو أن الناس (وفي مقدمهم العلماء) كانوا يعلمون منطق الدين، لعلموا أن التصوف هو التدين حقيقة، لا ما هم عليه. ذلك لأن غير السالك سيبقى دائما في أدنى مراتب التدين، مع ما يكتنف ذلك من ضعف إيماني وشبهات تعرض للمرء بين الحين والآخر، قد لا يجد من علمه أو من علم من يقتدي بهم، مخرجا له منها طول عمره.
وإن من يشير الكاتب إليهم بتبديعهم للتصوف، لا يكلمنا عن النار المطلعة منهم على أفئدتهم، والتي قد تصل بهم أحيانا إلى الشك في الدين من أصله. ومن كان يريد تجنب النار الأخروية، فإن عليه أولا أن يخرج من ناره الدنيوية؛ فهي أقرب إليه وأشد إحراقا في راهن وقته. أما من كان غليظ القلب، لا خبر له عن المواجيد الباطنية من الوهابية وأضرابهم، ممن لا شعور لهم ولا تمييز، فإنهم سيرون حتما في التصوف ابتداعا، يخالف حالهم بالكلية. وهؤلاء، إن تُجووِز عنهم من قِبل العالِمين ترفعا، فإنهم لا يمكن أن يُلتفت إلى أقوالهم البتة عند وزنها بميزان العلم. ومن يفعل ذلك من الناس، فإنما يبرهن على أنه منهم، إن لم يكن أسوأ حالا وأحط مرتبة.
ولقد سمعنا من بعض المعاصرين، ما يدل عندنا على قرب حاله من الكافرين، وهذه أحط منزلة للمسلمين، والناس يحسبونه مجددا ومن كبار علماء الزمان. ولولا أننا لا نريد هتك ستره -مع دلالتنا على عدم إصابته في بعض أقواله- لفضحناه على رؤوس الملأ، وبيّنا أنه ما زال شاكا في الدين!... فأمثال هذا، كان ينبغي أن يتستروا وأن لا يتقدموا الصفوف.
[فما هي هذه الشجرة التي تزْعمون أنكم شممتم أزهارها وقطفتم ثمارها؟ من غرسها، وبم سقاها، ومن تعهدها حتى وَرِفَتْ ظلالها، وامتدت، وفاء إليها أكابر العلماء يجثون على الركب أمام الشيخ العارف يسلسون له القياد. وقام طائفة من أهل العلم يصرخون ويستصرخون، وينقدون ويؤلفون في "تلبيس إبليس"؟ دين الله واضح، وها هو الكتاب وها هي السنة.]:
يعرض الكاتب هنا مرتكزات منتقدي التصوف، ويأتي بكتاب ابن الجوزي الذي هو من فقهاء الحنابلة في القرن السادس، نموذجا ماثلا. ولقد كان انتقاد ابن الجوزي للتصوف، من باب "من جهل شيئا عاداه"، أو من باب انتقاد الجهلة من متصوفة زمانه أحيانا، كما فعل غيره من أزمنة أخرى. ولا بد أن نذكر هنا لطيفة، نجيب فيها عن سؤال: لمَ كان الانتقاد في أزمنة الانحراف أقرب إلى الصوفية من غيرهم؟ مع عدم خلو صنف من أهل الدين عما ذُكر؟... فنقول: كان ذلك، لأن التصوف هو مجال التحقق بمراتب الدين، ومجال التحقق أولى بالاعتبار من مجال الدعوى؛ وغيرة الله تكون على دينه -يدفع عنه سبحانه ما يطمس معالمه- أقوى من الغيرة على ما يدعيه الناس منه (الدين). وذلك لأن ضرر الآفة الأولى أعم، وضرر الثانية خاص، وإن توسع إلى حد شمول فرق بكاملها وفئات. لذلك لا ينبغي أن يؤخذ انتقاد الصوفية الشائع، على أنه لعلة استحقاقهم لذلك من حيث هم صوفية؛ وإنما لأن مجالهم أقل قبولا للانحراف من غيره. وهذا يشبه الجسم الأبيض، الذي يكون أشد تأثرا بالأوساخ من غيره مما هو على ألوان تقارب في أصلها السواد. ولنأخذ مثلا على ما ذكرنا: فإذا جلس شخصان، الواحد منهما يلبس لباسا أبيض والآخر يلبس لباسا أسود، على موضع به فحم، فنهض صاحب اللباس الأبيض جليّ الاتساخ، ونهض الآخر سليما بحسب ما يعطي النظر؛ فهل يدل هذا على أن الأول أشد اتساخا من الثاني، أم يدل -فقط- على أنه أكثر الرجلين عرضة لأن يُرى عليه ما يخالف صفاء لونه!...
وإن إشارة الكاتب إلى منتقدي التصوف، بأنهم يزعمون التزام الكتاب والسنة وحدهما، هو صحيح، وهو مما يشيع بين المنتقدين في كل زمن؛ غير أن ادعاء العلم بالكتاب والسنة من كل وجه لدى المنتقدين، لا يقول به إلا أهل الاغترار من الفقهاء، الذين لا يعلمون إلا بعض ما يتعلق بظاهر العلم، وبعض ما يناسب مرتبة العوام؛ وينكرون أن يُعلّم الله عباده من لدنه، مع أن تعليم الله وارد في الكتاب والسنة ذاتهما. فيظهر هنا، أن الميزان مختل، لا ينبغي أن تُعتبر نتائجه. فعن أي كتاب وعن أي سنة يتكلمون بعد؟... يقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، ويقول: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]. وهذه المرتبة ليست مقصورة على الخضر عليه السلام، وفي العباد من هم على شاكلته دائما. ولم يكن الخضر من الأنبياء حتى يُقال إن تعليم الله مخصوص بالأنبياء وحدهم عليهم السلام؛ وإن كان يُشار إلى مرتبته ومرتبة أمثاله بنبوة التعريف، في مقابل نبوة التشريع. وعلى كل حال، فإن الكلام يطول في هذه المسألة، ونحن إنما أردنا التنبيه إلى أصلها فحسب.
[ضع بإزاء سؤالاتك سُؤالاً أخيرا: ما حقيقة إسلامك أنت؟ وما حقيقة إيمانك؟ وضع بإزاء وجود الكتاب والسنة وجودك أنت، واشتغل بسؤالها إن طُفْتَ وأعياك التَّطواف بالكتب والخلافات. ثم تعال معي، واصبر معي. فقد جنيت لك الأطايب من شجرة طيبة إن كنت من الصادقين، وإن علمت أن أحداً من العقلاء لا يجازف بآخرته فيهرف بما لا يعرف.]:
يستثير الكاتب انتباه القارئ إلى حقيقة الأمر، والذي هو اعتبار النفس عند النظر في الكتاب والسنة؛ بحيث يستوثق الناظر في ذلك مما يصل إليه ويقارنه بما وصل إليه الصحابة والتابعون، مما هو مذكور ببراهينه في الوحي، ليعلم أحقيقة هو على السنة أم لا. ويعد الكاتب بتسهيل هذا النظر على من يرغب في الاستزادة من العلم النافع، بما سيجمعه له من مقتطفات تجنبه عناء البحث العميق والطويل؛ خصوصا وأنه يُعلن أنه لن يغامر بآخرته، وهو يعظ غيره؛ ليطمئن السامع ويُحسن الظن به فيما سيقول. ولكن السؤال سيبقى دائما: إلى أي حد يكون علم الكاتب وعلم من يأتي بنقولهم بالكتاب والسنة؟... لأن ادعاء علم الكتاب والسنة، لا يصح على التمام إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وحتى الورثة، لا بد أن ينقص علمهم عن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما غير هؤلاء، فهم على علم قليل بالكتاب والسنة حتما. وعلى هذا، فإن إشهار العلم بالكتاب والسنة، هكذا من غير تفصيل، لا يكون إلا من قبيل الإرهاب الديني، الذي يبغي به صغار علماء الدين استتباع العوام، من أجل المتاجرة بهم في مختلف "البورصات" الممكنة.
[ذكر البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: "حدثوا الناس بما يعرفون، وَدعوا ما يكرهون. أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟" ومن هذا الباب قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم".]:
هذا الكلام لا خلاف عليه، لكن ينبغي اعتبار أمرين فيه الآن: الأول، أن المقصود مما ذُكر، هو عدم جواز مخاطبة العوام بعلوم الخواص، من حيث الحكم الأصلي؛ والثاني، هو أن علوم الخواص قد نشرت بين الناس، بانتشار الكتب في القرون الأخيرة، وعندما ازدهرت حركة الطباعة والنشر في العالم، بما لم يعرفه الأولون. وهذا يعني أننا في وضعية استثنائية، ينبغي علينا فيها التصدي لما قيل، بما يحد من فتنته، أو بما يوضح مشكله بالقدر المستطاع، ما دام العباد لن يستطيعوا منع أنفسهم من الفضول من جهة، ولن يستطيعوا إدراك كل ما يصلهم على وجهه (فقد شرط المقام)، من جهة أخرى.
[وقد كانت ولا تزال أحاديث الصوفية عن مواجيدهم وما يتخذونه من مصطلحات فتنة لكثير من المسلمين. ومن الناس من يكره تلك الأحاديث لمجرد أنها تشير إلى ما لا تدركه عقولهم. وعند القوم رضي الله عنهم مما يضمره الجنان ما لا تتسع له العبارة رغم وفرة المصطلحات. قال الغزالي: "ومن أول الطريقة تبتدئ المشاهدات والمكاشفات حتى إنهم (أي الصوفية) في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى بهم الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجـات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطإ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه".]:
هذا الكلام صحيح، لكن الشأن ليس هو جعل التصوف قريبا إلى الحد الذي يقبله كل الناس؛ وهو كما أسلفنا من العلوم الخاصة، التي لا تُبث لكل الناس. وإن كل من يريد أن يجعل التصوف مُدرَكا للجميع، أو يشترط على الصوفية أن يُفهموا غيرهم ما هم عليه، فإنه يكون من الجاهلين. ولو عُمل بهذه القاعدة الفاسدة في جميع العلوم، لفسدت على أهلها، وربما انقطعت. فمن يشترط في الرياضيات -وهي علم معياري- أن يلتزم العلماء المبرزون، بما يعقله منها من ليس لهم إلا بعض إلمام بأوّليّاتها!... وأما كلام الغزالي، فهو كلام خبير، يتكلم عما عرف بنفسه، رضي الله عنه. وكل ما قاله مسلم به في الطريق، لا يختلف فيه اثنان؛ مع الإشارة إلى أن ذلك مما هو من أحوال صادقي المريدين فحسب. ولعل القارئ قد لاحظ أننا عندما نتكلم عن بعض مواجيدنا، فإننا نقصر الكلام عما مر بنا في طور إرادتنا وحده؛ وأما ما نحن الآن نعلمه بحمد الله، فلا يطيق سماعه أحد من الصوفية فضلا عن غيرهم. ويكفي أن نشير هنا إلى علم واحد مما يعزب عن الخواص، وهو علم استخراج اللؤلؤ والمرجان من بحر الظلمات. وهو علم غريب، لم نسمع أحدا تكلم فيه، وإن كنا نعلم أن له أهلا من كل زمان. وعدم الكلام فيه راجع إلى غربته في الغربة ذاتها، وانطماس معالمه لدى العقول النيّرة قبل المظلمة.
[رويدا، رويدا! ملائكة تشاهد! أرواح! ثم لا يكفي هذا! أين بساطة الإيمان من هذه الدعوى التي لا يستسيغها مُدرك بحس ولا متخيل بحدس؟!]:
كما ذكرنا آنفا، فالصوفية ليسوا مطالبين بالتنزل لغيرهم؛ وإنما الغير -إن وجدوا من أنفسهم مقدرة- هم من عليهم الترقي إلى مصافّهم. وهذه الطريقة في تناول المسائل من طرف الكاتب، والتي توهم بما يمكن أن نسميه "ديمقراطية علمية" ومساواة متوهمة، ليست إلا من التلبيسات التي يراد من ورائها التشكيك في أصالة علم التصوف فحسب. ولعل الكاتب يتودد بهذا، إلى ضعاف الإيمان والعقل، ليُشعرهم أنه معتن بهم، وأنه سيجد لهم مخرجا يطالعون به المستويات العليا من العلوم. ولقد أثمرت هذه الطريقة في التوجيه لدى أصحابه، حسن ظن بأنفسهم، وجرأة على الكلام في مجاهيل العلوم، لاطمئنانهم إلى كونهم لا بد وأن يبلغوا منها شيئا، بما أنهم قد درّبوا على هذا الصنف من "الاقتحام" العلمي، الذي لن يُنبئ إلا عن سوء حال المعلّم والمتعلّم...
وأما مشاهدة الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء، فإنه من الأمور الشائعة لدى جملة من تلاميذنا. لو أخبروا بما يشاهدون، لما صدقهم الخواص كما سبق أن أشرنا. كل هذا، ليدلنا الله المعلّم الحق، أن الطريق واحد، لا يختلف فيه لاحق عن سابق.
[السلف الصالح لم يستعملوا الألفاظ الـمـُغْرِبة وإن كان ورد عن عمران بن حصين الصحابي رضي الله عنه أنهُ كانت تصافحه الملائكة حتى اكتوى فاحتجبت عنه.]:
التحدث بالمواجيد ليس إغرابا، وإنما المخلَّفون من أهل العلم والعبادة، هم من لا يريدون أن يُقرّوا بفضل لأحد عليهم، بعد إيقانهم أنهم ليسوا من أهل الفضل. وما هذا إلا نتيجة الحسد، الذي ينهى الله عباده عنه. يقول الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]. وإن كانت الآية قد وردت في أهل الكتاب، فإن صفتهم قد تعدت إلى الفقهاء، ليُصبحوا "أهل الكتاب" من الأمة الإسلامية. أهل كتاب: لكونهم يزعمون أنهم أعلم الناس به، مع عدم تحققهم بذلك؛ وأهل كتاب: لأنهم يجمدون على ما لُقِّنوا من جهة التقليد، مع رفضهم لما يُخالفه إن هو صدر ممن يأخذون علمهم عن ربهم في الوقت. فالصورة مطابقة للصورة، وإن كان هؤلاء مسلمين وأولئك كافرين... وهنا ينبغي أن نشير إلى لطيفة ينبغي أن يتنبه إليها كل مؤمن، وهي أن كل حال من أحوال أهل الكفر وأهل الإيمان، مما جاء به القرآن، له نظير في كل زمن من أمتنا خاصة. لذلك، فإنه لا بد من قوم مسلمين، يكونون على صفة أهل الكتاب. ولقد ذكرنا بعض ما ورد في هذه الفئة ضمن كتابنا "التجديد الصوفي". والسبب فيما نقول، هو أن حكاية حال بني إسرائيل، أو أي قوم ممن سبقونا، في القرآن الكريم، لها وجهان: الأول، هو ما يتعلق بأصحابها المذكورين بالاسم؛ والثاني، هو ما يعنينا منها في أنفسنا، بصفتنا من أهل القرآن؛ وإلا كانت حكاية الله لِما كان عليه العباد من أهل الأمم السابقة، سردا تاريخيا؛ بل عبثا محضا. تعالى الله عن ذلك كله!...
[إن اصطلاحات القوم ككل الاصطلاحات المحدثة في الإسلام أشياء محددة بالمكان، موسومة بالزمان، أملاها الاضطرار.]:
هذا الكلام فيه نظر، لأن من الاصطلاحات مما صار شائعا بين الناس، وله مدلوله الذي لا يتبدل. ولولا هذا الاستمرار في الاستعمال والمواصلة، لما تقدم علم من العلوم التراكمية. فهل يريد منا الكاتب، إلغاء كل ما صار يدخل في هذا الصنف، من العلوم؟... ثم إن المصطلحات ما هي إلا علامات على معان مخصوصة، والعبرة بالمعاني لا بالمصطلح. وإن كان المعنى مما هو علم، فلا أثر للمصطلح فيه إلا الدلالة. ونعني من هذا أن العلم لم يكن ناقصا قبل ظهور المصطلحات، ولا هو زاد بظهورها؛ وإنما الأمر بين إجمال وتفصيل كما ذكرنا مرة. والاضطرار الذي يشير إليه الكاتب، هو بسبب التفصيل المقتضي لمصطلحات مواكبة فحسب؛ وإلا فإننا سندخل في فوضى معرفية، تشبه ما يؤسسه الدجاليون في آخر الزمان، ليقطعوا الناس عن الحق وطريقه قطعا تاما.
[قال الأستاذ القشيري: "السلف الصالح لم يسْتعملوا هذه الألفاظ. لم يكن في معارفهم خلل. والخلَف الذين استعملوا هذه الألفاظ لم يكن ذلك منهم لطريق الحق مُبايَنةً، ولا في الدين بدعة. كما أن المتأخرين من الفقهاء عن زمان الصحابة والتابعين اسْتعملوا ألفاظ الفقهاء من لفظ "العلة" و"المعلول" و"القياس" وغيره. ثم لم يكن استعمالهم لذلك بدعة ولا خُلُوُّ السلف عن ذلك كان لهم نقصا. وكذلك شأن النحويين والتصريفيين ونَقَلَةُ الأخبار، في ألفاظ تَخْتص كل طائفة منهم بها"]:
كلام القشيري متجاوز اليوم، لأن القرون قد جعلت منطق تطور العلوم مُدرَكا للخاص والعام. ولقد سبق لنا أن تكلمنا عن الإجمال والتفصيل في العلم، وهو ما يعني أن التفصيل هو الإجمال عينه لكن باعتبار آخر فحسب. وتفصيل المجمل، لا نهاية له أبدا، ما دام العلم ذاته لا نهاية له. وقياس التصوف على الفقه بأنواعه، أو على علوم اللغة، لا يليق بمكانته؛ وهو ما كان ينبغي أن يكون المقيس عليه، لو بقي الناس على التديّن الصحيح... ونعني من هذا أن قياس ما هو من تحقيق التدين على العلوم الجامدة كالفقه، هو من أثر النزول إلى التقليد بدل السلوك. وهذا أمر نتفهمه، ولا نقرّه.
[قال هذا الأستاذ القشيري، وهو من أئمة الفقهاء والمتكلمين والصوفية، جمع الله فيه خيرا كثيرا، في رسالة له يدافع فيها عن العقيدة الأشعرية، وعن مصطلحات المتكلمين.]:
القشيري رضي الله عنه، كان من المتقنين؛ لكنه لم يُجاوز مرتبة عوام الطريق. وكون المرء فقيها متكلما صوفيا، لا يدل إلا على ما ذكرنا؛ لأن الكبار وإن كانت لهم الإمامة في كل هذه العلوم، فإنهم لا يُعرفون إلا بالتصوف. فليُتأمّل هذا!... وطبقة القشيري من علماء الدين، قد نفعت كثيرا عموم الأمة، بسبب قرب مداركها من العامة الذين يقلدونهم. ونعني مرة أخرى من كلامنا، أن خواص الخواص يكون العلم في حقهم واحدا لا يتعدد، بسبب كونهم قائمين على مفترقه. فلهم رأي في الفقه وفي الكلام وفي التصوف، قد يخالف المشهور. بل إن لهم في كل وقت علما، حتى إذا سئل الواحد منهم عن مسألة في وقتين أجاب بجوابين، لا بجواب واحد. وهذا ليس إلا لهم رضي الله عنهم. وفي هذا المعنى قال قائلهم (ولعله البسطامي رضي الله عنه): "ليس العلم ما إذا ما نسيته صرت جاهلا، وإنما هو ما تأخذه عن الله متى شئت.".
[ومن العلماء الأكابر من يشفق على قارئ أخبار الصوفية أن يسيء فهمهم فيقرب ويُسدد. قال ابن القيم بعد أن تناول مبحثا دقيقا من مباحث شيخ الإسلام الهروي: "وكَسَوْتُهُ أحسن عبارة لئلا يُتَعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير".]:
لم يُكلَّف ابن القيم الكلامَ في التصوف وهو يجهله؛ وإن أفضل ما كان سينال التصوف منه (ومن شيخه)، أن يُهمله لا أن يكسو بعضه بكسوته. ولولا الاغترار الزائد، ما سمح هؤلاء لأنفسهم بالكلام فيما لا يعلمون، لا لشيء إلا لأنهم من علماء الدين بحسب أدنى مراتبه!... وجعل الكاتب للتصوف في موضع التهمة، لم يكن لائقا، إن هو كان على علم به. والحقيقة هي أنه لم يكن يتجاوز كثيرا ما هم عليه العامة من أهل التصديق!...
[ومنهم من يشرح ويُقارن. قال الإمام السيوطي: "واعلم أن دقائق علم التصوف لو عُرضت معانيها على الفقهاء بالعبارة التي ألفوها في علومهم لاستحسنوها كل الاستحسان، وكانوا أول قائل بها. وإنما ينفرهم منها إيرادها بعبارة مستغربة لم يألفوها".]:
كلام السيوطي رحمه الله، يعيدنا إلى ما كنا قد ذكرناه عن جدلية اللفظ والمعنى؛ ويجعلنا نستبين سبب إنكار الفقهاء لما يجهلون، وهو أنهم لا يصلون إلى المعنى إلا من الألفاظ؛ بخلاف أهل الله الذين أعطاهم الله أن يعلموا المعنى من غير لفظ. وهذا من أشد ما يمتنع إدراكه عن العقول!... ولقد حدث معنا نحن كثيرا -ونحن من لم نشتغل بالعلوم الكسبية- أن كنا نُدرك المعاني فنعبر عنها للمتخصصين، فكانوا يُعلموننا بالألفاظ الموضوعة لها في علومهم. فكنا نستفيد منهم المصطلح، بعد إدراكنا للمعنى لا قبله. ولقد نلنا من هذا الوجه بعض علوم المتكلمين وعلوم الأصوليين والفلاسفة؛ فلله الحمد والمنة. ثم إن هناك من العلوم ما لا يُدرك للفقهاء، وإن بُسطت لهم عبارتها، لكونها من مرتبة أعلى. وغياب هذا المعنى عن السيوطي، يدل على أن الجهل بالمراتب متأصل لدى علماء الدين من قديم. وهنا نكتة؛ وهي أن بعض العلماء العاملين كانوا يذوقون الترقي ولو جزئيا، لكنهم لم يكونوا يميّزون المرتبة التي هم فيها، بسبب ظنهم أنهم في مرتبة واحدة، تتغير فيها الأحوال على العبد، ولا تتغير هي. وفي الغالب يكون عدم التمييز هذا لمن لم يكمل سلوكه، وبقي بين المرتبة المشتركة والتي فوقها. وأما الواصل، فإنه في الغالب يميز المراتب، بسبب بعده عنها بالوصول، ونظره إليها نظرة إجمالية شاملة، كما ينظر المشرف من علٍ إلى ما أسفل منه. وهذا الذي نقوله هنا، لم نعثر على من أبرزه على ما يليق به من الماضين، كأبي عبد الله الساحلي الأندلسي، في كتابه "بغية السالك في أشرف المسالك".
جناية المصطلحات
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾. اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري. وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي. وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي. واجعل الحياة زيادة لي في كل خير. واجعل الموت راحة لي من كل شر.]
[إن كانت عقبَات الصمم عن سماع النداء الموجه للفطرة، وعقبات الكبرياء المانعة من الأخذ عن الأكابر، وعقبات البعد عن عهد النبوة والصحابة، وعقبات الدنيا والشهوات المانعة من التوبة واليقظة، وعقبات الانغماس والانطماس عن طلب المعالي حواجزَ شاهقة وسدودا غَالقة عن الاقتحام فإن من أهم العقبات وجود آراء مسبقة عن شيء يسمى التصوف، يتحدث جهابذة علمائه عن "سبيل الدين الغامض"، وعن المعرفة واللحظ، وعن ميلاد القلوب، وعن ضرورة الشيخ، ويستعملون مصطلحات محدثة. وعندي وعند المسلمين أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.]:
يشير الكاتب هنا، إلى حال كثير من المسلمين إزاء التصوف عموما، وإزاء مصطلحاته التي يبدو أنها مستحدثة في الدين. وهذا يكون لأهل مرتبة الإسلام، الذين لا يعقلون من الدين إلا إياها، مع ظنهم أن لا مرتبة وراءها. وهذا الغلط قد وقع فيه علماء الدين قبل العوام؛ واستمر الغلط في الأمة قرونا متتالية، صار يُنظر معه إلى الدين نظرة غير مطابقة لما هو عليه في أصله. ومن يزعم أنه يعلم من الدين أصلا، حتى يتكلم عنه! وإنما هي مقاربات يأنس إليها الناس، ويتقوى ترجيحهم لها بحسب المذهب الذي هم عليه في بلدانهم، وبحسب آراء العلماء الذين يتبعونهم.
وبما أن التصوف استكشاف للدين بالسير عبر المراتب والمقامات، فإنه سيبقى خارج إحاطة أصحاب علم اللسان، وسيُنظر إليه من طرف من لا سلوك لهم (وهم الأغلبية) على أنه شيء مخالف للدين المعلوم. ولو أن الناس (وفي مقدمهم العلماء) كانوا يعلمون منطق الدين، لعلموا أن التصوف هو التدين حقيقة، لا ما هم عليه. ذلك لأن غير السالك سيبقى دائما في أدنى مراتب التدين، مع ما يكتنف ذلك من ضعف إيماني وشبهات تعرض للمرء بين الحين والآخر، قد لا يجد من علمه أو من علم من يقتدي بهم، مخرجا له منها طول عمره.
وإن من يشير الكاتب إليهم بتبديعهم للتصوف، لا يكلمنا عن النار المطلعة منهم على أفئدتهم، والتي قد تصل بهم أحيانا إلى الشك في الدين من أصله. ومن كان يريد تجنب النار الأخروية، فإن عليه أولا أن يخرج من ناره الدنيوية؛ فهي أقرب إليه وأشد إحراقا في راهن وقته. أما من كان غليظ القلب، لا خبر له عن المواجيد الباطنية من الوهابية وأضرابهم، ممن لا شعور لهم ولا تمييز، فإنهم سيرون حتما في التصوف ابتداعا، يخالف حالهم بالكلية. وهؤلاء، إن تُجووِز عنهم من قِبل العالِمين ترفعا، فإنهم لا يمكن أن يُلتفت إلى أقوالهم البتة عند وزنها بميزان العلم. ومن يفعل ذلك من الناس، فإنما يبرهن على أنه منهم، إن لم يكن أسوأ حالا وأحط مرتبة.
ولقد سمعنا من بعض المعاصرين، ما يدل عندنا على قرب حاله من الكافرين، وهذه أحط منزلة للمسلمين، والناس يحسبونه مجددا ومن كبار علماء الزمان. ولولا أننا لا نريد هتك ستره -مع دلالتنا على عدم إصابته في بعض أقواله- لفضحناه على رؤوس الملأ، وبيّنا أنه ما زال شاكا في الدين!... فأمثال هذا، كان ينبغي أن يتستروا وأن لا يتقدموا الصفوف.
[فما هي هذه الشجرة التي تزْعمون أنكم شممتم أزهارها وقطفتم ثمارها؟ من غرسها، وبم سقاها، ومن تعهدها حتى وَرِفَتْ ظلالها، وامتدت، وفاء إليها أكابر العلماء يجثون على الركب أمام الشيخ العارف يسلسون له القياد. وقام طائفة من أهل العلم يصرخون ويستصرخون، وينقدون ويؤلفون في "تلبيس إبليس"؟ دين الله واضح، وها هو الكتاب وها هي السنة.]:
يعرض الكاتب هنا مرتكزات منتقدي التصوف، ويأتي بكتاب ابن الجوزي الذي هو من فقهاء الحنابلة في القرن السادس، نموذجا ماثلا. ولقد كان انتقاد ابن الجوزي للتصوف، من باب "من جهل شيئا عاداه"، أو من باب انتقاد الجهلة من متصوفة زمانه أحيانا، كما فعل غيره من أزمنة أخرى. ولا بد أن نذكر هنا لطيفة، نجيب فيها عن سؤال: لمَ كان الانتقاد في أزمنة الانحراف أقرب إلى الصوفية من غيرهم؟ مع عدم خلو صنف من أهل الدين عما ذُكر؟... فنقول: كان ذلك، لأن التصوف هو مجال التحقق بمراتب الدين، ومجال التحقق أولى بالاعتبار من مجال الدعوى؛ وغيرة الله تكون على دينه -يدفع عنه سبحانه ما يطمس معالمه- أقوى من الغيرة على ما يدعيه الناس منه (الدين). وذلك لأن ضرر الآفة الأولى أعم، وضرر الثانية خاص، وإن توسع إلى حد شمول فرق بكاملها وفئات. لذلك لا ينبغي أن يؤخذ انتقاد الصوفية الشائع، على أنه لعلة استحقاقهم لذلك من حيث هم صوفية؛ وإنما لأن مجالهم أقل قبولا للانحراف من غيره. وهذا يشبه الجسم الأبيض، الذي يكون أشد تأثرا بالأوساخ من غيره مما هو على ألوان تقارب في أصلها السواد. ولنأخذ مثلا على ما ذكرنا: فإذا جلس شخصان، الواحد منهما يلبس لباسا أبيض والآخر يلبس لباسا أسود، على موضع به فحم، فنهض صاحب اللباس الأبيض جليّ الاتساخ، ونهض الآخر سليما بحسب ما يعطي النظر؛ فهل يدل هذا على أن الأول أشد اتساخا من الثاني، أم يدل -فقط- على أنه أكثر الرجلين عرضة لأن يُرى عليه ما يخالف صفاء لونه!...
وإن إشارة الكاتب إلى منتقدي التصوف، بأنهم يزعمون التزام الكتاب والسنة وحدهما، هو صحيح، وهو مما يشيع بين المنتقدين في كل زمن؛ غير أن ادعاء العلم بالكتاب والسنة من كل وجه لدى المنتقدين، لا يقول به إلا أهل الاغترار من الفقهاء، الذين لا يعلمون إلا بعض ما يتعلق بظاهر العلم، وبعض ما يناسب مرتبة العوام؛ وينكرون أن يُعلّم الله عباده من لدنه، مع أن تعليم الله وارد في الكتاب والسنة ذاتهما. فيظهر هنا، أن الميزان مختل، لا ينبغي أن تُعتبر نتائجه. فعن أي كتاب وعن أي سنة يتكلمون بعد؟... يقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، ويقول: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]. وهذه المرتبة ليست مقصورة على الخضر عليه السلام، وفي العباد من هم على شاكلته دائما. ولم يكن الخضر من الأنبياء حتى يُقال إن تعليم الله مخصوص بالأنبياء وحدهم عليهم السلام؛ وإن كان يُشار إلى مرتبته ومرتبة أمثاله بنبوة التعريف، في مقابل نبوة التشريع. وعلى كل حال، فإن الكلام يطول في هذه المسألة، ونحن إنما أردنا التنبيه إلى أصلها فحسب.
[ضع بإزاء سؤالاتك سُؤالاً أخيرا: ما حقيقة إسلامك أنت؟ وما حقيقة إيمانك؟ وضع بإزاء وجود الكتاب والسنة وجودك أنت، واشتغل بسؤالها إن طُفْتَ وأعياك التَّطواف بالكتب والخلافات. ثم تعال معي، واصبر معي. فقد جنيت لك الأطايب من شجرة طيبة إن كنت من الصادقين، وإن علمت أن أحداً من العقلاء لا يجازف بآخرته فيهرف بما لا يعرف.]:
يستثير الكاتب انتباه القارئ إلى حقيقة الأمر، والذي هو اعتبار النفس عند النظر في الكتاب والسنة؛ بحيث يستوثق الناظر في ذلك مما يصل إليه ويقارنه بما وصل إليه الصحابة والتابعون، مما هو مذكور ببراهينه في الوحي، ليعلم أحقيقة هو على السنة أم لا. ويعد الكاتب بتسهيل هذا النظر على من يرغب في الاستزادة من العلم النافع، بما سيجمعه له من مقتطفات تجنبه عناء البحث العميق والطويل؛ خصوصا وأنه يُعلن أنه لن يغامر بآخرته، وهو يعظ غيره؛ ليطمئن السامع ويُحسن الظن به فيما سيقول. ولكن السؤال سيبقى دائما: إلى أي حد يكون علم الكاتب وعلم من يأتي بنقولهم بالكتاب والسنة؟... لأن ادعاء علم الكتاب والسنة، لا يصح على التمام إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وحتى الورثة، لا بد أن ينقص علمهم عن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما غير هؤلاء، فهم على علم قليل بالكتاب والسنة حتما. وعلى هذا، فإن إشهار العلم بالكتاب والسنة، هكذا من غير تفصيل، لا يكون إلا من قبيل الإرهاب الديني، الذي يبغي به صغار علماء الدين استتباع العوام، من أجل المتاجرة بهم في مختلف "البورصات" الممكنة.
[ذكر البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: "حدثوا الناس بما يعرفون، وَدعوا ما يكرهون. أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟" ومن هذا الباب قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم".]:
هذا الكلام لا خلاف عليه، لكن ينبغي اعتبار أمرين فيه الآن: الأول، أن المقصود مما ذُكر، هو عدم جواز مخاطبة العوام بعلوم الخواص، من حيث الحكم الأصلي؛ والثاني، هو أن علوم الخواص قد نشرت بين الناس، بانتشار الكتب في القرون الأخيرة، وعندما ازدهرت حركة الطباعة والنشر في العالم، بما لم يعرفه الأولون. وهذا يعني أننا في وضعية استثنائية، ينبغي علينا فيها التصدي لما قيل، بما يحد من فتنته، أو بما يوضح مشكله بالقدر المستطاع، ما دام العباد لن يستطيعوا منع أنفسهم من الفضول من جهة، ولن يستطيعوا إدراك كل ما يصلهم على وجهه (فقد شرط المقام)، من جهة أخرى.
[وقد كانت ولا تزال أحاديث الصوفية عن مواجيدهم وما يتخذونه من مصطلحات فتنة لكثير من المسلمين. ومن الناس من يكره تلك الأحاديث لمجرد أنها تشير إلى ما لا تدركه عقولهم. وعند القوم رضي الله عنهم مما يضمره الجنان ما لا تتسع له العبارة رغم وفرة المصطلحات. قال الغزالي: "ومن أول الطريقة تبتدئ المشاهدات والمكاشفات حتى إنهم (أي الصوفية) في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى بهم الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجـات يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطإ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه".]:
هذا الكلام صحيح، لكن الشأن ليس هو جعل التصوف قريبا إلى الحد الذي يقبله كل الناس؛ وهو كما أسلفنا من العلوم الخاصة، التي لا تُبث لكل الناس. وإن كل من يريد أن يجعل التصوف مُدرَكا للجميع، أو يشترط على الصوفية أن يُفهموا غيرهم ما هم عليه، فإنه يكون من الجاهلين. ولو عُمل بهذه القاعدة الفاسدة في جميع العلوم، لفسدت على أهلها، وربما انقطعت. فمن يشترط في الرياضيات -وهي علم معياري- أن يلتزم العلماء المبرزون، بما يعقله منها من ليس لهم إلا بعض إلمام بأوّليّاتها!... وأما كلام الغزالي، فهو كلام خبير، يتكلم عما عرف بنفسه، رضي الله عنه. وكل ما قاله مسلم به في الطريق، لا يختلف فيه اثنان؛ مع الإشارة إلى أن ذلك مما هو من أحوال صادقي المريدين فحسب. ولعل القارئ قد لاحظ أننا عندما نتكلم عن بعض مواجيدنا، فإننا نقصر الكلام عما مر بنا في طور إرادتنا وحده؛ وأما ما نحن الآن نعلمه بحمد الله، فلا يطيق سماعه أحد من الصوفية فضلا عن غيرهم. ويكفي أن نشير هنا إلى علم واحد مما يعزب عن الخواص، وهو علم استخراج اللؤلؤ والمرجان من بحر الظلمات. وهو علم غريب، لم نسمع أحدا تكلم فيه، وإن كنا نعلم أن له أهلا من كل زمان. وعدم الكلام فيه راجع إلى غربته في الغربة ذاتها، وانطماس معالمه لدى العقول النيّرة قبل المظلمة.
[رويدا، رويدا! ملائكة تشاهد! أرواح! ثم لا يكفي هذا! أين بساطة الإيمان من هذه الدعوى التي لا يستسيغها مُدرك بحس ولا متخيل بحدس؟!]:
كما ذكرنا آنفا، فالصوفية ليسوا مطالبين بالتنزل لغيرهم؛ وإنما الغير -إن وجدوا من أنفسهم مقدرة- هم من عليهم الترقي إلى مصافّهم. وهذه الطريقة في تناول المسائل من طرف الكاتب، والتي توهم بما يمكن أن نسميه "ديمقراطية علمية" ومساواة متوهمة، ليست إلا من التلبيسات التي يراد من ورائها التشكيك في أصالة علم التصوف فحسب. ولعل الكاتب يتودد بهذا، إلى ضعاف الإيمان والعقل، ليُشعرهم أنه معتن بهم، وأنه سيجد لهم مخرجا يطالعون به المستويات العليا من العلوم. ولقد أثمرت هذه الطريقة في التوجيه لدى أصحابه، حسن ظن بأنفسهم، وجرأة على الكلام في مجاهيل العلوم، لاطمئنانهم إلى كونهم لا بد وأن يبلغوا منها شيئا، بما أنهم قد درّبوا على هذا الصنف من "الاقتحام" العلمي، الذي لن يُنبئ إلا عن سوء حال المعلّم والمتعلّم...
وأما مشاهدة الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء، فإنه من الأمور الشائعة لدى جملة من تلاميذنا. لو أخبروا بما يشاهدون، لما صدقهم الخواص كما سبق أن أشرنا. كل هذا، ليدلنا الله المعلّم الحق، أن الطريق واحد، لا يختلف فيه لاحق عن سابق.
[السلف الصالح لم يستعملوا الألفاظ الـمـُغْرِبة وإن كان ورد عن عمران بن حصين الصحابي رضي الله عنه أنهُ كانت تصافحه الملائكة حتى اكتوى فاحتجبت عنه.]:
التحدث بالمواجيد ليس إغرابا، وإنما المخلَّفون من أهل العلم والعبادة، هم من لا يريدون أن يُقرّوا بفضل لأحد عليهم، بعد إيقانهم أنهم ليسوا من أهل الفضل. وما هذا إلا نتيجة الحسد، الذي ينهى الله عباده عنه. يقول الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]. وإن كانت الآية قد وردت في أهل الكتاب، فإن صفتهم قد تعدت إلى الفقهاء، ليُصبحوا "أهل الكتاب" من الأمة الإسلامية. أهل كتاب: لكونهم يزعمون أنهم أعلم الناس به، مع عدم تحققهم بذلك؛ وأهل كتاب: لأنهم يجمدون على ما لُقِّنوا من جهة التقليد، مع رفضهم لما يُخالفه إن هو صدر ممن يأخذون علمهم عن ربهم في الوقت. فالصورة مطابقة للصورة، وإن كان هؤلاء مسلمين وأولئك كافرين... وهنا ينبغي أن نشير إلى لطيفة ينبغي أن يتنبه إليها كل مؤمن، وهي أن كل حال من أحوال أهل الكفر وأهل الإيمان، مما جاء به القرآن، له نظير في كل زمن من أمتنا خاصة. لذلك، فإنه لا بد من قوم مسلمين، يكونون على صفة أهل الكتاب. ولقد ذكرنا بعض ما ورد في هذه الفئة ضمن كتابنا "التجديد الصوفي". والسبب فيما نقول، هو أن حكاية حال بني إسرائيل، أو أي قوم ممن سبقونا، في القرآن الكريم، لها وجهان: الأول، هو ما يتعلق بأصحابها المذكورين بالاسم؛ والثاني، هو ما يعنينا منها في أنفسنا، بصفتنا من أهل القرآن؛ وإلا كانت حكاية الله لِما كان عليه العباد من أهل الأمم السابقة، سردا تاريخيا؛ بل عبثا محضا. تعالى الله عن ذلك كله!...
[إن اصطلاحات القوم ككل الاصطلاحات المحدثة في الإسلام أشياء محددة بالمكان، موسومة بالزمان، أملاها الاضطرار.]:
هذا الكلام فيه نظر، لأن من الاصطلاحات مما صار شائعا بين الناس، وله مدلوله الذي لا يتبدل. ولولا هذا الاستمرار في الاستعمال والمواصلة، لما تقدم علم من العلوم التراكمية. فهل يريد منا الكاتب، إلغاء كل ما صار يدخل في هذا الصنف، من العلوم؟... ثم إن المصطلحات ما هي إلا علامات على معان مخصوصة، والعبرة بالمعاني لا بالمصطلح. وإن كان المعنى مما هو علم، فلا أثر للمصطلح فيه إلا الدلالة. ونعني من هذا أن العلم لم يكن ناقصا قبل ظهور المصطلحات، ولا هو زاد بظهورها؛ وإنما الأمر بين إجمال وتفصيل كما ذكرنا مرة. والاضطرار الذي يشير إليه الكاتب، هو بسبب التفصيل المقتضي لمصطلحات مواكبة فحسب؛ وإلا فإننا سندخل في فوضى معرفية، تشبه ما يؤسسه الدجاليون في آخر الزمان، ليقطعوا الناس عن الحق وطريقه قطعا تاما.
[قال الأستاذ القشيري: "السلف الصالح لم يسْتعملوا هذه الألفاظ. لم يكن في معارفهم خلل. والخلَف الذين استعملوا هذه الألفاظ لم يكن ذلك منهم لطريق الحق مُبايَنةً، ولا في الدين بدعة. كما أن المتأخرين من الفقهاء عن زمان الصحابة والتابعين اسْتعملوا ألفاظ الفقهاء من لفظ "العلة" و"المعلول" و"القياس" وغيره. ثم لم يكن استعمالهم لذلك بدعة ولا خُلُوُّ السلف عن ذلك كان لهم نقصا. وكذلك شأن النحويين والتصريفيين ونَقَلَةُ الأخبار، في ألفاظ تَخْتص كل طائفة منهم بها"]:
كلام القشيري متجاوز اليوم، لأن القرون قد جعلت منطق تطور العلوم مُدرَكا للخاص والعام. ولقد سبق لنا أن تكلمنا عن الإجمال والتفصيل في العلم، وهو ما يعني أن التفصيل هو الإجمال عينه لكن باعتبار آخر فحسب. وتفصيل المجمل، لا نهاية له أبدا، ما دام العلم ذاته لا نهاية له. وقياس التصوف على الفقه بأنواعه، أو على علوم اللغة، لا يليق بمكانته؛ وهو ما كان ينبغي أن يكون المقيس عليه، لو بقي الناس على التديّن الصحيح... ونعني من هذا أن قياس ما هو من تحقيق التدين على العلوم الجامدة كالفقه، هو من أثر النزول إلى التقليد بدل السلوك. وهذا أمر نتفهمه، ولا نقرّه.
[قال هذا الأستاذ القشيري، وهو من أئمة الفقهاء والمتكلمين والصوفية، جمع الله فيه خيرا كثيرا، في رسالة له يدافع فيها عن العقيدة الأشعرية، وعن مصطلحات المتكلمين.]:
القشيري رضي الله عنه، كان من المتقنين؛ لكنه لم يُجاوز مرتبة عوام الطريق. وكون المرء فقيها متكلما صوفيا، لا يدل إلا على ما ذكرنا؛ لأن الكبار وإن كانت لهم الإمامة في كل هذه العلوم، فإنهم لا يُعرفون إلا بالتصوف. فليُتأمّل هذا!... وطبقة القشيري من علماء الدين، قد نفعت كثيرا عموم الأمة، بسبب قرب مداركها من العامة الذين يقلدونهم. ونعني مرة أخرى من كلامنا، أن خواص الخواص يكون العلم في حقهم واحدا لا يتعدد، بسبب كونهم قائمين على مفترقه. فلهم رأي في الفقه وفي الكلام وفي التصوف، قد يخالف المشهور. بل إن لهم في كل وقت علما، حتى إذا سئل الواحد منهم عن مسألة في وقتين أجاب بجوابين، لا بجواب واحد. وهذا ليس إلا لهم رضي الله عنهم. وفي هذا المعنى قال قائلهم (ولعله البسطامي رضي الله عنه): "ليس العلم ما إذا ما نسيته صرت جاهلا، وإنما هو ما تأخذه عن الله متى شئت.".
[ومن العلماء الأكابر من يشفق على قارئ أخبار الصوفية أن يسيء فهمهم فيقرب ويُسدد. قال ابن القيم بعد أن تناول مبحثا دقيقا من مباحث شيخ الإسلام الهروي: "وكَسَوْتُهُ أحسن عبارة لئلا يُتَعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير".]:
لم يُكلَّف ابن القيم الكلامَ في التصوف وهو يجهله؛ وإن أفضل ما كان سينال التصوف منه (ومن شيخه)، أن يُهمله لا أن يكسو بعضه بكسوته. ولولا الاغترار الزائد، ما سمح هؤلاء لأنفسهم بالكلام فيما لا يعلمون، لا لشيء إلا لأنهم من علماء الدين بحسب أدنى مراتبه!... وجعل الكاتب للتصوف في موضع التهمة، لم يكن لائقا، إن هو كان على علم به. والحقيقة هي أنه لم يكن يتجاوز كثيرا ما هم عليه العامة من أهل التصديق!...
[ومنهم من يشرح ويُقارن. قال الإمام السيوطي: "واعلم أن دقائق علم التصوف لو عُرضت معانيها على الفقهاء بالعبارة التي ألفوها في علومهم لاستحسنوها كل الاستحسان، وكانوا أول قائل بها. وإنما ينفرهم منها إيرادها بعبارة مستغربة لم يألفوها".]:
كلام السيوطي رحمه الله، يعيدنا إلى ما كنا قد ذكرناه عن جدلية اللفظ والمعنى؛ ويجعلنا نستبين سبب إنكار الفقهاء لما يجهلون، وهو أنهم لا يصلون إلى المعنى إلا من الألفاظ؛ بخلاف أهل الله الذين أعطاهم الله أن يعلموا المعنى من غير لفظ. وهذا من أشد ما يمتنع إدراكه عن العقول!... ولقد حدث معنا نحن كثيرا -ونحن من لم نشتغل بالعلوم الكسبية- أن كنا نُدرك المعاني فنعبر عنها للمتخصصين، فكانوا يُعلموننا بالألفاظ الموضوعة لها في علومهم. فكنا نستفيد منهم المصطلح، بعد إدراكنا للمعنى لا قبله. ولقد نلنا من هذا الوجه بعض علوم المتكلمين وعلوم الأصوليين والفلاسفة؛ فلله الحمد والمنة. ثم إن هناك من العلوم ما لا يُدرك للفقهاء، وإن بُسطت لهم عبارتها، لكونها من مرتبة أعلى. وغياب هذا المعنى عن السيوطي، يدل على أن الجهل بالمراتب متأصل لدى علماء الدين من قديم. وهنا نكتة؛ وهي أن بعض العلماء العاملين كانوا يذوقون الترقي ولو جزئيا، لكنهم لم يكونوا يميّزون المرتبة التي هم فيها، بسبب ظنهم أنهم في مرتبة واحدة، تتغير فيها الأحوال على العبد، ولا تتغير هي. وفي الغالب يكون عدم التمييز هذا لمن لم يكمل سلوكه، وبقي بين المرتبة المشتركة والتي فوقها. وأما الواصل، فإنه في الغالب يميز المراتب، بسبب بعده عنها بالوصول، ونظره إليها نظرة إجمالية شاملة، كما ينظر المشرف من علٍ إلى ما أسفل منه. وهذا الذي نقوله هنا، لم نعثر على من أبرزه على ما يليق به من الماضين، كأبي عبد الله الساحلي الأندلسي، في كتابه "بغية السالك في أشرف المسالك".
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin