إحسان الإحسان - 16 -
الإرادة والهمة والعزم
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾. اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي. وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخّر، وأنت على كل شيء قدير.]
[النداء العُلْوي يُهيب بك يا إنسان باقتحام العقبة، ويستفهمك سائلا لتتيقظ إلى أن هنالك عقبة تقتحم، وأن لاقتحامها شروطا. ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾ استفهام وحض واستنهاض.]:
يذكّر الكاتب هنا بمعنى اقتحام العقبة، الذي لم نوافقه عليه فيما قبل؛ لأن العقبة بالمعنى الشرعي، هي ما يحول دون السير في الطريق الموصل إلى الله، لا ما هو من العمل الحركي السياسي. وسنرى إلى أين يريد أن يأخذنا الآن بعد هذا التمهيد...
[ثم ينوع الله الرحمن بخلقه، الفارح بتوبة عباده، الخطاب لتقوم الإرادات الباردة، وتعزم على طلبه سبحانه الهمم الراكدة. فمِنْ أساليب إثارتك يا إنسان وتعليمك وتنبيهك أن تُعرَض عليك مراتب الإرادات. قال الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾. وقال عز من قائل: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.]:
أما الدنيا، فلا يريدها إلا من كان حيوانا أو أقل من الحيوان في المرتبة. وأخص مريدي الدنيا، الكفار الذين يقول الله فيهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. وأما أهل الغفلة من المسلمين، فإنهم في مرتبة أعلى من الكفار، لذلك فهم كالأنعام. وهذا واضح من سعيهم في أغراض أبدانهم وحدها، دون قلوبهم. ومع هذا، من يمت منهم على الإسلام فإنهم يدخلون الجنة -ولو بعد زيارة النار إن كانوا من أهل الكبائر- ويكونون في أسفلها؛ حيث تُلبى لهم شهوات نفوسهم الحيوانية من أكل وشرب وما يتبعهما... هذه هي مرتبتهم.
وأما مريدو الآخرة (الجنة)، فهم المسلمون الذين يعبدون الله على حرف؛ والذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. والمعنى هو أنهم لو علموا -فرضا- أنه لا جنة تنتظرهم، فإنهم سينقلبون معرضين عن الله، لعدم تعلق حقائقهم به سبحانه. ومعنى كون هذا الصنف يخسر الدنيا والآخرة، هو أنه لم يتوجه إلى الدنيا بالكلية كشأن الكافرين حتى يكون جزاؤه منها كاملا؛ ولم يعمل لله حتى يستحق المثوبة في الآخرة، ما دام عمله كان متوجَّها به إلى الحظ الأخروي لا إلى الله. وهذا التفصيل، مما يغيب عن كثير من أهل الدين ويحسبون أنهم محسنون. وهؤلاء وإن لم يكونوا كافرين، فإنهم يشبهون بالحال من يقول الله تعالى فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]. ومن هنا نعلم أن الله تعالى، إن تقبل أعمال هذا الصنف، فهو من تجاوزه سبحانه عنهم وإلحاقهم بالمؤمنين المخلِصين، من باب الفضل لا غير. وأما قول الله تعالى الذي أنزله في الصحابة (يوم أحد): {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، فقد أخرج الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، قوله فيه: "ما كنت أظن أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ أحداً يريد الدنـيا حتـى قال الله ما قال.". ومعلوم أن مريدي الدنيا يومئذ، هم من استعجلوا الظفر بالغنائم وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأن مريدي الآخرة، هم من ثبتوا وجاهدوا؛ وكل هذا على ما يناسب حال عوام المؤمنين. وأما من ذهب بهذه الآية مذهب الخصوص، فإنه أخذ وصف الله للصحابة بإرادة الدنيا والآخرة معا، على وجه الذم؛ حيث لم يكن يجدر بهم أن يريدوا غير وجهه سبحانه، على المعنى الذي في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]. وذلك لأن إرادة وجه الله، هي بالتأكيد غير إرادة الآخرة وغير إرادة الدنيا.
وأما إرادة معارضة الحكام، بالوسائل غير المشروعة، والتي يريد الكاتب أن يقحمها في معنى اقتحام العقبة، فلا شك هي من إرادة الدنيا، لا من الإرادة المشروعة. وهذا التلبيس الذي يشوب "التنظير" من البداية، لا يمكن أن يؤول إلى خير بالنظر إلى النهايات...
[وأنت ترى أصلحك الله أن الله جلت حكمته لا يبخس أهل الدنيا أعمالهم في الدنيا. وما تفوق العالم المصنع المتعلم المنظم من حولنا إلا نتيجة توفية الله عز وجل لكل قوم أعمالهم وَفق ما يريدون.]:
ما ينسبه الكاتب إلى العالم المصنع، ليس حكرا عليه من جهة الاستمتاع؛ لأن المسلمين يستهلكون البضائع العصرية، وإن لم يخترعوها. فلا يصح معنى الجزاء المتعلق بالكفار، إلا فيما يحتفظون به لأنفسهم، مما يُبقي السبق لهم على المسلمين. وحتى هذا الذي ذكرناه، لا يجعل لكل ذلك وزنا؛ لأنه في النهاية من الدنيا. والدنيا قد قال الله فيها: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77]. ومعنى قليل في كلام الله، هو أنه قريب من العدم. لهذا، فإن المؤمن الحق لا يستعظم إنجازات الكفار أبدا، ويراها لا تستحق الاعتبار. وما دخل على المسلمين في زماننا من استعظام لتلك الإنجازات التقنية، فهو نتيجة لشدة ضعف الإيمان التي قد عمت وقاربت بالناس الكفر. وهذا استثناء في أحوال الأمة بالنظر إلى ما كان عليه السابقون، لا يُقاس عليه. ولعل الكاتب قد وقع في هذا، بسبب تأثره بالخطاب السائد لدى المفكرين والمثقفين؛ وإلا فإنه كان ينبغي أن يُغفل اعتبار الدنيا بالجملة؛ ونعني ما لا يكون منها سببا إلى الآخرة فحسب.
[فما السبيل إلى أن تقترن إرادتنا لله والآخرة بالإرادة الجهادية القائمة أسبابها على العمل الدنيوي التصنيعي التكنولوجي التنظيمي؟ مهما نَحِدْ عن تربية القرآن وأحضان النبوة نَزِغْ عن الطريق.]:
الكلام في عمومه صحيح؛ وإن كان يحتاج إلى برهان يُصدّقه. وجيّد أن الكاتب ذكر إرادة الله مع الآخرة، وإن رجونا أن يبسط الكلام في إرادة الله؛ حتى نعلم غاية دعوته.
وأما الجمع بين الإرادة الشرعية، وما سماه الكاتب "إرادة جهادية" بحسب مقصده، فلا يصح؛ لأن هذه الثانية تحول دون تحقق الأولى. وإن كان لا يصح الجمع بين الإرادتين، فإرادة الله أولى بالتقديم. وإنّ نقْض الإرادة الجهادية البدعية في حق العامة والمبتدئين، يصير بهذا واجبا غير قابل للتأجيل. وأما الجهاد الحق تحت راية الإمام وبغية إعلاء كلمة الله، فهو من الأعمال الشرعية في وقتها، التي لا يجوز التخلف عنها. فنحن دائما نفرق بين الجهاد الشرعي والجهاد البدعي. ولقد رأينا من أفنى عمره من الإسلاميين، في جهادهم المزعوم، فلم نر لهم نورا يشهد لصحة مسلكهم؛ وإن كانوا يُكابرون، ويبالغون في التشبه بأصحاب الطريق من جهة الظاهر أحيانا. وأما الطبقة العامة الغالبة منهم، فإنهم أشبه بالكافرين في أعمالهم وأحوالهم منهم بالمؤمنين، مع كونهم مسلمين. وهذا يجعلهم على سوء، يُخاف عليهم منه أن يختم الله لهم به. ولو نظر المساكين إلى الأسئلة التي يُسأَلُها العبد بعد موته فورا، لعلموا أنه ليس من بينها سؤال واحد عن الجهاد المعلوم للحركات الإسلامية والتنظيمات. فكيف يُغامر المرء بأساس الفلاح، عند تمسكه بما لا يبلغ أن يكون حتى من الفروع؟!...
ولا يبقى من معنى للجهاد في زماننا بين المسلمين، إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي ينبغي أن يأتيه مَن هو مِن أهله، العالمين بالأحكام وبمواقع الخطاب. والحديث الذي يجيب فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم السائل عن أفضل الجهاد بقوله: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»[1]، هو ليس على إطلاقه؛ بل هو مقيّد بشروط منها:
1. أن يكون الناطق بكلمة الحق عالما بها، وبما يحيط بها من ملابسات وتفاصيل.
2. أن يكون الناطق عاملا في نفسه بالشريعة، غير متلاعب بأحكام الدين؛ لأن كثيرا ممن يعارضون الحكام، هم أسوأ منهم فيما يعود إلى دائرة رعايتهم (النفس، والبيت، والعمل)؛ ذلك لأن المسؤولية منوطة بكل عبد مهما صغر شأنه في دائرته الخاصة. ومن لم يحكم بما أنزل الله في دائرته، فكيف يريد أن ينصح غيره في دائرة أخرى؟!... والمجتمع الإسلامي يحقق التماسك، عندما يقوم كل الناس بواجباتهم، لا الحكام وحدهم، كما يزعم الإسلاميون.
3. بما أن الحكام الظالمين قد يكون الله موَلِّيَهم جزاءً للمعصية المشتركة لدى عموم العباد (الشعب)، وعقابا لانحرافهم عن الطريق، فإن معارضتهم من غير اعتبار لما ذكرنا تكون معاندة لله ومخالفة لإرادته سبحانه. ومن أول ما ينبغي على المريد من العباد مراعاته، أن لا تُصادم إرادته أمر الله وإرادته؛ وإن كانت مصادَمة إرادة الله من الناحية الوجودية لا تصح، لكونها حاكمة على كل إرادة للمخلوقين. وعندما يقول الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فإن الكلام يتضمن الإرادة أيضا، بما أنها فرع عن المشيئة.
4. أن يكتفي الناطق بكلمة الحق عند السلطان بالنطق، وأن لا يُجاوزه إلى المتابعة والمحاسبة والمنازعة؛ لأن استجابة الحاكم متعلقة بإرادة الله ذلك منه، قبل إرادته هو في نفسه. وإن لم يرد الله من الحاكم استجابة، فإن ذلك يكون لحِكَم تغيب عن نظر الناصح، عليه أن يعتبرها ويُسلّم لله فيها. وعلى كل حال، فإن جل من يظنون أنفسهم يعارضون الحاكم من باب النطق بكلمة الحق (كجماعة الإخوان في مصر)، فإنهم مخالفون للشرع بأعمالهم. ومن كان مخالفا للشرع، فلا ينتظر أن تكون في نطقه بكلمة الحق بركة، تجعل المنصوح يستجيب. بل إن هذا النطق المزعوم بكلمة الحق، قد فتح على الأمة أبوابا من الفتن، زادت على ما كان بها من بلاء.
5. أن يكون الناصح من المعاملين لله، لا من المنطلقين من الشريعة وكأنها قانون من جملة القوانين؛ لأن عدم معاملة الله يجعل الناصح والمنصوح على حال واحد من الغفلة، وإن اختلفت الصورتان من حيث الظاهر.
[إن الله اللطيف الخبير أدّب نبيه صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه، فكان من أهم ما أدّبه به لنتعلم نحن الأمة الربانية المرحومة أن قال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾. يريدون وجهه، لا إله إلا الله!]:
إن الكاتب أدرك أن الله يؤدب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه لم يعلم وجه ذلك التأديب؛ وكأن الفضل في نظره هو للصحابة المريدين وجه الله؛ وما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يصبر نفسه معهم ليكون في مرتبتهم، أو -على الأقل- متأدبا معهم!... وهذا فهم معكوس، كما لا يخفى، لا يكون إلا للتيميين من دون الناس. وأما عوام المؤمنين، فيتوقفون في معنى الآية، لشعورهم بعدم اتساق ما يعرض لهم من ظاهرها، مع ما يعلمونه من مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدين؛ تعرف هذا قلوبُهم من دون تعليم. وأما نحن، فإننا نقول: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر نفسه مع مريدي وجه الله، من باب العناية وإجابة الطلب للمريدين. ووجه الله المذكور في الآية، هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاته، من كونه مظهرا للاسم الجامع بالأصالة. وبما أن بعض الصحابة كانت هممهم معلقة بالله، وبما أن وجه "الله" هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن إجابة دعوة الداعين لربهم بالغداة والعشي، هي بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون معهم، ليشهدوا فيه ما سألوا. ومن لم يفهم من الآية ما ذكرنا، فما فهمها، ولا شمّ لمعناها رائحة. ولا يُهمنا هنا إن كان هذا المعنى خارج ما يعقله الفقهاء في العادة، لأننا لا نلتزم بما تعطيه مرتبتهم؛ بل هم من عليهم أن يرتقوا -بالتسليم على الأقل- إلى الأخذ عنا. والدين هو لله لا لأحد من العباد، حتى يقول فيه من شاء ما شاء، أو يُلزم الناس بما شاء. وعلى المسلمين جميعا العمل على هذا الأصل، لعلنا نعود إلى حال العافية والاستقامة فنكون جميعا من الفائزين...
[اقتُرِحَ عليك الاقتحام، وعُينت لك الرفقة مع المريدين الذاكرين غير الغافلين، أرباب القلوب العاكفين بباب الله بالغداة والعشي. فأين إرادتك من الإرادات؟ وأين همتك من الهمم؟ إن كانت لا تحركنا الإهابة القرآنية فلعل ملاحظة أقراننا في الإنسانية والإسلام، السابقين الراقين في مرافع الإحسان، توقد فينا حمية المنافسة.]:
اقتحام الكاتب، قد ظهر أنه غير الاقتحام بالمعنى الشرعي!... والإصرار على استعمال المصطلح بما لم يوضع له في الأصل، هو من التلبيس الذي يعتمده الكاتب في مخاطبة الناس. ونحن لن نوافقه عليه أبدا!... وكما سأل الكاتب مخاطَبيه عن صنف إرادتهم، وعن محل تعلق هممهم؛ فيحق لنا نحن أن نسأله هو: ومن هو وجه الله الوارث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوظيفة المواجَهة، التي تُمكِّن المريدين أن ينالوا بُغيتهم منه في زمانه؟... فهل كانت هذه المرتبة له؟... أم إنه لم يخطر له هذا المعنى قط على بال؟... فإن لم يكن كما ذكرنا، فلا يحق له أن يدعو المريدين إليه؛ لأنه سيكون غاشا لهم، ومُبعدا لهم عن الطريق القويم. ذلك لأن التقاء المريد بغير الوجه، لا يُنتج معرفة؛ كما لا ينتج التقاء الوجه بمن لا إرادة له!... فهذا النظام في التربية بديع ومحكم، والسنّة فيه أن يكون المرء على ما ذكرنا في كل زمان؛ لا فرق بين سابق ولاحق فيما هو من الأصول. ومن لم يكن من أهل هذه المرتبة الخاصة، فعليه الاكتفاء عند دعوته إلى الدين، بما هم عليه الفقهاء الصادقون؛ إن كان يريد السلامة له ولمن سيتبعه من الناس. ولكن صاحبنا نراه يزعم الخصوصية لنفسه، من دون أن يظهر من كلامه ما يدل عليها؛ بل بالعكس من ذلك، لا نجده إلا من عوام أهل الدين في كل ما يقول. ولعل من ينسبه إلى الخصوصية، قد وقع في ذلك بسبب مقارنته إلى حال أهل زمانه، حيث تعم الغفلة ويُطل الكفر برأسه من خلف الأقنعة؛ وهذا لا يصح!... لأن المراتب لا تتغير بتغير الزمان أو بتغير الأحوال. فمن كان من العوام سيبقى منهم، وإن ظهر في أزمنة الفتنة بمظهر الخواص بسبب شدة المباينة لما هو عليه المجتمع. وهذا أمر ينبغي أن يعتني به الدارسون، عند إرادتهم النظر فيما هو من التديّن العام للمجتمعات، إن كانوا يريدون الخروج منه بطائل.
[قال شيخ الإسلام ابن القيم في تفصيل الإرادات والهمم: "لذّة كل أحد على حسب قدْره وهمته وشرف نفسه. فأشرف الناس نفسا، وأعلاهم همة، وأرفعهم قدرا، من لذّته في معرفة الله، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه. فلذته في إقْباله عليه، وعكوف همته عليه. ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغَال".]:
إن صحت تسمية "شيخ الإسلام (المرتبة)" لابن القيم؛ فإن الكاتب كان يجدر به -إن كان يريد التفصيل في الإرادة- أن يأتي بكلام لـ "شيخ الإيمان"، وبآخر لـ "شيخ الإحسان"؛ حتى يَبين الأمر ويتضح المعنى. أمّا وقد اقتصر على ابن القيم، فإنه يدل بذلك على أنه لا يتكلم خارج مرتبة الإسلام. وهذا يجعله غير مخول لدعوة الخلق إليه!... وأمر الدعوة، ليس مشاعا كما نراه لدى الغافلين من المتأخرين؛ لأن الداعي ينبغي أن يكون عالما بما يدعو إليه، وبمرتبة دعوته حتى لا يُجاوزها؛ وإلا فإنها الفوضى التي لن تُبقي على الدين ولن تذر!...
وأما كلام ابن القيم عن "لذة معرفة الله"، فهو من باب صيغ المجاز وتسمية المسبَّب بسببه، كتسمية المطر سماء. وهذا يحدث كثيرا مع علماء الدين، الذين لا خبر لهم عن حقيقة معاني ألفاظ الوحي. لهذا، يبقى كلام ابن القيم أجوف لا يُعتبر، وهو من ليس من العارفين بالمعنى الاصطلاحي. ودليلنا على ما نقول، جمعه بين المعرفة والشوق في عبارة واحدة، مع جزمنا بأن كلامه عن الشوق لا يتجاوز مرتبة الإسلام أيضا، وإن تعداها فإلى الإيمان. ودليلنا على أنه يتكلم من مرتبة الإسلام، هو إياله إلى ذكر المستقذرات التي لا يقع فيها إلا أهل مرتبة الإسلام، عند ارتكابهم المخالفات. ولو كان الكلام لعارف، لما نزل من أعلى عليين إلى أسفل سافلين؛ لأن كلام المحققين في المراتب حلول فيها. ومن يبغي عن المعرفة بديلا، حتى ينزل عنها؟!... وهذا الذي نذكره هنا، من أنفس القواعد في معرفة الرجال.
[وصنف الإمام الغزالي إرادات الناس وتعلُّقَها بالمطلوبات والمحبوبات، من لعب الأطفال، يرى الأطفال أن اللعب أعظم اللذات، إلى لذة البطن والفرج عند الكبير، إلى لذة العلم في عمر النضج، إلى لذة الرئاسة لمن نَالَهَا بالسيف أو القلم.]:
ترتيب الغزالي للإرادات هنا، ترتيب عقلي محض، يوافق فيه كلام الفلاسفة؛ لذلك لم يأت على ذكر إرادة وجه الله فيه. ولو استدل الكاتب بهذا الكلام وحده، بعد كل ما مر، لكان خروجا منه عن المطلب، ونزولا عن المرتبة الدنيا من الدين. وأما الغزالي رضي الله عنه، فقد أتى به ليبني عليه...
[ويشير الغزالي من طَرْف خَفِيٍّ إلى قصته حين زهد في الرئاسة وخرج يبحث عن الدليل إلى الله فسخر منه الساخرون. قال: "وكما أن الصبي يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرئاسة، فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرئاسة ويشتغل عنها بمعرفة الله تعالى. والعارفون يقولون: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾".]:
هذا الكلام من الغزالي جلي، وليس من طرف خفي؛ يريد منه المقارنة بين طريقي العقل والدين، ليدل على أن أدنى مرتبة من طريق الدين، هي فوق أعلى مرتبة من طريق العقل. ولقد أجاد رضي الله عنه -على عادته- في بلوغ المعنى بأوجز عبارة.
[من الإرادات من زادُها العَوَز، ومن الهمم مَن طبعها الخَوَرُ. كان لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز نفس تواقة عالية. قال لمولاه مزاحم وقد تعجب مزاحم من زهد مولاه الذي كان في شبابه متوسعا في المعايش فلما ولي أمر المسلمين ضرب لمن بعده مثلا خالدا: "ويحك يا مزاحم! لا يكثرن عليك شيء صنعته لله، فإن لي نفسا توّاقة، لم تَتُقْ إلى منزلة فنالتها إلا تاقت إلى ما هو أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ما بعدها منزلة. وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة".]:
ضرْب المثل في هذا الموضع، بالخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، هو من الجهل؛ وإن كان العامي والمبتدئ قد يُدركان من الكلام معنى أوليّا للإرادة والتوْق يليق بهما. ونعني من "خلافة" عمر بن عبد العزيز، أنه كان من جهة غيبه غوث زمانه، لا حاكما فحسب. وهذه المنزلة هي ما عناه بقوله: "حتى بلغت اليوم المنزلة التي ما بعدها منزلة"، لأن منزلة الغوثية، هي التي ليس فوقها منزلة. وأما ما ذكره هذا الخليفة من توقه إلى الجنة، بعد هذه المنزلة، فإنه يكني به عن إرادته لمجالسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفردوس الأعلى، الذي هو محل النظر الدائم إلى الله. ولعل الكاتب قد أوهمه ورود لفظ الجنة، بأن عمر بن عبد العزيز ما يزال كعامة المسلمين يريد الجنة، بالمعنى الذي يعلمونه هم. وهيهات!... وهذا كله نكوص من الكاتب، لا يخدم غرض العنوان...
[هذا التوقان المجيد إلى الجنة حُداءٌ تترنم به النفوس الطيبة. وهناك التوقان الأعظم، الشوق إلى رب الجنة والنار، والسعي إليه والعجلة إليه على أجنحة الهمم الطيارة.]:
وقع الكاتب في شرَك اللفظ كما توقّعنا، بمجرد المقارنة بين التوقان إلى الجنة والتوقان إلى ربها. ولقد كان غير حسن منه أن يذكر النار هنا؛ لأن الكلام محصور في الشوق، والنار لا أحد يشتاق إليها. فهذا من المخالفة التي تنشأ عن الجهل بالمعاني. وسيتدارك الكاتب هذه السقطة قليلا فيما يأتي...
[ما تحدث ابن عبد العزيز عن هذه المرتبة، وكانوا في القرون الثلاثة الفاضلة كتومين لمواجيدهم وأشواقهم.]:
أما الكتم فصحيح؛ لكنه ليس كتم عموم أهل القرون الثلاثة، كما يذكر الكاتب؛ وإنما هو كتم رئيس رجال الغيب ومدبر العالم خلافة عن الله. وكتم مَن هذه مرتبته، ليس ككتم المتورعين من المريدين، أو ككتم الأولياء المتأدبين، لأنه أعلى ما يكون منه؛ حتى ليكون أهل بيت صاحبه لا خبر لهم عنه!... وقد ذكر الغوث المغربي سيدي الدباغ رضي الله عنه، كيف أن زوجته كانت تتوسل في حوائجها بسيدي الجيلاني وأمثاله من الكبار، وهو معها ولا تعلم.
[ولله همم أولياء الله الذين حَدَوْنا وتحدّونا بالإخبار عن إراداتهم الشامخة ومطالبهم السامية. جزاهم الله عنا أفضل الجزاء، فسروا لنا بمثالهم وقصة حياتهم معاني القرآن حين ينادي "سابقوا"، "سارعوا"، ومعاني "من تقرب إلي شبرا تقربت إليه باعا" الوارد في الحديث القدسي. همم صوارم!]:
هذا الكلام جيد، وقرْن الكاتب فيه بين أحوال الأولياء والقرآن جيد أيضا، للتلازم الثابت بين "الثقلين". وتسميته لحيواتهم تفسيرا للقرآن جيدة جدا؛ وإن كان يتكلم عن كل هذا، من وراء حجاب. والحق هو أن كبار الأولياء نُسخ قرآنية، من نظر إليهم نظر إلى معاني القرآن قائمة؛ فإن كان من أهل القراءة التي ذكرها الله في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فإنه سيكون من القارئين للقرآن قراءة الأميين، التي هي موروثة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خبر لعلماء الدين عنها. بل إن أكثر من سمعناهم يتكلمون في معنى قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجدناهم لا يعلمون حقيقتها، مع يقينهم بأميته صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه النسخة القرآنية التي يقرأها الأميون بالوراثة، تكون في مظهرين: الإنسان الكامل، والعالم مع وجود الإنسان الكامل فيه. وهي ذاتها ما أشار إليه الله في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. فالآفاق العالم، والأنفس أنفس الكمل؛ والحق هو المشهود في هاتين النسختين القرآنيتين. ويتبيّن من هذا، أن من لم يشهد الحق، فما قرأ القرآن ولا فهم معناه، بجميع معاني القراءة؛ وإنما حاكى القراءة التي جعلها الله للقاصرين بابا إلى التشبه بالأولياء. والكلام في هذا المعنى يطول، ونحن لا نريد أن نبتعد كثيرا عن أفق الكاتب ومستواه.
[قال الإمام الشيخ أحمد الرفاعي: "ليست الهمة أن يقف الرجل عند حجابه، بل الهمة أن يَفْتِق شراع الحجاب، ويتدلى إلى الرحاب. صوارم الهمم تفعل ما لا يمر بالأوهام. حُجب الغيوب لا تشق إلا بسهام القلوب". وعلى قدر همتك تُعطى. فأي شيء طلبت في عمرك يا إنسان! أما سمعت نداء ربك الكريم ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟ وليس الطلب بالتمني، لكن بالتشمير والهجرة إلى الله بعد التوبة والإنابة مع المنيبين.]:
كلام الرفاعي رضي الله عنه، لا حاجة إلى التعليق عليه؛ لأنه خبير بما يتكلم فيه. ولعل المعاني التفصيلية التي عرض لها، سنجد فيما يأتي من الكتاب ما يدعو إلى إبرازها والتفصيل فيها. نقول هذا، مع علمنا بأن الكاتب دون ما يقول، ودون ما ينقل!... وأما دلالته على مجرد الدعاء بغرض تحصيل الإجابة، في باب الكلام عن الإرادة والهمة، فهو من التنكيس الذي عودنا عليه؛ لأنه كان ينبغي أن يدل على التعلق بالجناب الأقدس صراحة، ويتوسل إلى ذلك بمثل قول الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، أو قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، أو قوله سبحانه: {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31]، من وجه كونه خطابا لنا، لا من وجه كونه مخصوصا بموسى في الحكاية القرآنية؛ وهكذا...
ولقد مررنا في سلوكنا عند تحقق يقيننا بمعنى "علمك بحالي يُغني عن سؤالي"، بمرحلة ما كنا نرى حاجة إلى الدعاء البتة؛ وكنا متوكلين على الله في كل شؤوننا، من غير أن يخالطنا خوف على النفس من شيء من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة. وكانت حاجاتنا تُقضى من غير أن نتوجه إليها، وبقصر توجهنا على الحق وحده. فكيف يذكّرنا الكاتب بالدعاء والإجابة وكأننا عوام. نعني من كلامنا أن المريد ينبغي أن يُخاطب بمثل كلامنا، حتى يزداد تعلقا بربه؛ لا أن يُذكّر بحاجاته فيغفل عنه سبحانه. وما تكلمنا به هنا من تركنا للدعاء، لا ينبغي أن يُنظر إليه من وجه الشريعة الظاهر، لأن الشريعة تدل على الدعاء من غير شك؛ وإنما يُنظر إليه من باطنها، عند جعل الهموم هما واحدا، كما جاء في حديث «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا، كَفَاهُ اللَّهُ مَا هَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.»[2]. وكلامنا يصب في علم الحال، أكثر مما يصب في علم الشريعة بالمعنى المـُدرك للفقهاء. والتفريق بين العلمين، هو مما ينبغي أن يُعمل على إبرازه في الدراسات الشرعية، إن كنا نريد علما موافقا للوحي، بدل هذا الجهل المسمى علما لدى علماء الرسوم.
[لعلكِ يا نفسي الراكدة الهامدة القاعدة تجدين مُنيبا يقرع سمعك بقوارع اللوم كما كان يقرَع الأئمة السابقون.]:
هذا الصنف من التربية، والذي يُعتمد فيه اللوم، ليس تربية الكبار؛ وإنما هو تربية العوام من الشيوخ، الذين لا يُجاوزون مرتبة الإيمان. وأما تربية الكبار، فهي بالهمة (إرادة الشيخ) التي تنفعل لها الأكوان، فتنشل العبد الوسنان من دون سبب منه إلا صدق التوجه وكمال القبول. ولكن كيف يعرف أهل الشوب معاملة الصفاء، وكيف يُدرك المحرور عذوبة الماء!...
الإرادة والهمة والعزم
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾. اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي. وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخّر، وأنت على كل شيء قدير.]
[النداء العُلْوي يُهيب بك يا إنسان باقتحام العقبة، ويستفهمك سائلا لتتيقظ إلى أن هنالك عقبة تقتحم، وأن لاقتحامها شروطا. ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾ استفهام وحض واستنهاض.]:
يذكّر الكاتب هنا بمعنى اقتحام العقبة، الذي لم نوافقه عليه فيما قبل؛ لأن العقبة بالمعنى الشرعي، هي ما يحول دون السير في الطريق الموصل إلى الله، لا ما هو من العمل الحركي السياسي. وسنرى إلى أين يريد أن يأخذنا الآن بعد هذا التمهيد...
[ثم ينوع الله الرحمن بخلقه، الفارح بتوبة عباده، الخطاب لتقوم الإرادات الباردة، وتعزم على طلبه سبحانه الهمم الراكدة. فمِنْ أساليب إثارتك يا إنسان وتعليمك وتنبيهك أن تُعرَض عليك مراتب الإرادات. قال الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾. وقال عز من قائل: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.]:
أما الدنيا، فلا يريدها إلا من كان حيوانا أو أقل من الحيوان في المرتبة. وأخص مريدي الدنيا، الكفار الذين يقول الله فيهم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. وأما أهل الغفلة من المسلمين، فإنهم في مرتبة أعلى من الكفار، لذلك فهم كالأنعام. وهذا واضح من سعيهم في أغراض أبدانهم وحدها، دون قلوبهم. ومع هذا، من يمت منهم على الإسلام فإنهم يدخلون الجنة -ولو بعد زيارة النار إن كانوا من أهل الكبائر- ويكونون في أسفلها؛ حيث تُلبى لهم شهوات نفوسهم الحيوانية من أكل وشرب وما يتبعهما... هذه هي مرتبتهم.
وأما مريدو الآخرة (الجنة)، فهم المسلمون الذين يعبدون الله على حرف؛ والذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]. والمعنى هو أنهم لو علموا -فرضا- أنه لا جنة تنتظرهم، فإنهم سينقلبون معرضين عن الله، لعدم تعلق حقائقهم به سبحانه. ومعنى كون هذا الصنف يخسر الدنيا والآخرة، هو أنه لم يتوجه إلى الدنيا بالكلية كشأن الكافرين حتى يكون جزاؤه منها كاملا؛ ولم يعمل لله حتى يستحق المثوبة في الآخرة، ما دام عمله كان متوجَّها به إلى الحظ الأخروي لا إلى الله. وهذا التفصيل، مما يغيب عن كثير من أهل الدين ويحسبون أنهم محسنون. وهؤلاء وإن لم يكونوا كافرين، فإنهم يشبهون بالحال من يقول الله تعالى فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]. ومن هنا نعلم أن الله تعالى، إن تقبل أعمال هذا الصنف، فهو من تجاوزه سبحانه عنهم وإلحاقهم بالمؤمنين المخلِصين، من باب الفضل لا غير. وأما قول الله تعالى الذي أنزله في الصحابة (يوم أحد): {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، فقد أخرج الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، قوله فيه: "ما كنت أظن أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ أحداً يريد الدنـيا حتـى قال الله ما قال.". ومعلوم أن مريدي الدنيا يومئذ، هم من استعجلوا الظفر بالغنائم وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأن مريدي الآخرة، هم من ثبتوا وجاهدوا؛ وكل هذا على ما يناسب حال عوام المؤمنين. وأما من ذهب بهذه الآية مذهب الخصوص، فإنه أخذ وصف الله للصحابة بإرادة الدنيا والآخرة معا، على وجه الذم؛ حيث لم يكن يجدر بهم أن يريدوا غير وجهه سبحانه، على المعنى الذي في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]. وذلك لأن إرادة وجه الله، هي بالتأكيد غير إرادة الآخرة وغير إرادة الدنيا.
وأما إرادة معارضة الحكام، بالوسائل غير المشروعة، والتي يريد الكاتب أن يقحمها في معنى اقتحام العقبة، فلا شك هي من إرادة الدنيا، لا من الإرادة المشروعة. وهذا التلبيس الذي يشوب "التنظير" من البداية، لا يمكن أن يؤول إلى خير بالنظر إلى النهايات...
[وأنت ترى أصلحك الله أن الله جلت حكمته لا يبخس أهل الدنيا أعمالهم في الدنيا. وما تفوق العالم المصنع المتعلم المنظم من حولنا إلا نتيجة توفية الله عز وجل لكل قوم أعمالهم وَفق ما يريدون.]:
ما ينسبه الكاتب إلى العالم المصنع، ليس حكرا عليه من جهة الاستمتاع؛ لأن المسلمين يستهلكون البضائع العصرية، وإن لم يخترعوها. فلا يصح معنى الجزاء المتعلق بالكفار، إلا فيما يحتفظون به لأنفسهم، مما يُبقي السبق لهم على المسلمين. وحتى هذا الذي ذكرناه، لا يجعل لكل ذلك وزنا؛ لأنه في النهاية من الدنيا. والدنيا قد قال الله فيها: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77]. ومعنى قليل في كلام الله، هو أنه قريب من العدم. لهذا، فإن المؤمن الحق لا يستعظم إنجازات الكفار أبدا، ويراها لا تستحق الاعتبار. وما دخل على المسلمين في زماننا من استعظام لتلك الإنجازات التقنية، فهو نتيجة لشدة ضعف الإيمان التي قد عمت وقاربت بالناس الكفر. وهذا استثناء في أحوال الأمة بالنظر إلى ما كان عليه السابقون، لا يُقاس عليه. ولعل الكاتب قد وقع في هذا، بسبب تأثره بالخطاب السائد لدى المفكرين والمثقفين؛ وإلا فإنه كان ينبغي أن يُغفل اعتبار الدنيا بالجملة؛ ونعني ما لا يكون منها سببا إلى الآخرة فحسب.
[فما السبيل إلى أن تقترن إرادتنا لله والآخرة بالإرادة الجهادية القائمة أسبابها على العمل الدنيوي التصنيعي التكنولوجي التنظيمي؟ مهما نَحِدْ عن تربية القرآن وأحضان النبوة نَزِغْ عن الطريق.]:
الكلام في عمومه صحيح؛ وإن كان يحتاج إلى برهان يُصدّقه. وجيّد أن الكاتب ذكر إرادة الله مع الآخرة، وإن رجونا أن يبسط الكلام في إرادة الله؛ حتى نعلم غاية دعوته.
وأما الجمع بين الإرادة الشرعية، وما سماه الكاتب "إرادة جهادية" بحسب مقصده، فلا يصح؛ لأن هذه الثانية تحول دون تحقق الأولى. وإن كان لا يصح الجمع بين الإرادتين، فإرادة الله أولى بالتقديم. وإنّ نقْض الإرادة الجهادية البدعية في حق العامة والمبتدئين، يصير بهذا واجبا غير قابل للتأجيل. وأما الجهاد الحق تحت راية الإمام وبغية إعلاء كلمة الله، فهو من الأعمال الشرعية في وقتها، التي لا يجوز التخلف عنها. فنحن دائما نفرق بين الجهاد الشرعي والجهاد البدعي. ولقد رأينا من أفنى عمره من الإسلاميين، في جهادهم المزعوم، فلم نر لهم نورا يشهد لصحة مسلكهم؛ وإن كانوا يُكابرون، ويبالغون في التشبه بأصحاب الطريق من جهة الظاهر أحيانا. وأما الطبقة العامة الغالبة منهم، فإنهم أشبه بالكافرين في أعمالهم وأحوالهم منهم بالمؤمنين، مع كونهم مسلمين. وهذا يجعلهم على سوء، يُخاف عليهم منه أن يختم الله لهم به. ولو نظر المساكين إلى الأسئلة التي يُسأَلُها العبد بعد موته فورا، لعلموا أنه ليس من بينها سؤال واحد عن الجهاد المعلوم للحركات الإسلامية والتنظيمات. فكيف يُغامر المرء بأساس الفلاح، عند تمسكه بما لا يبلغ أن يكون حتى من الفروع؟!...
ولا يبقى من معنى للجهاد في زماننا بين المسلمين، إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي ينبغي أن يأتيه مَن هو مِن أهله، العالمين بالأحكام وبمواقع الخطاب. والحديث الذي يجيب فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم السائل عن أفضل الجهاد بقوله: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ»[1]، هو ليس على إطلاقه؛ بل هو مقيّد بشروط منها:
1. أن يكون الناطق بكلمة الحق عالما بها، وبما يحيط بها من ملابسات وتفاصيل.
2. أن يكون الناطق عاملا في نفسه بالشريعة، غير متلاعب بأحكام الدين؛ لأن كثيرا ممن يعارضون الحكام، هم أسوأ منهم فيما يعود إلى دائرة رعايتهم (النفس، والبيت، والعمل)؛ ذلك لأن المسؤولية منوطة بكل عبد مهما صغر شأنه في دائرته الخاصة. ومن لم يحكم بما أنزل الله في دائرته، فكيف يريد أن ينصح غيره في دائرة أخرى؟!... والمجتمع الإسلامي يحقق التماسك، عندما يقوم كل الناس بواجباتهم، لا الحكام وحدهم، كما يزعم الإسلاميون.
3. بما أن الحكام الظالمين قد يكون الله موَلِّيَهم جزاءً للمعصية المشتركة لدى عموم العباد (الشعب)، وعقابا لانحرافهم عن الطريق، فإن معارضتهم من غير اعتبار لما ذكرنا تكون معاندة لله ومخالفة لإرادته سبحانه. ومن أول ما ينبغي على المريد من العباد مراعاته، أن لا تُصادم إرادته أمر الله وإرادته؛ وإن كانت مصادَمة إرادة الله من الناحية الوجودية لا تصح، لكونها حاكمة على كل إرادة للمخلوقين. وعندما يقول الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فإن الكلام يتضمن الإرادة أيضا، بما أنها فرع عن المشيئة.
4. أن يكتفي الناطق بكلمة الحق عند السلطان بالنطق، وأن لا يُجاوزه إلى المتابعة والمحاسبة والمنازعة؛ لأن استجابة الحاكم متعلقة بإرادة الله ذلك منه، قبل إرادته هو في نفسه. وإن لم يرد الله من الحاكم استجابة، فإن ذلك يكون لحِكَم تغيب عن نظر الناصح، عليه أن يعتبرها ويُسلّم لله فيها. وعلى كل حال، فإن جل من يظنون أنفسهم يعارضون الحاكم من باب النطق بكلمة الحق (كجماعة الإخوان في مصر)، فإنهم مخالفون للشرع بأعمالهم. ومن كان مخالفا للشرع، فلا ينتظر أن تكون في نطقه بكلمة الحق بركة، تجعل المنصوح يستجيب. بل إن هذا النطق المزعوم بكلمة الحق، قد فتح على الأمة أبوابا من الفتن، زادت على ما كان بها من بلاء.
5. أن يكون الناصح من المعاملين لله، لا من المنطلقين من الشريعة وكأنها قانون من جملة القوانين؛ لأن عدم معاملة الله يجعل الناصح والمنصوح على حال واحد من الغفلة، وإن اختلفت الصورتان من حيث الظاهر.
[إن الله اللطيف الخبير أدّب نبيه صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه، فكان من أهم ما أدّبه به لنتعلم نحن الأمة الربانية المرحومة أن قال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾. يريدون وجهه، لا إله إلا الله!]:
إن الكاتب أدرك أن الله يؤدب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه لم يعلم وجه ذلك التأديب؛ وكأن الفضل في نظره هو للصحابة المريدين وجه الله؛ وما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يصبر نفسه معهم ليكون في مرتبتهم، أو -على الأقل- متأدبا معهم!... وهذا فهم معكوس، كما لا يخفى، لا يكون إلا للتيميين من دون الناس. وأما عوام المؤمنين، فيتوقفون في معنى الآية، لشعورهم بعدم اتساق ما يعرض لهم من ظاهرها، مع ما يعلمونه من مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدين؛ تعرف هذا قلوبُهم من دون تعليم. وأما نحن، فإننا نقول: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصبر نفسه مع مريدي وجه الله، من باب العناية وإجابة الطلب للمريدين. ووجه الله المذكور في الآية، هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاته، من كونه مظهرا للاسم الجامع بالأصالة. وبما أن بعض الصحابة كانت هممهم معلقة بالله، وبما أن وجه "الله" هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن إجابة دعوة الداعين لربهم بالغداة والعشي، هي بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون معهم، ليشهدوا فيه ما سألوا. ومن لم يفهم من الآية ما ذكرنا، فما فهمها، ولا شمّ لمعناها رائحة. ولا يُهمنا هنا إن كان هذا المعنى خارج ما يعقله الفقهاء في العادة، لأننا لا نلتزم بما تعطيه مرتبتهم؛ بل هم من عليهم أن يرتقوا -بالتسليم على الأقل- إلى الأخذ عنا. والدين هو لله لا لأحد من العباد، حتى يقول فيه من شاء ما شاء، أو يُلزم الناس بما شاء. وعلى المسلمين جميعا العمل على هذا الأصل، لعلنا نعود إلى حال العافية والاستقامة فنكون جميعا من الفائزين...
[اقتُرِحَ عليك الاقتحام، وعُينت لك الرفقة مع المريدين الذاكرين غير الغافلين، أرباب القلوب العاكفين بباب الله بالغداة والعشي. فأين إرادتك من الإرادات؟ وأين همتك من الهمم؟ إن كانت لا تحركنا الإهابة القرآنية فلعل ملاحظة أقراننا في الإنسانية والإسلام، السابقين الراقين في مرافع الإحسان، توقد فينا حمية المنافسة.]:
اقتحام الكاتب، قد ظهر أنه غير الاقتحام بالمعنى الشرعي!... والإصرار على استعمال المصطلح بما لم يوضع له في الأصل، هو من التلبيس الذي يعتمده الكاتب في مخاطبة الناس. ونحن لن نوافقه عليه أبدا!... وكما سأل الكاتب مخاطَبيه عن صنف إرادتهم، وعن محل تعلق هممهم؛ فيحق لنا نحن أن نسأله هو: ومن هو وجه الله الوارث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوظيفة المواجَهة، التي تُمكِّن المريدين أن ينالوا بُغيتهم منه في زمانه؟... فهل كانت هذه المرتبة له؟... أم إنه لم يخطر له هذا المعنى قط على بال؟... فإن لم يكن كما ذكرنا، فلا يحق له أن يدعو المريدين إليه؛ لأنه سيكون غاشا لهم، ومُبعدا لهم عن الطريق القويم. ذلك لأن التقاء المريد بغير الوجه، لا يُنتج معرفة؛ كما لا ينتج التقاء الوجه بمن لا إرادة له!... فهذا النظام في التربية بديع ومحكم، والسنّة فيه أن يكون المرء على ما ذكرنا في كل زمان؛ لا فرق بين سابق ولاحق فيما هو من الأصول. ومن لم يكن من أهل هذه المرتبة الخاصة، فعليه الاكتفاء عند دعوته إلى الدين، بما هم عليه الفقهاء الصادقون؛ إن كان يريد السلامة له ولمن سيتبعه من الناس. ولكن صاحبنا نراه يزعم الخصوصية لنفسه، من دون أن يظهر من كلامه ما يدل عليها؛ بل بالعكس من ذلك، لا نجده إلا من عوام أهل الدين في كل ما يقول. ولعل من ينسبه إلى الخصوصية، قد وقع في ذلك بسبب مقارنته إلى حال أهل زمانه، حيث تعم الغفلة ويُطل الكفر برأسه من خلف الأقنعة؛ وهذا لا يصح!... لأن المراتب لا تتغير بتغير الزمان أو بتغير الأحوال. فمن كان من العوام سيبقى منهم، وإن ظهر في أزمنة الفتنة بمظهر الخواص بسبب شدة المباينة لما هو عليه المجتمع. وهذا أمر ينبغي أن يعتني به الدارسون، عند إرادتهم النظر فيما هو من التديّن العام للمجتمعات، إن كانوا يريدون الخروج منه بطائل.
[قال شيخ الإسلام ابن القيم في تفصيل الإرادات والهمم: "لذّة كل أحد على حسب قدْره وهمته وشرف نفسه. فأشرف الناس نفسا، وأعلاهم همة، وأرفعهم قدرا، من لذّته في معرفة الله، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه. فلذته في إقْباله عليه، وعكوف همته عليه. ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغَال".]:
إن صحت تسمية "شيخ الإسلام (المرتبة)" لابن القيم؛ فإن الكاتب كان يجدر به -إن كان يريد التفصيل في الإرادة- أن يأتي بكلام لـ "شيخ الإيمان"، وبآخر لـ "شيخ الإحسان"؛ حتى يَبين الأمر ويتضح المعنى. أمّا وقد اقتصر على ابن القيم، فإنه يدل بذلك على أنه لا يتكلم خارج مرتبة الإسلام. وهذا يجعله غير مخول لدعوة الخلق إليه!... وأمر الدعوة، ليس مشاعا كما نراه لدى الغافلين من المتأخرين؛ لأن الداعي ينبغي أن يكون عالما بما يدعو إليه، وبمرتبة دعوته حتى لا يُجاوزها؛ وإلا فإنها الفوضى التي لن تُبقي على الدين ولن تذر!...
وأما كلام ابن القيم عن "لذة معرفة الله"، فهو من باب صيغ المجاز وتسمية المسبَّب بسببه، كتسمية المطر سماء. وهذا يحدث كثيرا مع علماء الدين، الذين لا خبر لهم عن حقيقة معاني ألفاظ الوحي. لهذا، يبقى كلام ابن القيم أجوف لا يُعتبر، وهو من ليس من العارفين بالمعنى الاصطلاحي. ودليلنا على ما نقول، جمعه بين المعرفة والشوق في عبارة واحدة، مع جزمنا بأن كلامه عن الشوق لا يتجاوز مرتبة الإسلام أيضا، وإن تعداها فإلى الإيمان. ودليلنا على أنه يتكلم من مرتبة الإسلام، هو إياله إلى ذكر المستقذرات التي لا يقع فيها إلا أهل مرتبة الإسلام، عند ارتكابهم المخالفات. ولو كان الكلام لعارف، لما نزل من أعلى عليين إلى أسفل سافلين؛ لأن كلام المحققين في المراتب حلول فيها. ومن يبغي عن المعرفة بديلا، حتى ينزل عنها؟!... وهذا الذي نذكره هنا، من أنفس القواعد في معرفة الرجال.
[وصنف الإمام الغزالي إرادات الناس وتعلُّقَها بالمطلوبات والمحبوبات، من لعب الأطفال، يرى الأطفال أن اللعب أعظم اللذات، إلى لذة البطن والفرج عند الكبير، إلى لذة العلم في عمر النضج، إلى لذة الرئاسة لمن نَالَهَا بالسيف أو القلم.]:
ترتيب الغزالي للإرادات هنا، ترتيب عقلي محض، يوافق فيه كلام الفلاسفة؛ لذلك لم يأت على ذكر إرادة وجه الله فيه. ولو استدل الكاتب بهذا الكلام وحده، بعد كل ما مر، لكان خروجا منه عن المطلب، ونزولا عن المرتبة الدنيا من الدين. وأما الغزالي رضي الله عنه، فقد أتى به ليبني عليه...
[ويشير الغزالي من طَرْف خَفِيٍّ إلى قصته حين زهد في الرئاسة وخرج يبحث عن الدليل إلى الله فسخر منه الساخرون. قال: "وكما أن الصبي يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرئاسة، فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرئاسة ويشتغل عنها بمعرفة الله تعالى. والعارفون يقولون: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾".]:
هذا الكلام من الغزالي جلي، وليس من طرف خفي؛ يريد منه المقارنة بين طريقي العقل والدين، ليدل على أن أدنى مرتبة من طريق الدين، هي فوق أعلى مرتبة من طريق العقل. ولقد أجاد رضي الله عنه -على عادته- في بلوغ المعنى بأوجز عبارة.
[من الإرادات من زادُها العَوَز، ومن الهمم مَن طبعها الخَوَرُ. كان لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز نفس تواقة عالية. قال لمولاه مزاحم وقد تعجب مزاحم من زهد مولاه الذي كان في شبابه متوسعا في المعايش فلما ولي أمر المسلمين ضرب لمن بعده مثلا خالدا: "ويحك يا مزاحم! لا يكثرن عليك شيء صنعته لله، فإن لي نفسا توّاقة، لم تَتُقْ إلى منزلة فنالتها إلا تاقت إلى ما هو أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ما بعدها منزلة. وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة".]:
ضرْب المثل في هذا الموضع، بالخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، هو من الجهل؛ وإن كان العامي والمبتدئ قد يُدركان من الكلام معنى أوليّا للإرادة والتوْق يليق بهما. ونعني من "خلافة" عمر بن عبد العزيز، أنه كان من جهة غيبه غوث زمانه، لا حاكما فحسب. وهذه المنزلة هي ما عناه بقوله: "حتى بلغت اليوم المنزلة التي ما بعدها منزلة"، لأن منزلة الغوثية، هي التي ليس فوقها منزلة. وأما ما ذكره هذا الخليفة من توقه إلى الجنة، بعد هذه المنزلة، فإنه يكني به عن إرادته لمجالسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفردوس الأعلى، الذي هو محل النظر الدائم إلى الله. ولعل الكاتب قد أوهمه ورود لفظ الجنة، بأن عمر بن عبد العزيز ما يزال كعامة المسلمين يريد الجنة، بالمعنى الذي يعلمونه هم. وهيهات!... وهذا كله نكوص من الكاتب، لا يخدم غرض العنوان...
[هذا التوقان المجيد إلى الجنة حُداءٌ تترنم به النفوس الطيبة. وهناك التوقان الأعظم، الشوق إلى رب الجنة والنار، والسعي إليه والعجلة إليه على أجنحة الهمم الطيارة.]:
وقع الكاتب في شرَك اللفظ كما توقّعنا، بمجرد المقارنة بين التوقان إلى الجنة والتوقان إلى ربها. ولقد كان غير حسن منه أن يذكر النار هنا؛ لأن الكلام محصور في الشوق، والنار لا أحد يشتاق إليها. فهذا من المخالفة التي تنشأ عن الجهل بالمعاني. وسيتدارك الكاتب هذه السقطة قليلا فيما يأتي...
[ما تحدث ابن عبد العزيز عن هذه المرتبة، وكانوا في القرون الثلاثة الفاضلة كتومين لمواجيدهم وأشواقهم.]:
أما الكتم فصحيح؛ لكنه ليس كتم عموم أهل القرون الثلاثة، كما يذكر الكاتب؛ وإنما هو كتم رئيس رجال الغيب ومدبر العالم خلافة عن الله. وكتم مَن هذه مرتبته، ليس ككتم المتورعين من المريدين، أو ككتم الأولياء المتأدبين، لأنه أعلى ما يكون منه؛ حتى ليكون أهل بيت صاحبه لا خبر لهم عنه!... وقد ذكر الغوث المغربي سيدي الدباغ رضي الله عنه، كيف أن زوجته كانت تتوسل في حوائجها بسيدي الجيلاني وأمثاله من الكبار، وهو معها ولا تعلم.
[ولله همم أولياء الله الذين حَدَوْنا وتحدّونا بالإخبار عن إراداتهم الشامخة ومطالبهم السامية. جزاهم الله عنا أفضل الجزاء، فسروا لنا بمثالهم وقصة حياتهم معاني القرآن حين ينادي "سابقوا"، "سارعوا"، ومعاني "من تقرب إلي شبرا تقربت إليه باعا" الوارد في الحديث القدسي. همم صوارم!]:
هذا الكلام جيد، وقرْن الكاتب فيه بين أحوال الأولياء والقرآن جيد أيضا، للتلازم الثابت بين "الثقلين". وتسميته لحيواتهم تفسيرا للقرآن جيدة جدا؛ وإن كان يتكلم عن كل هذا، من وراء حجاب. والحق هو أن كبار الأولياء نُسخ قرآنية، من نظر إليهم نظر إلى معاني القرآن قائمة؛ فإن كان من أهل القراءة التي ذكرها الله في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فإنه سيكون من القارئين للقرآن قراءة الأميين، التي هي موروثة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خبر لعلماء الدين عنها. بل إن أكثر من سمعناهم يتكلمون في معنى قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجدناهم لا يعلمون حقيقتها، مع يقينهم بأميته صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه النسخة القرآنية التي يقرأها الأميون بالوراثة، تكون في مظهرين: الإنسان الكامل، والعالم مع وجود الإنسان الكامل فيه. وهي ذاتها ما أشار إليه الله في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. فالآفاق العالم، والأنفس أنفس الكمل؛ والحق هو المشهود في هاتين النسختين القرآنيتين. ويتبيّن من هذا، أن من لم يشهد الحق، فما قرأ القرآن ولا فهم معناه، بجميع معاني القراءة؛ وإنما حاكى القراءة التي جعلها الله للقاصرين بابا إلى التشبه بالأولياء. والكلام في هذا المعنى يطول، ونحن لا نريد أن نبتعد كثيرا عن أفق الكاتب ومستواه.
[قال الإمام الشيخ أحمد الرفاعي: "ليست الهمة أن يقف الرجل عند حجابه، بل الهمة أن يَفْتِق شراع الحجاب، ويتدلى إلى الرحاب. صوارم الهمم تفعل ما لا يمر بالأوهام. حُجب الغيوب لا تشق إلا بسهام القلوب". وعلى قدر همتك تُعطى. فأي شيء طلبت في عمرك يا إنسان! أما سمعت نداء ربك الكريم ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟ وليس الطلب بالتمني، لكن بالتشمير والهجرة إلى الله بعد التوبة والإنابة مع المنيبين.]:
كلام الرفاعي رضي الله عنه، لا حاجة إلى التعليق عليه؛ لأنه خبير بما يتكلم فيه. ولعل المعاني التفصيلية التي عرض لها، سنجد فيما يأتي من الكتاب ما يدعو إلى إبرازها والتفصيل فيها. نقول هذا، مع علمنا بأن الكاتب دون ما يقول، ودون ما ينقل!... وأما دلالته على مجرد الدعاء بغرض تحصيل الإجابة، في باب الكلام عن الإرادة والهمة، فهو من التنكيس الذي عودنا عليه؛ لأنه كان ينبغي أن يدل على التعلق بالجناب الأقدس صراحة، ويتوسل إلى ذلك بمثل قول الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، أو قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، أو قوله سبحانه: {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31]، من وجه كونه خطابا لنا، لا من وجه كونه مخصوصا بموسى في الحكاية القرآنية؛ وهكذا...
ولقد مررنا في سلوكنا عند تحقق يقيننا بمعنى "علمك بحالي يُغني عن سؤالي"، بمرحلة ما كنا نرى حاجة إلى الدعاء البتة؛ وكنا متوكلين على الله في كل شؤوننا، من غير أن يخالطنا خوف على النفس من شيء من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة. وكانت حاجاتنا تُقضى من غير أن نتوجه إليها، وبقصر توجهنا على الحق وحده. فكيف يذكّرنا الكاتب بالدعاء والإجابة وكأننا عوام. نعني من كلامنا أن المريد ينبغي أن يُخاطب بمثل كلامنا، حتى يزداد تعلقا بربه؛ لا أن يُذكّر بحاجاته فيغفل عنه سبحانه. وما تكلمنا به هنا من تركنا للدعاء، لا ينبغي أن يُنظر إليه من وجه الشريعة الظاهر، لأن الشريعة تدل على الدعاء من غير شك؛ وإنما يُنظر إليه من باطنها، عند جعل الهموم هما واحدا، كما جاء في حديث «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا، كَفَاهُ اللَّهُ مَا هَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.»[2]. وكلامنا يصب في علم الحال، أكثر مما يصب في علم الشريعة بالمعنى المـُدرك للفقهاء. والتفريق بين العلمين، هو مما ينبغي أن يُعمل على إبرازه في الدراسات الشرعية، إن كنا نريد علما موافقا للوحي، بدل هذا الجهل المسمى علما لدى علماء الرسوم.
[لعلكِ يا نفسي الراكدة الهامدة القاعدة تجدين مُنيبا يقرع سمعك بقوارع اللوم كما كان يقرَع الأئمة السابقون.]:
هذا الصنف من التربية، والذي يُعتمد فيه اللوم، ليس تربية الكبار؛ وإنما هو تربية العوام من الشيوخ، الذين لا يُجاوزون مرتبة الإيمان. وأما تربية الكبار، فهي بالهمة (إرادة الشيخ) التي تنفعل لها الأكوان، فتنشل العبد الوسنان من دون سبب منه إلا صدق التوجه وكمال القبول. ولكن كيف يعرف أهل الشوب معاملة الصفاء، وكيف يُدرك المحرور عذوبة الماء!...
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin