خامسا ـ العقلانية
في اليوم الخامس.. أرسل إلي أخي يطلبني في أمر مهم، فذهبت إليه، فقال: سيأتيك اليوم رجل من حكماء الإسكندرية.. لكأنه وريث فلاسفتها.. هو مسيحي مثلنا تماما، ولكنه صاحب عقل حجب به عن المسيح، وعن الكتاب المقدس.. فلذلك ترى له من الهرطقات ما لا نرتضيه.
قلت: أتريد مني أن أجادله، أو أناقشه لأقنعه؟
قال: لا هذا ولا ذاك.. دعه يتحدث كما يشاء.. لا تجادله، ولا تناقشه، بل إن استطعت أن توفر له ما يدعوه ليفرغ كل ما في عقله من هرطقات فافعل.
قلت: لم خصصت هذا الرجل دون غيره بهذه المعاملة؟
قال: هذا الرجل فيه صفتان.. إن نفرتنا الأولى عنه، فإن الثانية تقربنا منه.
قلت: عرفت الأولى.. فما الثانية؟
قال: هو صاحب مال كثير.. وهو وإن تناولنا بلسانه، فإنه يناولنا بيده ما يغطي جرائم لسانه.. إن كثيرا من طبعات الكتاب المقدس تتم تحت نفقته.. وهو يوزعها بعد ذلك بالمجان.. بل ييسر لنا توزيعها.. إذ يخص بها طبقات مهمة في المجتمع قلما نصل نحن إليها، هي طبقات المتعلمين والجامعيين.
قلت: فليكن ما تريد.. متى يحضر هذا الرجل السخي العاقل؟
قال: بل قل: السخي الهرطقي.. سيحضر اليوم.. وستستقبله في مكتبك.
قلت: ولم لا تستقبله أنت؟
قال: أنت تعرف قلة صبري أمام كل ما يمس المسيح ودين المسيح.
قلت: أجل.. فاترك ذلك لي.
لست أدري كيف شعرت بلذة عظيمة، وأنا أستعد لأسمع من كلام العقل والحكمة ما ينير لي الطريق الذي كان مظلما في عيني.. لم أكن حينها لا في دين المسيح، ولا في دين محمد.. ولكني مع ذلك كنت أشعر أن خيوطا كثيرة بدأت تتجمع لتجذبني إلى دين محمد.
ذهبت إلى مكتبي، ففوجئت بوقوف الرجل أمام بابه ينتظرني، كان ـ بحسب شكله ـ رجلا منشغلا عن نفسه، لا تظهر عليه آثار النعمة التي حدثني عنها أخي.. وكأنه اكتفى بما لديه من حكمة وعقل عن المال الذي يملكه.
رحبت به، وادخلته مكتبي، وقلت مجاملا له: ها قد جاء حكيم الإسكندرية أخيرا لزيارتنا.. وليملأنا شرفا وحكمة.
اكتفى بالابتسامة، وقال: الحكمة لا تختص بالإسكندرية.. والعقل لا يختص بأحد من الناس.. العقل نهر جار ممدود بمنابع لا تجف، ليصل لكل الناس.
قلت: ولكن أكثر الناس يغلقون حنفيات عقولهم ليمتنعوا من الارتواء بهذا النهر الجاري.
قال: أجل.. وهم لذلك يموتون عطشا.. تموت عقولهم التي هي سر حياتهم.. وسر وجودهم.. وهم يتعذبون قبل موتهم.. لأنه لا لذة بلا عقل.
قلت: هل جئت تحدثني عن العقل.. أم عن الكتاب المقدس؟
قال: عن كليهما.. عن إخضاع العقل للكتاب المقدس؟ أو إخضاع الكتاب المقدس للعقل؟
قلت: الكمال في إخضاع العقل للكتاب المقدس.
قال: أجل.. العقل لا بد أن يخضع لشيء في النهاية.. لأنه مثل مسافر يبحث عن مستقر يستقر فيه.. ويلقي عصا الترحال.
قلت: وذلك المستقر هو الكتاب المقدس.. وحقائق الكتاب المقدس.. وشرائع الكتاب المقدس.
قال: نعم.. لابد من وجود مقدس يخضع له العقل.. ولكن لا بد أن يرضى العقل عن هذا المقدس أولا.. وإلا عاش في عناء.
قلت: كيف ذلك؟
قال: عندما يئوب المسافر إلى مستقره، فإنه يختار دارا صالحة ليعيش فيها طول عمره.. أليس كذلك؟.. أم تراه يكتفي بأي دار.. يعيش فيها، وهو لا يرضى عنها.
قلت: قد يضطر إلى أن يعيش في دار لا يرضى عنها.
قال: وسيتألم بذلك طول عمره.
قلت: وقد يتعود.
قال: أنت تتحدث عن مضطر.. فلماذا لا تنزع الاضطرار، وتلبس ثياب الغنى التي ألبستها.. العقل غني لأنه ممدود بنهر لا يجف.. فلماذا لا يرتضي من السكنى إلا ما يصلح له، ويسعد به؟
قلت: ذلك صحيح.. فمن فتح الله عليه بفتوح المال لن يعيش إلا سعيدا بمستقر صالح.
قال: ومن فتح عليه فتوح العقل كذلك.
قلت: وهل ترى هؤلاء الخلق الكثيرون ضيعوا مفاتيح عقولهم؟
قال: أكثرهم كذلك.. فلا تحزن عليهم..ولنبحث عن مفاتيح عقولنا.. فقد جئت إليك لأجل هذا.
قلت: لم أفهم ما الذي تقصد.
أخرج من محفظته نسخة من الكتاب المقدس، وقال: جئت لنخضع هذا الكتاب لموازين العقل.. لأنه لا يصح أن نسكن عقولنا بيوتا لا ترضاها.
قلت: أتريد أن تنتقد الكتاب المقدس الذي هو وحي وإلهام.
قال: نحن لا ننتقد الوحي والإلهام.. ولكنا نريد أن نبحث عن الحقيقة.. قد يكون كثير مما في هذا الكتاب وحيا أو إلهاما صادقا.. ولكن الكثير منه أيضا قد يكون هرطقات تلبست لباس الوحي.. أو خرافات تزينت بزينة الإلهام.
قلت: فأنت تريد أن تنقي الكتاب المقدس مما يخالف العقل.
قال: وأتقرب إلى الله بذلك.. ألسنا لا نزرع الزرع إلا بعد أن ننقي التربة؟
قلت: أجل..
قال: فكذلك لا يصح أن نعبد الله وفي عقولنا من بذور أشواك الكتاب المقدس ما قد يجرحنا في أي لحظة.
قلت: فكيف ننقي الكتاب المقدس؟.. وهل لديك مشروع لذلك؟
قال: أجل.. وقد جئت لأجله.. وأنا لا أمل من طرحه.
قلت: فما يتضمن هذا المشروع؟
قال: شيئان.. الإيمان والسلوك.. وإن شئت سميتهما العقيدة والشريعة.
قلت: أترى في عقائد الكتاب المقدس وشرائعه ما يخالف العقل؟
قال: فيه ما يخالف العقل، كما أن فيه ما يوافقه.. وسأطرح عليك كلا الأمرين لتميز بين الطيب والخبيث، والحكمة والخرافة.
1 ـ العقيدة
قلت: فلنبدأ بالعقيدة.
قال: لقد رأيت في الكتاب المقدس نصوصا كثيرة تنسجم مع العقل انسجاما تاما، بل تنسجم مع الكون جميعا.. وقد اعتبرتها أصلا في الكتاب المقدس، واعتبرت كل ما خالفها هرطقات زجها الدجالون ليأكلوا بها الخبز.
قلت: فما هي هذه النصوص المحكمة التي هي أم الكتاب المقدس وأصله؟
قال: هي نصوص كثيرة تاه عنها المحرفون، أو كتبوها وهم غافلون.. هي ـ باختصار ـ كل النصوص التي توحد الله وتعظمه وتفرده بالعبادة:
منها ما في (سفر التثنية: 6: 4 ):( الرب إلهنا رب واحد )، وفيه ( 4: 35 ): ( أن الرب هو الإله. ليس آخر سواه )
ومنها ما في (سفر إشعياء: 44: 24 ):( أنا الرب صانع كل شيء ).. وفيه (45: 5 ):( أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي ).. وفيه( 46: 9 ):( لأني أنا الله وليس آخر.الإله وليس مثلي )
ومنها ما في (سفر هوشع: 13: 4 ):( وإلهاً سواي لست تعرف )
ومنها ما في (سفر حبقوق: 1: 12):( ألست أنت منذ الأزل يا ربُّ إلهي قدوسي لا تموت )
ومنها ما في (إنجيل متى: 4: 10 ) من أقوال المسيح:( للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد )، وفيه:( ( 6: 24 ):( لا يقدر أحد أن يخدم سيدين )، وفيه (22: 37 - 38 )من أقوال المسيح:( تحب الرب إلهك من كل قلبك …..هذه هي الوصية الأولى والعظمى )، وفيه (23: 9 ) من أقوال المسيح:( لأن أباكم واحد الذي في السماء ) وفيه (19: 17 )، وفي (إنجيل مرقس: 10: 18) من أقوال المسيح:( ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله )
ومنها ما في (إنجيل مرقس: 12: 29 ) من أقوال المسيح:( إن أول كل الوصايا… الرب إلهنا رب واحد )، وفيه (13: 32 ) من أقوال المسيح:( وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب )
ومنها ما في (إنجيل يوحنا: 1: 18 ):( الله لم يره أحد قط ) وفيه (17: 3 ) من أقوال المسيح:( أنت الإله الحقيقي وحدك ) وغيرها من النصوص المحكمة التي تنسجم مع العقل السليم.
قلت: فما الذي تراه في الكتاب المقدس يخالف العقل من أمور العقيدة؟
قال: نصوص كثيرة تصور الله في صورة حقيرة لا تليق بجلاله، ولا تليق بهذا الكون الذي خلقه.
قلت: ومن الذي أخبرك بأن تلك صورة مشوهة؟.. ألا يمكن أن تكون هي الصورة الحقيقية؟
قال: يستحيل ذلك.. فأحكام العقل والمنطق تحيل على مبدع هذا الكون أن يكون بتلك الصفة المشوهة التي رسمه بها أولئك الكتبة الأغبياء المشعوذون.
لقد ذكر القرآن.. وهو كتاب المسلمين المقدس.. بعض التحريف الذي كان يمارسه الكتبة على صفات الله، فقد نص على أنهم ينسبون لله أوصافا لا تليق بكرمه ولطفه وجلاله.. اسمع لما يقول القرآن:) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ((المائدة: من الآية64)
قلت: فكيف صدقت القرآن.. وكذبت اليهود؟
قال: بالعقل.. العقل دلني على صدق القرآن.. وعلى كذب اليهود.
قلت: فهل رأى عقلك يد ربك المبسوطة؟
قال: أجل.. إن الكرم العظيم الذي وفر على مائدة الأرض لينعم به الكل من الإنسان والحيوان والنبات والجماد، ما نعلمه وما لا نعلمه.. يحيل البخل على صاحب هذا الكون ومبدعه.
قلت: ألا يمكن أن يكون ما نسبه محمد لليهود نوعا من الدعاية ضدهم؟.. لقد كان بينه وبينهم عداوة.
قال: ولكن عداوته لهم، أو عداوتهم له.. لم تخرجه عن الحق.. لقد قرأت كتاب محمد بكل موضوعية وحياد، وعرضته على موازين العقل.. فرأيته ينسجم انسجاما تاما معها.. بل إني استفدت منه فوق ذلك موازين عقلية كبرى.. كانت عندي أدق من الموازين التي ذكرها أرسطو وغيره من الفلاسفة.
إن القرآن ـ يا صاحبي ـ كتاب العقل.. ولا يفهمه إلا صاحب عقل.
ليس هناك كتاب في الدنيا مجد العقل، ودعا لاستعماله كالقرآن.. أقول ذلك مع أني مسيحي.. ولكن مسيحيتي لن تحول بيني وبين الإقرار بالحق لأهله.
اسمع ما يقول القرآن، وهو ينعى المقلدين الذين اكتفوا بما ورثوه عن آبائهم، ولم يعملوا عقولهم:) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ((البقرة:170)
بل إنه يعتبر عدم سلوك سبيل العقل نوعا من العبودية للشياطين، فهو يقول:) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ((لقمان:21)
ولهذا أخبر القرآن أن الحجاب الأكبر بين هؤلاء الذين حجبوا بأسلافهم عن عقولهم واتباع الحق هو عدم استعمال عقولهم.. لقد ورد فيه:) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ((هود:109)
ولهذا يذم القرآن كثيرا من لا يعقلون.. ويقصد بهم من لا يستخدمون عقولهم، فهو يقول:)وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ((المؤمنون:80).. وقد ورد هذا التوبيخ (أفلا تعقلون) في القرآن أكثر من أربع عشرة مرة.
والقرآن يخبر عن الأسف الكبير الذي يقع فيه هؤلاء عندما يكتشفون الأخطاء الكبرى التي وقعوا فيها بسبب حجب عقولهم، فيقول مخبرا عنهم:) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ((الملك:10)
وانطلاقا من هذا نجد الأوامر القرآنية الكثيرة بالتثبت وإعمال العقل قبل الحكم على أي شيء، فهو يقول:) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً((الاسراء:36)، ويقول:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ((الحجرات:6)
وهو يبين أن الغاية من إنزال القرآن هو عرضه على العقل ليستفيد منه، فهو يقول:) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ((الزخرف:3)، ويقول:) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ((يوسف:2)
ويختم آيات الوصايا والأحكام بمثل هذه اللازمة ليدل على أهمية العقل في تعقل الأحكام وفهمها، فهو يقول:) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ((الأنعام:151)
ويقول في فاصلة أحكام أخرى:) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ((النور:61)
وبما أن العلم الصحيح هو ثمرة العقل الصحيح، فقد مجد القرآن العلم، بل دعا إلى البحث عن الله بالعلم، فهو يقول:) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ((محمد: من الآية19)، وهو يعتبر أهل العلم شهودا ودلائل على الله، فيقول:) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ((آل عمران:18).. بل يعتبر الخشية من الله قاصرة على أهل العلم، فيقول في معرض ذكره لآيات الله الكونية:) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ((فاطر: من الآية28).. ولهذا فإن الرفعة والمكانة في الإسلام ليست بمراتب الناس في سلالم الكهنوت، بل بمراتبهم في درجات العلم.. لقد نص القرآن على هذا:) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ((المجادلة: من الآية11)
والقرآن بسبب هذا.. بسبب خضوعه أحكامه للعقل المجرد.. لم يسر شيئا، ولم يكتم شيئا من الحقائق.. بل نهى أن يكتم شيء منه، فهو يقول:) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ((البقرة:159)
ولهذا لا يوجد في الإسلام أسرار.. وبناء على هذا لا يوجد في المسلمين (رجل دين) كما نعرفه عندنا.. بل حقائق الإسلام جميعا يتضمنها القرآن الذي يقرؤه الكل.. الصغار والكبار والنساء والرجال والعامة والخاصة سواء بسواء.
قلت: أراك وقعت في استطراد طويل عما كنا فيه.
قال: لا.. لم أقع في استطراد.. بل كان هذا من صلب ما جئت من أجله.
قلت: حسبتك جئتك لأجل الكتاب المقدس.
قال: نعم.. جئت لأجله.. ولكن الكتاب المقدس الذي يعرض في بلادكم ليس هو الكتاب المقدس الذي ينبغي أن يعرض في بلادنا.
قلت: ما تقول؟
قال: نحن في مجتمع يمجد العقل.. ويخضع جميع أحكامه للعقل، فكيف تريد منا أن نعرض عليهم الكتاب المقدس بما يمتلئ به من خرافات وأساطير.. أتريد أن يرموه في وجوهنا.
قلت: ولكن مجتمعنا كذلك يمجد العقل.. وهل هناك فرق بين المجتمعات في هذا حتى يكون لكل مجتمع كتابه المقدس؟
قال: نعم هناك فرق بين المجتمعات.. بل هناك فروق كبرى في المجتمعات في هذا.
سكت قليلا، ثم قال: أنا لم أقل هذا لأسيء إلى مجتمعاتكم، ولا لأثني على مجتمعاتنا.
فمجتمعاتكم تستعمل العقل.. بل قد تستعمله أكثر من مجتمعاتنا.. ولكنها تستعمله في الرياضيات والفيزياء والتكنولوجيا.. لذلك تفرغ طاقاتها العقلية في هذه المجالات.. فإذا جاءت لشؤون الدين استراح عقلها.. واكتفى بأن يسمع ويقلد ويخضع.
هي تتصور ذلك كمالا.. لأنها تتصور قضايا الدين قضايا ثانوية.
بينما في مجتمعاتنا التي يهيمن عليها الفكر القرآني تعتبر هذه القضايا قضايا أساسية، فلذلك تجادل وتناقش وتبحث.
إن القرآن دعا إلى النظر والاعتبار.. فامتلأت به عقول الناس.. فصاروا يخضعون كل شيء لعقولهم.. بما فيها الدين نفسه:
فالقرآن يقول لهم:) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ((آل عمران:137)
لقد ورد الأمر بالنظر والبحث في مواضع كثيرة من القرآن.. فهو يقول:) فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ((الحشر: من الآية2)، ويقول:) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ((يونس: من الآية101)، ويقول:) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ((البقرة: من الآية219)، ويقول:) قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ((الأنعام: من الآية50)، ويقول:) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ((لأعراف:184)، ويقول:) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ((الروم:8)
لقد ذكر القرآن التفكر في أكثر من سبعة عشر موضعاً.. فكيف تسوي بين مجتمع هذا فكره.. وبين مجتمعكم الذي حجر العقل على المادة وما يرتبط بالمادة.. وترك الدين لرجال الدين ليحتكروه لأنفسهم؟
قلت: أتريد منا إذن أن نغير الكتاب المقدس الخاص بمجتمعاتكم؟
قال: إذا أردتم أن تبقى المسيحية في مجتمعاتنا.. فعدلوا في الكتاب المقدس كما عدله أسلافنا وأسلافكم.
قلت: اذكر لي أمثلة عن هذه التعديلات التي تريد إجراءها.
قال: في العقيدة.. لا زلنا في العقيدة.
قلت: أجل..
قال: سأقرأ عليك نصوصا من الكتاب المقدس لترى هل يمكن أن تظل هذه النصوص نصوصا مقدسة نعتبرها وحيا لله ونتعبد الله بتلاوتها ونشرها.
قلت: اقرأ..
فتح الكتاب المقدس، وراح يقرأ:( لأجل ذلك يا أهوليبة، قال السّيّد الرّب: ها أنذا أهيج عليك عشاقك: ينزعون عنك ثيابك.. ويتركونك عريانة وعارية، فتنكشف عورة زناك ورذيلتك وزناك. تمتلئين سكرًا وحزنًا كأس التّحيّر والخراب.. فتشربينها وتمتصّينها وتقضمين شقفها. وتجتثّين ثدييك لأنّي تكلّمتُ. فهو ذا جاءوا. هم الذين لأجلهم استحممتِ. وكحّلتِ عينيك وتحلّيت بالحليّ. وجلستِ على سرير فاخر.. فقلت عن البالية في الزّنا الآن يزنون زنًا معها )(حزقيا23: 22)
أغلق الكتاب المقدس، وقال: هكذا يتكلم السيد الرب في الكتاب المقدس.. قارن هذا الكلام بما في القرآن.. قارنه بما يتحدث به الله لعباده عندما يقول:) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ((الزمر: من الآية53)
وقارنه بقوله:) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ((البقرة:186)
وقارنه بقوله:)قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ((ابراهيم:31)
وقارنه بقوله:) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ( (العنكبوت:56)
قارن هذه النصوص القرآنية بما ورد مثلها من الكتاب المقدس من خطاب الرب لعباده.. اسمع..
فتح الكتاب المقدس وراح يقرأ من مواضع متفرقة:
اسمع من (عامو 7: 16):( وقال الرّبّ لمصيا: أنت تقول لا تتنبّأ على إسرائيل. لذلك قال الرّبّ: امرأتك تزني في المدينة وبنوك وبناتك يسقطون بالسّيف )
اسمع من (ارميا 8: 10):( قد رفضوا كلمة الرّبّ.. لذلك أعطي نساءهم لآخرين وحقولهم لمالكين. لأنّهم من الصّغير إلى الكبير. كلّ واحد منهم مولع بالرّبح من النَّبيِّ إلى الكاهن )
اسمع من (إشعيا 3: 16):( قال الرّبّ: من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدوات الأعناق وغامزات بعيونهن وخاطرات في مشيهن ويخشخشن بأرجلهن يصلِع السّيّد هامة بنات صهيون ويعرّي الرّبّ عورتهن )
اسمع من (إرميا 13: 22):( لأجل عظمَة إثمِكِ: هُتِكَ ذَيلاكِ وانكشف عقباك.. فسقك وصهيلك ورذالة زناك: فأنّا أرفع ذيليك على وجهك فيُرى خزيك )
اسمع من (ناحوم 3: 4):( من أجل زنا الزّانية الحسنة الجمال صاحبة السّحر البائعة أممًا بزناها وقبائل بسحرها. ها أنذا عليك يقول ربّ الجنود: فأكشف أذيالك إلى فوق وجهك، وأُري الأممَ عورتك )
اسمع من (تثنية 28: 15):( خاطب الرّبّ بني إسرائيل مهدّدًا إيّاهم: أن لم تسمع لصوت الرّب إلهك: تأتي عليك جميع اللعنات وتدركك.. تخطب امرأة، ورجل آخر يضطجع معها )
اسمع من (هوشع 2: 2):( حاكموا أمّكم لأنّها ليست امرأتي وأنا لست رجلها لكي تعزل زناها عن وجهها وفسقها من بين ثدييها لئلا أجرّدها عارية ولا أرحم أولادها لأنّهم أولاد زنا.. والآن أكشف عورتها أمام عيون مُحبّيها )
أغلق الكتاب، وقال: أهذا هو الرب الذي يدل على كل شيء.. أهذا هو الرب الرحيم الودود.. لماذا نفخر على المسلمين بأن ( الله محبة) بينما نحن ننجسه بهذه الهرطقات التي نملأ بها كتابنا المقدس.
سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى العقل يدل على العدل الإلهي، والرحمة الإلهية؟
قلت: بلى..
قال: لكن الكتاب المقدس يخبرنا عن رب عنصري.. رب مختص بإرضاء بني إسرائيل.. أما من عداهم فهم كلاب أبناء كلاب.
اسمع بما يوصينا الرب في الكتاب المقدس:
اسمع ما ورد في (تثنية 23: 19):( لا تقرض أخاك بربا.. للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرّبّ إلهك في كلّ ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها )
واسمع (تثنية 15: 1):( هذا هو حكم الإبراء: يبرى كلّ صاحب دَيْن يده ممّا أقرض صاحبه. لا يطالب صاحبه ولا أخاه. لأنّه قد نودي بإبراء للرّبّ. الأجنبي تُطالب)
واسمع ما جاء في سفر أشعيا (49/22-23) من أن الرب أمر كل أجنبي إذا لقي يهوديا أن يسجد له على الأرض، ويلحس غبار نعليه.. اسمع:( هكذا قال السيد الرب ها اني أرفع إلى الامم يدي و الى الشعوب اقيم رايتي فياتون باولادك في الاحضان و بناتك على الاكتاف يحملن 23 ويكون الملوك حاضنيك وسيداتهم مرضعاتك بالوجوه الى الارض يسجدون لك و يلحسون غبار رجليك فتعلمين اني انا الرب الذي لا يخزي منتظروه )
بل حتى المسيح قوله الكتاب المقدس عن الله وعن عنصرية الله ما لا يرضاه البشر لأنفسهم.. اسمع ما ورد في (متّى 15: 26ف) فَأَجَابَ: ( لَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِجِرَاءِ الْكِلاَبِ )
واسمع ما ورد في (مرقص 7/ 27):( وارْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ، 27وَلكِنَّهُ قَالَ لَهَا: (دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ! فَلَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ)
بينما قرآن المسلمين ينطق بما ينطق به العقل حينما يقول:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ((الحجرات:13).. وعندما يقول:) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً((النساء:123)
بل إن القرآن يأمر بالعدل مع الأعداء.. اسمع هذه الآية التي نفتقد مثلها في كتابنا المقدس:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ((المائدة:8)
بل إن القرآن يتنزل في الدفاع عن يهودي.. لا يزال قومه أعدى أعداء محمد.. اسمع:) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً((النساء:107)
لقد نزلت هذه الآية وما بعدها دفاعا عن يهودي.. فالناس سواسية أمام الله.. العقل يقول هذا.. والقرآن يقول هذا.. ولكن كتابنا المقدس المشحون بالعنصرية الإسرائيلية يخالف هذا.. ليجعل من هذا الكون العريض دائرة محورها ومركزها شعب إسرائيل المدلل.
فتح الكتاب المقدس، وقال: اسمع جمال تعبير الكتاب المقدس حينما يريد أن يعبر عن علم الله:( لأن جهالة الله احكم من الناس. وضعف الله اقوى من الناس )( كورنثوس 1:25 )
بينما يعبر القرآن عن نفس المعنى، فيقول:) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ((الأنعام:59)
ويقول على لسان لقمان، وهو يعظ ابنه:) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ((لقمان:16)
ويعبر عن طلاقة قدرته، فيقول:) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً((فاطر:44)
بينما يقول الكتاب المقدس عن هذا:( وكان الرب مع يهوذا فملك الجبل، ولكن لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد )(القضاة: 1: 19)
فتح الكتاب المقدس، وراح يقرأ:( وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الارض وولد لهم بنات أن ابناء الله رأوا بنات الناس أنهنّ حسنات. فاتّخذوا لانفسهم نساء من كل ما اختاروا. فقال الرب لا يدين روحي في الانسان الى الابد. لزيغانه هو بشر وتكون ايامه مئة وعشرين سنة. كان في الارض طغاة في تلك الايام. وبعد ذلك ايضا اذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم اولادا. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم ورأى الرب ان شر الانسان قد كثر في الارض. وان كل تصور افكار قلبه انما هو شرير كل يوم. فحزن الرب انه عمل الانسان في الارض. وتأسف في قلبه فقال الرب امحو عن وجه الارض الانسان الذي خلقته. الانسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لاني حزنت اني عملتهم وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب)(تكوين: 6/1-8)
التفت إلي، وقال: وبعد أن محا الرب الحياة من على وجه الأرض بالطوفان ـ ماعدا نوح الذي كان من نسل أبناء الله وبنات الله ولم يكن من نسل بنات الناس ـ ندم الرب مرة أخرى، ( وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت )( سفر التكوين: 8 / 20 - 22 )
وحتى لاينسى الله عهده مع نوح بألا يُغرق الأرض مرة أخرى وضع قوسه في السحاب , فعندما يرى المطر هاطلا يضع قوس قزح، فيذكر أنه قد عقد عقدا مع نوح ألا يُغرق الأرض فيكف المطر.. اسمع هذا الخبر العلمي الذي يقوله الكتاب المقدس:( وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم الى أجيال الدهر. وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في السحاب , أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم فلا تكون أيضا المياه طوفانا.. فمتى كان القوس في السحاب أبصرهم لأذكر ميثاقا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض )( سفر التكوين:9/12-17)
لم يندم الله في هذه المرات فقط.. بل له أيام ندم أخرى:
اسمع ما ورد في سفر يونان (5:3-10) عندما نادى أهل نينوى بصوم لعل الله يندم عن حمو غضبه، فلما رأى الله أعمالهم:( ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم )
أو اقرأ ما ورد في سفر العدد:( وقال الرب لموسى: حتى متى يهينني هذا الشعب!! حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة عليّ ).. ولكنه ما إن قدمت له قرابين اللحم المشوي حتى عفا عنهم وأعطاهم كل طلباتهم, وندم على مانوى أن يفعله بهم.. وفوق ذلك كتب ميثاقا جديدا ليعطيهم أرض كنعان.
أو اقرأ ما ورد في سفر صموئيل الأول (: 15: 11-10 ) بعدما جعل الرب شاول ملكا على بني إسرائيل, وفعل شاول جميع الموبقات, ندم الرب أنه جعله ملكا.. اسمع ما جاء في الكتاب المقدس من هذا الاعتراف الإلهي:( وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكا , لأنه لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي. فاغتاظ صموئيل وصرخ إلى الرب الليل كله )
وفيه:( ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته لأن صموئيل ناح على شاول والرب ندم لأنه ملّك شاول على إسرائيل )[1]
أو اقرأ ما ورد في سفر صموئيل الثاني (24: 17- 24 ) من أن الرب غضب على بني إسرائيل، وجعل فيهم وباء، فقتل سبعين ألف رجل.. ولما بسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها:( ندم الرب عن الشر، وقال للملاك المهلل للشعب: كفى , الآن رويدك ).. وتقدم داوود، وقال للرب: ها أنا أخطأت، وأنا أذنب، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا , فلتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي.. وقام داود وصنع اللحم المشوي الذي يحبه الرب جدا وحسُن في عيني الرب ما فعل داود وتنسم نسيم الرضا عن الشعب.
وندم الرب مرة عندما جعل سليمان ملكا , لأن سليمان حسب زعمهم عبد آلهة كثيرة وصنع لها المعابد وقرب لها القرابين ولم يكن مخلصا لله.
أو اقرأ ما ورد في سفر الملوك الأول (: 21 و 22 ):( وقد غضب الرب على آخاب , وأرسل الروح القدس ليضله , ولكن آخاب تواضع للرب فندم الرب على إغوائه آخاب , ثم عاد آخاب وغضب الرب على إبن آخاب بدلا منه , وجعل الشر عليه بدلا من أبيه.. )
أو اقرأ ما ورد في سفر عاموس ( 7: 1-3 ):( نشر الله الجراد في أرض إسرائيل عقوبة لها فكلمه عاموس قائلا: أيها السيد الرب أفصح كيف يقوم يعقوب - إسرائيل - فإنه صغير , فندم الرب على هذا , وعندما غضب الرب على الملك حزقيال وقرر أن يميته , بكى حزقيال وقام وصلى , فندم الرب ورجع عن قراره وزاده خمس عشرة سنة من العمر )( سفر الملوك الثاني 20: 6-1 ).
أو اقرأ ما ورد في (سفر إرميا: 15: 6 ):( أنت تركتني يقول الرب. الى الوراء سرت فامدّ يدي عليك واهلكك. مللت من الندامة )
والعجب كل العجب أن يثبت كل هذا الكلام المدنس بتشويه الرب بمثل هذا الكلام المقدس الذي في سفر العدد (: 23: 19 ):( ليس الله إنسانا فيكذب ولا ابن إنسان فيندم, هل يقول ولا يفعل أو يتكلم ولا يفي )
في اليوم الخامس.. أرسل إلي أخي يطلبني في أمر مهم، فذهبت إليه، فقال: سيأتيك اليوم رجل من حكماء الإسكندرية.. لكأنه وريث فلاسفتها.. هو مسيحي مثلنا تماما، ولكنه صاحب عقل حجب به عن المسيح، وعن الكتاب المقدس.. فلذلك ترى له من الهرطقات ما لا نرتضيه.
قلت: أتريد مني أن أجادله، أو أناقشه لأقنعه؟
قال: لا هذا ولا ذاك.. دعه يتحدث كما يشاء.. لا تجادله، ولا تناقشه، بل إن استطعت أن توفر له ما يدعوه ليفرغ كل ما في عقله من هرطقات فافعل.
قلت: لم خصصت هذا الرجل دون غيره بهذه المعاملة؟
قال: هذا الرجل فيه صفتان.. إن نفرتنا الأولى عنه، فإن الثانية تقربنا منه.
قلت: عرفت الأولى.. فما الثانية؟
قال: هو صاحب مال كثير.. وهو وإن تناولنا بلسانه، فإنه يناولنا بيده ما يغطي جرائم لسانه.. إن كثيرا من طبعات الكتاب المقدس تتم تحت نفقته.. وهو يوزعها بعد ذلك بالمجان.. بل ييسر لنا توزيعها.. إذ يخص بها طبقات مهمة في المجتمع قلما نصل نحن إليها، هي طبقات المتعلمين والجامعيين.
قلت: فليكن ما تريد.. متى يحضر هذا الرجل السخي العاقل؟
قال: بل قل: السخي الهرطقي.. سيحضر اليوم.. وستستقبله في مكتبك.
قلت: ولم لا تستقبله أنت؟
قال: أنت تعرف قلة صبري أمام كل ما يمس المسيح ودين المسيح.
قلت: أجل.. فاترك ذلك لي.
لست أدري كيف شعرت بلذة عظيمة، وأنا أستعد لأسمع من كلام العقل والحكمة ما ينير لي الطريق الذي كان مظلما في عيني.. لم أكن حينها لا في دين المسيح، ولا في دين محمد.. ولكني مع ذلك كنت أشعر أن خيوطا كثيرة بدأت تتجمع لتجذبني إلى دين محمد.
ذهبت إلى مكتبي، ففوجئت بوقوف الرجل أمام بابه ينتظرني، كان ـ بحسب شكله ـ رجلا منشغلا عن نفسه، لا تظهر عليه آثار النعمة التي حدثني عنها أخي.. وكأنه اكتفى بما لديه من حكمة وعقل عن المال الذي يملكه.
رحبت به، وادخلته مكتبي، وقلت مجاملا له: ها قد جاء حكيم الإسكندرية أخيرا لزيارتنا.. وليملأنا شرفا وحكمة.
اكتفى بالابتسامة، وقال: الحكمة لا تختص بالإسكندرية.. والعقل لا يختص بأحد من الناس.. العقل نهر جار ممدود بمنابع لا تجف، ليصل لكل الناس.
قلت: ولكن أكثر الناس يغلقون حنفيات عقولهم ليمتنعوا من الارتواء بهذا النهر الجاري.
قال: أجل.. وهم لذلك يموتون عطشا.. تموت عقولهم التي هي سر حياتهم.. وسر وجودهم.. وهم يتعذبون قبل موتهم.. لأنه لا لذة بلا عقل.
قلت: هل جئت تحدثني عن العقل.. أم عن الكتاب المقدس؟
قال: عن كليهما.. عن إخضاع العقل للكتاب المقدس؟ أو إخضاع الكتاب المقدس للعقل؟
قلت: الكمال في إخضاع العقل للكتاب المقدس.
قال: أجل.. العقل لا بد أن يخضع لشيء في النهاية.. لأنه مثل مسافر يبحث عن مستقر يستقر فيه.. ويلقي عصا الترحال.
قلت: وذلك المستقر هو الكتاب المقدس.. وحقائق الكتاب المقدس.. وشرائع الكتاب المقدس.
قال: نعم.. لابد من وجود مقدس يخضع له العقل.. ولكن لا بد أن يرضى العقل عن هذا المقدس أولا.. وإلا عاش في عناء.
قلت: كيف ذلك؟
قال: عندما يئوب المسافر إلى مستقره، فإنه يختار دارا صالحة ليعيش فيها طول عمره.. أليس كذلك؟.. أم تراه يكتفي بأي دار.. يعيش فيها، وهو لا يرضى عنها.
قلت: قد يضطر إلى أن يعيش في دار لا يرضى عنها.
قال: وسيتألم بذلك طول عمره.
قلت: وقد يتعود.
قال: أنت تتحدث عن مضطر.. فلماذا لا تنزع الاضطرار، وتلبس ثياب الغنى التي ألبستها.. العقل غني لأنه ممدود بنهر لا يجف.. فلماذا لا يرتضي من السكنى إلا ما يصلح له، ويسعد به؟
قلت: ذلك صحيح.. فمن فتح الله عليه بفتوح المال لن يعيش إلا سعيدا بمستقر صالح.
قال: ومن فتح عليه فتوح العقل كذلك.
قلت: وهل ترى هؤلاء الخلق الكثيرون ضيعوا مفاتيح عقولهم؟
قال: أكثرهم كذلك.. فلا تحزن عليهم..ولنبحث عن مفاتيح عقولنا.. فقد جئت إليك لأجل هذا.
قلت: لم أفهم ما الذي تقصد.
أخرج من محفظته نسخة من الكتاب المقدس، وقال: جئت لنخضع هذا الكتاب لموازين العقل.. لأنه لا يصح أن نسكن عقولنا بيوتا لا ترضاها.
قلت: أتريد أن تنتقد الكتاب المقدس الذي هو وحي وإلهام.
قال: نحن لا ننتقد الوحي والإلهام.. ولكنا نريد أن نبحث عن الحقيقة.. قد يكون كثير مما في هذا الكتاب وحيا أو إلهاما صادقا.. ولكن الكثير منه أيضا قد يكون هرطقات تلبست لباس الوحي.. أو خرافات تزينت بزينة الإلهام.
قلت: فأنت تريد أن تنقي الكتاب المقدس مما يخالف العقل.
قال: وأتقرب إلى الله بذلك.. ألسنا لا نزرع الزرع إلا بعد أن ننقي التربة؟
قلت: أجل..
قال: فكذلك لا يصح أن نعبد الله وفي عقولنا من بذور أشواك الكتاب المقدس ما قد يجرحنا في أي لحظة.
قلت: فكيف ننقي الكتاب المقدس؟.. وهل لديك مشروع لذلك؟
قال: أجل.. وقد جئت لأجله.. وأنا لا أمل من طرحه.
قلت: فما يتضمن هذا المشروع؟
قال: شيئان.. الإيمان والسلوك.. وإن شئت سميتهما العقيدة والشريعة.
قلت: أترى في عقائد الكتاب المقدس وشرائعه ما يخالف العقل؟
قال: فيه ما يخالف العقل، كما أن فيه ما يوافقه.. وسأطرح عليك كلا الأمرين لتميز بين الطيب والخبيث، والحكمة والخرافة.
1 ـ العقيدة
قلت: فلنبدأ بالعقيدة.
قال: لقد رأيت في الكتاب المقدس نصوصا كثيرة تنسجم مع العقل انسجاما تاما، بل تنسجم مع الكون جميعا.. وقد اعتبرتها أصلا في الكتاب المقدس، واعتبرت كل ما خالفها هرطقات زجها الدجالون ليأكلوا بها الخبز.
قلت: فما هي هذه النصوص المحكمة التي هي أم الكتاب المقدس وأصله؟
قال: هي نصوص كثيرة تاه عنها المحرفون، أو كتبوها وهم غافلون.. هي ـ باختصار ـ كل النصوص التي توحد الله وتعظمه وتفرده بالعبادة:
منها ما في (سفر التثنية: 6: 4 ):( الرب إلهنا رب واحد )، وفيه ( 4: 35 ): ( أن الرب هو الإله. ليس آخر سواه )
ومنها ما في (سفر إشعياء: 44: 24 ):( أنا الرب صانع كل شيء ).. وفيه (45: 5 ):( أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي ).. وفيه( 46: 9 ):( لأني أنا الله وليس آخر.الإله وليس مثلي )
ومنها ما في (سفر هوشع: 13: 4 ):( وإلهاً سواي لست تعرف )
ومنها ما في (سفر حبقوق: 1: 12):( ألست أنت منذ الأزل يا ربُّ إلهي قدوسي لا تموت )
ومنها ما في (إنجيل متى: 4: 10 ) من أقوال المسيح:( للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد )، وفيه:( ( 6: 24 ):( لا يقدر أحد أن يخدم سيدين )، وفيه (22: 37 - 38 )من أقوال المسيح:( تحب الرب إلهك من كل قلبك …..هذه هي الوصية الأولى والعظمى )، وفيه (23: 9 ) من أقوال المسيح:( لأن أباكم واحد الذي في السماء ) وفيه (19: 17 )، وفي (إنجيل مرقس: 10: 18) من أقوال المسيح:( ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله )
ومنها ما في (إنجيل مرقس: 12: 29 ) من أقوال المسيح:( إن أول كل الوصايا… الرب إلهنا رب واحد )، وفيه (13: 32 ) من أقوال المسيح:( وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب )
ومنها ما في (إنجيل يوحنا: 1: 18 ):( الله لم يره أحد قط ) وفيه (17: 3 ) من أقوال المسيح:( أنت الإله الحقيقي وحدك ) وغيرها من النصوص المحكمة التي تنسجم مع العقل السليم.
قلت: فما الذي تراه في الكتاب المقدس يخالف العقل من أمور العقيدة؟
قال: نصوص كثيرة تصور الله في صورة حقيرة لا تليق بجلاله، ولا تليق بهذا الكون الذي خلقه.
قلت: ومن الذي أخبرك بأن تلك صورة مشوهة؟.. ألا يمكن أن تكون هي الصورة الحقيقية؟
قال: يستحيل ذلك.. فأحكام العقل والمنطق تحيل على مبدع هذا الكون أن يكون بتلك الصفة المشوهة التي رسمه بها أولئك الكتبة الأغبياء المشعوذون.
لقد ذكر القرآن.. وهو كتاب المسلمين المقدس.. بعض التحريف الذي كان يمارسه الكتبة على صفات الله، فقد نص على أنهم ينسبون لله أوصافا لا تليق بكرمه ولطفه وجلاله.. اسمع لما يقول القرآن:) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ((المائدة: من الآية64)
قلت: فكيف صدقت القرآن.. وكذبت اليهود؟
قال: بالعقل.. العقل دلني على صدق القرآن.. وعلى كذب اليهود.
قلت: فهل رأى عقلك يد ربك المبسوطة؟
قال: أجل.. إن الكرم العظيم الذي وفر على مائدة الأرض لينعم به الكل من الإنسان والحيوان والنبات والجماد، ما نعلمه وما لا نعلمه.. يحيل البخل على صاحب هذا الكون ومبدعه.
قلت: ألا يمكن أن يكون ما نسبه محمد لليهود نوعا من الدعاية ضدهم؟.. لقد كان بينه وبينهم عداوة.
قال: ولكن عداوته لهم، أو عداوتهم له.. لم تخرجه عن الحق.. لقد قرأت كتاب محمد بكل موضوعية وحياد، وعرضته على موازين العقل.. فرأيته ينسجم انسجاما تاما معها.. بل إني استفدت منه فوق ذلك موازين عقلية كبرى.. كانت عندي أدق من الموازين التي ذكرها أرسطو وغيره من الفلاسفة.
إن القرآن ـ يا صاحبي ـ كتاب العقل.. ولا يفهمه إلا صاحب عقل.
ليس هناك كتاب في الدنيا مجد العقل، ودعا لاستعماله كالقرآن.. أقول ذلك مع أني مسيحي.. ولكن مسيحيتي لن تحول بيني وبين الإقرار بالحق لأهله.
اسمع ما يقول القرآن، وهو ينعى المقلدين الذين اكتفوا بما ورثوه عن آبائهم، ولم يعملوا عقولهم:) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ((البقرة:170)
بل إنه يعتبر عدم سلوك سبيل العقل نوعا من العبودية للشياطين، فهو يقول:) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ((لقمان:21)
ولهذا أخبر القرآن أن الحجاب الأكبر بين هؤلاء الذين حجبوا بأسلافهم عن عقولهم واتباع الحق هو عدم استعمال عقولهم.. لقد ورد فيه:) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ((هود:109)
ولهذا يذم القرآن كثيرا من لا يعقلون.. ويقصد بهم من لا يستخدمون عقولهم، فهو يقول:)وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ((المؤمنون:80).. وقد ورد هذا التوبيخ (أفلا تعقلون) في القرآن أكثر من أربع عشرة مرة.
والقرآن يخبر عن الأسف الكبير الذي يقع فيه هؤلاء عندما يكتشفون الأخطاء الكبرى التي وقعوا فيها بسبب حجب عقولهم، فيقول مخبرا عنهم:) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ((الملك:10)
وانطلاقا من هذا نجد الأوامر القرآنية الكثيرة بالتثبت وإعمال العقل قبل الحكم على أي شيء، فهو يقول:) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً((الاسراء:36)، ويقول:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ((الحجرات:6)
وهو يبين أن الغاية من إنزال القرآن هو عرضه على العقل ليستفيد منه، فهو يقول:) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ((الزخرف:3)، ويقول:) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ((يوسف:2)
ويختم آيات الوصايا والأحكام بمثل هذه اللازمة ليدل على أهمية العقل في تعقل الأحكام وفهمها، فهو يقول:) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ((الأنعام:151)
ويقول في فاصلة أحكام أخرى:) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ((النور:61)
وبما أن العلم الصحيح هو ثمرة العقل الصحيح، فقد مجد القرآن العلم، بل دعا إلى البحث عن الله بالعلم، فهو يقول:) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ((محمد: من الآية19)، وهو يعتبر أهل العلم شهودا ودلائل على الله، فيقول:) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ((آل عمران:18).. بل يعتبر الخشية من الله قاصرة على أهل العلم، فيقول في معرض ذكره لآيات الله الكونية:) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ((فاطر: من الآية28).. ولهذا فإن الرفعة والمكانة في الإسلام ليست بمراتب الناس في سلالم الكهنوت، بل بمراتبهم في درجات العلم.. لقد نص القرآن على هذا:) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ((المجادلة: من الآية11)
والقرآن بسبب هذا.. بسبب خضوعه أحكامه للعقل المجرد.. لم يسر شيئا، ولم يكتم شيئا من الحقائق.. بل نهى أن يكتم شيء منه، فهو يقول:) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ((البقرة:159)
ولهذا لا يوجد في الإسلام أسرار.. وبناء على هذا لا يوجد في المسلمين (رجل دين) كما نعرفه عندنا.. بل حقائق الإسلام جميعا يتضمنها القرآن الذي يقرؤه الكل.. الصغار والكبار والنساء والرجال والعامة والخاصة سواء بسواء.
قلت: أراك وقعت في استطراد طويل عما كنا فيه.
قال: لا.. لم أقع في استطراد.. بل كان هذا من صلب ما جئت من أجله.
قلت: حسبتك جئتك لأجل الكتاب المقدس.
قال: نعم.. جئت لأجله.. ولكن الكتاب المقدس الذي يعرض في بلادكم ليس هو الكتاب المقدس الذي ينبغي أن يعرض في بلادنا.
قلت: ما تقول؟
قال: نحن في مجتمع يمجد العقل.. ويخضع جميع أحكامه للعقل، فكيف تريد منا أن نعرض عليهم الكتاب المقدس بما يمتلئ به من خرافات وأساطير.. أتريد أن يرموه في وجوهنا.
قلت: ولكن مجتمعنا كذلك يمجد العقل.. وهل هناك فرق بين المجتمعات في هذا حتى يكون لكل مجتمع كتابه المقدس؟
قال: نعم هناك فرق بين المجتمعات.. بل هناك فروق كبرى في المجتمعات في هذا.
سكت قليلا، ثم قال: أنا لم أقل هذا لأسيء إلى مجتمعاتكم، ولا لأثني على مجتمعاتنا.
فمجتمعاتكم تستعمل العقل.. بل قد تستعمله أكثر من مجتمعاتنا.. ولكنها تستعمله في الرياضيات والفيزياء والتكنولوجيا.. لذلك تفرغ طاقاتها العقلية في هذه المجالات.. فإذا جاءت لشؤون الدين استراح عقلها.. واكتفى بأن يسمع ويقلد ويخضع.
هي تتصور ذلك كمالا.. لأنها تتصور قضايا الدين قضايا ثانوية.
بينما في مجتمعاتنا التي يهيمن عليها الفكر القرآني تعتبر هذه القضايا قضايا أساسية، فلذلك تجادل وتناقش وتبحث.
إن القرآن دعا إلى النظر والاعتبار.. فامتلأت به عقول الناس.. فصاروا يخضعون كل شيء لعقولهم.. بما فيها الدين نفسه:
فالقرآن يقول لهم:) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ((آل عمران:137)
لقد ورد الأمر بالنظر والبحث في مواضع كثيرة من القرآن.. فهو يقول:) فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ((الحشر: من الآية2)، ويقول:) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ((يونس: من الآية101)، ويقول:) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ((البقرة: من الآية219)، ويقول:) قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ((الأنعام: من الآية50)، ويقول:) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ((لأعراف:184)، ويقول:) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ((الروم:8)
لقد ذكر القرآن التفكر في أكثر من سبعة عشر موضعاً.. فكيف تسوي بين مجتمع هذا فكره.. وبين مجتمعكم الذي حجر العقل على المادة وما يرتبط بالمادة.. وترك الدين لرجال الدين ليحتكروه لأنفسهم؟
قلت: أتريد منا إذن أن نغير الكتاب المقدس الخاص بمجتمعاتكم؟
قال: إذا أردتم أن تبقى المسيحية في مجتمعاتنا.. فعدلوا في الكتاب المقدس كما عدله أسلافنا وأسلافكم.
قلت: اذكر لي أمثلة عن هذه التعديلات التي تريد إجراءها.
قال: في العقيدة.. لا زلنا في العقيدة.
قلت: أجل..
قال: سأقرأ عليك نصوصا من الكتاب المقدس لترى هل يمكن أن تظل هذه النصوص نصوصا مقدسة نعتبرها وحيا لله ونتعبد الله بتلاوتها ونشرها.
قلت: اقرأ..
فتح الكتاب المقدس، وراح يقرأ:( لأجل ذلك يا أهوليبة، قال السّيّد الرّب: ها أنذا أهيج عليك عشاقك: ينزعون عنك ثيابك.. ويتركونك عريانة وعارية، فتنكشف عورة زناك ورذيلتك وزناك. تمتلئين سكرًا وحزنًا كأس التّحيّر والخراب.. فتشربينها وتمتصّينها وتقضمين شقفها. وتجتثّين ثدييك لأنّي تكلّمتُ. فهو ذا جاءوا. هم الذين لأجلهم استحممتِ. وكحّلتِ عينيك وتحلّيت بالحليّ. وجلستِ على سرير فاخر.. فقلت عن البالية في الزّنا الآن يزنون زنًا معها )(حزقيا23: 22)
أغلق الكتاب المقدس، وقال: هكذا يتكلم السيد الرب في الكتاب المقدس.. قارن هذا الكلام بما في القرآن.. قارنه بما يتحدث به الله لعباده عندما يقول:) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ((الزمر: من الآية53)
وقارنه بقوله:) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ((البقرة:186)
وقارنه بقوله:)قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ((ابراهيم:31)
وقارنه بقوله:) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ( (العنكبوت:56)
قارن هذه النصوص القرآنية بما ورد مثلها من الكتاب المقدس من خطاب الرب لعباده.. اسمع..
فتح الكتاب المقدس وراح يقرأ من مواضع متفرقة:
اسمع من (عامو 7: 16):( وقال الرّبّ لمصيا: أنت تقول لا تتنبّأ على إسرائيل. لذلك قال الرّبّ: امرأتك تزني في المدينة وبنوك وبناتك يسقطون بالسّيف )
اسمع من (ارميا 8: 10):( قد رفضوا كلمة الرّبّ.. لذلك أعطي نساءهم لآخرين وحقولهم لمالكين. لأنّهم من الصّغير إلى الكبير. كلّ واحد منهم مولع بالرّبح من النَّبيِّ إلى الكاهن )
اسمع من (إشعيا 3: 16):( قال الرّبّ: من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدوات الأعناق وغامزات بعيونهن وخاطرات في مشيهن ويخشخشن بأرجلهن يصلِع السّيّد هامة بنات صهيون ويعرّي الرّبّ عورتهن )
اسمع من (إرميا 13: 22):( لأجل عظمَة إثمِكِ: هُتِكَ ذَيلاكِ وانكشف عقباك.. فسقك وصهيلك ورذالة زناك: فأنّا أرفع ذيليك على وجهك فيُرى خزيك )
اسمع من (ناحوم 3: 4):( من أجل زنا الزّانية الحسنة الجمال صاحبة السّحر البائعة أممًا بزناها وقبائل بسحرها. ها أنذا عليك يقول ربّ الجنود: فأكشف أذيالك إلى فوق وجهك، وأُري الأممَ عورتك )
اسمع من (تثنية 28: 15):( خاطب الرّبّ بني إسرائيل مهدّدًا إيّاهم: أن لم تسمع لصوت الرّب إلهك: تأتي عليك جميع اللعنات وتدركك.. تخطب امرأة، ورجل آخر يضطجع معها )
اسمع من (هوشع 2: 2):( حاكموا أمّكم لأنّها ليست امرأتي وأنا لست رجلها لكي تعزل زناها عن وجهها وفسقها من بين ثدييها لئلا أجرّدها عارية ولا أرحم أولادها لأنّهم أولاد زنا.. والآن أكشف عورتها أمام عيون مُحبّيها )
أغلق الكتاب، وقال: أهذا هو الرب الذي يدل على كل شيء.. أهذا هو الرب الرحيم الودود.. لماذا نفخر على المسلمين بأن ( الله محبة) بينما نحن ننجسه بهذه الهرطقات التي نملأ بها كتابنا المقدس.
سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى العقل يدل على العدل الإلهي، والرحمة الإلهية؟
قلت: بلى..
قال: لكن الكتاب المقدس يخبرنا عن رب عنصري.. رب مختص بإرضاء بني إسرائيل.. أما من عداهم فهم كلاب أبناء كلاب.
اسمع بما يوصينا الرب في الكتاب المقدس:
اسمع ما ورد في (تثنية 23: 19):( لا تقرض أخاك بربا.. للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرّبّ إلهك في كلّ ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها )
واسمع (تثنية 15: 1):( هذا هو حكم الإبراء: يبرى كلّ صاحب دَيْن يده ممّا أقرض صاحبه. لا يطالب صاحبه ولا أخاه. لأنّه قد نودي بإبراء للرّبّ. الأجنبي تُطالب)
واسمع ما جاء في سفر أشعيا (49/22-23) من أن الرب أمر كل أجنبي إذا لقي يهوديا أن يسجد له على الأرض، ويلحس غبار نعليه.. اسمع:( هكذا قال السيد الرب ها اني أرفع إلى الامم يدي و الى الشعوب اقيم رايتي فياتون باولادك في الاحضان و بناتك على الاكتاف يحملن 23 ويكون الملوك حاضنيك وسيداتهم مرضعاتك بالوجوه الى الارض يسجدون لك و يلحسون غبار رجليك فتعلمين اني انا الرب الذي لا يخزي منتظروه )
بل حتى المسيح قوله الكتاب المقدس عن الله وعن عنصرية الله ما لا يرضاه البشر لأنفسهم.. اسمع ما ورد في (متّى 15: 26ف) فَأَجَابَ: ( لَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِجِرَاءِ الْكِلاَبِ )
واسمع ما ورد في (مرقص 7/ 27):( وارْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ، 27وَلكِنَّهُ قَالَ لَهَا: (دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ! فَلَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ)
بينما قرآن المسلمين ينطق بما ينطق به العقل حينما يقول:) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ((الحجرات:13).. وعندما يقول:) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً((النساء:123)
بل إن القرآن يأمر بالعدل مع الأعداء.. اسمع هذه الآية التي نفتقد مثلها في كتابنا المقدس:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ((المائدة:8)
بل إن القرآن يتنزل في الدفاع عن يهودي.. لا يزال قومه أعدى أعداء محمد.. اسمع:) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً((النساء:107)
لقد نزلت هذه الآية وما بعدها دفاعا عن يهودي.. فالناس سواسية أمام الله.. العقل يقول هذا.. والقرآن يقول هذا.. ولكن كتابنا المقدس المشحون بالعنصرية الإسرائيلية يخالف هذا.. ليجعل من هذا الكون العريض دائرة محورها ومركزها شعب إسرائيل المدلل.
فتح الكتاب المقدس، وقال: اسمع جمال تعبير الكتاب المقدس حينما يريد أن يعبر عن علم الله:( لأن جهالة الله احكم من الناس. وضعف الله اقوى من الناس )( كورنثوس 1:25 )
بينما يعبر القرآن عن نفس المعنى، فيقول:) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ((الأنعام:59)
ويقول على لسان لقمان، وهو يعظ ابنه:) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ((لقمان:16)
ويعبر عن طلاقة قدرته، فيقول:) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً((فاطر:44)
بينما يقول الكتاب المقدس عن هذا:( وكان الرب مع يهوذا فملك الجبل، ولكن لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد )(القضاة: 1: 19)
فتح الكتاب المقدس، وراح يقرأ:( وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الارض وولد لهم بنات أن ابناء الله رأوا بنات الناس أنهنّ حسنات. فاتّخذوا لانفسهم نساء من كل ما اختاروا. فقال الرب لا يدين روحي في الانسان الى الابد. لزيغانه هو بشر وتكون ايامه مئة وعشرين سنة. كان في الارض طغاة في تلك الايام. وبعد ذلك ايضا اذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم اولادا. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم ورأى الرب ان شر الانسان قد كثر في الارض. وان كل تصور افكار قلبه انما هو شرير كل يوم. فحزن الرب انه عمل الانسان في الارض. وتأسف في قلبه فقال الرب امحو عن وجه الارض الانسان الذي خلقته. الانسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لاني حزنت اني عملتهم وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب)(تكوين: 6/1-8)
التفت إلي، وقال: وبعد أن محا الرب الحياة من على وجه الأرض بالطوفان ـ ماعدا نوح الذي كان من نسل أبناء الله وبنات الله ولم يكن من نسل بنات الناس ـ ندم الرب مرة أخرى، ( وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت )( سفر التكوين: 8 / 20 - 22 )
وحتى لاينسى الله عهده مع نوح بألا يُغرق الأرض مرة أخرى وضع قوسه في السحاب , فعندما يرى المطر هاطلا يضع قوس قزح، فيذكر أنه قد عقد عقدا مع نوح ألا يُغرق الأرض فيكف المطر.. اسمع هذا الخبر العلمي الذي يقوله الكتاب المقدس:( وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم الى أجيال الدهر. وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في السحاب , أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم فلا تكون أيضا المياه طوفانا.. فمتى كان القوس في السحاب أبصرهم لأذكر ميثاقا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض )( سفر التكوين:9/12-17)
لم يندم الله في هذه المرات فقط.. بل له أيام ندم أخرى:
اسمع ما ورد في سفر يونان (5:3-10) عندما نادى أهل نينوى بصوم لعل الله يندم عن حمو غضبه، فلما رأى الله أعمالهم:( ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم )
أو اقرأ ما ورد في سفر العدد:( وقال الرب لموسى: حتى متى يهينني هذا الشعب!! حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة عليّ ).. ولكنه ما إن قدمت له قرابين اللحم المشوي حتى عفا عنهم وأعطاهم كل طلباتهم, وندم على مانوى أن يفعله بهم.. وفوق ذلك كتب ميثاقا جديدا ليعطيهم أرض كنعان.
أو اقرأ ما ورد في سفر صموئيل الأول (: 15: 11-10 ) بعدما جعل الرب شاول ملكا على بني إسرائيل, وفعل شاول جميع الموبقات, ندم الرب أنه جعله ملكا.. اسمع ما جاء في الكتاب المقدس من هذا الاعتراف الإلهي:( وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكا , لأنه لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي. فاغتاظ صموئيل وصرخ إلى الرب الليل كله )
وفيه:( ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته لأن صموئيل ناح على شاول والرب ندم لأنه ملّك شاول على إسرائيل )[1]
أو اقرأ ما ورد في سفر صموئيل الثاني (24: 17- 24 ) من أن الرب غضب على بني إسرائيل، وجعل فيهم وباء، فقتل سبعين ألف رجل.. ولما بسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها:( ندم الرب عن الشر، وقال للملاك المهلل للشعب: كفى , الآن رويدك ).. وتقدم داوود، وقال للرب: ها أنا أخطأت، وأنا أذنب، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا , فلتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي.. وقام داود وصنع اللحم المشوي الذي يحبه الرب جدا وحسُن في عيني الرب ما فعل داود وتنسم نسيم الرضا عن الشعب.
وندم الرب مرة عندما جعل سليمان ملكا , لأن سليمان حسب زعمهم عبد آلهة كثيرة وصنع لها المعابد وقرب لها القرابين ولم يكن مخلصا لله.
أو اقرأ ما ورد في سفر الملوك الأول (: 21 و 22 ):( وقد غضب الرب على آخاب , وأرسل الروح القدس ليضله , ولكن آخاب تواضع للرب فندم الرب على إغوائه آخاب , ثم عاد آخاب وغضب الرب على إبن آخاب بدلا منه , وجعل الشر عليه بدلا من أبيه.. )
أو اقرأ ما ورد في سفر عاموس ( 7: 1-3 ):( نشر الله الجراد في أرض إسرائيل عقوبة لها فكلمه عاموس قائلا: أيها السيد الرب أفصح كيف يقوم يعقوب - إسرائيل - فإنه صغير , فندم الرب على هذا , وعندما غضب الرب على الملك حزقيال وقرر أن يميته , بكى حزقيال وقام وصلى , فندم الرب ورجع عن قراره وزاده خمس عشرة سنة من العمر )( سفر الملوك الثاني 20: 6-1 ).
أو اقرأ ما ورد في (سفر إرميا: 15: 6 ):( أنت تركتني يقول الرب. الى الوراء سرت فامدّ يدي عليك واهلكك. مللت من الندامة )
والعجب كل العجب أن يثبت كل هذا الكلام المدنس بتشويه الرب بمثل هذا الكلام المقدس الذي في سفر العدد (: 23: 19 ):( ليس الله إنسانا فيكذب ولا ابن إنسان فيندم, هل يقول ولا يفعل أو يتكلم ولا يفي )
عدل سابقا من قبل Admin في 1/6/2021, 15:24 عدل 1 مرات
اليوم في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
اليوم في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin