عاشرا ـ الجمال
في اليوم العاشر من رحلتي إلى الإسكندرية، جاءتني رسالة مستعجلة من كنيستنا في ألمانيا تطلب مني الحضور السريع.. دهشت لهذه الرسالة، ولهذا الاستعجال الذي لم أتعوده منها.
حزمت أمتعتي، وودعت أخي الذي واصل مكوثه في الإسكندرية لإكمال ما أوكل إلينا من مهام..
بحثت عن سيارة توصلني إلى القاهرة، لأمتطي الطائرة التي تعود بي إلى بلدي، فلم أجد.. لم أعرف السبب حينها، ولكني عرفت بعد ذلك أن الله أراد أن لا أجد أي سيارة، لأتعرض لشعاع جديد من أشعة محمد، ولأتعرف على السور الأخير من أسوار الكلمات المقدسة..
اقترب مني أحد العمال في مطبعتنا، وقال: أراك مستعجلا.. إلى أين تريد الذهاب؟
قلت: إلى القاهرة.. لقد جاءتني رسالة مستعجلة، ولا بد أن أكون مساء هذا اليوم في القاهرة لأرحل غدا باكرا إلى بلدي.
قال: لدي حل إن كنت تقبله.
قلت: وما هو؟
قال: لدينا شاحنة تذهب كل أسبوع إلى القاهرة لتحمل نسخا من الكتاب المقدس إلى كنائسنا ومكتباتنا هناك.. وهي ستسير الآن.. فإن كان ذلك لا يضيرك، فتعال لتركب فيها، فتتشرف الشاحنة، ويتشرف صاحبها بصحبتك.
قلت: شكرا على هذا العرض الطيب.. بل الشرف لي أن أركب شاحنة تحمل نسخ الكتاب المقدس.
قال: فهيا إذن..
سرت معه إلى الشاحنة، وجلست في المقعد أمام السائق، وانتظرت برهة، فإذا بالعامل نفسه يجلس في كرسي السائق، قلت: أنت هو السائق إذن؟
قال: أجل.. لقد كنت أراك دائما.. وكان لي شوق أن أجلس معك، وقد أتاح الله لي هذه الفرصة لتسير معي كل هذه المسافة.
قلت: ما اسمك؟
قال: لويس بشارة..
قلت: أنت مسيحي إذن؟
قال: لا شك في ذلك.. كيف أكون عاملا في مطبعة الكتاب المقدس، ثم لا أكون مسيحيا؟
قلت: لا أقصد بالمسيحية الانتماء.. بل أقصد الدين.. هل أنت متدين؟
قال: أجل.. أنا ملتزم بكل شعائر الكنيسة وطقوسها، ولولا ذلك ما اشتقت للجلوس إليك.
قلت: شكرا على هذه المجاملة.. ولكني متعب.. ولدي سفر طويل.. ولهذا ـ ربما ـ لا أستطيع أن أرضيك بما تشتهي من مواعظ.
قال: لا بأس.. يشرفني أن تجلس معي فقط.. فقد تتحادث الأرواح بما لا تتحادث به الأجساد.
أعجبت بقوله هذا.. ثم سرنا برهة لا يحدث بعضنا بعضا.. رأى في وجهي بعض الضيق، فقال: لعلك تريد أن تسمع شيئا.. لدي أشرطة كثيرة.. ما الذي تريد أن تسمع منها؟
قلت: ما تقصد؟
قال: الموسيقى.. ألست تحب الموسيقى؟
قلت: أجل.. ولكني أحب سماع الصوت البشري الممتلئ بالإيمان.. فهو أحب إلى نفسي من تلك الأجراس التي تدقها الموسيقى.. خاصة موسيقى هذه الأيام.
قال: أنت مثلي إذن.. فأنا لا أحب إلا سماع الأصوات التي أشعر بصدقها.. إنني أحلق معها في عوالم الجمال التي لا يطيق لساني التعبير عنها.
قلت: وهل لك أشرطة تحوي مثل هذه الأصوات؟
سكت قليلا، ثم قال: أجل.. ولكني أخاف منك أن تغضب إن علمت بوجودها عندي.
قلت: ما تقصد؟
قال: أنا أخفي هذه الأشرطة عن أعين زملائي خشية أن تصل أخبارها إلى مسؤول المطبعة، فيعاقبني، وقد يطردني.
قلت: ما تقول؟.. أتحمل ممنوعات في هذه الشاحنة؟.. ألست تحمل الكتاب المقدس؟
قال: أجل.. أنا أحمل الكتاب المقدس.. ولكني ـ لطول الطريق ـ أستمع إلى بعض الأشرطة التي تيسر علي قطع الطريق.
قلت: ومن يمنعك من سماعها؟
قال: أتأذن لي في سماعها؟
قلت: لا حرج عليك.. بل لعلني سأتمتع بها كما تتمتع بها أنت أيضا.
أوقف الشاحنة، ثم فتح حقيبته، وأخرج أشرطة محفوظة بعناية كما تحفظ الممنوعات، ثم قال: أنا أغامر الآن بسماع هذه الأشرطة أمامك، فأرجو أن يبقى هذا سرا بيني وبينك.
قلت: لا بأس.
وضع الشريط على القارئ، وبقيت منتظرا بلهفة سماع هذه الأشرطة التي ملأته بالأشواق والمخاوف، فإذا بي أفاجأ بالقرآن الكريم يقرأ بصوت عذب.. مملوء بالإيمان.
لقد شعرت حينها بقشعريرة لذيذة تسري في جسدي، فتملؤني بمشاعر لا أستطيع وصفها.
إلتفت إلى صاحبي، فإذا بدموعه تكاد تفيض، قلت: أهذا قرآن محمد؟
قال: أجل.. فاستر ذلك علي.
قلت: ولم تضع قرآن محمد.. وأنت تحمل الكتاب المقدس؟
قال: لقد ذكرت لك أني أشعر عند سماعه بمتعة لا تدانيها متعة، وبلذة لا تدانيها لذة.
قلت: فكيف اخترته من بين كل الأصوات الجميلة التي تنبعث من حناجر العالم؟
قال: لست أدري متى بدأ ذلك.. وكيف بدأ.. ولكني كلما سمعت القرآن يتلى كلما امتلأت بهذه المشاعر اللذيذة.. أتدري؟
قلت: ماذا؟
قال: أنا أصاحب باعة الأشرطة لسبب واحد هو سماع تلك الأصوات الجميلة التي تنبعث من حناجر قارئي القرآن.
خطرت على بالي فكرة وضع تراتيل للكتب المقدس تضارع تراتيل القرآن، فرحت أسارع بطرحها عليه، قلت: أتدري.. لقد جعلني كلامك هذا أفكر في وسيلة مهمة قد تجذب ملايين المسلمين إلى المسيحية، وفي نفس الوقت ترضي نهم المسيحيين إلى هذا الجمال الذي يتمتع به قرآن محمد.
قال: أعلم تلك الفكرة.. لقد خطرت على بالي منذ سنوات.. بل رحت أحاول تنفيذها.. لكني لم أزد طين كتابنا المقدس إلا بلة.
قلت: اسمع الفكرة أولا.. ثم ناقشها.
قال: ولماذا أسمعها منك.. وقد سمعتها من نفسي منذ سنوات؟
قلت: أي فكرة تقصد؟
قال: أنت تبحث عن وضع تراتيل للكتاب المقدس تشبه تراتيل المسلمين.. أهذه هي فكرتك؟
قلت: أجل.. فما الذي يحول بيننا وبين تنفيذها؟.. أم أنك ترى بأن المسلمين سيخرجون إلى الشوارع في انتفاضة عارمة؟
قال: لا أقصد هذا.. حتى لو خرجوا.. فما عساهم يفعلوا؟.. إنهم سرعان ما يتأقلمون وينسون.. ولكن أخشى أن توضع هذه التراتيل في المسرحيات الكوميدية لتملأ أفواه الناس بالضحك، لا قلوبهم بالخشوع.
قلت: ما تقول؟
قال: إن المرتل لقرآن المسلمين يبدأ القرآن من أوله إلى آخره.. فلا يزيد سامعيه إلا خشوعا[1]..
قلت: فليبدأ القارئ تراتيله للكتاب المقدس من أوله إلى آخره..
قال: سأسلم لك.. بل سأطبق هذا أمامك، فقد وهبني الله صوتا لا يقل عن صوت هؤلاء القراء.. بالإضافة إلى أني أملك قدرة على التقليد لا تضاهى.. ولذلك سأقلد القارئ المعروف (عبد الباسط عبد الصمد) في قراءته للسور القصار.
فاختر أي جزء من الكتاب المقدس أقرؤه عليك.
قلت: اقرأ ما تشاء.
قال: أنا أحفظ إنجيل متى عن ظهر قلب.. ولذلك سأقرؤه عليك من أوله.
بدأ القراءة، لقد كان صاحب صوت جميل جدا.. بدأ إنجيل متى من أوله:( كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم. ابراهيم ولد اسحق. واسحق ولد يعقوب. ويعقوب ولد يهوذا واخوته. ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار. وفارص ولد حصرون. وحصرون ولد ارام. وارام ولد عميناداب. وعميناداب ولد نحشون. ونحشون ولد سلمون. وسلمون ولد بوعز من راحاب. وبوعز ولد عوبيد من راعوث. وعوبيد ولد يسى. ويسى ولد داود الملك. وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا وسليمان ولد رحبعام. ورحبعام ولد ابيا. وابيا ولد آسا. )(متى: 1/1ـ 7)
تركته يقرأ إلى أن وصل إلى قوله:( فجميع الاجيال من ابراهيم الى داود اربعة عشر جيلا. ومن داود الى سبي بابل اربعة عشر جيلا. ومن سبي بابل الى المسيح اربعة عشر جيلا )(متى: 1/17)
لست أدري كيف لم أملك نفسي من الضحك.. لقد ضحكت كما لم أضحك في حياتي، التفت إلي، وقال: ألم أقل لك: إن اقتراحك يصلح لإضحاك الناس لا لإبكائهم.
بعد أن عادت إلي نفسي، اصطنعت الجد، وقلت: أجل.. كلامك صحيح.. ولكن ما السر في اختلاف كتاب المسلمين عن كتابنا في هذه الناحية؟
قال: لقد بحثت في ذلك..
قلت: فما وجدت؟
قال: أربعة أسباب.
قلت: فما هي؟.. عسانا نوفرها لكتابنا المقدس.
قال: ذلك محال.. لقد جربت كل الوسائل.. وكانت النتيجة لا تختلف عن تلك الضحكات التي أرسلتها.. إن تلك المعاني الأربع لم تتحقق إلا في كتاب محمد.
قلت: فما هي؟
قال: التعبير الفني، والتصوير الفني، والنظم الفني، والنغم الفني.
1 ـ التعبير الفني
قلت: فما تريد بالتعبير الفني؟
قال: بإمكانك أن تقارن القرآن بأي كتاب في الدنيا، فستجد فيه من عذوبة التعبير وجماله ما يقصر دونه كل كلام.
قلت: وما أدراك أنت باللغة وشؤون البلاغة فيها.. لو كنت شاعرا قبلت قولك، ولو كنت خطيبا ربما وثقت بحكمك.. لكنك لست سوى سائق؟
قال: أجل.. أنا لست سوى سائق.. ولكني مع ذلك أتذوق الكلام، كما أتذوق الطعام.. إن للكلام الطيب حلاوة لا تحوجنا إلى مختصين ينوبون عنا في تذوقها.
ومع ذلك.. فقد عرفت أن القرآن تحدى أهل عصره بمن فيهم من البلغاء والفصحاء، فلم يملكوا إلا أن يقروا بما لم تقبله مني.
لقد استقل العرب في البدء من شأن القرآن، فراحو يقولون:) لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ((لأنفال: من الآية31)، وقالوا:) إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ( (النحل: من الآية103)) وقالوا:) مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ((الأنعام: من الآية91)
لكنهم سرعان ما تراجعوا عن هذه الأحكام المستعجلة التي أفرزها كبرهم لا عقولهم.. لقد كانوا في ذلك أشبه بطفل صغير يريد أن يواجه مصارعا خطيرا.. فلا يملك بعد حين من المواجهة إلا أن ينكص على عقبيه.
لما قالوا ذلك، رد عليهم القرآن.. وهم الفصحاء البلغاء.. الشعراء الخطباء.. طالبا منهم أن يواجهوا تحديه، لقد قال لهم بصراحة لا تعلوها أي صراحة:) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ((الطور:33 ـ 34)
بل نزل.. فاكتفى بأن يحدد لهم عشر سور مثله مفتريات فيما كانوا يزعمون:) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ((هود:13)
ثم زاد، فنزل.. واكتفى بأن يطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله.. بأي سورة، ولو سورة قصيرة، لقد قال لهم:) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ((يونس:38)
فلم يجرؤوا أن يفعلوا.. لقد بقي يطالبهم أكثر من عشرين سنة بذلك، مظهراً لهم النكير، زارياً على أديانهم، مسفهاً آراءهم وأحلامهم.. ومع كل ذلك لم يجرؤوا على الاقتراب منه..
نعم لقد نابذوه وناصبوه الحرب التي هلكت فيه النفوس، وأريقت المهج، وقطعت الأرحام، وذهبت الأموال.. أترى أنهم لو كانوا قادرين على مواجهته بكلام مثل كلامه كانوا يقصرون!؟
لقد كان القرآن يقول لهم متحديا:) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ((البقرة: من الآية24)، انظر.. إنه تحد ليس فوقه تحد.. بل هو يضيف فيطلب منهم أن يجتمعوا بإنسهم وجنهم على مواجهته، فيقول:) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً((الاسراء:88)
قلت: لقد كان لانشغالهم بمواجهته أثر في سكوتهم عن الرد عليه.. أحيانا يجد الإنسان نفسه ـ تحت ضغط ظروف معينة ـ يتصرف بعيدا عن عقله.
قال: لا.. لقد كان قومه موصوفين برزانة الأحلام ووفارة العقول، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء المفلقون.. بل إن القرآن وصفهم بالجدل واللدد، فقال:) مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ((الزخرف: من الآية58)، وقال:) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً((مريم:97)
قلت: أحيانا ينبغ رجل من الناس بين قومه.. ولن تجد أحدا يستطيع مواجهته.. ألست ترى الملاكمين العالميين الذين يتهاوى الرجال أمامهم كما يتهاوى البنيان؟
قال: أليس عجيبا أن ينهض رجل أمي عاش بينهم أربعين عاماً لم يسمعوا منه بيتاً من الشعر، أو قولاً بليغاً، ليأتيهم بكلام يتحداهم به جميعا، بجيمع شعرائهم وبلغائهم وعلمائهم من الإنس والجن لا في زمانه فحسب، بل في كل الأزمنة؟
لقد احتاروا في سر تلك الجاذبية التي يجذبهم بها القرآن، فراحوا يقولون:) لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾(فصلت: 26(
قلت: فأنت ترى أن سر إعجاز القرآن الذي يذكره المسلمون هو تعبيره الذي حير البلغاء.
قال: لا.. هذا جزء من إعجازه.. إعجازه لا يمكن التعبير عنه.
قلت: فكيف تسمي ما لا تستطيع التعبير عنه معجزا؟
قال: إن نواحي الإعجاز في القرآن أكثر من أن تحصرها العبارة.. وما الإعجاز البلاغي إلا ناحية من نواحيه.
قلت: أنت تتلقى كل ذلك تقليدا.. فلست تذكر سوى ما ذكر لك.
قال: لا.. نعم أنا سائق.. ولكني ابن لهذه اللغة، محب لها عشت أقرأ شعرها ونثرها، وأتنعم بقصصها ورواياتها، ولولا ذلك ما حدثتك بهذا.
قلت: فحدثني عما رفع القرآن إلى تلك الآفاق التي عجز عنها سائر الكلام.
قال: أول شيء تتذوقه من القرآن هو تلك المعاني الجميلة التي جاء بها، وكساها بثياب معجزة من البلاغة.
قلت: أي إعجاز في هذا.. إن من قدر على شيء يقدر على غيره.
قال: لا.. لا يمكن ذلك.. هل تراني ـ وأنا سائق الشاحنة ـ قادرا على أن أسوق الطائرة؟
إن قدرات البلغاء محدودة.. سل الشعراء والبلغاء ليخبروك.. وإن شئت أن تتحدى أكبر الشعراء في أن يسوغ لك قوانين المرور في قصيدة فافعل، فسيعجز عن ذلك لا محالة.
قلت: والقرآن؟
قال: لقد انتظم القرآن كل المعاني.. ومع ذلك لم يخل في معنى من المعاني بما أودع فيه من أسرار الإعجاز..
لقد كانت بلاغة العرب ـ الذين هم قوم محمد ـ لا تعدو وصفا لمشاهداتهم، مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو حرب أو غارة.. أو لغو كثير لأجل أمر حقير.. وليس في القرآن ـ الذي جاء به محمد في تلك البيئة ـ أي شيء من هذه الأشياء.
وهذا وحده معجز.. أليس للبيئة والعصر آثارا في نفوس البلغاء.. ألستم تتعرفون من خلال الكتاب المقدس على البيئة التي كتب فيها.. لكن القرآن يخلو من كل ذلك، وكأن الذي كتبه ليس في الأرض.. إنه من عالم آخر!؟
صمت قليلا، ثم قال: بالإضافة إلى هذا ألست ترى الشعراء والبلغاء قد يحسنون في فن، ويسيئون في غيره؟
قلت: بلى.. ولهذا قالوا في شعر امرئ القيس: يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل.. وقالوا: شعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء.. وهكذا كل شاعر يحسن كلامه في فنّ، فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن.
قال: إلا القرآن[2].. فإنه جاء فصيحاً في كل الفنون على أعلى طبقات الفصاحة:
اسمع ما يقول في الترغيب:) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ((السجدة:17).. ويقول:) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ((الزخرف:71) أترى كلاما يمكن أن يرغبك في شيء كما يرغبك هذا الكلام.. إنه يجعل لنفسك الحرية في اختيار ما تشتهي، كما يجعل لبصرك الحرية في اختيار ما يرى.. إنك لو جمعت جميع أصناف النعيم في قصيدة ألفية ما استطاعت أن تعبر بمثل هذا المختصر الوجيز.
ثم اسمع ما يقول في الترهيب:) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً((الاسراء:68).. ويقول:) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ( (إبراهيم:15ـ17) انظر المخاوف التي تحملها هذه الآيات.
وقال في الزجر ما لا يبلغه وهم البشر:) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (العنكبوت: 39 ـ 40)
وقال في الوعظ:) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ((الشعراء: 205 ـ 207) هل ترى وعظا أعظم تأثيرا في النفس من هذا الوعظ؟
وقال في وصف الله:) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ((البقرة:255)
وهكذا الشأن في كل المواضيع التي طرقها القرآن، وهي مواضيع لا تعد كثرة.
وفوق هذا كله.. لقد التزم القرآن الصدق في كل ذلك، مع أن البلاغة أحيانا قد تتطلب من التعابير ما يحوجها إلى الكذب والزيادة والنقصان.. ألست ترى كل شاعر ترك الكذب، والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيداً، ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي؟
لكن القرآن ـ مع التزامه الصدق التام ـ جاء في قمة قمم البلاغة.
قلت: إلى الآن.. لم أفهم سر حرصك على هذه القمم التي تتحدث عنها بثقة عجيبة.. لو كنت مسلما، لقلت: إن الرجل مسلم.. ويجب عليه أن يقول هذا وإلا طرد من ساحة المسلمين، فتطلق زوجته، ويرمى في غير مقابر المسلمين، ولكني أراك مسيحيا، فكيف تصر على هذا؟
قال: إن كوني مسيحيا لا يحول بيني وبين الاعتراف بالحق لأهله.. لقد رأيت كثيرا من إخواننا المسيحيين يعلمون أولادهم القرآن حرصا على تنمية قدراتهم البلاغية.. وقد فعل والدي ذلك.. فلذا تراني أحفظ القرآن.. لقد حفظته في الكتاب مع أولاد المسلمين.
قلت: فما الذي جعلك تصر على اعتباره أبلغ كلام وأفصحه؟
قال: أنت تعرف أن الكلام من حيث بلاغته ثلاثة أنواع: فمنه البليغ الرصين الجزل.. ومنه الفصيح القريب السهل.. ومنه الجائز الطلق الرسل.
كل الكلام البليغ لا يخرج عن هذه الأنواع.. فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه.. والقسم الثاني أوسطه وأقصه.. والقسم الثالث أدناه وأقربه [3].
قلت: فأنت ترى أن القسم الأول هو الذي ينتمي إليه القرآن؟
قال: لو كان كذلك لما كان معجزا.. أو لكان معجزا بالنسبة للقسم الذي ينتمي إليه..
قلت: فإلى أي قسم ينتمي إذن؟
قال: إلى الأقسام الثلاثة.. لقد حازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة.. وما أصعب أن تجمع بين الفخامة والعذوبة.
قلت: لم؟
قال: لأنهما عند الإنفراد في نعوتهما كالمتضادين، فالعذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة تعالجان نوعاً من الوعورة.. فلهذا كان اجتماع الأمرين في نظمه، مع بعد كل واحد منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن.
قلت: فلم عجز البشر عن الإتيان بمثل هذا؟
قال: إن كل كلام لابد له من ثلاثة أمور: لفظ حامل، ومعنى قائم به، ورباط لهما ينظمهما.. وقد حاز القرآن كل هذه الأمور في منتهى كمالها، فلذلك لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه.. ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً وتشاكلاً من نظمه..
أما المعاني، فأنت تعرف المعاني السامية التي جاء القرآن لتقريرها وتأكيدها وتربية النفوس عليها.. إنها المعاني التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نوعتها وصفاتها.
قلت: ولكن مثل هذا قد يوجد في كلام البلغاء؟
قال: يوجد مفرقا لا مجموعا.. ولهم العذر في ذلك.. لأن من رام ذلك يجب أن يكون محيطا بجميع العربية وألفاظها ثم يحيط بجميع دلالاتها.. والبشر جميعا لا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها، إلى أن يأتو بكلام مثله.
قلت: فأنت ترى أن القرآن إنما صار معجزاً، لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمناً أصح المعاني.
قال: أجل.. ولا يمكننا ـ ولو طفنا على الأرض بهذه الشاحنة ـ أن نستوفي ما يتطلبه هذا الإجمال من تفصيل، وهذه القواعد من أمثلة.
ولكني أكتفي بأن أذكر لك بأن الكتاب الذي يحتوي على كل هذه المعاني السامية، من وصف لله، ودعاء إلى طاعته، وبيان منهاج عبادته، من تحليل وتحريم، ومن وعط وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، مودعاً أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئاً عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الباقية من الزمان، جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.. كتاب يعجز جميع البشر.. بل تعجز جميع الكائنات أن تأتي بمثله.
صمت قليلا، وكأنه يسترجع أنفاسه، ثم قال: ناحية أخرى جديرة بالاهتمام.. وهي أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح، يتفق ـ عادة ـ في القصيدة في البيت والبيتين والباقي لا يكون كذلك.. فتكتفي القصيدة بالتزين ببيتها أو بيتيها، وتظل عاطلة في سائر أبياتها.. أما القرآن، فإنه كله فصيح يعجز الخلق عن آحاده كما يعجزون عن جملته.
ثم إن من قال كلاما فصيحا في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول.. بينما نجد في القرآن تكرار كثير، ومع ذلك، كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولا يظهر التفاوت أصلاً.
زيادة على هذا فإن في مواضيع القرآن ما قد يوجب اختلال فصاحة أي فصيح، ولكن القرآن يطرقها طرقا جميلا، فلا تؤثر فيه المواضيع مهما تبادعت أغراضها، اسمع إليه، وهو يعبر عن أركان طهارة المسلمين وأنواعها في إيجاز بليغ:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ((المائدة:6)
ولهذا تجد القرآن أصلا للعلوم كلها، فعلم لاهوت المسلمين كله في القرآن، وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن، وعلم أصول الفقه وعلم النحو واللغة، وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة، واستعمال مكارم الأخلاق كلها مستنبطة من القرآن مأخوذة منه.
فالقرآن لا يقصد الكلام البليغ لذات الكلام البليغ، بل يقصده ليستخدمه وسيلة لتبليغ أغراضه.. وهذا خلاف سائر الكلام.. فالشعراء الذين اهتموا بتزويق الكلام والحرص على زينته تاهوا فيما لا حاجة فيه من وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته.
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة.. إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوقها بحيث تتحرك إلى ما طلبه منها عن رضا وطيبة نفس.
قلت: لقد ساعدت اللغة العربية القرآن على اقتحام هذه المجاهيل.. فهي لغة ثرية غنية بمفرداتها وتراكيبها.. ولولاها ما كان للقرآن هذا الجمال، وهذه القوة.
قال: نعم.. اللغة العربية كما ذكرت.. وأكثر مما ذكرت.. ولكنها في نفس الوقت كان فيها كلاما كثيرا من الغريب والألفاظ الحوشية الثقيلة على السمع.. وهو ما لجأ إليه مضطرا الكثير من البلغاء والشعراء.. ولكن القرآن تجنب ذلك كله، ولم يختر من اللغة إلا ما اجتمع فيه المعنى الرفيع مع اللفظ الجميل.
اسمع ما يقول الشنفرى[4]:
وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ
وفيها يقول:
دَعَستُ عَلى غَطشٍ وَبَغشٍ وَصُحبَتي سُعارٌ وَإِرزيزٌ وَوَجرٌ وَأَفكُلُ
فَأَيَّمتُ نِسواناً وَأَيتَمتُ آلَدَةً وَعُدتُ كَما أَبدَأتُ وَاللَيلُ أَليَلُ
لقد تجنب القرآن أكثر الألفاظ الغريبة التي استعملها هذا الشاعر وغيره.. فلا تجد في القرآن مع سعة حجمه مقارنة بقصائد الشعراء ألفاظا مثل مسشزرات، وجحلنجح، والبخصات، والملطاط، وغير ذلك كثير.
ولا تجد تعابير مثل هذه التعابير التي قالها بعض المتقعرين:( دنها، فإذا همت تأتدن، فلا تخلها تمرخد، وقبل أن تقفعل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وكيلة، ولا جشيّة، ثم امعسها معساً رقيقاً، ثم سن شفرتك، وأمهها فإذا رأيت عليها مثل الهبوة فسن رأس الأزميل )[5]
ولا تجد القرآن واقعيا يعبر بالألفاظ السوقية التي يأبى معانيها، فلا تجد فيه كلمة المرباع التي تعني ربع الغنيمة إلى الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية، ولا تجد النشيطة وهي ما أصاب الرئيس قبل أن يصير إلى القوم، أو ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغ الموضع المقصود، ولا تجد المكس، وهو دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق الجاهلية، ولا تجد قولهم للملوك:( أبيت اللعن ) وغير ذلك مما اتفق على التعبير به المجتمعات الجاهلية التي عاش بينها محمد.
قلت: فالقرآن يتخير ألفاظه اختيارا إذن؟
قال: أجل.. وسأذكر لك بعض الأمثلة التي تقرب لك هذا[6]:
لقد جاء في القرآن:) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (النساء:85)
أتدري لم قال عن الشفاعة الحسنة (يكن له نصيب منها) وعن الشفاعة السيئة (يكن له كفل منها)؟
قلت: هو مجرد تنوع في الألفاط ليتخلص من التكرار.
قال: لا.. لقد وضع القرآن كل لفظة في محلها الخاص.. فمن معاني (الكِفل) في اللغة: النصيب المساوي، والمثل، والكفيل يضمن بقدر ما كفل ليس أكثر.. أما (النصيب) فمطلق غير محدد بشيء معين.
ولهذا جاء التعبير عن السيئة بقوله:) يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا (؛ لأن السيئة تجازى بقدرها، كما ورد في الآية الأخرى:) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا )(غافر: من الآية40)
أما الحَسَنة فتضاعف، فلهذا عبر عنها بقوله ) يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا (، وقد جاء في القرآن الإخبار بهذا، ففيه ) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ((الأنعام: 160)، وفيه:) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا (( القصص: 84)، وفيه:) وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)(غافر: من الآية40)
ولهذا قال عن حامل السيئة أن له الكفل أي المثل، أما صاحب الشفاعة الحسنة فله نصيب منها، والنصيب لا تشترط فيه المماثلة.
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثلا آخر.. لقد جاء في قصة خلق آدم في سورة الأعراف هذا النص:) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (لأعراف:12)
لقد أثبت القرآن (لا) في هذا الموضع، ولكنه لم يُثبتها في سورة (ص) ) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ( (صّ:75)
أتدري سر ذلك؟
قلت: أرى فرقا بين التعبيرين.. ولكني لست أدري سره.. أليست (لا) في الأعراف زائدة؟
قال: لا.. ليس في القرآن حرف واحد زائد.. إنه محكم غاية الإحكام.
لقد كان السؤال في سورة ( ص ) عن المانع لإبليس من السجود.. أي: لماذا لم تسجد؟ هل كنت متكبراً أم متعالياً؟ فقد ذكرت الآية سببان قد يكونان مانعين للسجود، هما الاستكبار والاستعلاء.
أما السؤال في سورة الأعراف فإنه عن شيء آخر.. ويكون معنى السؤال: ما الذي دعاك إلى ألا تسجد؟
والدليل على ذلك وجود ( لا ) النافية في الآية التي تدل على وجود فعل محذوف تقديره: أَلجأك، أحوَجَك..
فالسؤال هنا عن الدافع له لعدم السجود، وليس عن المانع له من السجود.
والجمع بينهما أن السؤال جاء على مرحليتين: في الأولى سئل عن السبب المانع من السجود.. وامتناع إبليس عن السجود قاده إلى عدم السجود.
وفي الثانية: السؤال عن السبب الحامل له على عدم السجود بعد أن أمره بذلك.
والحكمة من السؤال الثاني هو أنه من الممكن عقلا أن يكون هنالك سببان: سبب يمنع عن فعل شيء، وسبب يحمل على ترك شيء.
فقولك لأحدهم: لماذا لم تفعل كذا؟ يختلف عن سؤالك للآخر: ما الذي حملك على ترك كذا؟
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثالا آخر.. لقد جاء في القرآن:) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:41)
قلت: إن قومي يتعلقون بهذه الآية.. ويرمون بها المسلمين.
قال: أعلم ذلك.. هم يقولون: إن هذه الآية تخالف الحقيقة العلمية الثابتة بأن خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الفولاذ.
قلت: أجل.. أليس ذلك صححيا؟
قال: يكون ذلك صحيحا لو قال القرآن:( إن أوهن الخيوط خيط العنكبوت )
قلت: وما الفرق بينهما؟
قال: عظيم.. الخيوط هي مادة البناء.. والبناء لا يحتاج إلى مادة فقط.. بل يحتاج قبل ذلك إلى اختيار محل، وتأسيس قاعدة، ونواح هندسية كثيرة ليستقيم البناء.
أرأيت لو رصفنا طوبا كثيرا من أقوى أنواع الطوب من غير أن يكون ذلك على حسب القواعد الهندسية.. هل يمكن أن يستمر البنيان قائما؟
قلت: لا.. لعل أضعف ريح يمكنها أن ترديه أرضا.
قال: ولهذا عبر القرآن عن وهن البنيان، ولم يعبر عن وهن مادة البنيان.
سكت قليلا، ثم قال: أتدري لم نكرت كلمة (أحد) في سورة الإخلاص، بينما عرفت (الصمد).. فقد جاءت هذه السورة هكذا:) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)(الإخلاص)
قلت: لا.. ولكني أشعر أنه لابد أن تكون كذلك.
قال: نعم.. لابد أن تكون كذلك.. ولكن العلماء حاولوا أن يعرفوا سر ذلك.
قلت: فما وجدوا.
قال: إن كلمة (أحد) مسبوقة بكلمتين معرفتين (هو الله)، وهما مبتدأ وخبر.. وبما أن المبتدأ والخبر معرفتان ودلالتهما على الحصر.. فقد استغني بتعريفهما ودلالتهما على الحصر عن تعريف (أحد)
فجاء لفظ (أحد) نكرة على أصله.. لأن الأصل في الكلمة هو التنكير.. فهو نكرة ويعرب خبرا ثانيا.
كما أن لفظ (أحد) جاء على التنكير للتعظيم والتفخيم والتشريف، وللإشارة إلى أن الله تعالى فرد أحد لا يمكن تعريف كيفيته ولا الإحاطة به سبحانه وتعالى.
أما (الصمد)، فقد جاء معرفة في الآية الثانية لأن (الله الصمد) مبتدأ وخبر.. وجاءا معرفتين ليطابقا (هو الله ) في الآية الأولى.. وقد جاء تعريف (الله الصمد) ليدل على الحصر أيضاً.
فقوله (هو الله أحد) يدل على الحصر لتعريف المبتدأ والخبر.. أي أن الأحدية محصورة بالله.
وقوله (الله الصمد) يدل على الحصر أيضا لتعريف المبتدأ والخبر.. وذلك ليدل على أن الصمدانية محصورة بالله.
سكت قليلا، ثم قال: أتدري الفرق بين تعبير القرآن عن السلام ليحي والسلام للمسيح؟
قلت: أجل.. أعرف ذلك.. فقد جاء السلام على يحي منكرا:) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(12)وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا(13)وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا(14)وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا(15)(مريم)
بينما جاء على المسيح معرفا:) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31)وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32)وَالسَّلَامُ عَليَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)(مريم)
قال: أتدري ما سر هذا التفريق؟
قلت: ما سره؟
قال: لقد جاءت كلمة (السلام) نكرة في قصة يحيى، لأن ذلك جاء في سياق تعداد نعم الله عليه، وفيها إخبار من الله بأنه قد منح يحيى ( سلاما ) كريما في مواطن ثلاثة: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه حيا في الآخرة.
أما ( السلام ) في قصة المسيح، فقد جاء معرفة، لأن لفظ ( السلام ) هو كلام من المسيح، حيث دعا ربه أن يمنحه السلام في ثلاثة مواطن: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه حيا في الآخرة.
فبما أن المسيح هو الذي دعا، فمن المؤكد أنه سيُلح في الدعاء، فيطلب المعالي.. فلذلك عرّف السلام دلالة على أنه يريد السلام الكثير العام الشامل الغزير.
وفي هذا إشارة كذلك إلى أن السلام الذي حصل عليه المسيح كان أخص من السلام الذي حصل عليه يحيى، وأن المسيح أفضل من يحيى.
سكت قليلا، ثم قال: لقد وردت آيتان تتحدثان عن أمر واحد في سورة واحدة.. ومع ذلك اختلف التعبير في كل منها..
أما أولاهما، فقد ذكر فيها القرآن أن الله سيرى العمل هو ورسوله واكتفى بهما:) وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ((التوبة:94)
في اليوم العاشر من رحلتي إلى الإسكندرية، جاءتني رسالة مستعجلة من كنيستنا في ألمانيا تطلب مني الحضور السريع.. دهشت لهذه الرسالة، ولهذا الاستعجال الذي لم أتعوده منها.
حزمت أمتعتي، وودعت أخي الذي واصل مكوثه في الإسكندرية لإكمال ما أوكل إلينا من مهام..
بحثت عن سيارة توصلني إلى القاهرة، لأمتطي الطائرة التي تعود بي إلى بلدي، فلم أجد.. لم أعرف السبب حينها، ولكني عرفت بعد ذلك أن الله أراد أن لا أجد أي سيارة، لأتعرض لشعاع جديد من أشعة محمد، ولأتعرف على السور الأخير من أسوار الكلمات المقدسة..
اقترب مني أحد العمال في مطبعتنا، وقال: أراك مستعجلا.. إلى أين تريد الذهاب؟
قلت: إلى القاهرة.. لقد جاءتني رسالة مستعجلة، ولا بد أن أكون مساء هذا اليوم في القاهرة لأرحل غدا باكرا إلى بلدي.
قال: لدي حل إن كنت تقبله.
قلت: وما هو؟
قال: لدينا شاحنة تذهب كل أسبوع إلى القاهرة لتحمل نسخا من الكتاب المقدس إلى كنائسنا ومكتباتنا هناك.. وهي ستسير الآن.. فإن كان ذلك لا يضيرك، فتعال لتركب فيها، فتتشرف الشاحنة، ويتشرف صاحبها بصحبتك.
قلت: شكرا على هذا العرض الطيب.. بل الشرف لي أن أركب شاحنة تحمل نسخ الكتاب المقدس.
قال: فهيا إذن..
سرت معه إلى الشاحنة، وجلست في المقعد أمام السائق، وانتظرت برهة، فإذا بالعامل نفسه يجلس في كرسي السائق، قلت: أنت هو السائق إذن؟
قال: أجل.. لقد كنت أراك دائما.. وكان لي شوق أن أجلس معك، وقد أتاح الله لي هذه الفرصة لتسير معي كل هذه المسافة.
قلت: ما اسمك؟
قال: لويس بشارة..
قلت: أنت مسيحي إذن؟
قال: لا شك في ذلك.. كيف أكون عاملا في مطبعة الكتاب المقدس، ثم لا أكون مسيحيا؟
قلت: لا أقصد بالمسيحية الانتماء.. بل أقصد الدين.. هل أنت متدين؟
قال: أجل.. أنا ملتزم بكل شعائر الكنيسة وطقوسها، ولولا ذلك ما اشتقت للجلوس إليك.
قلت: شكرا على هذه المجاملة.. ولكني متعب.. ولدي سفر طويل.. ولهذا ـ ربما ـ لا أستطيع أن أرضيك بما تشتهي من مواعظ.
قال: لا بأس.. يشرفني أن تجلس معي فقط.. فقد تتحادث الأرواح بما لا تتحادث به الأجساد.
أعجبت بقوله هذا.. ثم سرنا برهة لا يحدث بعضنا بعضا.. رأى في وجهي بعض الضيق، فقال: لعلك تريد أن تسمع شيئا.. لدي أشرطة كثيرة.. ما الذي تريد أن تسمع منها؟
قلت: ما تقصد؟
قال: الموسيقى.. ألست تحب الموسيقى؟
قلت: أجل.. ولكني أحب سماع الصوت البشري الممتلئ بالإيمان.. فهو أحب إلى نفسي من تلك الأجراس التي تدقها الموسيقى.. خاصة موسيقى هذه الأيام.
قال: أنت مثلي إذن.. فأنا لا أحب إلا سماع الأصوات التي أشعر بصدقها.. إنني أحلق معها في عوالم الجمال التي لا يطيق لساني التعبير عنها.
قلت: وهل لك أشرطة تحوي مثل هذه الأصوات؟
سكت قليلا، ثم قال: أجل.. ولكني أخاف منك أن تغضب إن علمت بوجودها عندي.
قلت: ما تقصد؟
قال: أنا أخفي هذه الأشرطة عن أعين زملائي خشية أن تصل أخبارها إلى مسؤول المطبعة، فيعاقبني، وقد يطردني.
قلت: ما تقول؟.. أتحمل ممنوعات في هذه الشاحنة؟.. ألست تحمل الكتاب المقدس؟
قال: أجل.. أنا أحمل الكتاب المقدس.. ولكني ـ لطول الطريق ـ أستمع إلى بعض الأشرطة التي تيسر علي قطع الطريق.
قلت: ومن يمنعك من سماعها؟
قال: أتأذن لي في سماعها؟
قلت: لا حرج عليك.. بل لعلني سأتمتع بها كما تتمتع بها أنت أيضا.
أوقف الشاحنة، ثم فتح حقيبته، وأخرج أشرطة محفوظة بعناية كما تحفظ الممنوعات، ثم قال: أنا أغامر الآن بسماع هذه الأشرطة أمامك، فأرجو أن يبقى هذا سرا بيني وبينك.
قلت: لا بأس.
وضع الشريط على القارئ، وبقيت منتظرا بلهفة سماع هذه الأشرطة التي ملأته بالأشواق والمخاوف، فإذا بي أفاجأ بالقرآن الكريم يقرأ بصوت عذب.. مملوء بالإيمان.
لقد شعرت حينها بقشعريرة لذيذة تسري في جسدي، فتملؤني بمشاعر لا أستطيع وصفها.
إلتفت إلى صاحبي، فإذا بدموعه تكاد تفيض، قلت: أهذا قرآن محمد؟
قال: أجل.. فاستر ذلك علي.
قلت: ولم تضع قرآن محمد.. وأنت تحمل الكتاب المقدس؟
قال: لقد ذكرت لك أني أشعر عند سماعه بمتعة لا تدانيها متعة، وبلذة لا تدانيها لذة.
قلت: فكيف اخترته من بين كل الأصوات الجميلة التي تنبعث من حناجر العالم؟
قال: لست أدري متى بدأ ذلك.. وكيف بدأ.. ولكني كلما سمعت القرآن يتلى كلما امتلأت بهذه المشاعر اللذيذة.. أتدري؟
قلت: ماذا؟
قال: أنا أصاحب باعة الأشرطة لسبب واحد هو سماع تلك الأصوات الجميلة التي تنبعث من حناجر قارئي القرآن.
خطرت على بالي فكرة وضع تراتيل للكتب المقدس تضارع تراتيل القرآن، فرحت أسارع بطرحها عليه، قلت: أتدري.. لقد جعلني كلامك هذا أفكر في وسيلة مهمة قد تجذب ملايين المسلمين إلى المسيحية، وفي نفس الوقت ترضي نهم المسيحيين إلى هذا الجمال الذي يتمتع به قرآن محمد.
قال: أعلم تلك الفكرة.. لقد خطرت على بالي منذ سنوات.. بل رحت أحاول تنفيذها.. لكني لم أزد طين كتابنا المقدس إلا بلة.
قلت: اسمع الفكرة أولا.. ثم ناقشها.
قال: ولماذا أسمعها منك.. وقد سمعتها من نفسي منذ سنوات؟
قلت: أي فكرة تقصد؟
قال: أنت تبحث عن وضع تراتيل للكتاب المقدس تشبه تراتيل المسلمين.. أهذه هي فكرتك؟
قلت: أجل.. فما الذي يحول بيننا وبين تنفيذها؟.. أم أنك ترى بأن المسلمين سيخرجون إلى الشوارع في انتفاضة عارمة؟
قال: لا أقصد هذا.. حتى لو خرجوا.. فما عساهم يفعلوا؟.. إنهم سرعان ما يتأقلمون وينسون.. ولكن أخشى أن توضع هذه التراتيل في المسرحيات الكوميدية لتملأ أفواه الناس بالضحك، لا قلوبهم بالخشوع.
قلت: ما تقول؟
قال: إن المرتل لقرآن المسلمين يبدأ القرآن من أوله إلى آخره.. فلا يزيد سامعيه إلا خشوعا[1]..
قلت: فليبدأ القارئ تراتيله للكتاب المقدس من أوله إلى آخره..
قال: سأسلم لك.. بل سأطبق هذا أمامك، فقد وهبني الله صوتا لا يقل عن صوت هؤلاء القراء.. بالإضافة إلى أني أملك قدرة على التقليد لا تضاهى.. ولذلك سأقلد القارئ المعروف (عبد الباسط عبد الصمد) في قراءته للسور القصار.
فاختر أي جزء من الكتاب المقدس أقرؤه عليك.
قلت: اقرأ ما تشاء.
قال: أنا أحفظ إنجيل متى عن ظهر قلب.. ولذلك سأقرؤه عليك من أوله.
بدأ القراءة، لقد كان صاحب صوت جميل جدا.. بدأ إنجيل متى من أوله:( كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم. ابراهيم ولد اسحق. واسحق ولد يعقوب. ويعقوب ولد يهوذا واخوته. ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار. وفارص ولد حصرون. وحصرون ولد ارام. وارام ولد عميناداب. وعميناداب ولد نحشون. ونحشون ولد سلمون. وسلمون ولد بوعز من راحاب. وبوعز ولد عوبيد من راعوث. وعوبيد ولد يسى. ويسى ولد داود الملك. وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا وسليمان ولد رحبعام. ورحبعام ولد ابيا. وابيا ولد آسا. )(متى: 1/1ـ 7)
تركته يقرأ إلى أن وصل إلى قوله:( فجميع الاجيال من ابراهيم الى داود اربعة عشر جيلا. ومن داود الى سبي بابل اربعة عشر جيلا. ومن سبي بابل الى المسيح اربعة عشر جيلا )(متى: 1/17)
لست أدري كيف لم أملك نفسي من الضحك.. لقد ضحكت كما لم أضحك في حياتي، التفت إلي، وقال: ألم أقل لك: إن اقتراحك يصلح لإضحاك الناس لا لإبكائهم.
بعد أن عادت إلي نفسي، اصطنعت الجد، وقلت: أجل.. كلامك صحيح.. ولكن ما السر في اختلاف كتاب المسلمين عن كتابنا في هذه الناحية؟
قال: لقد بحثت في ذلك..
قلت: فما وجدت؟
قال: أربعة أسباب.
قلت: فما هي؟.. عسانا نوفرها لكتابنا المقدس.
قال: ذلك محال.. لقد جربت كل الوسائل.. وكانت النتيجة لا تختلف عن تلك الضحكات التي أرسلتها.. إن تلك المعاني الأربع لم تتحقق إلا في كتاب محمد.
قلت: فما هي؟
قال: التعبير الفني، والتصوير الفني، والنظم الفني، والنغم الفني.
1 ـ التعبير الفني
قلت: فما تريد بالتعبير الفني؟
قال: بإمكانك أن تقارن القرآن بأي كتاب في الدنيا، فستجد فيه من عذوبة التعبير وجماله ما يقصر دونه كل كلام.
قلت: وما أدراك أنت باللغة وشؤون البلاغة فيها.. لو كنت شاعرا قبلت قولك، ولو كنت خطيبا ربما وثقت بحكمك.. لكنك لست سوى سائق؟
قال: أجل.. أنا لست سوى سائق.. ولكني مع ذلك أتذوق الكلام، كما أتذوق الطعام.. إن للكلام الطيب حلاوة لا تحوجنا إلى مختصين ينوبون عنا في تذوقها.
ومع ذلك.. فقد عرفت أن القرآن تحدى أهل عصره بمن فيهم من البلغاء والفصحاء، فلم يملكوا إلا أن يقروا بما لم تقبله مني.
لقد استقل العرب في البدء من شأن القرآن، فراحو يقولون:) لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ((لأنفال: من الآية31)، وقالوا:) إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ( (النحل: من الآية103)) وقالوا:) مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ((الأنعام: من الآية91)
لكنهم سرعان ما تراجعوا عن هذه الأحكام المستعجلة التي أفرزها كبرهم لا عقولهم.. لقد كانوا في ذلك أشبه بطفل صغير يريد أن يواجه مصارعا خطيرا.. فلا يملك بعد حين من المواجهة إلا أن ينكص على عقبيه.
لما قالوا ذلك، رد عليهم القرآن.. وهم الفصحاء البلغاء.. الشعراء الخطباء.. طالبا منهم أن يواجهوا تحديه، لقد قال لهم بصراحة لا تعلوها أي صراحة:) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ((الطور:33 ـ 34)
بل نزل.. فاكتفى بأن يحدد لهم عشر سور مثله مفتريات فيما كانوا يزعمون:) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ((هود:13)
ثم زاد، فنزل.. واكتفى بأن يطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله.. بأي سورة، ولو سورة قصيرة، لقد قال لهم:) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ((يونس:38)
فلم يجرؤوا أن يفعلوا.. لقد بقي يطالبهم أكثر من عشرين سنة بذلك، مظهراً لهم النكير، زارياً على أديانهم، مسفهاً آراءهم وأحلامهم.. ومع كل ذلك لم يجرؤوا على الاقتراب منه..
نعم لقد نابذوه وناصبوه الحرب التي هلكت فيه النفوس، وأريقت المهج، وقطعت الأرحام، وذهبت الأموال.. أترى أنهم لو كانوا قادرين على مواجهته بكلام مثل كلامه كانوا يقصرون!؟
لقد كان القرآن يقول لهم متحديا:) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ((البقرة: من الآية24)، انظر.. إنه تحد ليس فوقه تحد.. بل هو يضيف فيطلب منهم أن يجتمعوا بإنسهم وجنهم على مواجهته، فيقول:) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً((الاسراء:88)
قلت: لقد كان لانشغالهم بمواجهته أثر في سكوتهم عن الرد عليه.. أحيانا يجد الإنسان نفسه ـ تحت ضغط ظروف معينة ـ يتصرف بعيدا عن عقله.
قال: لا.. لقد كان قومه موصوفين برزانة الأحلام ووفارة العقول، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء المفلقون.. بل إن القرآن وصفهم بالجدل واللدد، فقال:) مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ((الزخرف: من الآية58)، وقال:) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً((مريم:97)
قلت: أحيانا ينبغ رجل من الناس بين قومه.. ولن تجد أحدا يستطيع مواجهته.. ألست ترى الملاكمين العالميين الذين يتهاوى الرجال أمامهم كما يتهاوى البنيان؟
قال: أليس عجيبا أن ينهض رجل أمي عاش بينهم أربعين عاماً لم يسمعوا منه بيتاً من الشعر، أو قولاً بليغاً، ليأتيهم بكلام يتحداهم به جميعا، بجيمع شعرائهم وبلغائهم وعلمائهم من الإنس والجن لا في زمانه فحسب، بل في كل الأزمنة؟
لقد احتاروا في سر تلك الجاذبية التي يجذبهم بها القرآن، فراحوا يقولون:) لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾(فصلت: 26(
قلت: فأنت ترى أن سر إعجاز القرآن الذي يذكره المسلمون هو تعبيره الذي حير البلغاء.
قال: لا.. هذا جزء من إعجازه.. إعجازه لا يمكن التعبير عنه.
قلت: فكيف تسمي ما لا تستطيع التعبير عنه معجزا؟
قال: إن نواحي الإعجاز في القرآن أكثر من أن تحصرها العبارة.. وما الإعجاز البلاغي إلا ناحية من نواحيه.
قلت: أنت تتلقى كل ذلك تقليدا.. فلست تذكر سوى ما ذكر لك.
قال: لا.. نعم أنا سائق.. ولكني ابن لهذه اللغة، محب لها عشت أقرأ شعرها ونثرها، وأتنعم بقصصها ورواياتها، ولولا ذلك ما حدثتك بهذا.
قلت: فحدثني عما رفع القرآن إلى تلك الآفاق التي عجز عنها سائر الكلام.
قال: أول شيء تتذوقه من القرآن هو تلك المعاني الجميلة التي جاء بها، وكساها بثياب معجزة من البلاغة.
قلت: أي إعجاز في هذا.. إن من قدر على شيء يقدر على غيره.
قال: لا.. لا يمكن ذلك.. هل تراني ـ وأنا سائق الشاحنة ـ قادرا على أن أسوق الطائرة؟
إن قدرات البلغاء محدودة.. سل الشعراء والبلغاء ليخبروك.. وإن شئت أن تتحدى أكبر الشعراء في أن يسوغ لك قوانين المرور في قصيدة فافعل، فسيعجز عن ذلك لا محالة.
قلت: والقرآن؟
قال: لقد انتظم القرآن كل المعاني.. ومع ذلك لم يخل في معنى من المعاني بما أودع فيه من أسرار الإعجاز..
لقد كانت بلاغة العرب ـ الذين هم قوم محمد ـ لا تعدو وصفا لمشاهداتهم، مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو حرب أو غارة.. أو لغو كثير لأجل أمر حقير.. وليس في القرآن ـ الذي جاء به محمد في تلك البيئة ـ أي شيء من هذه الأشياء.
وهذا وحده معجز.. أليس للبيئة والعصر آثارا في نفوس البلغاء.. ألستم تتعرفون من خلال الكتاب المقدس على البيئة التي كتب فيها.. لكن القرآن يخلو من كل ذلك، وكأن الذي كتبه ليس في الأرض.. إنه من عالم آخر!؟
صمت قليلا، ثم قال: بالإضافة إلى هذا ألست ترى الشعراء والبلغاء قد يحسنون في فن، ويسيئون في غيره؟
قلت: بلى.. ولهذا قالوا في شعر امرئ القيس: يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل.. وقالوا: شعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء.. وهكذا كل شاعر يحسن كلامه في فنّ، فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن.
قال: إلا القرآن[2].. فإنه جاء فصيحاً في كل الفنون على أعلى طبقات الفصاحة:
اسمع ما يقول في الترغيب:) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ((السجدة:17).. ويقول:) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ((الزخرف:71) أترى كلاما يمكن أن يرغبك في شيء كما يرغبك هذا الكلام.. إنه يجعل لنفسك الحرية في اختيار ما تشتهي، كما يجعل لبصرك الحرية في اختيار ما يرى.. إنك لو جمعت جميع أصناف النعيم في قصيدة ألفية ما استطاعت أن تعبر بمثل هذا المختصر الوجيز.
ثم اسمع ما يقول في الترهيب:) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً((الاسراء:68).. ويقول:) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ( (إبراهيم:15ـ17) انظر المخاوف التي تحملها هذه الآيات.
وقال في الزجر ما لا يبلغه وهم البشر:) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (العنكبوت: 39 ـ 40)
وقال في الوعظ:) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ((الشعراء: 205 ـ 207) هل ترى وعظا أعظم تأثيرا في النفس من هذا الوعظ؟
وقال في وصف الله:) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ((البقرة:255)
وهكذا الشأن في كل المواضيع التي طرقها القرآن، وهي مواضيع لا تعد كثرة.
وفوق هذا كله.. لقد التزم القرآن الصدق في كل ذلك، مع أن البلاغة أحيانا قد تتطلب من التعابير ما يحوجها إلى الكذب والزيادة والنقصان.. ألست ترى كل شاعر ترك الكذب، والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيداً، ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي؟
لكن القرآن ـ مع التزامه الصدق التام ـ جاء في قمة قمم البلاغة.
قلت: إلى الآن.. لم أفهم سر حرصك على هذه القمم التي تتحدث عنها بثقة عجيبة.. لو كنت مسلما، لقلت: إن الرجل مسلم.. ويجب عليه أن يقول هذا وإلا طرد من ساحة المسلمين، فتطلق زوجته، ويرمى في غير مقابر المسلمين، ولكني أراك مسيحيا، فكيف تصر على هذا؟
قال: إن كوني مسيحيا لا يحول بيني وبين الاعتراف بالحق لأهله.. لقد رأيت كثيرا من إخواننا المسيحيين يعلمون أولادهم القرآن حرصا على تنمية قدراتهم البلاغية.. وقد فعل والدي ذلك.. فلذا تراني أحفظ القرآن.. لقد حفظته في الكتاب مع أولاد المسلمين.
قلت: فما الذي جعلك تصر على اعتباره أبلغ كلام وأفصحه؟
قال: أنت تعرف أن الكلام من حيث بلاغته ثلاثة أنواع: فمنه البليغ الرصين الجزل.. ومنه الفصيح القريب السهل.. ومنه الجائز الطلق الرسل.
كل الكلام البليغ لا يخرج عن هذه الأنواع.. فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه.. والقسم الثاني أوسطه وأقصه.. والقسم الثالث أدناه وأقربه [3].
قلت: فأنت ترى أن القسم الأول هو الذي ينتمي إليه القرآن؟
قال: لو كان كذلك لما كان معجزا.. أو لكان معجزا بالنسبة للقسم الذي ينتمي إليه..
قلت: فإلى أي قسم ينتمي إذن؟
قال: إلى الأقسام الثلاثة.. لقد حازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة.. وما أصعب أن تجمع بين الفخامة والعذوبة.
قلت: لم؟
قال: لأنهما عند الإنفراد في نعوتهما كالمتضادين، فالعذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة تعالجان نوعاً من الوعورة.. فلهذا كان اجتماع الأمرين في نظمه، مع بعد كل واحد منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن.
قلت: فلم عجز البشر عن الإتيان بمثل هذا؟
قال: إن كل كلام لابد له من ثلاثة أمور: لفظ حامل، ومعنى قائم به، ورباط لهما ينظمهما.. وقد حاز القرآن كل هذه الأمور في منتهى كمالها، فلذلك لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه.. ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً وتشاكلاً من نظمه..
أما المعاني، فأنت تعرف المعاني السامية التي جاء القرآن لتقريرها وتأكيدها وتربية النفوس عليها.. إنها المعاني التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نوعتها وصفاتها.
قلت: ولكن مثل هذا قد يوجد في كلام البلغاء؟
قال: يوجد مفرقا لا مجموعا.. ولهم العذر في ذلك.. لأن من رام ذلك يجب أن يكون محيطا بجميع العربية وألفاظها ثم يحيط بجميع دلالاتها.. والبشر جميعا لا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها، إلى أن يأتو بكلام مثله.
قلت: فأنت ترى أن القرآن إنما صار معجزاً، لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمناً أصح المعاني.
قال: أجل.. ولا يمكننا ـ ولو طفنا على الأرض بهذه الشاحنة ـ أن نستوفي ما يتطلبه هذا الإجمال من تفصيل، وهذه القواعد من أمثلة.
ولكني أكتفي بأن أذكر لك بأن الكتاب الذي يحتوي على كل هذه المعاني السامية، من وصف لله، ودعاء إلى طاعته، وبيان منهاج عبادته، من تحليل وتحريم، ومن وعط وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، مودعاً أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئاً عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الباقية من الزمان، جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.. كتاب يعجز جميع البشر.. بل تعجز جميع الكائنات أن تأتي بمثله.
صمت قليلا، وكأنه يسترجع أنفاسه، ثم قال: ناحية أخرى جديرة بالاهتمام.. وهي أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح، يتفق ـ عادة ـ في القصيدة في البيت والبيتين والباقي لا يكون كذلك.. فتكتفي القصيدة بالتزين ببيتها أو بيتيها، وتظل عاطلة في سائر أبياتها.. أما القرآن، فإنه كله فصيح يعجز الخلق عن آحاده كما يعجزون عن جملته.
ثم إن من قال كلاما فصيحا في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول.. بينما نجد في القرآن تكرار كثير، ومع ذلك، كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولا يظهر التفاوت أصلاً.
زيادة على هذا فإن في مواضيع القرآن ما قد يوجب اختلال فصاحة أي فصيح، ولكن القرآن يطرقها طرقا جميلا، فلا تؤثر فيه المواضيع مهما تبادعت أغراضها، اسمع إليه، وهو يعبر عن أركان طهارة المسلمين وأنواعها في إيجاز بليغ:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ((المائدة:6)
ولهذا تجد القرآن أصلا للعلوم كلها، فعلم لاهوت المسلمين كله في القرآن، وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن، وعلم أصول الفقه وعلم النحو واللغة، وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة، واستعمال مكارم الأخلاق كلها مستنبطة من القرآن مأخوذة منه.
فالقرآن لا يقصد الكلام البليغ لذات الكلام البليغ، بل يقصده ليستخدمه وسيلة لتبليغ أغراضه.. وهذا خلاف سائر الكلام.. فالشعراء الذين اهتموا بتزويق الكلام والحرص على زينته تاهوا فيما لا حاجة فيه من وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته.
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة.. إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوقها بحيث تتحرك إلى ما طلبه منها عن رضا وطيبة نفس.
قلت: لقد ساعدت اللغة العربية القرآن على اقتحام هذه المجاهيل.. فهي لغة ثرية غنية بمفرداتها وتراكيبها.. ولولاها ما كان للقرآن هذا الجمال، وهذه القوة.
قال: نعم.. اللغة العربية كما ذكرت.. وأكثر مما ذكرت.. ولكنها في نفس الوقت كان فيها كلاما كثيرا من الغريب والألفاظ الحوشية الثقيلة على السمع.. وهو ما لجأ إليه مضطرا الكثير من البلغاء والشعراء.. ولكن القرآن تجنب ذلك كله، ولم يختر من اللغة إلا ما اجتمع فيه المعنى الرفيع مع اللفظ الجميل.
اسمع ما يقول الشنفرى[4]:
وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ
وفيها يقول:
دَعَستُ عَلى غَطشٍ وَبَغشٍ وَصُحبَتي سُعارٌ وَإِرزيزٌ وَوَجرٌ وَأَفكُلُ
فَأَيَّمتُ نِسواناً وَأَيتَمتُ آلَدَةً وَعُدتُ كَما أَبدَأتُ وَاللَيلُ أَليَلُ
لقد تجنب القرآن أكثر الألفاظ الغريبة التي استعملها هذا الشاعر وغيره.. فلا تجد في القرآن مع سعة حجمه مقارنة بقصائد الشعراء ألفاظا مثل مسشزرات، وجحلنجح، والبخصات، والملطاط، وغير ذلك كثير.
ولا تجد تعابير مثل هذه التعابير التي قالها بعض المتقعرين:( دنها، فإذا همت تأتدن، فلا تخلها تمرخد، وقبل أن تقفعل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وكيلة، ولا جشيّة، ثم امعسها معساً رقيقاً، ثم سن شفرتك، وأمهها فإذا رأيت عليها مثل الهبوة فسن رأس الأزميل )[5]
ولا تجد القرآن واقعيا يعبر بالألفاظ السوقية التي يأبى معانيها، فلا تجد فيه كلمة المرباع التي تعني ربع الغنيمة إلى الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية، ولا تجد النشيطة وهي ما أصاب الرئيس قبل أن يصير إلى القوم، أو ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغ الموضع المقصود، ولا تجد المكس، وهو دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق الجاهلية، ولا تجد قولهم للملوك:( أبيت اللعن ) وغير ذلك مما اتفق على التعبير به المجتمعات الجاهلية التي عاش بينها محمد.
قلت: فالقرآن يتخير ألفاظه اختيارا إذن؟
قال: أجل.. وسأذكر لك بعض الأمثلة التي تقرب لك هذا[6]:
لقد جاء في القرآن:) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (النساء:85)
أتدري لم قال عن الشفاعة الحسنة (يكن له نصيب منها) وعن الشفاعة السيئة (يكن له كفل منها)؟
قلت: هو مجرد تنوع في الألفاط ليتخلص من التكرار.
قال: لا.. لقد وضع القرآن كل لفظة في محلها الخاص.. فمن معاني (الكِفل) في اللغة: النصيب المساوي، والمثل، والكفيل يضمن بقدر ما كفل ليس أكثر.. أما (النصيب) فمطلق غير محدد بشيء معين.
ولهذا جاء التعبير عن السيئة بقوله:) يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا (؛ لأن السيئة تجازى بقدرها، كما ورد في الآية الأخرى:) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا )(غافر: من الآية40)
أما الحَسَنة فتضاعف، فلهذا عبر عنها بقوله ) يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا (، وقد جاء في القرآن الإخبار بهذا، ففيه ) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ((الأنعام: 160)، وفيه:) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا (( القصص: 84)، وفيه:) وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)(غافر: من الآية40)
ولهذا قال عن حامل السيئة أن له الكفل أي المثل، أما صاحب الشفاعة الحسنة فله نصيب منها، والنصيب لا تشترط فيه المماثلة.
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثلا آخر.. لقد جاء في قصة خلق آدم في سورة الأعراف هذا النص:) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (لأعراف:12)
لقد أثبت القرآن (لا) في هذا الموضع، ولكنه لم يُثبتها في سورة (ص) ) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ( (صّ:75)
أتدري سر ذلك؟
قلت: أرى فرقا بين التعبيرين.. ولكني لست أدري سره.. أليست (لا) في الأعراف زائدة؟
قال: لا.. ليس في القرآن حرف واحد زائد.. إنه محكم غاية الإحكام.
لقد كان السؤال في سورة ( ص ) عن المانع لإبليس من السجود.. أي: لماذا لم تسجد؟ هل كنت متكبراً أم متعالياً؟ فقد ذكرت الآية سببان قد يكونان مانعين للسجود، هما الاستكبار والاستعلاء.
أما السؤال في سورة الأعراف فإنه عن شيء آخر.. ويكون معنى السؤال: ما الذي دعاك إلى ألا تسجد؟
والدليل على ذلك وجود ( لا ) النافية في الآية التي تدل على وجود فعل محذوف تقديره: أَلجأك، أحوَجَك..
فالسؤال هنا عن الدافع له لعدم السجود، وليس عن المانع له من السجود.
والجمع بينهما أن السؤال جاء على مرحليتين: في الأولى سئل عن السبب المانع من السجود.. وامتناع إبليس عن السجود قاده إلى عدم السجود.
وفي الثانية: السؤال عن السبب الحامل له على عدم السجود بعد أن أمره بذلك.
والحكمة من السؤال الثاني هو أنه من الممكن عقلا أن يكون هنالك سببان: سبب يمنع عن فعل شيء، وسبب يحمل على ترك شيء.
فقولك لأحدهم: لماذا لم تفعل كذا؟ يختلف عن سؤالك للآخر: ما الذي حملك على ترك كذا؟
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثالا آخر.. لقد جاء في القرآن:) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:41)
قلت: إن قومي يتعلقون بهذه الآية.. ويرمون بها المسلمين.
قال: أعلم ذلك.. هم يقولون: إن هذه الآية تخالف الحقيقة العلمية الثابتة بأن خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الفولاذ.
قلت: أجل.. أليس ذلك صححيا؟
قال: يكون ذلك صحيحا لو قال القرآن:( إن أوهن الخيوط خيط العنكبوت )
قلت: وما الفرق بينهما؟
قال: عظيم.. الخيوط هي مادة البناء.. والبناء لا يحتاج إلى مادة فقط.. بل يحتاج قبل ذلك إلى اختيار محل، وتأسيس قاعدة، ونواح هندسية كثيرة ليستقيم البناء.
أرأيت لو رصفنا طوبا كثيرا من أقوى أنواع الطوب من غير أن يكون ذلك على حسب القواعد الهندسية.. هل يمكن أن يستمر البنيان قائما؟
قلت: لا.. لعل أضعف ريح يمكنها أن ترديه أرضا.
قال: ولهذا عبر القرآن عن وهن البنيان، ولم يعبر عن وهن مادة البنيان.
سكت قليلا، ثم قال: أتدري لم نكرت كلمة (أحد) في سورة الإخلاص، بينما عرفت (الصمد).. فقد جاءت هذه السورة هكذا:) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)(الإخلاص)
قلت: لا.. ولكني أشعر أنه لابد أن تكون كذلك.
قال: نعم.. لابد أن تكون كذلك.. ولكن العلماء حاولوا أن يعرفوا سر ذلك.
قلت: فما وجدوا.
قال: إن كلمة (أحد) مسبوقة بكلمتين معرفتين (هو الله)، وهما مبتدأ وخبر.. وبما أن المبتدأ والخبر معرفتان ودلالتهما على الحصر.. فقد استغني بتعريفهما ودلالتهما على الحصر عن تعريف (أحد)
فجاء لفظ (أحد) نكرة على أصله.. لأن الأصل في الكلمة هو التنكير.. فهو نكرة ويعرب خبرا ثانيا.
كما أن لفظ (أحد) جاء على التنكير للتعظيم والتفخيم والتشريف، وللإشارة إلى أن الله تعالى فرد أحد لا يمكن تعريف كيفيته ولا الإحاطة به سبحانه وتعالى.
أما (الصمد)، فقد جاء معرفة في الآية الثانية لأن (الله الصمد) مبتدأ وخبر.. وجاءا معرفتين ليطابقا (هو الله ) في الآية الأولى.. وقد جاء تعريف (الله الصمد) ليدل على الحصر أيضاً.
فقوله (هو الله أحد) يدل على الحصر لتعريف المبتدأ والخبر.. أي أن الأحدية محصورة بالله.
وقوله (الله الصمد) يدل على الحصر أيضا لتعريف المبتدأ والخبر.. وذلك ليدل على أن الصمدانية محصورة بالله.
سكت قليلا، ثم قال: أتدري الفرق بين تعبير القرآن عن السلام ليحي والسلام للمسيح؟
قلت: أجل.. أعرف ذلك.. فقد جاء السلام على يحي منكرا:) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(12)وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا(13)وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا(14)وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا(15)(مريم)
بينما جاء على المسيح معرفا:) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31)وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32)وَالسَّلَامُ عَليَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)(مريم)
قال: أتدري ما سر هذا التفريق؟
قلت: ما سره؟
قال: لقد جاءت كلمة (السلام) نكرة في قصة يحيى، لأن ذلك جاء في سياق تعداد نعم الله عليه، وفيها إخبار من الله بأنه قد منح يحيى ( سلاما ) كريما في مواطن ثلاثة: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه حيا في الآخرة.
أما ( السلام ) في قصة المسيح، فقد جاء معرفة، لأن لفظ ( السلام ) هو كلام من المسيح، حيث دعا ربه أن يمنحه السلام في ثلاثة مواطن: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه حيا في الآخرة.
فبما أن المسيح هو الذي دعا، فمن المؤكد أنه سيُلح في الدعاء، فيطلب المعالي.. فلذلك عرّف السلام دلالة على أنه يريد السلام الكثير العام الشامل الغزير.
وفي هذا إشارة كذلك إلى أن السلام الذي حصل عليه المسيح كان أخص من السلام الذي حصل عليه يحيى، وأن المسيح أفضل من يحيى.
سكت قليلا، ثم قال: لقد وردت آيتان تتحدثان عن أمر واحد في سورة واحدة.. ومع ذلك اختلف التعبير في كل منها..
أما أولاهما، فقد ذكر فيها القرآن أن الله سيرى العمل هو ورسوله واكتفى بهما:) وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ((التوبة:94)
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin