ثامنا ـ بشارة المسيح
في اليوم الثامن سرت في البرية المقدسة التي سار عليها المسيح، وهو يبشر بدين الله.. شعرت بشوق عظيم يشدني إلى المسيح ..
ولكن المسيح الذي اشتاقت نفسي إليه يختلف عن المسيح الذي لقنت صفاته في الكتاب المقدس .. لم أكن أدري كيف جاءني ذلك الشوق، ولا أي مسيح تحركت أشواقي إليه؟
لكني ـ مع ذلك ـ شعرت بلذة عظمية، وروحانية عميقة .. أتذوقها، ولا أتعقلها.. أعيشها، ولكن لا أستطيع أن ألمسها، أو أدرك سرها.
بينما أنا في تلك الحال إذا بي أرى رجلا له هيئة المسيح التي أعرفها .. قسمات وجهه، وألوان ثيابه، وطريقة سيره .. وفوق ذلك أشياء أشعر بها جعلتني أنجذب إليه، كما أنجذب إلى المسيح.
اقتربت منه، وقلت له: أنت تريد أن تقطع هذه البرية المباركة التي سار عليها المسيح، فهلم لنقطعها جميعا .. ونتبرك بآثار خطى المسيح.
قال: شكرا .. أنا الآن سائر في مهمة من المهام التي سار من أجلها المسيح، فهلم لنتعاون عليها.
قلت: كيف هذا؟
قال: أعرفك بنفسي أولا .. أنا عيسى .. وتستطيع أن تطلق علي يسوع.. كلاهما اسمان لي ..
قلت: تشرفت بمعرفتك .. وأنا محب للمسيح جاء من البلاد التي تغرب منها الشمس، ليشم عطر الهواء الذي كان يشمه المسيح.
قال: أنت ممتلئ بحب المسيح إذن؟
قلت: ومن لا يمتلئ بحب المسيح؟
قال: أعداؤه الذين يظهرون وده .. وهم أخطر من أعدائه الذين يظهرون عداوته.
قلت: أيمكن أن يكون هناك أعداء يظهرون المودة؟
قال: اثنان: ضال، ومنافق.
قلت: فهل وجد الاثنان؟
قال: أما الثاني منهما .. فقد لا يوجد الآن ..
قلت: والأول؟
قال: كثيرون هم .. كثيرون جدا .. لا يمكنك أن تحسبهم .. فهم ينتشرون في القارات السبع.
قلت: دعني من الإلغاز وأخبرني ما تقصد.
قال: في قلبك أشواق للمسيح .. فأخبرني أي المسيحين اشتقت إليهما؟
قلت: هناك مسيح واحد .. ذلك الذي صلب من أجل خلاصنا .. ذلك الذي أرسله الله ليطهرنا على خشبة الصليب من الخطيئة التي أوقعنا فيها آدم .. إنه ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء، الذي من أصلنا نحن البشر، ومن أجل خلاص نفوسنا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء، وصار إنساناً، وصلب في عهد بيلاطس النبطي، وتألم، وقبر، وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب، وأيضاً أتى في مجده ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء.
كنت أقرأ من قانون الإيمان الذي يحفظه كل مسيحي بخشوع، ولم أكن أقصد من ذلك إلا أن أؤثر في مرافقي، وأدخله حضيرة الإيمان الذي لا يكاد عقلي يتقبله.
قال: هناك مسيح آخر هو نفس هذا المسيح، ولكنه مسيح بسيط لا يحمل كل هذه الألغاز التي تحملونها .. إنه إنسان ولد بمعجزة، وتحققت في حياته معجزات كثيرة، لتكون برهانا على صدقه، وعلى صدق البشارة التي جاء بها.
قلت: هذه إهانة للمسيح لا رفعة له.
قال: لست أدري من الذي يهينه .. من يعتقد إنسانيته الرفيعة، أم الذين يتصورون أنهم يرفعونه .. ولكنهم، وفي كتابهم المقدس، يحملون صورا مهينة له.. لا يمكن لعاقل أن يعتقدها.
قلت: في كتابنا المقدس هذه الصورة المشوهة للمسيح؟
قال: أجل .. أليست هي الكتب التي تظهر المسيح بصورة المسارع إلى الشتم واللعنة .. يشتم كل من يقابله، ويلعن كل من لا يقبله؟
قلت: كيف تقول هذا؟ .. إن المسيح هو مثال الرحمة والسلام والمحبة .. أليس هو الذي يقول :( أريد رحمة لا ذبيحة )(متى: 9 : 13)؟
قال: أنتم تنقلون عنه هذه الكلمات القليلة لتجملوا صورته، ولكنها أضعف من أن تقاوم الصورة التي شوهتموها بما نسبتم إليه من أقوال وأفعال.
أنتم تجلعون لسانه الممتلئ بذكر الله، الغارق في التبشير به، لسانا ممتلئا سبابا وشتائم ولعنات مع أنكم تعلمون بـ ( أن الشتامين لا يرثون ملكوت الله) كما صرح بذلك بولس في رسالته الأولى الي كورنثوس(6 : 10 )
ألستم الذين نسبتم إلى المسيح شتمه لتلك المرأة الكنعانية الطيبة، بل جعلتموه يعتبرها من زمرة الكلاب؟ .. ألستم الذين تررون في متى (15 : 26) أنه عندما جاءت المرأة الكنعانية تسترحمه بأن يشفى ابنتها رد عليها قائلاً:( لا يجوز أن يأخذ خبز البنين، ويرمى للكلاب )؟
وبعدما أراقت هذه المرأة المسكينة آخر نقطة من ماء وجهها، وأقامت الحجة بقولها للمسيح :( والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها)، حقق لها أملها، وشفيت ابنتها (متى 15 : 27)
أنتم تروون هذا، وتتباهون به، بل وتجعلونه من دلائل ألوهيته .. مع أنه لو وقف مثل هذا الموقف أي إنسان ، فإنكم تتهمونه بالعنصرية، وبقساوة القلب، وبسوء الأدب.
ليس ذلك فقط .. فموسوعة الشتائم التي نسبتموها للمسيح لا تقف هنا:
فالمسيح ـ على حسب كتابكم المقدس ـ يمتد إلى الأنبياء الكرام ليصفهم باللصوص .. ألستم تقرأون في يوحنا ( 10 : 7 ) أن المسيح قال :( أنا باب الخراف، وجميع الذين جاءوا قبلي سارقون ولصوص )
أنتم تجعلون المسيح رمزا للسلام، وتروون عن المسيح وصيته للتلاميذ بمحبة الاعداء والإحسان إليهم .. أليس كذلك؟
قلت: بلى ..
قال: ولكنكم عندما تصورون حياة المسيح تصورونها بصورة المناقض لأقواله، فهو لا يبغض أعداءه فقط، وإنما يبغض أقرب الأقربين إليه، ويسبه، ويلقي الشتائم عليه.
ألستم تروون أنه أهان أمه وسط الحضور، فقال لها :( مالي ولك يا إمرأة ) (يوحنا:2 : 4)؟
ألستم الذين تروون إهانته لمعلمي الشريعة بقوله لهم :( يا أولاد الأفاعي)(متى:3 : 7)؟ .. وبقوله لهم :( أيها الجهال العميان )(متى:23 : 17)؟
ألستم الذين تروون إهانته لتلاميذه، وشتمه لهم، إذ قال لبطرس كبير الحواريين :( يا شيطان ) (متى:16 : 23)، وشتم آخرين منهم بقوله :( أيها الغبيان، والبطيئا القلوب في الإيمان ) (لوقا 24 : 25).. مع أنه هو نفسه الذي قال لهم :( قد أعطى لكم أن تفهموا أسرار ملكوت الله )(لوقا: 8 : 10)؟
ألستم الذين جعلتموه يشتم أحد الذين استضافوه ليتغدى عنده، وجعلتموه يشتمه في بيته .. أليس في الكتاب المقدس :( سأله فريسي أن يتغذى عنده، فدخل يسوع واتكأ، وأما الفريسي فلما رأى ذلك تعجب أنه لم يغتسل أولاً قبل الغداء، فقال له الرب:( أنتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس، وأما باطنكم فمملوء اختطافاً وخبثاً يا أغبياء، ويل لكم أيها الفريسيون )، فأجاب واحد من الناموسيين، وقال له : يا معلم ، حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضاً، فقال:( وويل لكم أنتم أيها الناموسيون ) (إنجيل لوقا:11 : 39)؟
ألستم الذين نسبتم إليه قوله لهيرودس:( قولوا لهذا الثعلب )(لوقا: 13 : 32 )؟
ألستم الذين جعلتموه يطلب من تلاميذه عدم إفشاء السلام في الطريق(لوقا:10:4)؟
ألستم الذين قولتموه :( لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير)( متى:7 : 6)؟
ألستم الذين جعلتموه يكذب على إخوته .. لقد رويتم في إنجيل يوحنا(7 : 3 ) أن إخوة المسيح طلبوا منه أن يصعد إلي عيد المظال عند اليهود، فرد عليهم قائلاً :( اصعدوا انتم إلي العيد، فأنا لا أصعد إلي هذا العيد .. ولما صعد إخوته إلي العيد ، صعد بعدهم في الخفية لا في العلانية )؟
أنتم تروون وصيته لكم بأعدائكم، ولكنكم في نفس الوقت تجعلونه يقول بكل قسوة :( أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحـوهم قدامي) (لوقا: 19 : 27)
نعم .. أنتم تتقنون الفرار .. فتهربون من قسوة هذا القول بشتى محاولات التأويل والتحريف، فتارة تذكرون أن هذا سيكون يوم القيامة مع أن النص واضح، فالمسيح يقول :( فأتوا بهم إلى هنا )، وليس فيه أي إشارة إلى يوم القيامة .. وتارة تقولون: إن هذا مثل، مع أنكم تعلمون أن المثل انتهى عند الفقرة السادسة والعشرين من نفس الإصحاح ..
أنتم لم تكتفوا بكل ذلك .. بل جعلتموه يتجرد من أبسط مظاهر الرحمة ليلعن شجرة مسكينة لا ذنب لها سوى أنها لم تثمر .. ولم تثمر من عندها، بل لأنه لم يكن وقت الثمر .. ألستم تروون في (مرقس:11 : 12):( وَفِي الْغَدِ، بَعْدَمَا غَادَرُوا بَيْتَ عَنْيَا، جَاعَ. وَإِذْ رَأَى مِنْ بَعِيدٍ شَجَرَةَ تِينٍ مُورِقَةً، تَوَجَّهَ إِلَيْهَا لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا بَعْضَ الثَّمَرِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ فِيهَا إِلاَّ الْوَرَقَ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَوَانُ التِّينِ. فَتَكَلَّمَ وَقَالَ لَهَا: ( لاَ يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ ثَمَراً مِنْكِ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ)؟
ولم تكتفوا بالشجر، بل رحتم تنسبون إلحاق الأذى بالحيوانات البريئة .. بل تجلعونه يتسبب بمقتل ألفي حيوان في وقت واحد .. ألستم تروون في (مرقس: 5 : 11):( وَكَانَ هُنَاكَ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى عِنْدَ الْجَبَلِ، فَتَوَسَّلَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلَةً: أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا، فَأَذِنَ لَهَا بِذَلِكَ، فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ، فَانْدَفَعَ قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ مِنْ عَلَى حَافَةِ الْجَبَلِ إِلَى الْبُحَيْرَةِ، فَغَرِقَ فِيهَا، وَكَانَ عَدَدُهُ نَحْوَ أَلْفَيْنِ)؟
ألا تسألون أنفسكم: ما ذنب الخنازير وصاحب الخنازير ، حين أراد إخراج الشياطين من المجنون؟ .. ألم يكن من الأجدى إخراج الشياطين دون الإضرار بالخنازير؟!
أنتم تجلعونه رمزا للسلام، لكنكم تشوهون السلام الذي يدعو إليه بما تنسبون إليه من سلوك .. ألستم تروون أنه صنع سوطاً من الحبال، ودخل به الهيكل، وطرد جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه وبعثر دراهمهم وقلب موائدهم .. لا يمكنك أن تكذب ذلك .. فقد جاء في (يوحنا:2 : 14):( وَإِذِ اقْتَرَبَ عِيدُ الْفِصْحِ الْيَهُودِيُّ، صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، فَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ بَاعَةَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحَمَامِ، وَالصَّيَارِفَةَ جَالِسِينَ إِلَى مَوَائِدِهِمْ، فَجَدَلَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ، وَطَرَدَهُمْ جَمِيعاً مِنَ الْهَيْكَلِ، مَعَ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، وَبَعْثَرَ نُقُودَ الصَّيَارِفَةِ وَقَلَبَ مَنَاضِدَهُمْ )
ألا يحمل هذا السلوك عنفا غير مبرر؟ .. كان في إمكان يسوع المحبة أن يتصرف بما تمليه المحبة والسلام اللذان يدعو إليهما.
ألستم تروون في سفر الرؤيا [2 : 21 _ 23 ] أن مسيح المحبة قال عن إمرأة اسمها إيزابل كانت تدعي انها نبية :( فإني سألقيها على فراش، وأبتلي الزانين معها بمحنة شديدة ..وأولادها أقتلهم بالموت، فستعرف جميع الكنائس أني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب، وأجازي كل واحد منكم بحسب أعماله )
فهل من المحبة والرحمة أن يقتل الأطفال بذنب أمهم؟
نعم أنتم تروون وصيته لكم بأعدائكم، ولكنكم في نفس الوقت تجعلونه يأمركم بكل قسوة ببغض أقرب الناس إليكم .. ألستم تروون قوله في (لوقا:14: 26):( إِنْ جَاءَ إِلَيَّ أَحَدٌ، وَلَمْ يُبْغِضْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَزَوْجَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وأَخَوَاتِهِ، بَلْ نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ تِلْمِيذاً لِي )؟
بل أنتم تناقضون أنفسكم حين تجعلون من رسول السلام يقول :( لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لألقي سَلاماً عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لألقي سَلاَماً، بَلْ سَيْفاً.فَإِنِّي جِئْتُ لأَجْعَلَ الإِنْسَانَ عَلَى خِلاَفٍ مَعَ أَبِيهِ، وَالْبِنْتَ مَعَ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ مَعَ حَمَاتِهَا) (متى: 10 : 34)
بل جعلتموه يقول :( جِئْتُ لأُلْقِيَ عَلَى الأَرْضِ نَاراً، فَلَكَمْ أَوَدُّ أَنْ تَكُونَ قَدِ اشْتَعَلَتْ؟ ) (لوقا 12 : 49)
بل جعلتم الله نفسه نارا .. ألم يقل صاحبكم في رسالة العبرانيين [ 12 : 29 ]:( لأن إلهنا نار آكلة ) .. بل جعلتموه يتجرد من الرحمة ويترك ابنه يلاقي أبشع أنواع العذاب دون ذنب وهو يصرخ بصوت عظيم :( إلهي إلهي لماذا تركتني ؟)(متى :27 : 46)
التفت إلي، وقال: هل تراني زدت شيئا في كتابكم ؟.. إن كل ما قرأته من كتبكم المقدسة .. إنها تحمل صورة مشوهة عن المسيح نرفضها ـ نحن المسلمين ـ رفضا شديدا.
قلت: فما الصورة التي تحملونها عنه؟
قال: لا تكفي كل هذه الطريق التي نقطعها في وصف روحانية المسيح وأخلاق المسيح كما وردت في القرآن الكريم، ولكنها صورة من أجمل الصور.. لعلها هي الصورة التي تحرك لها قلبك ..
إن القرآن الكريم يعرض الصورة الحقيقية للمسيح من لحظة ولادته إلى نهاية وجوده على الأرض .. فهو يبين حقيقة هذه الشخصية .. ويصور أهداف دعوتها، وأركان رسالتها، وما أكرمها الله به من معجزات ..
إن القرآن الكريم يصف المسيح بأشرف الأوصاف .. فهو عبد لله ليس إلها، ولا ابن إله .. إنه ابن امرأة طاهرة ظهرت براءتها على لسان رضيعها، الذي نطق في المهد، مبينا حقيقته ورسالته وسمو أخلاقه، قال تعالى:) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً( (مريم:29 ـ 33)
وما كانت ولادته بهذه الصورة، إلا لأنه آية للناس على قدرة الله .. وقد سبقه في الولادة بهذه الطريقة المعجزة آدم أبو البشر ، ولهذا قرن الله بينهما، فقال:) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ((آل عمران : 59 )
والمسيح ـ في النظرة القرآنية ـ لا يختلف عن إخوانه من النبيين والمرسلين، فهو بشر مخلوق، ونبي مرسل، قال تعالى:) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ( (الزخرف:59)
ولذلك هو يمتلئ تواضعا وعبودية لخالقه، بل يتشرف بذلك، قال تعالى:) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ((النساء : 172)
والقرآن الكريم يبرهن بالدلائل المختلفة على هذه العبودية التي لا تجد العقول بدا من الخضوع لها، قال تعالى:) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ((المائدة : 75)
أما وظيفته، فهو لم يأت إلا بالحكمة التي تملأ القلوب بالإيمان، والسلوك بالرفعة، قال تعالى:) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ((الزخرف : 63 )
وقد أرسل كسائر النبيين برسالة خاصة إلى قوم مخصوصين، قال تعالى مبينا إرساله إلى طائفة محددة من البشر :) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (( الصف : 6 )، وقال تعالى:) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ((آل عمران : 48 )
وقد عرض القرآن الكريم بعض نواحي الرسالة التي جاء بها المسيح، والتي لا تزال بعض آثارها فيما لم يحرف من نصوص الأناجيل:
فمن رسالته ما نص عليه قوله تعالى:) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ((المائدة : 469
ومن أهم ما جاء به في رسالته التبشير بمجيىء النبي الخاتم r ، كما قال تعالى:) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ( (الصف:6)
التفت إلي، وقال: إن شئت أخبرتك بأن ما في أيديكم من الأناجيل تحمل هذه البشارة، رغم ما لحق بها من تحريف.
قلت: لا أرى في الأناجيل ما تذكر.
قال: لأنكم لا تقرأون الإنجيل بعقولكم .. فإن شئت أن تقرأه بعقلك .. فهلم أحدثك عن بشارات المسيح .. فليس لي من هم في هذه الطريق التي سار فيها المسيح إلا أن أبشر ببشارات المسيح.
قلت: أنا طوع أمرك .. حدثني .. ولكن لا تذكر لي من الأناجيل إلا ما أعرفها..
قال: لك علي ذلك .. لم يبشر المسيح بالنبي r ـ على حسب أناجيلكم ـ في موضع واحد، بل بشر به في مواضع كثيرة، سأقتصر على مواضع منها.
الفارقليط:
قلت: فما أولها؟
قال: أعظم بشارات المسيح ـ على حسب الأناجيل ـ هي نبوءات المسيح عن مجيء الفارقليط رئيس هذا العالم، وحسب نسخة الرهبانية اليسوعية (سيد هذا العالم)
وقد انفرد يوحنا في إنجيله بذكر هذه البشارات المتوالية من المسيح بهذا النبي المنتظر، حيث يقول المسيح موصياً تلاميذه :( إن كنتم تحبونني، فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم .. إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منـزلاً.
الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني، بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم .. قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون، لا أتكلم أيضاً معكم كثيراً، لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شيء ) (يوحنا 14/15 – 30)
وفي الإصحاح الذي يليه يعظ المسيح تلاميذه طالباً منهم حفظ وصاياه، ثم يقول :( متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي في الابتداء .. قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا، سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله .. قد ملأ الحزن قلوبكم، لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة، أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين .. إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم ) (يوحنا 15/26 - 16/14)
ألا ترى أن المسيح يتحدث عن قادم يأتيهم؟
قلت: بلى .. هذه النبوءة تتحدث عن هذا القادم .. ولكنه ليس الذي تزعم ..
قال: فمن هو؟
قلت: إنه روح القدس الذي نزل على التلاميذ يوم الخمسين ليعزيهم في فقدهم للسيد المسيح، وهناك ( صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدءوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا )(أعمال 2/1 ـ 4)
قال: أهذا وحده ما تفسرون به هذه البشارة الخطيرة التي كانت من أهم ما احتوته رسالة المسيح؟
قلت: لا تذكر أسفار العهد الجديد شيئاً سوى ما ذكرت لك عن هذا الذي حصل يوم الخمسين من قيامة المسيح ..
قال: أنا لا أكذب ما ذكره الحواريون .. ولكن هذه الكرامة التي حصلت لهم، والتي قد تحصل لأي ولي من أولياء الله في أي زمان وأي أمة لا تستدعي تلك البشارة العظيمة .. فلم نعهد الأنبياء يبشرون بآحاد الكرامات، ويعتبرون التبشير بها أصلا من أصول رسالتهم.
ولنفرض أنهم فهموا البشارة بهذا الفهم .. فهل هذا يعني أن ما فهموه صحيحا .. لو أنكم طبقتم الكثير من البشارات التي فسرها هؤلاء التلاميذ أو غيرهم لما وجدتم انطباق الكثير منها على ما طبقوه؟ .. فهذه من تلك .. وهم معذورون إن اجتهدوا في التفسير وأخطأوا في التوفيق للصواب.
إن هذه البشارة تنص على أمر عظيم يتعلق بالبشر جميعا .. لا بتلاميذ محصورين .. فإن أذنت لي ذكرت لك من هذا المعزي الذي هو رئيس هذا العالم.
لم أملك إلا أن أوافق على طلبه، فقد كان لكلامه من الحلاوة ما يأسر القلوب .. إن فيه نفحات كثيرة من روح المسيح تشمها، ولكن لا تستطيع التعبير عنها.
قال: أولا .. أنت تعلم أن لفظة (المعزي ) لفظة حديثة استبدلتها التراجم الجديدة للعهد الجديد، فيما كانت التراجم العربية القديمة، كترجمة 1820م، وترجمة 1831م، وترجمة 1844م تضع الكلمة اليونانية (البارقليط) كما هي، وهو ما تصنعه كثير من التراجم العالمية.
أتدري ما معنى هذه الكلمة؟
قلت: إنها تعني العزاء .. فالبارقليط هو المعزي[1].
قال: قبل أن أجيبك عن معناها بحسب ما ورد في لغتها الأصلية أود أن أنبهك إلى أصل من أصول التحريف التي يمارسها قومك، كما مارسها بنو إسرائيل من قبلهم.
قلت: ما هو؟
قال: أرأيت لو أن اسمك يوحنا أو بولس أو أي اسم ترضاه لنفسك، فجئت، وترجمته، وترجمت اسم والدك، واسم البلد التي تسكن فيها، ثم وضعت هذه المعلومات المترجمة جميعا على كتاب أنت ألفته .. لأقول للقارئين: إن مؤلف الكتاب هو فلان .. هل ترضى بذلك؟ .. وهل يعرف القارئون المؤلف الحقيقي للكتاب؟
قلت: لا .. فالأسماء توضع للدلالة على المسمى، وليست مقصودة لذاتها.
قال: وهل يمكن أن تتهم الذي فعل هذا بكتابك؟
قلت: أجل .. فقد يكون قصده خبيثا.
قال: هذا ما فلعه قومك، وبنو إسرائيل من قبلهم ، فقد عمدوا إلى أسماء الأعلام يترجمونها، ويغمضون في الترجمة ليشتد إلغاز النبوءة .. وسأضرب لك أمثلة على ذلك:
فقد جاء في المزامير (84/6) عندما ذكرت المزامير اسم مدينة المسيح القادم، أسمتها: وادي بكة [בְּעֵמֶק הַבָּכָא]، وتقرأ ( بعيمق هبكا)، فترجمها المترجمون إلى العربية إلى وادي البكاء، وترجمتها نسخة الرهبانية اليسوعية إلى (وادي البَلَسان)؛ لتضيع دلالتها على كل عربي يعرف أن بكة هي بلد محمد r، كما قال تعالى:) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ( (آل عمران:96)
في اليوم الثامن سرت في البرية المقدسة التي سار عليها المسيح، وهو يبشر بدين الله.. شعرت بشوق عظيم يشدني إلى المسيح ..
ولكن المسيح الذي اشتاقت نفسي إليه يختلف عن المسيح الذي لقنت صفاته في الكتاب المقدس .. لم أكن أدري كيف جاءني ذلك الشوق، ولا أي مسيح تحركت أشواقي إليه؟
لكني ـ مع ذلك ـ شعرت بلذة عظمية، وروحانية عميقة .. أتذوقها، ولا أتعقلها.. أعيشها، ولكن لا أستطيع أن ألمسها، أو أدرك سرها.
بينما أنا في تلك الحال إذا بي أرى رجلا له هيئة المسيح التي أعرفها .. قسمات وجهه، وألوان ثيابه، وطريقة سيره .. وفوق ذلك أشياء أشعر بها جعلتني أنجذب إليه، كما أنجذب إلى المسيح.
اقتربت منه، وقلت له: أنت تريد أن تقطع هذه البرية المباركة التي سار عليها المسيح، فهلم لنقطعها جميعا .. ونتبرك بآثار خطى المسيح.
قال: شكرا .. أنا الآن سائر في مهمة من المهام التي سار من أجلها المسيح، فهلم لنتعاون عليها.
قلت: كيف هذا؟
قال: أعرفك بنفسي أولا .. أنا عيسى .. وتستطيع أن تطلق علي يسوع.. كلاهما اسمان لي ..
قلت: تشرفت بمعرفتك .. وأنا محب للمسيح جاء من البلاد التي تغرب منها الشمس، ليشم عطر الهواء الذي كان يشمه المسيح.
قال: أنت ممتلئ بحب المسيح إذن؟
قلت: ومن لا يمتلئ بحب المسيح؟
قال: أعداؤه الذين يظهرون وده .. وهم أخطر من أعدائه الذين يظهرون عداوته.
قلت: أيمكن أن يكون هناك أعداء يظهرون المودة؟
قال: اثنان: ضال، ومنافق.
قلت: فهل وجد الاثنان؟
قال: أما الثاني منهما .. فقد لا يوجد الآن ..
قلت: والأول؟
قال: كثيرون هم .. كثيرون جدا .. لا يمكنك أن تحسبهم .. فهم ينتشرون في القارات السبع.
قلت: دعني من الإلغاز وأخبرني ما تقصد.
قال: في قلبك أشواق للمسيح .. فأخبرني أي المسيحين اشتقت إليهما؟
قلت: هناك مسيح واحد .. ذلك الذي صلب من أجل خلاصنا .. ذلك الذي أرسله الله ليطهرنا على خشبة الصليب من الخطيئة التي أوقعنا فيها آدم .. إنه ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء، الذي من أصلنا نحن البشر، ومن أجل خلاص نفوسنا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء، وصار إنساناً، وصلب في عهد بيلاطس النبطي، وتألم، وقبر، وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب، وأيضاً أتى في مجده ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه انقضاء.
كنت أقرأ من قانون الإيمان الذي يحفظه كل مسيحي بخشوع، ولم أكن أقصد من ذلك إلا أن أؤثر في مرافقي، وأدخله حضيرة الإيمان الذي لا يكاد عقلي يتقبله.
قال: هناك مسيح آخر هو نفس هذا المسيح، ولكنه مسيح بسيط لا يحمل كل هذه الألغاز التي تحملونها .. إنه إنسان ولد بمعجزة، وتحققت في حياته معجزات كثيرة، لتكون برهانا على صدقه، وعلى صدق البشارة التي جاء بها.
قلت: هذه إهانة للمسيح لا رفعة له.
قال: لست أدري من الذي يهينه .. من يعتقد إنسانيته الرفيعة، أم الذين يتصورون أنهم يرفعونه .. ولكنهم، وفي كتابهم المقدس، يحملون صورا مهينة له.. لا يمكن لعاقل أن يعتقدها.
قلت: في كتابنا المقدس هذه الصورة المشوهة للمسيح؟
قال: أجل .. أليست هي الكتب التي تظهر المسيح بصورة المسارع إلى الشتم واللعنة .. يشتم كل من يقابله، ويلعن كل من لا يقبله؟
قلت: كيف تقول هذا؟ .. إن المسيح هو مثال الرحمة والسلام والمحبة .. أليس هو الذي يقول :( أريد رحمة لا ذبيحة )(متى: 9 : 13)؟
قال: أنتم تنقلون عنه هذه الكلمات القليلة لتجملوا صورته، ولكنها أضعف من أن تقاوم الصورة التي شوهتموها بما نسبتم إليه من أقوال وأفعال.
أنتم تجلعون لسانه الممتلئ بذكر الله، الغارق في التبشير به، لسانا ممتلئا سبابا وشتائم ولعنات مع أنكم تعلمون بـ ( أن الشتامين لا يرثون ملكوت الله) كما صرح بذلك بولس في رسالته الأولى الي كورنثوس(6 : 10 )
ألستم الذين نسبتم إلى المسيح شتمه لتلك المرأة الكنعانية الطيبة، بل جعلتموه يعتبرها من زمرة الكلاب؟ .. ألستم الذين تررون في متى (15 : 26) أنه عندما جاءت المرأة الكنعانية تسترحمه بأن يشفى ابنتها رد عليها قائلاً:( لا يجوز أن يأخذ خبز البنين، ويرمى للكلاب )؟
وبعدما أراقت هذه المرأة المسكينة آخر نقطة من ماء وجهها، وأقامت الحجة بقولها للمسيح :( والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها)، حقق لها أملها، وشفيت ابنتها (متى 15 : 27)
أنتم تروون هذا، وتتباهون به، بل وتجعلونه من دلائل ألوهيته .. مع أنه لو وقف مثل هذا الموقف أي إنسان ، فإنكم تتهمونه بالعنصرية، وبقساوة القلب، وبسوء الأدب.
ليس ذلك فقط .. فموسوعة الشتائم التي نسبتموها للمسيح لا تقف هنا:
فالمسيح ـ على حسب كتابكم المقدس ـ يمتد إلى الأنبياء الكرام ليصفهم باللصوص .. ألستم تقرأون في يوحنا ( 10 : 7 ) أن المسيح قال :( أنا باب الخراف، وجميع الذين جاءوا قبلي سارقون ولصوص )
أنتم تجعلون المسيح رمزا للسلام، وتروون عن المسيح وصيته للتلاميذ بمحبة الاعداء والإحسان إليهم .. أليس كذلك؟
قلت: بلى ..
قال: ولكنكم عندما تصورون حياة المسيح تصورونها بصورة المناقض لأقواله، فهو لا يبغض أعداءه فقط، وإنما يبغض أقرب الأقربين إليه، ويسبه، ويلقي الشتائم عليه.
ألستم تروون أنه أهان أمه وسط الحضور، فقال لها :( مالي ولك يا إمرأة ) (يوحنا:2 : 4)؟
ألستم الذين تروون إهانته لمعلمي الشريعة بقوله لهم :( يا أولاد الأفاعي)(متى:3 : 7)؟ .. وبقوله لهم :( أيها الجهال العميان )(متى:23 : 17)؟
ألستم الذين تروون إهانته لتلاميذه، وشتمه لهم، إذ قال لبطرس كبير الحواريين :( يا شيطان ) (متى:16 : 23)، وشتم آخرين منهم بقوله :( أيها الغبيان، والبطيئا القلوب في الإيمان ) (لوقا 24 : 25).. مع أنه هو نفسه الذي قال لهم :( قد أعطى لكم أن تفهموا أسرار ملكوت الله )(لوقا: 8 : 10)؟
ألستم الذين جعلتموه يشتم أحد الذين استضافوه ليتغدى عنده، وجعلتموه يشتمه في بيته .. أليس في الكتاب المقدس :( سأله فريسي أن يتغذى عنده، فدخل يسوع واتكأ، وأما الفريسي فلما رأى ذلك تعجب أنه لم يغتسل أولاً قبل الغداء، فقال له الرب:( أنتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس، وأما باطنكم فمملوء اختطافاً وخبثاً يا أغبياء، ويل لكم أيها الفريسيون )، فأجاب واحد من الناموسيين، وقال له : يا معلم ، حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضاً، فقال:( وويل لكم أنتم أيها الناموسيون ) (إنجيل لوقا:11 : 39)؟
ألستم الذين نسبتم إليه قوله لهيرودس:( قولوا لهذا الثعلب )(لوقا: 13 : 32 )؟
ألستم الذين جعلتموه يطلب من تلاميذه عدم إفشاء السلام في الطريق(لوقا:10:4)؟
ألستم الذين قولتموه :( لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير)( متى:7 : 6)؟
ألستم الذين جعلتموه يكذب على إخوته .. لقد رويتم في إنجيل يوحنا(7 : 3 ) أن إخوة المسيح طلبوا منه أن يصعد إلي عيد المظال عند اليهود، فرد عليهم قائلاً :( اصعدوا انتم إلي العيد، فأنا لا أصعد إلي هذا العيد .. ولما صعد إخوته إلي العيد ، صعد بعدهم في الخفية لا في العلانية )؟
أنتم تروون وصيته لكم بأعدائكم، ولكنكم في نفس الوقت تجعلونه يقول بكل قسوة :( أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحـوهم قدامي) (لوقا: 19 : 27)
نعم .. أنتم تتقنون الفرار .. فتهربون من قسوة هذا القول بشتى محاولات التأويل والتحريف، فتارة تذكرون أن هذا سيكون يوم القيامة مع أن النص واضح، فالمسيح يقول :( فأتوا بهم إلى هنا )، وليس فيه أي إشارة إلى يوم القيامة .. وتارة تقولون: إن هذا مثل، مع أنكم تعلمون أن المثل انتهى عند الفقرة السادسة والعشرين من نفس الإصحاح ..
أنتم لم تكتفوا بكل ذلك .. بل جعلتموه يتجرد من أبسط مظاهر الرحمة ليلعن شجرة مسكينة لا ذنب لها سوى أنها لم تثمر .. ولم تثمر من عندها، بل لأنه لم يكن وقت الثمر .. ألستم تروون في (مرقس:11 : 12):( وَفِي الْغَدِ، بَعْدَمَا غَادَرُوا بَيْتَ عَنْيَا، جَاعَ. وَإِذْ رَأَى مِنْ بَعِيدٍ شَجَرَةَ تِينٍ مُورِقَةً، تَوَجَّهَ إِلَيْهَا لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا بَعْضَ الثَّمَرِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ فِيهَا إِلاَّ الْوَرَقَ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَوَانُ التِّينِ. فَتَكَلَّمَ وَقَالَ لَهَا: ( لاَ يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ ثَمَراً مِنْكِ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ)؟
ولم تكتفوا بالشجر، بل رحتم تنسبون إلحاق الأذى بالحيوانات البريئة .. بل تجلعونه يتسبب بمقتل ألفي حيوان في وقت واحد .. ألستم تروون في (مرقس: 5 : 11):( وَكَانَ هُنَاكَ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى عِنْدَ الْجَبَلِ، فَتَوَسَّلَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلَةً: أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا، فَأَذِنَ لَهَا بِذَلِكَ، فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ، فَانْدَفَعَ قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ مِنْ عَلَى حَافَةِ الْجَبَلِ إِلَى الْبُحَيْرَةِ، فَغَرِقَ فِيهَا، وَكَانَ عَدَدُهُ نَحْوَ أَلْفَيْنِ)؟
ألا تسألون أنفسكم: ما ذنب الخنازير وصاحب الخنازير ، حين أراد إخراج الشياطين من المجنون؟ .. ألم يكن من الأجدى إخراج الشياطين دون الإضرار بالخنازير؟!
أنتم تجلعونه رمزا للسلام، لكنكم تشوهون السلام الذي يدعو إليه بما تنسبون إليه من سلوك .. ألستم تروون أنه صنع سوطاً من الحبال، ودخل به الهيكل، وطرد جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه وبعثر دراهمهم وقلب موائدهم .. لا يمكنك أن تكذب ذلك .. فقد جاء في (يوحنا:2 : 14):( وَإِذِ اقْتَرَبَ عِيدُ الْفِصْحِ الْيَهُودِيُّ، صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، فَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ بَاعَةَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحَمَامِ، وَالصَّيَارِفَةَ جَالِسِينَ إِلَى مَوَائِدِهِمْ، فَجَدَلَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ، وَطَرَدَهُمْ جَمِيعاً مِنَ الْهَيْكَلِ، مَعَ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، وَبَعْثَرَ نُقُودَ الصَّيَارِفَةِ وَقَلَبَ مَنَاضِدَهُمْ )
ألا يحمل هذا السلوك عنفا غير مبرر؟ .. كان في إمكان يسوع المحبة أن يتصرف بما تمليه المحبة والسلام اللذان يدعو إليهما.
ألستم تروون في سفر الرؤيا [2 : 21 _ 23 ] أن مسيح المحبة قال عن إمرأة اسمها إيزابل كانت تدعي انها نبية :( فإني سألقيها على فراش، وأبتلي الزانين معها بمحنة شديدة ..وأولادها أقتلهم بالموت، فستعرف جميع الكنائس أني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب، وأجازي كل واحد منكم بحسب أعماله )
فهل من المحبة والرحمة أن يقتل الأطفال بذنب أمهم؟
نعم أنتم تروون وصيته لكم بأعدائكم، ولكنكم في نفس الوقت تجعلونه يأمركم بكل قسوة ببغض أقرب الناس إليكم .. ألستم تروون قوله في (لوقا:14: 26):( إِنْ جَاءَ إِلَيَّ أَحَدٌ، وَلَمْ يُبْغِضْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَزَوْجَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وأَخَوَاتِهِ، بَلْ نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ تِلْمِيذاً لِي )؟
بل أنتم تناقضون أنفسكم حين تجعلون من رسول السلام يقول :( لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لألقي سَلاماً عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لألقي سَلاَماً، بَلْ سَيْفاً.فَإِنِّي جِئْتُ لأَجْعَلَ الإِنْسَانَ عَلَى خِلاَفٍ مَعَ أَبِيهِ، وَالْبِنْتَ مَعَ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ مَعَ حَمَاتِهَا) (متى: 10 : 34)
بل جعلتموه يقول :( جِئْتُ لأُلْقِيَ عَلَى الأَرْضِ نَاراً، فَلَكَمْ أَوَدُّ أَنْ تَكُونَ قَدِ اشْتَعَلَتْ؟ ) (لوقا 12 : 49)
بل جعلتم الله نفسه نارا .. ألم يقل صاحبكم في رسالة العبرانيين [ 12 : 29 ]:( لأن إلهنا نار آكلة ) .. بل جعلتموه يتجرد من الرحمة ويترك ابنه يلاقي أبشع أنواع العذاب دون ذنب وهو يصرخ بصوت عظيم :( إلهي إلهي لماذا تركتني ؟)(متى :27 : 46)
التفت إلي، وقال: هل تراني زدت شيئا في كتابكم ؟.. إن كل ما قرأته من كتبكم المقدسة .. إنها تحمل صورة مشوهة عن المسيح نرفضها ـ نحن المسلمين ـ رفضا شديدا.
قلت: فما الصورة التي تحملونها عنه؟
قال: لا تكفي كل هذه الطريق التي نقطعها في وصف روحانية المسيح وأخلاق المسيح كما وردت في القرآن الكريم، ولكنها صورة من أجمل الصور.. لعلها هي الصورة التي تحرك لها قلبك ..
إن القرآن الكريم يعرض الصورة الحقيقية للمسيح من لحظة ولادته إلى نهاية وجوده على الأرض .. فهو يبين حقيقة هذه الشخصية .. ويصور أهداف دعوتها، وأركان رسالتها، وما أكرمها الله به من معجزات ..
إن القرآن الكريم يصف المسيح بأشرف الأوصاف .. فهو عبد لله ليس إلها، ولا ابن إله .. إنه ابن امرأة طاهرة ظهرت براءتها على لسان رضيعها، الذي نطق في المهد، مبينا حقيقته ورسالته وسمو أخلاقه، قال تعالى:) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً( (مريم:29 ـ 33)
وما كانت ولادته بهذه الصورة، إلا لأنه آية للناس على قدرة الله .. وقد سبقه في الولادة بهذه الطريقة المعجزة آدم أبو البشر ، ولهذا قرن الله بينهما، فقال:) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ((آل عمران : 59 )
والمسيح ـ في النظرة القرآنية ـ لا يختلف عن إخوانه من النبيين والمرسلين، فهو بشر مخلوق، ونبي مرسل، قال تعالى:) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ( (الزخرف:59)
ولذلك هو يمتلئ تواضعا وعبودية لخالقه، بل يتشرف بذلك، قال تعالى:) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ((النساء : 172)
والقرآن الكريم يبرهن بالدلائل المختلفة على هذه العبودية التي لا تجد العقول بدا من الخضوع لها، قال تعالى:) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ((المائدة : 75)
أما وظيفته، فهو لم يأت إلا بالحكمة التي تملأ القلوب بالإيمان، والسلوك بالرفعة، قال تعالى:) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ((الزخرف : 63 )
وقد أرسل كسائر النبيين برسالة خاصة إلى قوم مخصوصين، قال تعالى مبينا إرساله إلى طائفة محددة من البشر :) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (( الصف : 6 )، وقال تعالى:) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ((آل عمران : 48 )
وقد عرض القرآن الكريم بعض نواحي الرسالة التي جاء بها المسيح، والتي لا تزال بعض آثارها فيما لم يحرف من نصوص الأناجيل:
فمن رسالته ما نص عليه قوله تعالى:) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ((المائدة : 469
ومن أهم ما جاء به في رسالته التبشير بمجيىء النبي الخاتم r ، كما قال تعالى:) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ( (الصف:6)
التفت إلي، وقال: إن شئت أخبرتك بأن ما في أيديكم من الأناجيل تحمل هذه البشارة، رغم ما لحق بها من تحريف.
قلت: لا أرى في الأناجيل ما تذكر.
قال: لأنكم لا تقرأون الإنجيل بعقولكم .. فإن شئت أن تقرأه بعقلك .. فهلم أحدثك عن بشارات المسيح .. فليس لي من هم في هذه الطريق التي سار فيها المسيح إلا أن أبشر ببشارات المسيح.
قلت: أنا طوع أمرك .. حدثني .. ولكن لا تذكر لي من الأناجيل إلا ما أعرفها..
قال: لك علي ذلك .. لم يبشر المسيح بالنبي r ـ على حسب أناجيلكم ـ في موضع واحد، بل بشر به في مواضع كثيرة، سأقتصر على مواضع منها.
الفارقليط:
قلت: فما أولها؟
قال: أعظم بشارات المسيح ـ على حسب الأناجيل ـ هي نبوءات المسيح عن مجيء الفارقليط رئيس هذا العالم، وحسب نسخة الرهبانية اليسوعية (سيد هذا العالم)
وقد انفرد يوحنا في إنجيله بذكر هذه البشارات المتوالية من المسيح بهذا النبي المنتظر، حيث يقول المسيح موصياً تلاميذه :( إن كنتم تحبونني، فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم .. إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منـزلاً.
الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني، بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم .. قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون، لا أتكلم أيضاً معكم كثيراً، لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شيء ) (يوحنا 14/15 – 30)
وفي الإصحاح الذي يليه يعظ المسيح تلاميذه طالباً منهم حفظ وصاياه، ثم يقول :( متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي في الابتداء .. قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا، سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله .. قد ملأ الحزن قلوبكم، لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة، أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين .. إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم ) (يوحنا 15/26 - 16/14)
ألا ترى أن المسيح يتحدث عن قادم يأتيهم؟
قلت: بلى .. هذه النبوءة تتحدث عن هذا القادم .. ولكنه ليس الذي تزعم ..
قال: فمن هو؟
قلت: إنه روح القدس الذي نزل على التلاميذ يوم الخمسين ليعزيهم في فقدهم للسيد المسيح، وهناك ( صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدءوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا )(أعمال 2/1 ـ 4)
قال: أهذا وحده ما تفسرون به هذه البشارة الخطيرة التي كانت من أهم ما احتوته رسالة المسيح؟
قلت: لا تذكر أسفار العهد الجديد شيئاً سوى ما ذكرت لك عن هذا الذي حصل يوم الخمسين من قيامة المسيح ..
قال: أنا لا أكذب ما ذكره الحواريون .. ولكن هذه الكرامة التي حصلت لهم، والتي قد تحصل لأي ولي من أولياء الله في أي زمان وأي أمة لا تستدعي تلك البشارة العظيمة .. فلم نعهد الأنبياء يبشرون بآحاد الكرامات، ويعتبرون التبشير بها أصلا من أصول رسالتهم.
ولنفرض أنهم فهموا البشارة بهذا الفهم .. فهل هذا يعني أن ما فهموه صحيحا .. لو أنكم طبقتم الكثير من البشارات التي فسرها هؤلاء التلاميذ أو غيرهم لما وجدتم انطباق الكثير منها على ما طبقوه؟ .. فهذه من تلك .. وهم معذورون إن اجتهدوا في التفسير وأخطأوا في التوفيق للصواب.
إن هذه البشارة تنص على أمر عظيم يتعلق بالبشر جميعا .. لا بتلاميذ محصورين .. فإن أذنت لي ذكرت لك من هذا المعزي الذي هو رئيس هذا العالم.
لم أملك إلا أن أوافق على طلبه، فقد كان لكلامه من الحلاوة ما يأسر القلوب .. إن فيه نفحات كثيرة من روح المسيح تشمها، ولكن لا تستطيع التعبير عنها.
قال: أولا .. أنت تعلم أن لفظة (المعزي ) لفظة حديثة استبدلتها التراجم الجديدة للعهد الجديد، فيما كانت التراجم العربية القديمة، كترجمة 1820م، وترجمة 1831م، وترجمة 1844م تضع الكلمة اليونانية (البارقليط) كما هي، وهو ما تصنعه كثير من التراجم العالمية.
أتدري ما معنى هذه الكلمة؟
قلت: إنها تعني العزاء .. فالبارقليط هو المعزي[1].
قال: قبل أن أجيبك عن معناها بحسب ما ورد في لغتها الأصلية أود أن أنبهك إلى أصل من أصول التحريف التي يمارسها قومك، كما مارسها بنو إسرائيل من قبلهم.
قلت: ما هو؟
قال: أرأيت لو أن اسمك يوحنا أو بولس أو أي اسم ترضاه لنفسك، فجئت، وترجمته، وترجمت اسم والدك، واسم البلد التي تسكن فيها، ثم وضعت هذه المعلومات المترجمة جميعا على كتاب أنت ألفته .. لأقول للقارئين: إن مؤلف الكتاب هو فلان .. هل ترضى بذلك؟ .. وهل يعرف القارئون المؤلف الحقيقي للكتاب؟
قلت: لا .. فالأسماء توضع للدلالة على المسمى، وليست مقصودة لذاتها.
قال: وهل يمكن أن تتهم الذي فعل هذا بكتابك؟
قلت: أجل .. فقد يكون قصده خبيثا.
قال: هذا ما فلعه قومك، وبنو إسرائيل من قبلهم ، فقد عمدوا إلى أسماء الأعلام يترجمونها، ويغمضون في الترجمة ليشتد إلغاز النبوءة .. وسأضرب لك أمثلة على ذلك:
فقد جاء في المزامير (84/6) عندما ذكرت المزامير اسم مدينة المسيح القادم، أسمتها: وادي بكة [בְּעֵמֶק הַבָּכָא]، وتقرأ ( بعيمق هبكا)، فترجمها المترجمون إلى العربية إلى وادي البكاء، وترجمتها نسخة الرهبانية اليسوعية إلى (وادي البَلَسان)؛ لتضيع دلالتها على كل عربي يعرف أن بكة هي بلد محمد r، كما قال تعالى:) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ( (آل عمران:96)
عدل سابقا من قبل Admin في 1/6/2021, 12:26 عدل 1 مرات
اليوم في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
اليوم في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin