إحسان الإحسان - 18 -
كن حلس بيتك
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني. أنت الحي لا تموت. والجن والإنس يموتون.]
[قَال المعترض المحتار وقد أسر صدمة رؤية أولياء الله الملائكةَ وأرواحَ الأنبياء في نفسه: "إن كان للصوفية فيما مضى داع لاصطناع مصطلحات متخصصة كما فعل علماء الفنون الأخرى، فما بَالُ الصوفية، كانوا ولا يزالون، رَمزاً للخمول والهروب من الواقع والانكماش والدروشة؟ وإن زعمتَ أنك تريد تجاوز التصوف كمذهب ومدرسة وأسلوب تربية فهل يمكن شيء من ذلك إلا بنبذ المذاهب جملة، والإعراض عن كل شيء سوى الكتاب والسنة؟".]:
هذان سؤالان محوريان، قد أحسن الكاتب بجعلهما مدخلا لمناقشة التصوف بالنظر إلى الثوابت والمتغيرات الدينية؛ لكننا نلاحظ بداية، عدم انطباق اسم التصوف بصدق على من يزعمون أنهم صوفية. ونعني من هذا أن الكلام عن الصوفية من دون تدقيق، قد يجر إلى الخلط الذي ما زلنا نحذر منه عند تناولنا لأقوال الكاتب.
وعندما ينسب الكاتب الصوفية إلى الهروب من الواقع، فإنه يقصد حتما المتصوفة؛ وإلا فإن الصوفية هم من واجهوا الموت الاختياري بشوق واشتهاء، في الوقت الذي لا يتمكن غيرهم حتى من محاسبة أنفسهم. فكيف يكون من ذاق صنوف الموت، أقل في المرتبة ممن هو واقع في أسر أهوائه وشهواته؟!... وعلى الناظرين في هذه المسألة أن يصححوا مفاهيمهم على ضوء الواقع حقيقة، بدل التحريف الذي يزيد من ضلال الناس وحيرتهم!...
[فأقول وبالله التوفيق: إن الله جلت عظمته يقول: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾.]:
يخطئ الكاتب عندما يورد الآيات الحاضة على الجهاد، من غير تقييد لشروطه؛ وكأن الجهاد الذي قد تترتب عليه نتائج تغير وجه الأرض بغير حق، أو تتغير الأحوال من ساكنيها بالقتل أو بالتهجير، هو عمل من أعمال الإسلام، لا يختلف عن أحكام الطعام والشراب، أو أحكام البيوع!... هذا الإخلال الناتج عن عدم اعتبار الجهاد ضمن مكانته الأصلية، ومن دون زيادة أو نقصان (تحريف)؛ هو ما سيُولّد آفات ستزيد من بلاء الأمة، منذ زمن الخوارج الأُول وإلى يومنا هذا... ونعني من هذا، أن المنطق الشرعي (الذي أخطأه الكاتب)، لا يوافق المنطق القدري دائما؛ بل إن جل ما سيقع مما ورد في الأخبار، لا يقع إلا بخروج الأمة عن الصراط المستقيم جزئيا. فالتوجه إلى الدنيا الذي كان أول مخالفة كبرى، سينتج عنه الحكم بغير ما أنزل الله لدى السلاطين؛ وطاعة الحكام في معصية الله، سينتج عنها تسليط الأعداء الخارجيين؛ وأكل أموال الناس بالباطل ستنتج عنه المجاعات والفوارق الاجتماعية المفرقة للجماعة. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ -وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ- لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا. وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.»[1]. فالكلام في شؤون الأمة، ينبغي لأصحابه أن يجمعوا بين علم الأحكام وعلم الأقدار، حتى لا يقعوا فيما وقع فيه الإسلاميون من الأدلجة التي زادت الأمة تمزقا.
[أي شيء ألجم تلك الإراداتِ القوية والهمم العلية عن غشيان ساحَات الوغى، وعن مناصرة القرآن في وجه السلطان لما اختصم السلطان والقرآن؟]:
هنا يظهر جهل الكاتب بأحكام الجهاد. فهو يجعل مقاتلة الكافرين التي يدل عليها القرآن وتدل السنّة، كقتال الحكام الظالمين أو الفاسقين، من المسلمين. وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما أخبر بافتراق السلطان والقرآن، في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا وَإِنَّ رَحَى الْإِيمَانِ دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ يَدُورُ. أَلَا وَإِنَّ السُّلْطَانَ وَالْكِتَابَ سَيَفْتَرِقَانِ، فَلَا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ.»[2]، فإنما كان يدلنا على التمسك بالقرآن وبأحكامه، لا بالقيام على الحكام المفارقين. ولعل هذه المسألة، هي مكمن الافتراق في الرأي بين المسلمين منذ زمن الخوارج الذين توهموا أنهم أكثر تمسكا بالقرآن من عليّ عليه السلام، وإلى جماعات الإسلاميين التي تعامل حكام آخر الزمان معاملة الكافرين. وسنعود إلى الحديث النبوي المذكور بتفصيل أكبر فيما يأتي إن شاء الله.
ثم لا بد هنا أن نذكّر الكاتب بمواقف الحكام والمحكومين من الأمة جميعا، إزاء الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، الذين لا نظنه يشكك في مكانتهم العلمية والنَّسَبية، وهم من كانوا يدعون تباعا إلى العودة إلى الإسلام المحمدي!... فلمَ لم يقم الناس (الشعوب) يؤازرونهم في مواجهة سلاطين الظلم بالكلمة والموقف الصلب (من دون قتال)؟!... أم إنه يريد تكرار الإبادات التي عرفوها -عليهم السلام- خلفا بعد خلف؟!... وهل يبقى دين مع انقطاع العترة النبوية التي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباعها في قوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي.»[3]. فأين الكاتب من هذا التوجيه النبوي، وأين دلالته على العترة؟ هذا لأن العمل من أجل نصرة الدين، ينبغي أن يتقيّد بالتوجيه النبوي حرفا بحرف؛ وإلا فإنه الهوى المتدثر بالدين!...
[أولئك الذين كانوا يُرَقِّقون الدمعة ويُعَفّرونَ الخد على "باب الملك" لماذا لم يُرِيقوا دماءهم في سبيل الله كما أراقها أصحاب المجد السامق الصحابة الكرام؟ هل كان لهم من عذر؟ وهل ينفعهم العذر عند الله فيدركوا وهم في ركن الخلوة مراتب المجاهدين؟]:
الخلط الذي وقع فيه الكاتب من المنطلق، بدأ يولّد لديه الفهوم المنحرفة مع تقدمه في الكلام. وإن اعتزال الصوفية الذي -على الأرجح- بدأ مع مطلع القرن الثالث الهجري، لم يكن والأمة على عهدها الأول، من إرادة للآخرة، ومن تزكية للنفس على أيدي الأئمة الأحقاء؛ وإنما بعد الانحراف العام الذي أصبح الناس به مخالفين لأصول الدين. ونعني من هذا، أن الخلل وقتئذ لم يكن من الحكام وحدهم (معاوية فمن بعده)، وإنما كان من "الشعوب" التي غيرت توجهها من الآخرة إلى الدنيا. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق، تكلم عن افتراق السلطان والكتاب، لا افتراق عموم الأمة والكتاب!... لأن تبديل عموم المسلمين لما دل عليه الكتاب، لا يبقى معه إلا التدين الفردي الذي يكون للأفراد، كما هي الحال في زماننا اليوم. فهل يريد الكاتب من شطر الأمة أن يقاتل شطرها الآخر، ويزعم أن هذا من موافقة الشرع!... وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاقتتال الداخلي (الحرب الأهلية) بأشد صيغ النهي!... يقول صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ!»[4].
لم يكن يليق بالكاتب أن يذكر إراقة الدماء، وهو يتكلم عن المسلمين أبدا؛ لأن الجهاد المتبقي للمسلم في مواجهة السلطان الجائر هو: "كلمة الحق" وحدها. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد سئل عن أفضل الجهاد: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ جَائِر»[5]. وما نرى الكاتب قد انتقل من "الجهاد بالكلمة" (الذي لم يتجاوزه طيلة حياته) إلى الجهاد القتالي، إلا من أثر الفكر السياسي اليساري، الذي يرى الثورة وسيلة وحيدة إلى التغيير. ورغم أن الكاتب من الناحية العملية، لم يخرج بحمد الله إلى عمل مناف للشرع، فإنه بكلامه السابق سيترك أثرا تنظيريا، لمن شاء أن يمر إلى العمل المسلح بعده، وعندما تحين الفرصة؛ كما وقع لحسن البنا مع الجماعات التي خرجت من رحم جماعة "الإخوان المسلمون". لهذا نحن نرى أن أتباع الأستاذ، لا بد لهم من وجود قابلية للعمل العسكري، إذا واتت الفرصة وتوافرت الشروط بحسبهم؛ وعندما يلي أمرهم جهلاؤهم. وهذا الأمر من أخطر ما يكون، مما يهدد وحدة الشعب ووحدة البلاد، على المدى القريب أو المتوسط.
وأما نسبة الكاتب أصحاب الخلوات إلى القعود والتخلف، فهو غير صحيح؛ على الأقل فيما يعود إلى الصوفية الأحقاء. ذلك لأنهم قاموا بمهمة لا يستطيعها المقاتلون، وهي بناء الرجال. فالصوفية أخرجوا لنا رجالا، الواحد منهم بأمة؛ بصموا التاريخ بروائع المواقف ونوادر العلوم. فكيف غابت هذه المكانة عن نظر الكاتب، وهي التي كان ينبغي أن يُقارن إليها أصحاب الفكر الخارجي، لكونها الأصل لا الفرع!... ألا يعلم صاحبنا أن الأنبياء بُعثوا معلّمين لا مقاتلين!... لم يكن القتال منهم عليهم السلام، إلا لضرورة الحفاظ على التعليم حرا وسليما؛ فهو وظيفة ثانوية لا أولى!... وهذا يتبيّنه بسهولة، كل ذي عقل وذي فطرة!...
[عذرهم أوامِرُ نبوية صريحة. أطلع الله عز وجل نبيه الكريم على مستقبل الأمة، وجاء في الأحاديث الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بكل ما يحدث بعده إلى يوم القيامة. فأنساهم الله تعالى تفاصيل ما أخبر به، وأسدِلت سجُفُ الغيب، لتبقى لكل جيل مسؤولية الكسب والاختيار.]:
يبدو من هذا الكلام أن الكاتب لا يعلم من أمر الصوفية شيئا، وأنه يقيس حالهم على ما يكون عليه الفقهاء من نظر في النصوص، ومن اجتهاد يرجحون به العمل بهذا النص أو ذاك. وينسى أن القوم يتلقون عن الله، من طريق يبدو أنه لا يعلمه. ومن كان على بيّنة من ربه فيما يأتي وما يذر، هل يجوز للكاتب ومن هم من مرتبته أن يستدركوا عليهم في أقوالهم وفي أحوالهم؟!...
إن ما يذكره الكاتب من تغييب الغيب القدري عن العقول، ليس عاما؛ والحال أن له رجالا من كل زمان يصوغونه صوغا، ولا يعلمونه علما فحسب؛ وهؤلاء هم من نسميهم رجال الغيب. وكثير منهم صوفية وشيوخ إسلاك... فما أبدى الكاتب بهذا الكلام إلا جهله بالأمر، وعدم مجاوزته لمرتبة العوام من المسلمين. وقد كان جديرا به، والأمر كما ذُكر، عدم الخوض فيما يتعلق بالشأن العام؛ حتى لا يزيد من استفحال الحال. لكننا مع هذا كله، لا ننكر للكاتب ولجماعته فضلهم في الوقوف بوجه "المخزن" المغربي (الأوليغارشيا)، الذي كان ولا زال يسير بالبلد في اتجاه الضلال الأكبر وإسلام القياد للدجاليين.
وأما مسألة "الكسب والاختيار"، التي يؤسس لها الكاتب بطريقته هنا، فهي مما ينضبط للسالك وهو بعد في مرتبة الإيمان، وقبل دخول مرتبة الإحسان. ودلالته هنا على أخذ الأمور بحسب ظاهر الشرع وحده (التكليف)، يؤكد أن تربيته لا ترقي فيها، وأن أصحابه لا بد أن يبقوا على الشرك الأصغر الذي يكون عليه العامة من المسلمين؛ بل إن رؤيتهم أفعالهم من أنفسهم، مع الاشتغال بمعارضة الحاكم، سيُدخل عليهم ظلمة أكبر مما يكون عليه العوام؛ وهذا يعني أن شركهم سيزداد كلما أوغلوا فيما هم عليه. وأما التوحيد الخاص فلن يشموا له رائحة، وهو من الدرجة الثانية (العليا) لمرتبة الإحسان. فليتأمل القارئ الخسارة الكبرى التي يُمنى بها أتباع الأستاذ، وهم يتوهمون أنهم محسنون!...
[وكان من النصوص التي لم ينسَها الصحابة وورَّثونا إياها أحاديث تأمر بالانعزال عن الفتنة، نسْرُدُ بعضها:
أخرج مسلم وأبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتن. ألاَ ثُم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها. ألا فإذا نزلت، أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه". فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحَجَر، ثم لِينْجُ إن استطاع النَّجاءَ. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟". قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن أكرهْتُ حتى يُنْطَلَقَ بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: "يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار". وأخرج أبو داود عن وابصة الأسدي أن ابن مسعود حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ستكون أيام الهَرْج (أي الفتنة والقتل) وأوصاه إن أدركه ذلك الزمان أن يكف لسانَه ويده، وأن يكون حِلْساً (حصيرا) من أحلاس بيته.]
[وأخرج البخاري عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن عمر خرج عليهم يوما ليحدثهم، فسأله رجل عن الفتنة وعن قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) فقال ابن عمر: "وهل تدري ما الفتنة ثَكِلَتْكَ أمك؟ إنما كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنةً، وليس كقتالِكم على الملك". وأخرج الإمام أحمد أن ابْناً لِسعد بن أبي وقاص جاءه وقت الفتنة بين علي ومعاوية يريده على الخروج، فقال: "يا بُني! أفي الفتنة تأمرني أن أكون رَأسا؟ لا والله! حتى أعْطَى سيفاً إن ضربت به مؤمنا نَبا عنه (لم يجرحه) وإن ضربت به كافرا قتله". الحديث.]
[وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أو ابن عمرو قال: شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه وقال: "كيف أنت يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حُثالة من الناس (أراذلهم)، قَدْ مَرِجَتْ (فسدت) عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا!" قال: فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: "تأخذ ما تعرف، وتدع ما تُنكر، وتُقبل على خاصتك، وتدعهم وعوامهم".]
[هكذا تأصل في الأمة منذ الفتنة الكبرى إِثْرَ الخلافة الراشدة مذهبُ الانعزال والإقبال على خاصة النفس، وترك الأتقياءُ الأخفياء الأبرياء الناس يتقاتلون على الملك.]:
وماذا يريد الكاتب؟ أن يعصي الناس أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليوافقوا الفكر البشري؟!... أي ارتداد هذا عن الحق!... غلب على الكاتب هنا -من غير شك- رأيه السياسي على فقهه في الدين؛ وإذا تعارض هذا وذاك، فالسلامة فيما يعطيه الفقه الصحيح، لا ما يساير الاهتياج العامي؛ وإلا فما الفرق بين العامة والأئمة؟!... وما كان تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى ما ورد ذكره في الأحاديث، إلا حرصا منه صلى الله عليه وآله وسلم على أمته، أن يأخذها الرأي عن سبيل الدين!... ولخطأ مع اتباع، ولو بوضع الأمر في غير محله، خير من توهم إصابة مع ابتداع!... وعن أي إسلام هو الكلام، إن عاد القتل بين المسلمين أمرا مستسهلا، تُحسم به الخلافات؟!... أين الحوار والحجة والإقناع!... إن ما يعطيه المتأخرون من انطباع بأننا أمة دموية، هو عكس الحقيقة والواقع: نحن أمة علم وبرهان. لم يخفَ هذا إلا بعد أن تصدر التعليم والتنظير سفهاؤنا، الذين جرّأهم علينا أعداؤنا وأهل الضلال من حكامنا!...
[هكذا انسحب أهل الفضل من ساحة السلطان ليحافظوا في مدارس العلم ومجالس الحديث وخلاوي الذكر على لب الإسلام وجوهره وكلمته.]:
وما الأفضل؟ المحافظة على الدين لتجده الأجيال فتسعد به، أم محاولة انتزاع الحكم من الحكام واسترداد دولة لا نضمن أن يكون فيها الحاكم الجديد أسوأ من الأول، مع اندثار الدين وانطماسه. ثم إن تصوير الكاتب للأزمنة وكأنها خالية من القائمين بنصح الحكام، هو من التدليس؛ لأن هذه الطائفة من أهل الدين لا تنقطع، ولن تزال بفضل الله فينا إلى قيام الساعة!... فكيف يكون المعتزلون في الأزمنة الماضية ملومين، وقد وقف كل صنف من أهل الدين على ثغر من ثغوره!... نعم قد يقل عدد الناصحين الآمرين بالمعروف في بعض الأزمنة، لكنهم -بفضل الله- لا ينقطعون.
وإن الله تعالى عندما يقول: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، فهل يظن الكاتب أن أحدا من الخلق بإمكانه أن ينزع الملك ممن آتاه الله إياه، أو أن يؤتيه من انتزعه الله منه؟ إن من يتوهم هذا، عليه أن يتوب وأن يجدد إسلامه؛ لأن كلامه مخالف لمحكم القرآن. ومن يكن على هذا السوء، كيف يُرجى منه أن يكون سببا في فلاح غيره!...
[ولئن جلس المفتون للعامة يفصلون القضايا، وجلس الفقهاء للتعليم العام، فإن الصوفية انصرفوا في عزلتهم إلى تربية الخاصة من المريدين يورثونهم تلك الأمانة التي تنزل في جذر قلوب الرجال كما قرأنا في حديث الشيخين. جاء حديث: "تنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال «عند البخاري في» باب الأمانة". والأمانة لازمة من لوازم الإيمان، لا تتساكنُ في جذر القلوب مع النفاق. فنفهم نزولها في القلوب نزولا للإيمان فيها واستقراراً.]:
وهذا بعينه هو ما ذكرناه من اقتسام المهام بين أصناف الرجال، للإبقاء على الدين ميسرا، ولجسد الأمة (تشبيه نبوي) سليما معافى. والكاتب عندما يذكر هذا في معرض التنقيص، بإزاء تصوره للعمل الحركي السياسي، لا يُنبئ إلا عن ضيق أفقه وعدم إدراكه لوظائف الأمة مختلفة الوجوه، والمتكاملة من حيث الأداء.
وعندما يتكلم الكاتب عن محافظة الصوفية على جذر الإيمان، بنوع احتقار (مع أن وظيفتهم أعلى من ذلك وأشمل)، فإنما هو يستصغر ما عظّم الله. ويكفي الصوفية فخرا، أنهم في الغالب وحدهم من يقفون على الطريق، يدعون الناس إلى الله، لا إلى الدين وحده؛ عندما اشتغل غيرهم بزخارف الأقوال، وإبعاد الناس عن جوهر الدين ونافع الأعمال. كل هذا ونحن نفرق بين الصوفية والمتصوفة، حيث نرى أن صاحبنا ما وقع في هذا الخلط، إلا من التباس حال الفريقين عليه.
[وبقي العلماء أمناء على أمانة الإيمان والعلم، بمعزل عن العامة وعن السلطان كما أوصى بذلك هذا الحديث الشريف الذي أخرجه الحسن بن سفيان والقضاعي وابن عساكر عن أنس بإسناد حسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلماء أمناء الرسل، مالم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا. فإذا خالطوا السلطان وداخلوا الدنيا فقد خانوا الرسل فاحذروهم".]:
يقصد بالعلماء هنا الفقهاء؛ وإلا فإن الصوفية أعلم من هؤلاء العلماء، وإن جرت العادة بالتفريق. وما ذكّر به الكاتب هنا من آداب العلماء جيد جدا. ولكن أين هم من ذلك الآن، وقد صاروا خدما للسلاطين، وخائنين لأمانة الدين. ولو أن العلماء بقوا بعيدين عن توجيه السلاطين، وقبل ذلك بعيدين عن تحكّم أهوائهم وعن إرادتهم الدنيا، فإن الأمة لا شك ستكون بخير. ولم يفطن الكاتب أن ما جعله يرى الصواب في معارضة الحاكم، هو ذاته ما جعل خدام السلاطين من الفقهاء يُقدمون على فعلتهم؛ لأنهم يتأولون نصرة الدين والحق، بنصرة الحاكم في مواجهة خصومه. وهذا باب من دخله من غير نور، لم يكد يخرج منه، لكثرة ما لإبليس فيه من جند.
[ليس جنس علماء القصور جنسا محدود النسل في تاريخنا، لكن الأمة لم تثق في كل عصر إلا بالأتقياء الأخفياء الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إن أغبط الناس عندي لمؤمن خَفيفُ الحاذِ (خفيف الظهر من تكاليف العيال)، ذو حظ من الصلاة، أحسنَ عبادةَ ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا، فصبر على ذلك. عُجّلت منيته، وقلت بواكيه". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامة.]:
الأمر ليس كما يقول الكاتب، لأن الأمة في عمومها، وثقت بعلماء اللسان من الفقهاء، الذين حرفوا الدين منذ القرون الأولى، عندما جعلوه ظاهرا بلا باطن، وعندما سخروه لخدمة السلاطين كما ذكرنا سابقا. وأما الأتقياء الأخفياء الذين هم من الأولياء، فلم يعظمهم إلا قلة من الناس عرفتهم عن كثب؛ وإلا كيف يكونون أخفياء والأمة كما يوهم الكاتب تعرفهم!... ولا شك أن ما وقع فيه الكاتب، هو من إيغاله في التنظير، وإيجاد التفاسير لكل شيء؛ حتى يجعل الأمر يبدو في عين القارئ وكأنه "محيط" بكل ما حدث في تاريخ الأمة. فإذا جاء بعد ذلك بدعوته، بعد كل هذا التمهيد، قوبلت بالترحاب؛ أو هكذا يروم...
[هذا النموذج الغامض الخامل في الناس، المنصرفُ لخاصة نفسه، نموذج نازل عن درجة الأصحاب المجاهدين، ما في ذلك شك.]:
إن حكم الكاتب على صنف من الناس، أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «إن أغبط الناس عندي»، بأنه "نازل"، هو سوء أدب جلي، وجهل بيّن؛ وكأنه استدراك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يغامر به قائله بمصيره الأخروي. وأقل ما يقال فيه، إن من تعمده يخرج إلى الكفر فورا. وما وقع الكاتب في هذه الآفة، إلا لأنه ترك الاتباع (بالمعنى الصحيح)، وخرج إلى التنظير الحر، الذي لا يأتي بالنصوص فيه إلا من أجل إقناع السامع عند اللزوم. وهذا مخالف على التمام لوعده في البداية (وكل مرة) بالتزام الكتاب والسنة. فأين وعده ذاك؟!...
وهذا الصنف الذي جعله الكاتب ناقصا، هو أعلى طبقة من الصوفية؛ وهم من يسمونهم "الملامتية". وهذا الحكم منه يدل مرة أخرى على أنه لا يعلم التصوف، كما هو في نفسه؛ وإنما هو يعلمه كما تعلمه العامة المتأثرون بالثقافة السائدة. ومقارنة هؤلاء الملامتية بالصحابة المجاهدين، جهل من وجوه: الأول، لأنها سوء أدب مع الصحابة، حيث يُقاس إليهم كل أحد وكأن مرتبتهم في متناول جميع المسلمين؛ والثاني، لأن للصحابة خصوصية الصحبة، التي تميّزهم عن كل من سواهم؛ وأما الثالث، فلأن الأفضلية لا يُقطع بها لأحد، ما دامت حكما إلهيا في حق الأشخاص. ومن يستطيع الزعم لنفسه بأنه عالم بحكم الله في عباده!... وهذا الذي نقوله، غير الأحكام المنتزعة من التشريع؛ لأن أحكام التشريع التي تجعل العبد إن أطاع يرجو أن يكون ناجيا، وإن عصى أن يكون هالكا، ليست نهائية، حتى يحكم الله بما شاء لعباده. فقد يختم للكافر بالإيمان، كما قد يختم للمؤمن بالكفر؛ وقد يغفر للمسيء، وقد يحاسب المطيع. فالأمر يُرجع فيه إلى الله، لا إلى ما يراه الفقهاء والعامة.
وأما دخول الكاتب فيما لا مدخل له فيه مما ذكرنا، فلأنه يريد أن يجعل بذلك لنفسه شبها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يراه هو تسننا، ينتج عنه أن أصحابه يكونون أفضل من غيرهم من الناس (بوصفهم صحابة العصر)؛ خصوصا إن هم أضافوا إلى عباداتهم الجهاد الذي يدعوهم إليه، والذي سبق أن ذكرنا أنه غير شرعي. وسيكون هذا من أشد الإضلال الذي عرفه زمن المتأخرين، وإن كان لا يخرج فيه عما اختطه حسن البنا قبله، بما هو أقل منافرة للأصول.
وأما نحن، فإننا نمنع تلاميذنا منعا باتا من مقارنة أنفسهم بالصحابة المرضيين. وكل من نراه يتجرأ عليهم بغير علم، فإننا نأمره بأن يقارن نفسه مع دوابهم التي كانوا يركبونها؛ فإنها أفضل عندنا من كثير من الناس. هذا كله من حيث علم التربية، لا مطلقا.
[لكن الفتنة التي عاشتها الأمة تقوم له مقام العذر. قال المفسرون في قوله تعالى: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ﴾: الضرر: العُذر.]:
إن تسوية الكاتب جهاد الكفار المشروع مع الإمام الشرعي، بالخروج على الحكام والحرب الأهلية، هو من أكبر الجهل. ولا نراه -كما قلنا عنه سابقا- إلا متأثرا فيه بالفكر اليساري. ولعل خلافته التي يدل عليها -وهذا خطر لي الآن- لن يكون مستلهما فيها إلا النظام الجمهوري الديمقراطي. وقد وقع في هذا غيره من متأخري الفقهاء الغافلين كالقرضاوي، الذي كان وراء ما سُمّي بـ"الربيع العربي"؛ والأمر في الإسلام على غير هذا بالتمام. ولو سألونا، لعلّمناهم ما ينفعهم عند ربهم. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].
[وجاء عند البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال: "إن أقواما بالمدينة خَلْفَنا ما سلكنا شِعبا ولا وادياً إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر".]:
ذلك رسول الله يا هذا!... صلى الله عليه وآله وسلم، وشرف وعظم، وأنعم وأكرم!... أين نحن منه يا هذا!... فإننا والله لو عثرنا على نعل آخر صاحب من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم، لعددنا أنفسنا من الفائزين يقينا!... فليُفق من هو على هذا الفهم المنكوس، والأدب المطلوس!... (في اللغة: طلس الأثر: محاه.).
وإن قياس الصوفية على من حبسهم العذر من الصحابة، قياس في غير محله؛ لأن الجهاد الشرعي لا يُعذر فيه أحد إلا بعذر شرعي. والصوفية كسائر الناس عليهم أن يجاهدوا ما استطاعوا، وإلا كانوا من المخلفين. ولقد عرفت بلدان الإسلام من كل مراحل تاريخها مجاهدين من الصوفية، تصدوا للعدوان الخارجي بأكثر مما فعل غيرهم؛ كما حدث في المغرب -مثلا- عند التصدي للبرتغاليين من قِبل الدولة الوطاسية (القرن الخامس عشر الميلادي).
ومن جهة أخرى، هل نُقارَن نحن بالصحابة رضي الله عنهم، وهم من قال الله فيهم: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92]؟!... كيف يُجمع بين من أسسوا الدين بسواعدهم، وفدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفوسهم وأهليهم، وأنفقوا كل أموالهم، بمن يحسبون كل ذلك بحساب الربح العاجل والخسارة!... أم كيف يُنظر بعدهم رضي الله عنهم إلى من خان الأمانة، وجعل الدين تجارة وسلطة معنوية يُرهب بها الناس ويأخذ أموالهم!... أم كيف نحسب الجبناء الذين هم أقل شهامة من نساء العرب في الجاهلية، أتباعا على الطريق ذاته!... إن من يقتفي أثر الكاتب فيما ذكر، عليه أن يتوب من هذه الحال التي لا تدل إلا على الغفلة في أكبر مجاليها!... نسأل الله العفو والعافية، والتعظيم لمن عظمهم الله من كل زمن!...
[من حبسه العذر عن الجهاد حُسِبَ عند الله كمن حضر الجهاد، ولو بقي في خلوته غامضا خفيف الحاذ متجردا. ذلك إن كانت نفسه تحدثه بغزو وجهاد، وإلا مات على شعبة من نفاق كما جاء في الحديث: "من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق". أخرجه مسلم عن أبي هريرة.]:
هذا الكلام من الكاتب هذيان!... لأن معنى الحديث ينطبق على الجهاد الشرعي، لا على تخرص الكاتب والجماعات الحركية. ولقد كان سيدي ابن الطاهر مرة يكلمني عن هؤلاء الذين انحرف بهم الطريق؛ وربما كان يتكلم عن الأستاذ عبد السلام نفسه؛ فقال لي: "إن هؤلاء على مذهب الخوارج، وليسوا مجاهدين؛ وأما الجهاد الشرعي، فلو قام فإنك ستجدني في الصف الأول". ولقد كانت ملامح وجهه -رضي الله عنه- تشع صدقا، حتى لكأنني أراه في الصف الأول كما قال. وكيف لا وهو من سألته يوما: "كيف حالك!" فرفع يديه على هيئة الزاهي وقال: "أنا فرح بالله!". ووالله إني لا أشك في اشتهائه للشهادة في سبيل الله، هو وأمثاله رضي الله عنهم؛ وإن كانوا أحيانا لا يسألونها احتقارا لأنفسهم، لعلمهم بمكانة الشهيد عند الله. ومن هنا على الناس أن يعلموا أن أعلام أهل البيت الذين نالوها، إنما نالوها كرامة لا هوانا على الله سبحانه. تعالى الله أن يجعل للسفهاء سبيلا على أحبائه وهو القائل في عموم المؤمنين: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
[فيما نستقبله بحول الله من أيَّام ازدهار الإسلام ارتفع عنا العذر فلا مكان بين الأخيار بعد للغامض الخامل.]:
لا ازدهار للإسلام -بالصفة التي يقصد الكاتب- إلا في زمن الخلافة الخاتمة، والتي هي للمهدي عليه السلام؛ ما دام لم يبق من الاثني عشر إلا هو. ولسنا نعني بالاثني عشر هنا الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، كما سيذهب إلى ذلك ذهن كل شيعي يقرأ كلامنا؛ وإنما نعني الخلفاء الاثني عشر المذكورين في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً.»[6]. وليتأمل القارئ الآن أسلوب الحديث الوارد في المهدي، والذي جاء فيه: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ، لَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلًا مِنَّا، يَمْلَؤُهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا.»[7]، ليجد الحديثين وكأنهما قيلا في شأن واحد، أو قيلا في وقت واحد. وعلى هذا، فإن كل من يدعي إقامة الخلافة في هذه الأزمنة، فإنه كذّاب أو واهم!...
كن حلس بيتك
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني. أنت الحي لا تموت. والجن والإنس يموتون.]
[قَال المعترض المحتار وقد أسر صدمة رؤية أولياء الله الملائكةَ وأرواحَ الأنبياء في نفسه: "إن كان للصوفية فيما مضى داع لاصطناع مصطلحات متخصصة كما فعل علماء الفنون الأخرى، فما بَالُ الصوفية، كانوا ولا يزالون، رَمزاً للخمول والهروب من الواقع والانكماش والدروشة؟ وإن زعمتَ أنك تريد تجاوز التصوف كمذهب ومدرسة وأسلوب تربية فهل يمكن شيء من ذلك إلا بنبذ المذاهب جملة، والإعراض عن كل شيء سوى الكتاب والسنة؟".]:
هذان سؤالان محوريان، قد أحسن الكاتب بجعلهما مدخلا لمناقشة التصوف بالنظر إلى الثوابت والمتغيرات الدينية؛ لكننا نلاحظ بداية، عدم انطباق اسم التصوف بصدق على من يزعمون أنهم صوفية. ونعني من هذا أن الكلام عن الصوفية من دون تدقيق، قد يجر إلى الخلط الذي ما زلنا نحذر منه عند تناولنا لأقوال الكاتب.
وعندما ينسب الكاتب الصوفية إلى الهروب من الواقع، فإنه يقصد حتما المتصوفة؛ وإلا فإن الصوفية هم من واجهوا الموت الاختياري بشوق واشتهاء، في الوقت الذي لا يتمكن غيرهم حتى من محاسبة أنفسهم. فكيف يكون من ذاق صنوف الموت، أقل في المرتبة ممن هو واقع في أسر أهوائه وشهواته؟!... وعلى الناظرين في هذه المسألة أن يصححوا مفاهيمهم على ضوء الواقع حقيقة، بدل التحريف الذي يزيد من ضلال الناس وحيرتهم!...
[فأقول وبالله التوفيق: إن الله جلت عظمته يقول: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾.]:
يخطئ الكاتب عندما يورد الآيات الحاضة على الجهاد، من غير تقييد لشروطه؛ وكأن الجهاد الذي قد تترتب عليه نتائج تغير وجه الأرض بغير حق، أو تتغير الأحوال من ساكنيها بالقتل أو بالتهجير، هو عمل من أعمال الإسلام، لا يختلف عن أحكام الطعام والشراب، أو أحكام البيوع!... هذا الإخلال الناتج عن عدم اعتبار الجهاد ضمن مكانته الأصلية، ومن دون زيادة أو نقصان (تحريف)؛ هو ما سيُولّد آفات ستزيد من بلاء الأمة، منذ زمن الخوارج الأُول وإلى يومنا هذا... ونعني من هذا، أن المنطق الشرعي (الذي أخطأه الكاتب)، لا يوافق المنطق القدري دائما؛ بل إن جل ما سيقع مما ورد في الأخبار، لا يقع إلا بخروج الأمة عن الصراط المستقيم جزئيا. فالتوجه إلى الدنيا الذي كان أول مخالفة كبرى، سينتج عنه الحكم بغير ما أنزل الله لدى السلاطين؛ وطاعة الحكام في معصية الله، سينتج عنها تسليط الأعداء الخارجيين؛ وأكل أموال الناس بالباطل ستنتج عنه المجاعات والفوارق الاجتماعية المفرقة للجماعة. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ -وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ- لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا. وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.»[1]. فالكلام في شؤون الأمة، ينبغي لأصحابه أن يجمعوا بين علم الأحكام وعلم الأقدار، حتى لا يقعوا فيما وقع فيه الإسلاميون من الأدلجة التي زادت الأمة تمزقا.
[أي شيء ألجم تلك الإراداتِ القوية والهمم العلية عن غشيان ساحَات الوغى، وعن مناصرة القرآن في وجه السلطان لما اختصم السلطان والقرآن؟]:
هنا يظهر جهل الكاتب بأحكام الجهاد. فهو يجعل مقاتلة الكافرين التي يدل عليها القرآن وتدل السنّة، كقتال الحكام الظالمين أو الفاسقين، من المسلمين. وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما أخبر بافتراق السلطان والقرآن، في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا وَإِنَّ رَحَى الْإِيمَانِ دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ يَدُورُ. أَلَا وَإِنَّ السُّلْطَانَ وَالْكِتَابَ سَيَفْتَرِقَانِ، فَلَا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ.»[2]، فإنما كان يدلنا على التمسك بالقرآن وبأحكامه، لا بالقيام على الحكام المفارقين. ولعل هذه المسألة، هي مكمن الافتراق في الرأي بين المسلمين منذ زمن الخوارج الذين توهموا أنهم أكثر تمسكا بالقرآن من عليّ عليه السلام، وإلى جماعات الإسلاميين التي تعامل حكام آخر الزمان معاملة الكافرين. وسنعود إلى الحديث النبوي المذكور بتفصيل أكبر فيما يأتي إن شاء الله.
ثم لا بد هنا أن نذكّر الكاتب بمواقف الحكام والمحكومين من الأمة جميعا، إزاء الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، الذين لا نظنه يشكك في مكانتهم العلمية والنَّسَبية، وهم من كانوا يدعون تباعا إلى العودة إلى الإسلام المحمدي!... فلمَ لم يقم الناس (الشعوب) يؤازرونهم في مواجهة سلاطين الظلم بالكلمة والموقف الصلب (من دون قتال)؟!... أم إنه يريد تكرار الإبادات التي عرفوها -عليهم السلام- خلفا بعد خلف؟!... وهل يبقى دين مع انقطاع العترة النبوية التي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباعها في قوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي.»[3]. فأين الكاتب من هذا التوجيه النبوي، وأين دلالته على العترة؟ هذا لأن العمل من أجل نصرة الدين، ينبغي أن يتقيّد بالتوجيه النبوي حرفا بحرف؛ وإلا فإنه الهوى المتدثر بالدين!...
[أولئك الذين كانوا يُرَقِّقون الدمعة ويُعَفّرونَ الخد على "باب الملك" لماذا لم يُرِيقوا دماءهم في سبيل الله كما أراقها أصحاب المجد السامق الصحابة الكرام؟ هل كان لهم من عذر؟ وهل ينفعهم العذر عند الله فيدركوا وهم في ركن الخلوة مراتب المجاهدين؟]:
الخلط الذي وقع فيه الكاتب من المنطلق، بدأ يولّد لديه الفهوم المنحرفة مع تقدمه في الكلام. وإن اعتزال الصوفية الذي -على الأرجح- بدأ مع مطلع القرن الثالث الهجري، لم يكن والأمة على عهدها الأول، من إرادة للآخرة، ومن تزكية للنفس على أيدي الأئمة الأحقاء؛ وإنما بعد الانحراف العام الذي أصبح الناس به مخالفين لأصول الدين. ونعني من هذا، أن الخلل وقتئذ لم يكن من الحكام وحدهم (معاوية فمن بعده)، وإنما كان من "الشعوب" التي غيرت توجهها من الآخرة إلى الدنيا. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق، تكلم عن افتراق السلطان والكتاب، لا افتراق عموم الأمة والكتاب!... لأن تبديل عموم المسلمين لما دل عليه الكتاب، لا يبقى معه إلا التدين الفردي الذي يكون للأفراد، كما هي الحال في زماننا اليوم. فهل يريد الكاتب من شطر الأمة أن يقاتل شطرها الآخر، ويزعم أن هذا من موافقة الشرع!... وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاقتتال الداخلي (الحرب الأهلية) بأشد صيغ النهي!... يقول صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ!»[4].
لم يكن يليق بالكاتب أن يذكر إراقة الدماء، وهو يتكلم عن المسلمين أبدا؛ لأن الجهاد المتبقي للمسلم في مواجهة السلطان الجائر هو: "كلمة الحق" وحدها. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد سئل عن أفضل الجهاد: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ ذِي سُلْطَانٍ جَائِر»[5]. وما نرى الكاتب قد انتقل من "الجهاد بالكلمة" (الذي لم يتجاوزه طيلة حياته) إلى الجهاد القتالي، إلا من أثر الفكر السياسي اليساري، الذي يرى الثورة وسيلة وحيدة إلى التغيير. ورغم أن الكاتب من الناحية العملية، لم يخرج بحمد الله إلى عمل مناف للشرع، فإنه بكلامه السابق سيترك أثرا تنظيريا، لمن شاء أن يمر إلى العمل المسلح بعده، وعندما تحين الفرصة؛ كما وقع لحسن البنا مع الجماعات التي خرجت من رحم جماعة "الإخوان المسلمون". لهذا نحن نرى أن أتباع الأستاذ، لا بد لهم من وجود قابلية للعمل العسكري، إذا واتت الفرصة وتوافرت الشروط بحسبهم؛ وعندما يلي أمرهم جهلاؤهم. وهذا الأمر من أخطر ما يكون، مما يهدد وحدة الشعب ووحدة البلاد، على المدى القريب أو المتوسط.
وأما نسبة الكاتب أصحاب الخلوات إلى القعود والتخلف، فهو غير صحيح؛ على الأقل فيما يعود إلى الصوفية الأحقاء. ذلك لأنهم قاموا بمهمة لا يستطيعها المقاتلون، وهي بناء الرجال. فالصوفية أخرجوا لنا رجالا، الواحد منهم بأمة؛ بصموا التاريخ بروائع المواقف ونوادر العلوم. فكيف غابت هذه المكانة عن نظر الكاتب، وهي التي كان ينبغي أن يُقارن إليها أصحاب الفكر الخارجي، لكونها الأصل لا الفرع!... ألا يعلم صاحبنا أن الأنبياء بُعثوا معلّمين لا مقاتلين!... لم يكن القتال منهم عليهم السلام، إلا لضرورة الحفاظ على التعليم حرا وسليما؛ فهو وظيفة ثانوية لا أولى!... وهذا يتبيّنه بسهولة، كل ذي عقل وذي فطرة!...
[عذرهم أوامِرُ نبوية صريحة. أطلع الله عز وجل نبيه الكريم على مستقبل الأمة، وجاء في الأحاديث الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بكل ما يحدث بعده إلى يوم القيامة. فأنساهم الله تعالى تفاصيل ما أخبر به، وأسدِلت سجُفُ الغيب، لتبقى لكل جيل مسؤولية الكسب والاختيار.]:
يبدو من هذا الكلام أن الكاتب لا يعلم من أمر الصوفية شيئا، وأنه يقيس حالهم على ما يكون عليه الفقهاء من نظر في النصوص، ومن اجتهاد يرجحون به العمل بهذا النص أو ذاك. وينسى أن القوم يتلقون عن الله، من طريق يبدو أنه لا يعلمه. ومن كان على بيّنة من ربه فيما يأتي وما يذر، هل يجوز للكاتب ومن هم من مرتبته أن يستدركوا عليهم في أقوالهم وفي أحوالهم؟!...
إن ما يذكره الكاتب من تغييب الغيب القدري عن العقول، ليس عاما؛ والحال أن له رجالا من كل زمان يصوغونه صوغا، ولا يعلمونه علما فحسب؛ وهؤلاء هم من نسميهم رجال الغيب. وكثير منهم صوفية وشيوخ إسلاك... فما أبدى الكاتب بهذا الكلام إلا جهله بالأمر، وعدم مجاوزته لمرتبة العوام من المسلمين. وقد كان جديرا به، والأمر كما ذُكر، عدم الخوض فيما يتعلق بالشأن العام؛ حتى لا يزيد من استفحال الحال. لكننا مع هذا كله، لا ننكر للكاتب ولجماعته فضلهم في الوقوف بوجه "المخزن" المغربي (الأوليغارشيا)، الذي كان ولا زال يسير بالبلد في اتجاه الضلال الأكبر وإسلام القياد للدجاليين.
وأما مسألة "الكسب والاختيار"، التي يؤسس لها الكاتب بطريقته هنا، فهي مما ينضبط للسالك وهو بعد في مرتبة الإيمان، وقبل دخول مرتبة الإحسان. ودلالته هنا على أخذ الأمور بحسب ظاهر الشرع وحده (التكليف)، يؤكد أن تربيته لا ترقي فيها، وأن أصحابه لا بد أن يبقوا على الشرك الأصغر الذي يكون عليه العامة من المسلمين؛ بل إن رؤيتهم أفعالهم من أنفسهم، مع الاشتغال بمعارضة الحاكم، سيُدخل عليهم ظلمة أكبر مما يكون عليه العوام؛ وهذا يعني أن شركهم سيزداد كلما أوغلوا فيما هم عليه. وأما التوحيد الخاص فلن يشموا له رائحة، وهو من الدرجة الثانية (العليا) لمرتبة الإحسان. فليتأمل القارئ الخسارة الكبرى التي يُمنى بها أتباع الأستاذ، وهم يتوهمون أنهم محسنون!...
[وكان من النصوص التي لم ينسَها الصحابة وورَّثونا إياها أحاديث تأمر بالانعزال عن الفتنة، نسْرُدُ بعضها:
أخرج مسلم وأبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتن. ألاَ ثُم تكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها. ألا فإذا نزلت، أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه". فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحَجَر، ثم لِينْجُ إن استطاع النَّجاءَ. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟". قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن أكرهْتُ حتى يُنْطَلَقَ بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: "يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار". وأخرج أبو داود عن وابصة الأسدي أن ابن مسعود حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ستكون أيام الهَرْج (أي الفتنة والقتل) وأوصاه إن أدركه ذلك الزمان أن يكف لسانَه ويده، وأن يكون حِلْساً (حصيرا) من أحلاس بيته.]
[وأخرج البخاري عن سعيد بن جبير أن عبد الله بن عمر خرج عليهم يوما ليحدثهم، فسأله رجل عن الفتنة وعن قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) فقال ابن عمر: "وهل تدري ما الفتنة ثَكِلَتْكَ أمك؟ إنما كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنةً، وليس كقتالِكم على الملك". وأخرج الإمام أحمد أن ابْناً لِسعد بن أبي وقاص جاءه وقت الفتنة بين علي ومعاوية يريده على الخروج، فقال: "يا بُني! أفي الفتنة تأمرني أن أكون رَأسا؟ لا والله! حتى أعْطَى سيفاً إن ضربت به مؤمنا نَبا عنه (لم يجرحه) وإن ضربت به كافرا قتله". الحديث.]
[وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أو ابن عمرو قال: شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه وقال: "كيف أنت يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حُثالة من الناس (أراذلهم)، قَدْ مَرِجَتْ (فسدت) عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا!" قال: فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: "تأخذ ما تعرف، وتدع ما تُنكر، وتُقبل على خاصتك، وتدعهم وعوامهم".]
[هكذا تأصل في الأمة منذ الفتنة الكبرى إِثْرَ الخلافة الراشدة مذهبُ الانعزال والإقبال على خاصة النفس، وترك الأتقياءُ الأخفياء الأبرياء الناس يتقاتلون على الملك.]:
وماذا يريد الكاتب؟ أن يعصي الناس أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليوافقوا الفكر البشري؟!... أي ارتداد هذا عن الحق!... غلب على الكاتب هنا -من غير شك- رأيه السياسي على فقهه في الدين؛ وإذا تعارض هذا وذاك، فالسلامة فيما يعطيه الفقه الصحيح، لا ما يساير الاهتياج العامي؛ وإلا فما الفرق بين العامة والأئمة؟!... وما كان تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى ما ورد ذكره في الأحاديث، إلا حرصا منه صلى الله عليه وآله وسلم على أمته، أن يأخذها الرأي عن سبيل الدين!... ولخطأ مع اتباع، ولو بوضع الأمر في غير محله، خير من توهم إصابة مع ابتداع!... وعن أي إسلام هو الكلام، إن عاد القتل بين المسلمين أمرا مستسهلا، تُحسم به الخلافات؟!... أين الحوار والحجة والإقناع!... إن ما يعطيه المتأخرون من انطباع بأننا أمة دموية، هو عكس الحقيقة والواقع: نحن أمة علم وبرهان. لم يخفَ هذا إلا بعد أن تصدر التعليم والتنظير سفهاؤنا، الذين جرّأهم علينا أعداؤنا وأهل الضلال من حكامنا!...
[هكذا انسحب أهل الفضل من ساحة السلطان ليحافظوا في مدارس العلم ومجالس الحديث وخلاوي الذكر على لب الإسلام وجوهره وكلمته.]:
وما الأفضل؟ المحافظة على الدين لتجده الأجيال فتسعد به، أم محاولة انتزاع الحكم من الحكام واسترداد دولة لا نضمن أن يكون فيها الحاكم الجديد أسوأ من الأول، مع اندثار الدين وانطماسه. ثم إن تصوير الكاتب للأزمنة وكأنها خالية من القائمين بنصح الحكام، هو من التدليس؛ لأن هذه الطائفة من أهل الدين لا تنقطع، ولن تزال بفضل الله فينا إلى قيام الساعة!... فكيف يكون المعتزلون في الأزمنة الماضية ملومين، وقد وقف كل صنف من أهل الدين على ثغر من ثغوره!... نعم قد يقل عدد الناصحين الآمرين بالمعروف في بعض الأزمنة، لكنهم -بفضل الله- لا ينقطعون.
وإن الله تعالى عندما يقول: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، فهل يظن الكاتب أن أحدا من الخلق بإمكانه أن ينزع الملك ممن آتاه الله إياه، أو أن يؤتيه من انتزعه الله منه؟ إن من يتوهم هذا، عليه أن يتوب وأن يجدد إسلامه؛ لأن كلامه مخالف لمحكم القرآن. ومن يكن على هذا السوء، كيف يُرجى منه أن يكون سببا في فلاح غيره!...
[ولئن جلس المفتون للعامة يفصلون القضايا، وجلس الفقهاء للتعليم العام، فإن الصوفية انصرفوا في عزلتهم إلى تربية الخاصة من المريدين يورثونهم تلك الأمانة التي تنزل في جذر قلوب الرجال كما قرأنا في حديث الشيخين. جاء حديث: "تنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال «عند البخاري في» باب الأمانة". والأمانة لازمة من لوازم الإيمان، لا تتساكنُ في جذر القلوب مع النفاق. فنفهم نزولها في القلوب نزولا للإيمان فيها واستقراراً.]:
وهذا بعينه هو ما ذكرناه من اقتسام المهام بين أصناف الرجال، للإبقاء على الدين ميسرا، ولجسد الأمة (تشبيه نبوي) سليما معافى. والكاتب عندما يذكر هذا في معرض التنقيص، بإزاء تصوره للعمل الحركي السياسي، لا يُنبئ إلا عن ضيق أفقه وعدم إدراكه لوظائف الأمة مختلفة الوجوه، والمتكاملة من حيث الأداء.
وعندما يتكلم الكاتب عن محافظة الصوفية على جذر الإيمان، بنوع احتقار (مع أن وظيفتهم أعلى من ذلك وأشمل)، فإنما هو يستصغر ما عظّم الله. ويكفي الصوفية فخرا، أنهم في الغالب وحدهم من يقفون على الطريق، يدعون الناس إلى الله، لا إلى الدين وحده؛ عندما اشتغل غيرهم بزخارف الأقوال، وإبعاد الناس عن جوهر الدين ونافع الأعمال. كل هذا ونحن نفرق بين الصوفية والمتصوفة، حيث نرى أن صاحبنا ما وقع في هذا الخلط، إلا من التباس حال الفريقين عليه.
[وبقي العلماء أمناء على أمانة الإيمان والعلم، بمعزل عن العامة وعن السلطان كما أوصى بذلك هذا الحديث الشريف الذي أخرجه الحسن بن سفيان والقضاعي وابن عساكر عن أنس بإسناد حسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلماء أمناء الرسل، مالم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا. فإذا خالطوا السلطان وداخلوا الدنيا فقد خانوا الرسل فاحذروهم".]:
يقصد بالعلماء هنا الفقهاء؛ وإلا فإن الصوفية أعلم من هؤلاء العلماء، وإن جرت العادة بالتفريق. وما ذكّر به الكاتب هنا من آداب العلماء جيد جدا. ولكن أين هم من ذلك الآن، وقد صاروا خدما للسلاطين، وخائنين لأمانة الدين. ولو أن العلماء بقوا بعيدين عن توجيه السلاطين، وقبل ذلك بعيدين عن تحكّم أهوائهم وعن إرادتهم الدنيا، فإن الأمة لا شك ستكون بخير. ولم يفطن الكاتب أن ما جعله يرى الصواب في معارضة الحاكم، هو ذاته ما جعل خدام السلاطين من الفقهاء يُقدمون على فعلتهم؛ لأنهم يتأولون نصرة الدين والحق، بنصرة الحاكم في مواجهة خصومه. وهذا باب من دخله من غير نور، لم يكد يخرج منه، لكثرة ما لإبليس فيه من جند.
[ليس جنس علماء القصور جنسا محدود النسل في تاريخنا، لكن الأمة لم تثق في كل عصر إلا بالأتقياء الأخفياء الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إن أغبط الناس عندي لمؤمن خَفيفُ الحاذِ (خفيف الظهر من تكاليف العيال)، ذو حظ من الصلاة، أحسنَ عبادةَ ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا، فصبر على ذلك. عُجّلت منيته، وقلت بواكيه". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامة.]:
الأمر ليس كما يقول الكاتب، لأن الأمة في عمومها، وثقت بعلماء اللسان من الفقهاء، الذين حرفوا الدين منذ القرون الأولى، عندما جعلوه ظاهرا بلا باطن، وعندما سخروه لخدمة السلاطين كما ذكرنا سابقا. وأما الأتقياء الأخفياء الذين هم من الأولياء، فلم يعظمهم إلا قلة من الناس عرفتهم عن كثب؛ وإلا كيف يكونون أخفياء والأمة كما يوهم الكاتب تعرفهم!... ولا شك أن ما وقع فيه الكاتب، هو من إيغاله في التنظير، وإيجاد التفاسير لكل شيء؛ حتى يجعل الأمر يبدو في عين القارئ وكأنه "محيط" بكل ما حدث في تاريخ الأمة. فإذا جاء بعد ذلك بدعوته، بعد كل هذا التمهيد، قوبلت بالترحاب؛ أو هكذا يروم...
[هذا النموذج الغامض الخامل في الناس، المنصرفُ لخاصة نفسه، نموذج نازل عن درجة الأصحاب المجاهدين، ما في ذلك شك.]:
إن حكم الكاتب على صنف من الناس، أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «إن أغبط الناس عندي»، بأنه "نازل"، هو سوء أدب جلي، وجهل بيّن؛ وكأنه استدراك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يغامر به قائله بمصيره الأخروي. وأقل ما يقال فيه، إن من تعمده يخرج إلى الكفر فورا. وما وقع الكاتب في هذه الآفة، إلا لأنه ترك الاتباع (بالمعنى الصحيح)، وخرج إلى التنظير الحر، الذي لا يأتي بالنصوص فيه إلا من أجل إقناع السامع عند اللزوم. وهذا مخالف على التمام لوعده في البداية (وكل مرة) بالتزام الكتاب والسنة. فأين وعده ذاك؟!...
وهذا الصنف الذي جعله الكاتب ناقصا، هو أعلى طبقة من الصوفية؛ وهم من يسمونهم "الملامتية". وهذا الحكم منه يدل مرة أخرى على أنه لا يعلم التصوف، كما هو في نفسه؛ وإنما هو يعلمه كما تعلمه العامة المتأثرون بالثقافة السائدة. ومقارنة هؤلاء الملامتية بالصحابة المجاهدين، جهل من وجوه: الأول، لأنها سوء أدب مع الصحابة، حيث يُقاس إليهم كل أحد وكأن مرتبتهم في متناول جميع المسلمين؛ والثاني، لأن للصحابة خصوصية الصحبة، التي تميّزهم عن كل من سواهم؛ وأما الثالث، فلأن الأفضلية لا يُقطع بها لأحد، ما دامت حكما إلهيا في حق الأشخاص. ومن يستطيع الزعم لنفسه بأنه عالم بحكم الله في عباده!... وهذا الذي نقوله، غير الأحكام المنتزعة من التشريع؛ لأن أحكام التشريع التي تجعل العبد إن أطاع يرجو أن يكون ناجيا، وإن عصى أن يكون هالكا، ليست نهائية، حتى يحكم الله بما شاء لعباده. فقد يختم للكافر بالإيمان، كما قد يختم للمؤمن بالكفر؛ وقد يغفر للمسيء، وقد يحاسب المطيع. فالأمر يُرجع فيه إلى الله، لا إلى ما يراه الفقهاء والعامة.
وأما دخول الكاتب فيما لا مدخل له فيه مما ذكرنا، فلأنه يريد أن يجعل بذلك لنفسه شبها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يراه هو تسننا، ينتج عنه أن أصحابه يكونون أفضل من غيرهم من الناس (بوصفهم صحابة العصر)؛ خصوصا إن هم أضافوا إلى عباداتهم الجهاد الذي يدعوهم إليه، والذي سبق أن ذكرنا أنه غير شرعي. وسيكون هذا من أشد الإضلال الذي عرفه زمن المتأخرين، وإن كان لا يخرج فيه عما اختطه حسن البنا قبله، بما هو أقل منافرة للأصول.
وأما نحن، فإننا نمنع تلاميذنا منعا باتا من مقارنة أنفسهم بالصحابة المرضيين. وكل من نراه يتجرأ عليهم بغير علم، فإننا نأمره بأن يقارن نفسه مع دوابهم التي كانوا يركبونها؛ فإنها أفضل عندنا من كثير من الناس. هذا كله من حيث علم التربية، لا مطلقا.
[لكن الفتنة التي عاشتها الأمة تقوم له مقام العذر. قال المفسرون في قوله تعالى: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ﴾: الضرر: العُذر.]:
إن تسوية الكاتب جهاد الكفار المشروع مع الإمام الشرعي، بالخروج على الحكام والحرب الأهلية، هو من أكبر الجهل. ولا نراه -كما قلنا عنه سابقا- إلا متأثرا فيه بالفكر اليساري. ولعل خلافته التي يدل عليها -وهذا خطر لي الآن- لن يكون مستلهما فيها إلا النظام الجمهوري الديمقراطي. وقد وقع في هذا غيره من متأخري الفقهاء الغافلين كالقرضاوي، الذي كان وراء ما سُمّي بـ"الربيع العربي"؛ والأمر في الإسلام على غير هذا بالتمام. ولو سألونا، لعلّمناهم ما ينفعهم عند ربهم. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].
[وجاء عند البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال: "إن أقواما بالمدينة خَلْفَنا ما سلكنا شِعبا ولا وادياً إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر".]:
ذلك رسول الله يا هذا!... صلى الله عليه وآله وسلم، وشرف وعظم، وأنعم وأكرم!... أين نحن منه يا هذا!... فإننا والله لو عثرنا على نعل آخر صاحب من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم، لعددنا أنفسنا من الفائزين يقينا!... فليُفق من هو على هذا الفهم المنكوس، والأدب المطلوس!... (في اللغة: طلس الأثر: محاه.).
وإن قياس الصوفية على من حبسهم العذر من الصحابة، قياس في غير محله؛ لأن الجهاد الشرعي لا يُعذر فيه أحد إلا بعذر شرعي. والصوفية كسائر الناس عليهم أن يجاهدوا ما استطاعوا، وإلا كانوا من المخلفين. ولقد عرفت بلدان الإسلام من كل مراحل تاريخها مجاهدين من الصوفية، تصدوا للعدوان الخارجي بأكثر مما فعل غيرهم؛ كما حدث في المغرب -مثلا- عند التصدي للبرتغاليين من قِبل الدولة الوطاسية (القرن الخامس عشر الميلادي).
ومن جهة أخرى، هل نُقارَن نحن بالصحابة رضي الله عنهم، وهم من قال الله فيهم: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92]؟!... كيف يُجمع بين من أسسوا الدين بسواعدهم، وفدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفوسهم وأهليهم، وأنفقوا كل أموالهم، بمن يحسبون كل ذلك بحساب الربح العاجل والخسارة!... أم كيف يُنظر بعدهم رضي الله عنهم إلى من خان الأمانة، وجعل الدين تجارة وسلطة معنوية يُرهب بها الناس ويأخذ أموالهم!... أم كيف نحسب الجبناء الذين هم أقل شهامة من نساء العرب في الجاهلية، أتباعا على الطريق ذاته!... إن من يقتفي أثر الكاتب فيما ذكر، عليه أن يتوب من هذه الحال التي لا تدل إلا على الغفلة في أكبر مجاليها!... نسأل الله العفو والعافية، والتعظيم لمن عظمهم الله من كل زمن!...
[من حبسه العذر عن الجهاد حُسِبَ عند الله كمن حضر الجهاد، ولو بقي في خلوته غامضا خفيف الحاذ متجردا. ذلك إن كانت نفسه تحدثه بغزو وجهاد، وإلا مات على شعبة من نفاق كما جاء في الحديث: "من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق". أخرجه مسلم عن أبي هريرة.]:
هذا الكلام من الكاتب هذيان!... لأن معنى الحديث ينطبق على الجهاد الشرعي، لا على تخرص الكاتب والجماعات الحركية. ولقد كان سيدي ابن الطاهر مرة يكلمني عن هؤلاء الذين انحرف بهم الطريق؛ وربما كان يتكلم عن الأستاذ عبد السلام نفسه؛ فقال لي: "إن هؤلاء على مذهب الخوارج، وليسوا مجاهدين؛ وأما الجهاد الشرعي، فلو قام فإنك ستجدني في الصف الأول". ولقد كانت ملامح وجهه -رضي الله عنه- تشع صدقا، حتى لكأنني أراه في الصف الأول كما قال. وكيف لا وهو من سألته يوما: "كيف حالك!" فرفع يديه على هيئة الزاهي وقال: "أنا فرح بالله!". ووالله إني لا أشك في اشتهائه للشهادة في سبيل الله، هو وأمثاله رضي الله عنهم؛ وإن كانوا أحيانا لا يسألونها احتقارا لأنفسهم، لعلمهم بمكانة الشهيد عند الله. ومن هنا على الناس أن يعلموا أن أعلام أهل البيت الذين نالوها، إنما نالوها كرامة لا هوانا على الله سبحانه. تعالى الله أن يجعل للسفهاء سبيلا على أحبائه وهو القائل في عموم المؤمنين: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
[فيما نستقبله بحول الله من أيَّام ازدهار الإسلام ارتفع عنا العذر فلا مكان بين الأخيار بعد للغامض الخامل.]:
لا ازدهار للإسلام -بالصفة التي يقصد الكاتب- إلا في زمن الخلافة الخاتمة، والتي هي للمهدي عليه السلام؛ ما دام لم يبق من الاثني عشر إلا هو. ولسنا نعني بالاثني عشر هنا الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، كما سيذهب إلى ذلك ذهن كل شيعي يقرأ كلامنا؛ وإنما نعني الخلفاء الاثني عشر المذكورين في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً.»[6]. وليتأمل القارئ الآن أسلوب الحديث الوارد في المهدي، والذي جاء فيه: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ، لَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلًا مِنَّا، يَمْلَؤُهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا.»[7]، ليجد الحديثين وكأنهما قيلا في شأن واحد، أو قيلا في وقت واحد. وعلى هذا، فإن كل من يدعي إقامة الخلافة في هذه الأزمنة، فإنه كذّاب أو واهم!...
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin