..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: حياة الإنسان الشيخ عبدالحميد كشك
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyاليوم في 16:30 من طرف Admin

» كتاب: لبس الخرقة في السلوك الصوفي ـ يوسف بن عبد الهادي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyاليوم في 16:27 من طرف Admin

» كتاب: تنبيه السالكين إلى غرور المتشيخين للشيخ حسن حلمي الدغستاني
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 20:03 من طرف Admin

» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 20:02 من طرف Admin

» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:42 من طرف Admin

» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:39 من طرف Admin

» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:37 من طرف Admin

» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:34 من طرف Admin

» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:31 من طرف Admin

» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:28 من طرف Admin

» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:26 من طرف Admin

» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:24 من طرف Admin

» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:21 من طرف Admin

» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:19 من طرف Admin

» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Emptyأمس في 19:17 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68445
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Empty كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 15:54

    عاشرا ـ الجمال

    في اليوم العاشر من رحلتي إلى الإسكندرية، جاءتني رسالة مستعجلة من كنيستنا في ألمانيا تطلب مني الحضور السريع.. دهشت لهذه الرسالة، ولهذا الاستعجال الذي لم أتعوده منها.

    حزمت أمتعتي، وودعت أخي الذي واصل مكوثه في الإسكندرية لإكمال ما أوكل إلينا من مهام..

    بحثت عن سيارة توصلني إلى القاهرة، لأمتطي الطائرة التي تعود بي إلى بلدي، فلم أجد.. لم أعرف السبب حينها، ولكني عرفت بعد ذلك أن الله أراد أن لا أجد أي سيارة، لأتعرض لشعاع جديد من أشعة محمد، ولأتعرف على السور الأخير من أسوار الكلمات المقدسة..

    اقترب مني أحد العمال في مطبعتنا، وقال: أراك مستعجلا.. إلى أين تريد الذهاب؟

    قلت: إلى القاهرة.. لقد جاءتني رسالة مستعجلة، ولا بد أن أكون مساء هذا اليوم في القاهرة لأرحل غدا باكرا إلى بلدي.

    قال: لدي حل إن كنت تقبله.

    قلت: وما هو؟

    قال: لدينا شاحنة تذهب كل أسبوع إلى القاهرة لتحمل نسخا من الكتاب المقدس إلى كنائسنا ومكتباتنا هناك.. وهي ستسير الآن.. فإن كان ذلك لا يضيرك، فتعال لتركب فيها، فتتشرف الشاحنة، ويتشرف صاحبها بصحبتك.

    قلت: شكرا على هذا العرض الطيب.. بل الشرف لي أن أركب شاحنة تحمل نسخ الكتاب المقدس.

    قال: فهيا إذن..

    سرت معه إلى الشاحنة، وجلست في المقعد أمام السائق، وانتظرت برهة، فإذا بالعامل نفسه يجلس في كرسي السائق، قلت: أنت هو السائق إذن؟

    قال: أجل.. لقد كنت أراك دائما.. وكان لي شوق أن أجلس معك، وقد أتاح الله لي هذه الفرصة لتسير معي كل هذه المسافة.

    قلت: ما اسمك؟

    قال: لويس بشارة..

    قلت: أنت مسيحي إذن؟

    قال: لا شك في ذلك.. كيف أكون عاملا في مطبعة الكتاب المقدس، ثم لا أكون مسيحيا؟

    قلت: لا أقصد بالمسيحية الانتماء.. بل أقصد الدين.. هل أنت متدين؟

    قال: أجل.. أنا ملتزم بكل شعائر الكنيسة وطقوسها، ولولا ذلك ما اشتقت للجلوس إليك.

    قلت: شكرا على هذه المجاملة.. ولكني متعب.. ولدي سفر طويل.. ولهذا ـ ربما ـ لا أستطيع أن أرضيك بما تشتهي من مواعظ.

    قال: لا بأس.. يشرفني أن تجلس معي فقط.. فقد تتحادث الأرواح بما لا تتحادث به الأجساد.

    أعجبت بقوله هذا.. ثم سرنا برهة لا يحدث بعضنا بعضا.. رأى في وجهي بعض الضيق، فقال: لعلك تريد أن تسمع شيئا.. لدي أشرطة كثيرة.. ما الذي تريد أن تسمع منها؟

    قلت: ما تقصد؟

    قال: الموسيقى.. ألست تحب الموسيقى؟

    قلت: أجل.. ولكني أحب سماع الصوت البشري الممتلئ بالإيمان.. فهو أحب إلى نفسي من تلك الأجراس التي تدقها الموسيقى.. خاصة موسيقى هذه الأيام.

    قال: أنت مثلي إذن.. فأنا لا أحب إلا سماع الأصوات التي أشعر بصدقها.. إنني أحلق معها في عوالم الجمال التي لا يطيق لساني التعبير عنها.

    قلت: وهل لك أشرطة تحوي مثل هذه الأصوات؟

    سكت قليلا، ثم قال: أجل.. ولكني أخاف منك أن تغضب إن علمت بوجودها عندي.

    قلت: ما تقصد؟

    قال: أنا أخفي هذه الأشرطة عن أعين زملائي خشية أن تصل أخبارها إلى مسؤول المطبعة، فيعاقبني، وقد يطردني.

    قلت: ما تقول؟.. أتحمل ممنوعات في هذه الشاحنة؟.. ألست تحمل الكتاب المقدس؟

    قال: أجل.. أنا أحمل الكتاب المقدس.. ولكني ـ لطول الطريق ـ أستمع إلى بعض الأشرطة التي تيسر علي قطع الطريق.

    قلت: ومن يمنعك من سماعها؟

    قال: أتأذن لي في سماعها؟

    قلت: لا حرج عليك.. بل لعلني سأتمتع بها كما تتمتع بها أنت أيضا.

    أوقف الشاحنة، ثم فتح حقيبته، وأخرج أشرطة محفوظة بعناية كما تحفظ الممنوعات، ثم قال: أنا أغامر الآن بسماع هذه الأشرطة أمامك، فأرجو أن يبقى هذا سرا بيني وبينك.

    قلت: لا بأس.

    وضع الشريط على القارئ، وبقيت منتظرا بلهفة سماع هذه الأشرطة التي ملأته بالأشواق والمخاوف، فإذا بي أفاجأ بالقرآن الكريم يقرأ بصوت عذب.. مملوء بالإيمان.

    لقد شعرت حينها بقشعريرة لذيذة تسري في جسدي، فتملؤني بمشاعر لا أستطيع وصفها.

    إلتفت إلى صاحبي، فإذا بدموعه تكاد تفيض، قلت: أهذا قرآن محمد؟

    قال: أجل.. فاستر ذلك علي.

    قلت: ولم تضع قرآن محمد.. وأنت تحمل الكتاب المقدس؟

    قال: لقد ذكرت لك أني أشعر عند سماعه بمتعة لا تدانيها متعة، وبلذة لا تدانيها لذة.

    قلت: فكيف اخترته من بين كل الأصوات الجميلة التي تنبعث من حناجر العالم؟

    قال: لست أدري متى بدأ ذلك.. وكيف بدأ.. ولكني كلما سمعت القرآن يتلى كلما امتلأت بهذه المشاعر اللذيذة.. أتدري؟

    قلت: ماذا؟

    قال: أنا أصاحب باعة الأشرطة لسبب واحد هو سماع تلك الأصوات الجميلة التي تنبعث من حناجر قارئي القرآن.

    خطرت على بالي فكرة وضع تراتيل للكتب المقدس تضارع تراتيل القرآن، فرحت أسارع بطرحها عليه، قلت: أتدري.. لقد جعلني كلامك هذا أفكر في وسيلة مهمة قد تجذب ملايين المسلمين إلى المسيحية، وفي نفس الوقت ترضي نهم المسيحيين إلى هذا الجمال الذي يتمتع به قرآن محمد.

    قال: أعلم تلك الفكرة.. لقد خطرت على بالي منذ سنوات.. بل رحت أحاول تنفيذها.. لكني لم أزد طين كتابنا المقدس إلا بلة.

    قلت: اسمع الفكرة أولا.. ثم ناقشها.

    قال: ولماذا أسمعها منك.. وقد سمعتها من نفسي منذ سنوات؟

    قلت: أي فكرة تقصد؟

    قال: أنت تبحث عن وضع تراتيل للكتاب المقدس تشبه تراتيل المسلمين.. أهذه هي فكرتك؟

    قلت: أجل.. فما الذي يحول بيننا وبين تنفيذها؟.. أم أنك ترى بأن المسلمين سيخرجون إلى الشوارع في انتفاضة عارمة؟

    قال: لا أقصد هذا.. حتى لو خرجوا.. فما عساهم يفعلوا؟.. إنهم سرعان ما يتأقلمون وينسون.. ولكن أخشى أن توضع هذه التراتيل في المسرحيات الكوميدية لتملأ أفواه الناس بالضحك، لا قلوبهم بالخشوع.

    قلت: ما تقول؟

    قال: إن المرتل لقرآن المسلمين يبدأ القرآن من أوله إلى آخره.. فلا يزيد سامعيه إلا خشوعا[1]..

    قلت: فليبدأ القارئ تراتيله للكتاب المقدس من أوله إلى آخره..

    قال: سأسلم لك.. بل سأطبق هذا أمامك، فقد وهبني الله صوتا لا يقل عن صوت هؤلاء القراء.. بالإضافة إلى أني أملك قدرة على التقليد لا تضاهى.. ولذلك سأقلد القارئ المعروف (عبد الباسط عبد الصمد) في قراءته للسور القصار.

    فاختر أي جزء من الكتاب المقدس أقرؤه عليك.

    قلت: اقرأ ما تشاء.

    قال: أنا أحفظ إنجيل متى عن ظهر قلب.. ولذلك سأقرؤه عليك من أوله.

    بدأ القراءة، لقد كان صاحب صوت جميل جدا.. بدأ إنجيل متى من أوله:( كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم. ابراهيم ولد اسحق. واسحق ولد يعقوب. ويعقوب ولد يهوذا واخوته. ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار. وفارص ولد حصرون. وحصرون ولد ارام. وارام ولد عميناداب. وعميناداب ولد نحشون. ونحشون ولد سلمون. وسلمون ولد بوعز من راحاب. وبوعز ولد عوبيد من راعوث. وعوبيد ولد يسى. ويسى ولد داود الملك. وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا وسليمان ولد رحبعام. ورحبعام ولد ابيا. وابيا ولد آسا. )(متى: 1/1ـ 7)

    تركته يقرأ إلى أن وصل إلى قوله:( فجميع الاجيال من ابراهيم الى داود اربعة عشر جيلا. ومن داود الى سبي بابل اربعة عشر جيلا. ومن سبي بابل الى المسيح اربعة عشر جيلا )(متى: 1/17)

    لست أدري كيف لم أملك نفسي من الضحك.. لقد ضحكت كما لم أضحك في حياتي، التفت إلي، وقال: ألم أقل لك: إن اقتراحك يصلح لإضحاك الناس لا لإبكائهم.

    بعد أن عادت إلي نفسي، اصطنعت الجد، وقلت: أجل.. كلامك صحيح.. ولكن ما السر في اختلاف كتاب المسلمين عن كتابنا في هذه الناحية؟

    قال: لقد بحثت في ذلك..

    قلت: فما وجدت؟

    قال: أربعة أسباب.

    قلت: فما هي؟.. عسانا نوفرها لكتابنا المقدس.

    قال: ذلك محال.. لقد جربت كل الوسائل.. وكانت النتيجة لا تختلف عن تلك الضحكات التي أرسلتها.. إن تلك المعاني الأربع لم تتحقق إلا في كتاب محمد.

    قلت: فما هي؟

    قال: التعبير الفني، والتصوير الفني، والنظم الفني، والنغم الفني.

    1 ـ التعبير الفني

    قلت: فما تريد بالتعبير الفني؟

    قال: بإمكانك أن تقارن القرآن بأي كتاب في الدنيا، فستجد فيه من عذوبة التعبير وجماله ما يقصر دونه كل كلام.

    قلت: وما أدراك أنت باللغة وشؤون البلاغة فيها.. لو كنت شاعرا قبلت قولك، ولو كنت خطيبا ربما وثقت بحكمك.. لكنك لست سوى سائق؟

    قال: أجل.. أنا لست سوى سائق.. ولكني مع ذلك أتذوق الكلام، كما أتذوق الطعام.. إن للكلام الطيب حلاوة لا تحوجنا إلى مختصين ينوبون عنا في تذوقها.

    ومع ذلك.. فقد عرفت أن القرآن تحدى أهل عصره بمن فيهم من البلغاء والفصحاء، فلم يملكوا إلا أن يقروا بما لم تقبله مني.

    لقد استقل العرب في البدء من شأن القرآن، فراحو يقولون:) لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ((لأنفال: من الآية31)، وقالوا:) إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ( (النحل: من الآية103)) وقالوا:) مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ((الأنعام: من الآية91)

    لكنهم سرعان ما تراجعوا عن هذه الأحكام المستعجلة التي أفرزها كبرهم لا عقولهم.. لقد كانوا في ذلك أشبه بطفل صغير يريد أن يواجه مصارعا خطيرا.. فلا يملك بعد حين من المواجهة إلا أن ينكص على عقبيه.

    لما قالوا ذلك، رد عليهم القرآن.. وهم الفصحاء البلغاء.. الشعراء الخطباء.. طالبا منهم أن يواجهوا تحديه، لقد قال لهم بصراحة لا تعلوها أي صراحة:) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ((الطور:33 ـ 34)

    بل نزل.. فاكتفى بأن يحدد لهم عشر سور مثله مفتريات فيما كانوا يزعمون:) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ((هود:13)

    ثم زاد، فنزل.. واكتفى بأن يطلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله.. بأي سورة، ولو سورة قصيرة، لقد قال لهم:) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ((يونس:38)

    فلم يجرؤوا أن يفعلوا.. لقد بقي يطالبهم أكثر من عشرين سنة بذلك، مظهراً لهم النكير، زارياً على أديانهم، مسفهاً آراءهم وأحلامهم.. ومع كل ذلك لم يجرؤوا على الاقتراب منه..

    نعم لقد نابذوه وناصبوه الحرب التي هلكت فيه النفوس، وأريقت المهج، وقطعت الأرحام، وذهبت الأموال.. أترى أنهم لو كانوا قادرين على مواجهته بكلام مثل كلامه كانوا يقصرون!؟

    لقد كان القرآن يقول لهم متحديا:) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ((البقرة: من الآية24)، انظر.. إنه تحد ليس فوقه تحد.. بل هو يضيف فيطلب منهم أن يجتمعوا بإنسهم وجنهم على مواجهته، فيقول:) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً((الاسراء:88)

    قلت: لقد كان لانشغالهم بمواجهته أثر في سكوتهم عن الرد عليه.. أحيانا يجد الإنسان نفسه ـ تحت ضغط ظروف معينة ـ يتصرف بعيدا عن عقله.

    قال: لا.. لقد كان قومه موصوفين برزانة الأحلام ووفارة العقول، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء المفلقون.. بل إن القرآن وصفهم بالجدل واللدد، فقال:) مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ((الزخرف: من الآية58)، وقال:) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً((مريم:97)

    قلت: أحيانا ينبغ رجل من الناس بين قومه.. ولن تجد أحدا يستطيع مواجهته.. ألست ترى الملاكمين العالميين الذين يتهاوى الرجال أمامهم كما يتهاوى البنيان؟

    قال: أليس عجيبا أن ينهض رجل أمي عاش بينهم أربعين عاماً لم يسمعوا منه بيتاً من الشعر، أو قولاً بليغاً، ليأتيهم بكلام يتحداهم به جميعا، بجيمع شعرائهم وبلغائهم وعلمائهم من الإنس والجن لا في زمانه فحسب، بل في كل الأزمنة؟

    لقد احتاروا في سر تلك الجاذبية التي يجذبهم بها القرآن، فراحوا يقولون:) لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾(فصلت: 26(

    قلت: فأنت ترى أن سر إعجاز القرآن الذي يذكره المسلمون هو تعبيره الذي حير البلغاء.

    قال: لا.. هذا جزء من إعجازه.. إعجازه لا يمكن التعبير عنه.

    قلت: فكيف تسمي ما لا تستطيع التعبير عنه معجزا؟

    قال: إن نواحي الإعجاز في القرآن أكثر من أن تحصرها العبارة.. وما الإعجاز البلاغي إلا ناحية من نواحيه.

    قلت: أنت تتلقى كل ذلك تقليدا.. فلست تذكر سوى ما ذكر لك.

    قال: لا.. نعم أنا سائق.. ولكني ابن لهذه اللغة، محب لها عشت أقرأ شعرها ونثرها، وأتنعم بقصصها ورواياتها، ولولا ذلك ما حدثتك بهذا.

    قلت: فحدثني عما رفع القرآن إلى تلك الآفاق التي عجز عنها سائر الكلام.

    قال: أول شيء تتذوقه من القرآن هو تلك المعاني الجميلة التي جاء بها، وكساها بثياب معجزة من البلاغة.

    قلت: أي إعجاز في هذا.. إن من قدر على شيء يقدر على غيره.

    قال: لا.. لا يمكن ذلك.. هل تراني ـ وأنا سائق الشاحنة ـ قادرا على أن أسوق الطائرة؟

    إن قدرات البلغاء محدودة.. سل الشعراء والبلغاء ليخبروك.. وإن شئت أن تتحدى أكبر الشعراء في أن يسوغ لك قوانين المرور في قصيدة فافعل، فسيعجز عن ذلك لا محالة.

    قلت: والقرآن؟

    قال: لقد انتظم القرآن كل المعاني.. ومع ذلك لم يخل في معنى من المعاني بما أودع فيه من أسرار الإعجاز..

    لقد كانت بلاغة العرب ـ الذين هم قوم محمد ـ لا تعدو وصفا لمشاهداتهم، مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة أو حرب أو غارة.. أو لغو كثير لأجل أمر حقير.. وليس في القرآن ـ الذي جاء به محمد في تلك البيئة ـ أي شيء من هذه الأشياء.

    وهذا وحده معجز.. أليس للبيئة والعصر آثارا في نفوس البلغاء.. ألستم تتعرفون من خلال الكتاب المقدس على البيئة التي كتب فيها.. لكن القرآن يخلو من كل ذلك، وكأن الذي كتبه ليس في الأرض.. إنه من عالم آخر!؟

    صمت قليلا، ثم قال: بالإضافة إلى هذا ألست ترى الشعراء والبلغاء قد يحسنون في فن، ويسيئون في غيره؟

    قلت: بلى.. ولهذا قالوا في شعر امرئ القيس: يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل.. وقالوا: شعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء.. وهكذا كل شاعر يحسن كلامه في فنّ، فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن.

    قال: إلا القرآن[2].. فإنه جاء فصيحاً في كل الفنون على أعلى طبقات الفصاحة:

    اسمع ما يقول في الترغيب:) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ((السجدة:17).. ويقول:) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ((الزخرف:71) أترى كلاما يمكن أن يرغبك في شيء كما يرغبك هذا الكلام.. إنه يجعل لنفسك الحرية في اختيار ما تشتهي، كما يجعل لبصرك الحرية في اختيار ما يرى.. إنك لو جمعت جميع أصناف النعيم في قصيدة ألفية ما استطاعت أن تعبر بمثل هذا المختصر الوجيز.

    ثم اسمع ما يقول في الترهيب:) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً((الاسراء:68).. ويقول:) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ( (إبراهيم:15ـ17) انظر المخاوف التي تحملها هذه الآيات.

    وقال في الزجر ما لا يبلغه وهم البشر:) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (العنكبوت: 39 ـ 40)

    وقال في الوعظ:) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ((الشعراء: 205 ـ 207) هل ترى وعظا أعظم تأثيرا في النفس من هذا الوعظ؟

    وقال في وصف الله:) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ((البقرة:255)

    وهكذا الشأن في كل المواضيع التي طرقها القرآن، وهي مواضيع لا تعد كثرة.

    وفوق هذا كله.. لقد التزم القرآن الصدق في كل ذلك، مع أن البلاغة أحيانا قد تتطلب من التعابير ما يحوجها إلى الكذب والزيادة والنقصان.. ألست ترى كل شاعر ترك الكذب، والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيداً، ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي؟

    لكن القرآن ـ مع التزامه الصدق التام ـ جاء في قمة قمم البلاغة.

    قلت: إلى الآن.. لم أفهم سر حرصك على هذه القمم التي تتحدث عنها بثقة عجيبة.. لو كنت مسلما، لقلت: إن الرجل مسلم.. ويجب عليه أن يقول هذا وإلا طرد من ساحة المسلمين، فتطلق زوجته، ويرمى في غير مقابر المسلمين، ولكني أراك مسيحيا، فكيف تصر على هذا؟

    قال: إن كوني مسيحيا لا يحول بيني وبين الاعتراف بالحق لأهله.. لقد رأيت كثيرا من إخواننا المسيحيين يعلمون أولادهم القرآن حرصا على تنمية قدراتهم البلاغية.. وقد فعل والدي ذلك.. فلذا تراني أحفظ القرآن.. لقد حفظته في الكتاب مع أولاد المسلمين.

    قلت: فما الذي جعلك تصر على اعتباره أبلغ كلام وأفصحه؟

    قال: أنت تعرف أن الكلام من حيث بلاغته ثلاثة أنواع: فمنه البليغ الرصين الجزل.. ومنه الفصيح القريب السهل.. ومنه الجائز الطلق الرسل.

    كل الكلام البليغ لا يخرج عن هذه الأنواع.. فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه.. والقسم الثاني أوسطه وأقصه.. والقسم الثالث أدناه وأقربه [3].

    قلت: فأنت ترى أن القسم الأول هو الذي ينتمي إليه القرآن؟

    قال: لو كان كذلك لما كان معجزا.. أو لكان معجزا بالنسبة للقسم الذي ينتمي إليه..

    قلت: فإلى أي قسم ينتمي إذن؟

    قال: إلى الأقسام الثلاثة.. لقد حازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة.. وما أصعب أن تجمع بين الفخامة والعذوبة.

    قلت: لم؟

    قال: لأنهما عند الإنفراد في نعوتهما كالمتضادين، فالعذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة تعالجان نوعاً من الوعورة.. فلهذا كان اجتماع الأمرين في نظمه، مع بعد كل واحد منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن.

    قلت: فلم عجز البشر عن الإتيان بمثل هذا؟

    قال: إن كل كلام لابد له من ثلاثة أمور: لفظ حامل، ومعنى قائم به، ورباط لهما ينظمهما.. وقد حاز القرآن كل هذه الأمور في منتهى كمالها، فلذلك لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه.. ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً وتشاكلاً من نظمه..

    أما المعاني، فأنت تعرف المعاني السامية التي جاء القرآن لتقريرها وتأكيدها وتربية النفوس عليها.. إنها المعاني التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نوعتها وصفاتها.

    قلت: ولكن مثل هذا قد يوجد في كلام البلغاء؟

    قال: يوجد مفرقا لا مجموعا.. ولهم العذر في ذلك.. لأن من رام ذلك يجب أن يكون محيطا بجميع العربية وألفاظها ثم يحيط بجميع دلالاتها.. والبشر جميعا لا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها، إلى أن يأتو بكلام مثله.

    قلت: فأنت ترى أن القرآن إنما صار معجزاً، لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمناً أصح المعاني.

    قال: أجل.. ولا يمكننا ـ ولو طفنا على الأرض بهذه الشاحنة ـ أن نستوفي ما يتطلبه هذا الإجمال من تفصيل، وهذه القواعد من أمثلة.

    ولكني أكتفي بأن أذكر لك بأن الكتاب الذي يحتوي على كل هذه المعاني السامية، من وصف لله، ودعاء إلى طاعته، وبيان منهاج عبادته، من تحليل وتحريم، ومن وعط وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، مودعاً أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئاً عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الباقية من الزمان، جامعاً في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.. كتاب يعجز جميع البشر.. بل تعجز جميع الكائنات أن تأتي بمثله.

    صمت قليلا، وكأنه يسترجع أنفاسه، ثم قال: ناحية أخرى جديرة بالاهتمام.. وهي أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح، يتفق ـ عادة ـ في القصيدة في البيت والبيتين والباقي لا يكون كذلك.. فتكتفي القصيدة بالتزين ببيتها أو بيتيها، وتظل عاطلة في سائر أبياتها.. أما القرآن، فإنه كله فصيح يعجز الخلق عن آحاده كما يعجزون عن جملته.

    ثم إن من قال كلاما فصيحا في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول.. بينما نجد في القرآن تكرار كثير، ومع ذلك، كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولا يظهر التفاوت أصلاً.

    زيادة على هذا فإن في مواضيع القرآن ما قد يوجب اختلال فصاحة أي فصيح، ولكن القرآن يطرقها طرقا جميلا، فلا تؤثر فيه المواضيع مهما تبادعت أغراضها، اسمع إليه، وهو يعبر عن أركان طهارة المسلمين وأنواعها في إيجاز بليغ:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ((المائدة:6)

    ولهذا تجد القرآن أصلا للعلوم كلها، فعلم لاهوت المسلمين كله في القرآن، وعلم الفقه كله مأخوذ من القرآن، وعلم أصول الفقه وعلم النحو واللغة، وعلم الزهد في الدنيا وأخبار الآخرة، واستعمال مكارم الأخلاق كلها مستنبطة من القرآن مأخوذة منه.

    فالقرآن لا يقصد الكلام البليغ لذات الكلام البليغ، بل يقصده ليستخدمه وسيلة لتبليغ أغراضه.. وهذا خلاف سائر الكلام.. فالشعراء الذين اهتموا بتزويق الكلام والحرص على زينته تاهوا فيما لا حاجة فيه من وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيها بيتًا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته.

    وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة.. إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا لا يَخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوقها بحيث تتحرك إلى ما طلبه منها عن رضا وطيبة نفس.

    قلت: لقد ساعدت اللغة العربية القرآن على اقتحام هذه المجاهيل.. فهي لغة ثرية غنية بمفرداتها وتراكيبها.. ولولاها ما كان للقرآن هذا الجمال، وهذه القوة.

    قال: نعم.. اللغة العربية كما ذكرت.. وأكثر مما ذكرت.. ولكنها في نفس الوقت كان فيها كلاما كثيرا من الغريب والألفاظ الحوشية الثقيلة على السمع.. وهو ما لجأ إليه مضطرا الكثير من البلغاء والشعراء.. ولكن القرآن تجنب ذلك كله، ولم يختر من اللغة إلا ما اجتمع فيه المعنى الرفيع مع اللفظ الجميل.

    اسمع ما يقول الشنفرى[4]:

    وَلي دونَكُم أَهلَونَ سيدٌ عَمَلَّسٌ وَأَرقَطُ زُهلولٌ وَعَرفاءُ جَيأَلُ

    وفيها يقول:

    دَعَستُ عَلى غَطشٍ وَبَغشٍ وَصُحبَتي سُعارٌ وَإِرزيزٌ وَوَجرٌ وَأَفكُلُ

    فَأَيَّمتُ نِسواناً وَأَيتَمتُ آلَدَةً وَعُدتُ كَما أَبدَأتُ وَاللَيلُ أَليَلُ

    لقد تجنب القرآن أكثر الألفاظ الغريبة التي استعملها هذا الشاعر وغيره.. فلا تجد في القرآن مع سعة حجمه مقارنة بقصائد الشعراء ألفاظا مثل مسشزرات، وجحلنجح، والبخصات، والملطاط، وغير ذلك كثير.

    ولا تجد تعابير مثل هذه التعابير التي قالها بعض المتقعرين:( دنها، فإذا همت تأتدن، فلا تخلها تمرخد، وقبل أن تقفعل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وكيلة، ولا جشيّة، ثم امعسها معساً رقيقاً، ثم سن شفرتك، وأمهها فإذا رأيت عليها مثل الهبوة فسن رأس الأزميل )[5]

    ولا تجد القرآن واقعيا يعبر بالألفاظ السوقية التي يأبى معانيها، فلا تجد فيه كلمة المرباع التي تعني ربع الغنيمة إلى الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية، ولا تجد النشيطة وهي ما أصاب الرئيس قبل أن يصير إلى القوم، أو ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغ الموضع المقصود، ولا تجد المكس، وهو دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق الجاهلية، ولا تجد قولهم للملوك:( أبيت اللعن ) وغير ذلك مما اتفق على التعبير به المجتمعات الجاهلية التي عاش بينها محمد.

    قلت: فالقرآن يتخير ألفاظه اختيارا إذن؟

    قال: أجل.. وسأذكر لك بعض الأمثلة التي تقرب لك هذا[6]:

    لقد جاء في القرآن:) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (النساء:85)

    أتدري لم قال عن الشفاعة الحسنة (يكن له نصيب منها) وعن الشفاعة السيئة (يكن له كفل منها)؟

    قلت: هو مجرد تنوع في الألفاط ليتخلص من التكرار.

    قال: لا.. لقد وضع القرآن كل لفظة في محلها الخاص.. فمن معاني (الكِفل) في اللغة: النصيب المساوي، والمثل، والكفيل يضمن بقدر ما كفل ليس أكثر.. أما (النصيب) فمطلق غير محدد بشيء معين.

    ولهذا جاء التعبير عن السيئة بقوله:) يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا (؛ لأن السيئة تجازى بقدرها، كما ورد في الآية الأخرى:) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا )(غافر: من الآية40)

    أما الحَسَنة فتضاعف، فلهذا عبر عنها بقوله ) يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا (، وقد جاء في القرآن الإخبار بهذا، ففيه ) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ((الأنعام: 160)، وفيه:) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا (( القصص: 84)، وفيه:) وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)(غافر: من الآية40)

    ولهذا قال عن حامل السيئة أن له الكفل أي المثل، أما صاحب الشفاعة الحسنة فله نصيب منها، والنصيب لا تشترط فيه المماثلة.

    سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثلا آخر.. لقد جاء في قصة خلق آدم في سورة الأعراف هذا النص:) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (لأعراف:12)

    لقد أثبت القرآن (لا) في هذا الموضع، ولكنه لم يُثبتها في سورة (ص) ) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ( (صّ:75)

    أتدري سر ذلك؟

    قلت: أرى فرقا بين التعبيرين.. ولكني لست أدري سره.. أليست (لا) في الأعراف زائدة؟

    قال: لا.. ليس في القرآن حرف واحد زائد.. إنه محكم غاية الإحكام.

    لقد كان السؤال في سورة ( ص ) عن المانع لإبليس من السجود.. أي: لماذا لم تسجد؟ هل كنت متكبراً أم متعالياً؟ فقد ذكرت الآية سببان قد يكونان مانعين للسجود، هما الاستكبار والاستعلاء.

    أما السؤال في سورة الأعراف فإنه عن شيء آخر.. ويكون معنى السؤال: ما الذي دعاك إلى ألا تسجد؟

    والدليل على ذلك وجود ( لا ) النافية في الآية التي تدل على وجود فعل محذوف تقديره: أَلجأك، أحوَجَك..

    فالسؤال هنا عن الدافع له لعدم السجود، وليس عن المانع له من السجود.

    والجمع بينهما أن السؤال جاء على مرحليتين: في الأولى سئل عن السبب المانع من السجود.. وامتناع إبليس عن السجود قاده إلى عدم السجود.

    وفي الثانية: السؤال عن السبب الحامل له على عدم السجود بعد أن أمره بذلك.

    والحكمة من السؤال الثاني هو أنه من الممكن عقلا أن يكون هنالك سببان: سبب يمنع عن فعل شيء، وسبب يحمل على ترك شيء.

    فقولك لأحدهم: لماذا لم تفعل كذا؟ يختلف عن سؤالك للآخر: ما الذي حملك على ترك كذا؟

    سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثالا آخر.. لقد جاء في القرآن:) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:41)

    قلت: إن قومي يتعلقون بهذه الآية.. ويرمون بها المسلمين.

    قال: أعلم ذلك.. هم يقولون: إن هذه الآية تخالف الحقيقة العلمية الثابتة بأن خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الفولاذ.

    قلت: أجل.. أليس ذلك صححيا؟

    قال: يكون ذلك صحيحا لو قال القرآن:( إن أوهن الخيوط خيط العنكبوت )

    قلت: وما الفرق بينهما؟

    قال: عظيم.. الخيوط هي مادة البناء.. والبناء لا يحتاج إلى مادة فقط.. بل يحتاج قبل ذلك إلى اختيار محل، وتأسيس قاعدة، ونواح هندسية كثيرة ليستقيم البناء.

    أرأيت لو رصفنا طوبا كثيرا من أقوى أنواع الطوب من غير أن يكون ذلك على حسب القواعد الهندسية.. هل يمكن أن يستمر البنيان قائما؟

    قلت: لا.. لعل أضعف ريح يمكنها أن ترديه أرضا.

    قال: ولهذا عبر القرآن عن وهن البنيان، ولم يعبر عن وهن مادة البنيان.

    سكت قليلا، ثم قال: أتدري لم نكرت كلمة (أحد) في سورة الإخلاص، بينما عرفت (الصمد).. فقد جاءت هذه السورة هكذا:) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)(الإخلاص)

    قلت: لا.. ولكني أشعر أنه لابد أن تكون كذلك.

    قال: نعم.. لابد أن تكون كذلك.. ولكن العلماء حاولوا أن يعرفوا سر ذلك.

    قلت: فما وجدوا.

    قال: إن كلمة (أحد) مسبوقة بكلمتين معرفتين (هو الله)، وهما مبتدأ وخبر.. وبما أن المبتدأ والخبر معرفتان ودلالتهما على الحصر.. فقد استغني بتعريفهما ودلالتهما على الحصر عن تعريف (أحد)

    فجاء لفظ (أحد) نكرة على أصله.. لأن الأصل في الكلمة هو التنكير.. فهو نكرة ويعرب خبرا ثانيا.

    كما أن لفظ (أحد) جاء على التنكير للتعظيم والتفخيم والتشريف، وللإشارة إلى أن الله تعالى فرد أحد لا يمكن تعريف كيفيته ولا الإحاطة به سبحانه وتعالى.

    أما (الصمد)، فقد جاء معرفة في الآية الثانية لأن (الله الصمد) مبتدأ وخبر.. وجاءا معرفتين ليطابقا (هو الله ) في الآية الأولى.. وقد جاء تعريف (الله الصمد) ليدل على الحصر أيضاً.

    فقوله (هو الله أحد) يدل على الحصر لتعريف المبتدأ والخبر.. أي أن الأحدية محصورة بالله.

    وقوله (الله الصمد) يدل على الحصر أيضا لتعريف المبتدأ والخبر.. وذلك ليدل على أن الصمدانية محصورة بالله.

    سكت قليلا، ثم قال: أتدري الفرق بين تعبير القرآن عن السلام ليحي والسلام للمسيح؟

    قلت: أجل.. أعرف ذلك.. فقد جاء السلام على يحي منكرا:) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(12)وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا(13)وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا(14)وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا(15)(مريم)

    بينما جاء على المسيح معرفا:) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30)وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31)وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32)وَالسَّلَامُ عَليَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(33)(مريم)

    قال: أتدري ما سر هذا التفريق؟

    قلت: ما سره؟

    قال: لقد جاءت كلمة (السلام) نكرة في قصة يحيى، لأن ذلك جاء في سياق تعداد نعم الله عليه، وفيها إخبار من الله بأنه قد منح يحيى ( سلاما ) كريما في مواطن ثلاثة: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه حيا في الآخرة.

    أما ( السلام ) في قصة المسيح، فقد جاء معرفة، لأن لفظ ( السلام ) هو كلام من المسيح، حيث دعا ربه أن يمنحه السلام في ثلاثة مواطن: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه حيا في الآخرة.

    فبما أن المسيح هو الذي دعا، فمن المؤكد أنه سيُلح في الدعاء، فيطلب المعالي.. فلذلك عرّف السلام دلالة على أنه يريد السلام الكثير العام الشامل الغزير.

    وفي هذا إشارة كذلك إلى أن السلام الذي حصل عليه المسيح كان أخص من السلام الذي حصل عليه يحيى، وأن المسيح أفضل من يحيى.

    سكت قليلا، ثم قال: لقد وردت آيتان تتحدثان عن أمر واحد في سورة واحدة.. ومع ذلك اختلف التعبير في كل منها..

    أما أولاهما، فقد ذكر فيها القرآن أن الله سيرى العمل هو ورسوله واكتفى بهما:) وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ((التوبة:94)
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68445
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Empty رد: كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 15:56

    وأما الثانية، وهي في نفس السورة، فقد ذكر بأنه سيرى الله عملهم هو ورسوله والمؤمنون:) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ((التوبة:105)

    أتدري ما سر ذلك؟

    تأملت قليلا، ثم قلت: ما سر ذلك؟

    قال: لقد وردت الآية الأولى في سياق الحديث عن المنافقين.. وهم كفار اتخذوا وسيلة إظهار الإسلام وإبطان الكفر محاولة لنقض الإسلام من داخله.. أما الثانية فقد جاءت في سياق الحديث عن المؤمنين الصالحين ودعوتهم إلى العمل الصالح وخاصة دفع الزكاة.

    فلهذا حذفت كلمة (والمؤمنون) في سياق الآية الأولى، لأن الكلام فيها عن المنافقين.. ولطبيعة النفاق فإن المسلمين لا يعلمون ما يخفي المنافق في قلبه، لأنهم لا يعلمون الغيب، والله عالم السر وأخفى، وهو أخبر محمدا بأسمائهم كلهم.. ولهذا كان الله ورسوله يعلمان كذبهم، لكن باقي المؤمنين لا يعلمون ذلك.

    أما في الآية الثاني فهي في سياق الحديث عن أعمال المسلمين الظاهرة المكشوفة من صلاة وزكاة.. والتي يراها إخوانهم المسلمون ويطلعون عليها.

    سكت قليلا، ثم قال: لقد تكررت كلمة واحدة ثلاث مرات، ومع ذلك أفادت معاني ثلاثة لا معنى واحدا.. أتدري ما هي؟

    تأملت قليلا، ثم قلت: لا أدري.

    قال: لقد ورد في سورة الروم:) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ((الروم:54)

    فلكمة ( ضعف ) نكرة تكررت في نفس الموضع ثلاث مرات، وذلك يفيد أن الضعف الأول غير الثاني وغير الثالث.

    قلت: كيف عرفت ذلك؟

    قال: هناك قاعدة بيانية متفق عليها عند علماء العربية تذكر أن النكرة إذا تكررت، فإنها في كل مرة تفيد معنى جديداً.

    ولهذا، فإن المراد من الضعف الأول هو النطفة، وهي ضعيفة، لأنها من ماء مهين.

    والمراد من الضعف الثاني الطفولة، لأن الطفل بحاجة إلى رعاية أمه في مرحلة الرضاع، وعناية خاصة حتى يجتاز مرحلة المراهقة ويصل البلوغ.

    والمراد من الضعف الثالث: الشيخوخة، لأن الإنسان يتحول في مرحلة الشيخوخة ضعيفا عاجزا.. ضعيف الفكر.. ضعيف الحركة والسعي والنشاط.

    واللطيف في الآية أن ( قوة ) وردت نكرة وكررت مرتين، وبذلك تختلف دلالتهما كذلك.. فالقوة الأولى، تعبر عن قوة فترة الصبا، فالصبي قوي مندفع كثير الحركة، والقوة الثانية تعبر عن قوة الشباب، وهي قوة الجسم والمشاعر والأحاسيس والهمة والعزيمة والانطلاق في الفكر والأحلام والطموح.

    فهذه الآية بهذا الفهم تلخص حياة الإنسان على الأرض وأنها تقوم على خمس مراحل: ثلاثة منها ضعف، وهي: كونه جنينا في بطن أمه، وكونه رضيعا في حضن أمه، وكونه شيخا عجوز هرم.

    واثنان منها قوة: وهي كونه صبيا نشيطا مندفعا، وكونه شيخا عجوزا هرما.

    لقد عبر القرآن عن كل هذه المعاني بأدق الألفاظ وأرقها وأوجزها.

    سكت قليلا، ثم قال: القرآن لا يختار الكلمات فقط.. بل يختار وجوه بنائها ليضعها في المواضع المناسبة لها.

    سأذكر لك مثالا مقربا لذلك.

    أنت تعلم الفرق بين صيغ المبالغة.. لاشك في ذلك؟

    قلت: ما الذي تريد منها؟

    قال: أخبرني عن الفرق بين صيغة مبالغة على وزن (فعّال)، وصيغة المبالغة على وزن (فعلة)

    قلت: صيغة مبالغة على وزن (فعّال) ـ كما يقول أهل اللغة ـ تدل على الحِرفة والصنعة، فيقال لمحترف النجارة نجّار، ولمحترف الحِدادة حدّاد، وتشتهر عندهم أسماء المهن على هذا الوزن كالفتال والزراد والخراط والصفار والنحاس والبزاز. فكلمة (كذاب) عندما تطلق على أحد فإنها تدل على أن الكذب صار حرفته التي يحترفها كما أن حرفة ذاك هي النجارة أو الحدادة. وهذه الصيغة تقتضي المزاولة، لأن صاحب الصنعة يداوم على صنعته.

    قال: ووزن (فعلة)؟

    قلت: له دلالتان: ما أصله غير مبالغة، ثم بولغ بالتاء، كالراوي، فنقول عند المبالغة (راوية).. والثاني ما أصله صيغة مبالغة، ثم تأتي التاء لتأكيد المبالغة وزيادتها، مثل: (هُمزة) فأصلها (هُمَز) وهي من صيغ المبالغة مثل (حُطَم ـ لُكَع ـ غُدَر ـ فُسق)، فنأتي بالتاء لزيادة المبالغة.

    ويقول أهل اللغة:ما بولغ بالتاء يدل على النهاية في الوصف، والغاية فيه، فليس كل (نازل) يسمى (نازلة)، ولا كل (قارع) يسمى (قارعة) حتى يكون مستطيرا عاما قاهرا كالجائحة، ومثلها القيامة والصاخة والطامة.

    قال: فنحن أمام صيغتين للمبالغة إحداها تدل على المزاولة، والأخرى على النهاية في الوصف.

    قلت: أجل.. هذا هو الفرق بينهما.

    قال: لهذا ترى القرآن يستعمل كل صيغة في محلها الخاص، فقد جاء في سورة نوح مثلا:) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً) (نوح:27)، فالآية تشير إلى أن الكفر صار ديدنهم ومهنتهم اللازمة لهم، وأنهم لن يخرجوا عنه.

    وفي نفس السورة نقرأ:) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) (نوح:10)، أي أن الله غفار، وكلما أحدث العبد ذنبا أحدث الله له مغفرة.

    ليس هذا فقط.. بل إن القرآن قد يذكر الكلمة الواحدة في موضع ببناء خاص، ثم يذكرها في موضع آخر ببناء آخر لاقتضاء السياق ذلك.

    سأضرب لك مثلا على ذلك بكلمة ( الهمز)، فقد جاءت مرة على صيغة (فُعَلَة) في قوله:) وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (الهمزة:1)، وجاءت مرة على صيغة (فَعّـال) في قوله:) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم:11)

    سر ذلك يرجع إلى السياق الذي وردت فيه.. فمن استقراء سورة القلم التي جاءت فيها الكلمة على صيغة (فَعّـال) نلاحظ أنها تتحدث عن التعامل مع الخلق بين الناس، فكل مشاهد السورة أو أغلبها تدور حول هذا الأمر.. حتى أن فيها هذه الآية:) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).. فهي تتناول السلوكيات، ولا تذكر العاقبة إلا قليلا[7].

    أما في سورة الهمزة، فقد ذكر النتيجة وتعرض للعاقبة، لذلك ناسب أن يذكر بلوغه النهاية في الاتصاف بهذه الصفة، وناسب أيضا أن يذكر في الجزاء صيغة مماثلة فقال:) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (الهمزة:4)، والنبذ إذلال، والحُطَمة صيغة مبالغة بالتاء تدل على النهاية في الحطم، وهي تفيد أن الجزاء من جنس العمل فكما أنه يبالغ في الهمز، فسيكون مصيره مماثلا في الشدة.

    سكت قليلا، ثم قال: أتدري لم قال القرآن على لسان الشيطان:) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (لأعراف:17)، فقد ذكر الجهات الأربع.. ولم يذكر من فوقهم ومن تحتهم؟

    قلت: لا أعرف.. ما سر ذلك؟

    قال: لقد ورد في القرآن الإخبار بأن هاتين الجهتين مختصتان برحمة الله وعذابه.. ففي الرحمة جاء في القرآن:) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة:66)

    وجاء في العذاب:) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (الأنعام:65)

    سكت قليلا، ثم قال: أتدري لم قال القرآن:) وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً )(مريم: من الآية4).. أتدري ما الحكمة من لفظ (اشتعل ) في الآية؟

    قلت: ما الحكمة من ذلك؟

    قال: الاشتعال هو عملية تحول المادة المشتعلة من حالة إلى حالة أخرى مع استحالة رجوعها للحالة الأولى أي حالة ما قبل الاشتعال.. وهذا التصور والوصف ينطبق على سواد الشعر وبياضه، أي أن البياض يستحيل أن يتحول إلى سواد.

    سكت قليلا، ثم قال: أتدري لم أضاف القرآن الإنارة إلى السراج مع أن السراح لا يكون إلا منيرا في قوله:) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) (الأحزاب:46)؟

    قلت: لا أدري.. وأنا أتعجب من ذلك، وأتصوره إطنابا لا مبرر له.

    قال: ليس في القرآن إطناب.. كل ما في القرآن له دلالته الخاصة..

    أنت تعلم أن الضوء هو امتزاج الحرارة بالنور كما جاء في القرآن عن الشمس:) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً)(يونس: من الآية5)، والنور هو تجريد الضوء من الحرارة كما جاء في القرآن عن القمر:) وَالْقَمَرَ نُوراً )(يونس: من الآية5)، والحرارة سلب والنور إيجاب لذلك جاء تعالى بلفظ (منيرا ) لاشتمال مضيئاً على جانب سلبي، وهو النار، وهو لا يليق بوصف يمدح به محمد.

    سكت قليلا، ثم قال: حرف واحد قد يؤثر في المعنى تأثيرا عظيما.. اسمع هذه الآية التي تصف سوق الكفار إلى جهنم:) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر:71)

    واسمع هذه الآية التي تصف سوق المؤمنين إلى الجنة:) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر:73)

    لقد ذكر الفتح في كلا الموضعين.. لكنه بفارق حرف واحد، فقد دخلت (الواو) (وفتحت)عند ذكر أصحاب الجنة، ولم تدخل (فتحت) عند ذكر أصحاب النار.

    أتدري ما سر ذلك؟

    قلت: ما سر ذلك.. أليس هي مجرد زيادة؟

    قال: تستحيل الزيادة في القرآن.. كل حرف له دلالته الخاصة، وعمله الخاص.

    أما هنا، فقد عملت (الواو) عملا بالغ الضرورة، إذ أن أصحاب النار قد سيقوا إلى جهنم، وهي بعد لم تفتح، حتى إذا وقفوا على أبوابها فتحت عن جملة عذابها، فكان هذا عذابا ضعفا عليهم.

    أما أصحاب الجنة فقد سيقوا إلى الجنة وأبوابها قد فتحت لهم قبل مجيئهم أي أن تقدير الآية:( حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها )، وهذا من زيادة الترحيب بأهل الجنة وتعجيل البشارة لهم.

    سكت قليلا، ثم قال: وهكذا فإن القرآن معجز من حيث اختيار الكلمات التي يعبر بها عن أغراضه، وقد سمعت كثيرا من المختصين في العلوم المختلفة يبينون دقة القرآن في استعمال كلماته:

    فأهل التشريع والقانون يبيّنون إعجاز القرآن التشريعي، ويبينون اختيارات الألفاظ التشريعية في القرآن ودقتها في الدلالة على دقة التشريع ورفعته ما لا يصح استبدال غيرها بها، وأن اختيار هذه الألفاظ في بابها أدق وأعلى مما نبيّن نحن من اختيارات لغوية وفنية وجمالية.

    وأهل الطب يذكرون أسرار التعبير القرآني من الناحية الطبية التشريحية ودقتها.. ومن ذلك أن ما ذكره القرآن من مراحل تطور الجنين في الرحم هي التي انتهى إليها العلم مما لم يكن معروفاً قبل هذا العصر، فاختيار تعبير (العلقة) و (المضغة) أعجب اختيار علمي:

    فاختيار التعبير بـ (العلقة) اختيار له دلالته، فإن المخلوق في هذه المرحلة أشبه شيء بالعلقة وهي الطفيلية المعروفة. وكذلك التعبير بـ (المضغة)، فالمضغة هي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ. ولكن لاختيار كلمة (مضغة) سبب آخر، ذلك أن المضغة هي قطعة اللحم الممضوغة أي التي مضغتها الأسنان، وقد أثبت العلم الحديث أن الجنين في هذه المرحلة ليس قطعة لحم عادية بل هو كقطعة اللحم التي مضغتها الأسنان، فاختيار لفظ (المضغة) اختيار علمي دقيق، فالقرآن لم يقل (قطعة لحم صغيرة)، ولو قال ذلك لكان صواباً ولكن قال (مضغة)

    وهكذا في كل تخصص[8]..

    وقد قرأت فيما توصل إليه علم التاريخ وما دلت عليه الحفريات الحديثة من أخبار ذي القرنين أدق الكلام وأدق الأخبار ما لم يكن يعرفه جميع مفسري القرآن فيما مضى من الزمان. وأن الذي اكتشفه المؤرخون والآثاريون وما توصلوا إليه في هذا القرن منطبق على ما جاء في القرآن الكريم كلمة كلمة ولم يكن ذلك معلوماً قبل هذا القرن.

    وقرأت في اختيار التعبير القرآني لبعض الكلمات التاريخية كـ (العزيز) في قصة يوسف، وكاختيار تعبير (الملك) في القصة نفسها، واختيار كلمة (فرعون) في قصة موسى، فعرفت أن هذه ترجمات دقيقة لما كان يُستعمل في تلك الأزمان السحيقة فـ (العزيز) أدق ترجمة لمن يقوم بذلك المنصب في حينه، وأن المصريين القدامى كانوا يفرقون بين الملوك الذين يحكمونهم فيما إذا كانوا مصريين أو غير مصريين، فالملك غير المصري الأصل كانوا يسمونه (الملك)، والمصري الأصل يسمونه (فرعون)، وأن الذي كان يحكم مصر في زمن يوسف غير مصري، وهو من الهكسوس فسماه (الملك)، وأن الذي كان يحكمها في زمن موسى هو مصري فسماه (فرعون)، فسمى كل واحد بما كان يُسمى في الأزمنة السحيقة.

    إن التعبير القرآني الواحد قد ترى فيه إعجازاً لغوياً جمالياً، وترى فيه في الوقت نفسه إعجازاً علمياً، أوإعجازاً تاريخياً، أو إعجازاً نفسياً، أو إعجازاً تربوياً، أو إعجازاً تشريعياً، أو غير ذلك.

    قلت: ولكن مع ذلك.. ففي القرآن الكثير من الكلمات الغريبة، والتي تؤثر فيما ذكرته من بلاغة القرآن [9] ..

    قال: اذكر لي أمثلة لذلك.. فكل دعوى لابد لها من دليل يدل عليها، أو مثال ينبه إليها.

    قلت: لست بحاجة إلى ذكر أمثلة لذلك، فوجود الغريب فى القرآن من المشهور الذي لا شك فيه.. لقد ألف العلماء في هذا الفن.. فالإمام محمد بن مسلم بن قتيبة وضع كتاباً فى (غريب القرآن)، وأورده على وفق ما جاء فى سور القرآن سورة سورة.. ومثله فعل السجستانى، وتفسيره لغريب القرآن مشهور، ومثلهما الراغب الأصفهانى فى كتابه (المفردات) فى شرح غريب القرآن.. ومثلهم جميعا جلال الدين السيوطى، الذي له كتاب يحمل اسم (مبهمات القرآن)

    ألا يُعد كل ذلك اعترافاً صريحاً من هؤلاء الأئمة بورود الغريب فى القرآن؟

    بالإضافة إلى ذلك.. فإن جميع مفسرى القرآن قاموا بشرح ما رأوه غريباً فى القرآن.. فكيف يسوغ القول بإنكار وجود الغريب فى القرآن أمام هذه الحقائق التى لا تغيب عن أحد؟

    وإن أردت أمثلة على ذلك.. ففي القرآن مثلا هذه الكلمات (فاكهةً وأبًّا، غسلين، حنانا، أوَّاه، الرقيم، كلالة، مبلسون، أخبتوا، حنين، حصحص، يتفيؤا، سربا، المسجور، قمطرير، عسعس، سجيل، الناقور، فاقرة، استبرق، مدهامتان.. وغيرها من الألفاظ الغريبة المخالفة لما تقتضيه البلاغة من يسر الألفاظ وقربها.

    قال: الغريب غريبان، غريب مطلق، وهو ما كان غريبا في تركيبه، وهو الذى يعد عيباً فى الكلام، وإذا وجد فيه سلب عنه وصف الفصاحة والبلاغة.. ولا وجود لهذا النوع فى القرآن.

    ومنه غريب نسبي، وهو ما اختلف الناس في التعرف عليه بحسب مستوياتهم اللغوية.. ألا ترى أن ألفاظا كثيرة هي ألفاظ سلسة طبيعية عند الأدباء أو الشعراء.. ولكنها قد تكون غريبة على من لم يحترف حرفتتهم، ولم يتعلم علومهم؟

    بل إن هذا النوع من الغريب لا يخلو منه أحد من الناس، فاللغة واسعة، وكل كلمة جديدة على الذهن تبدأ غربية، ثم تزول غرابتها بالإدمان على استعمالها.

    ولتفسير هذا النوع من الكلمات جاءت المؤلفات التي ذكرتها مما يسمى بـ (غريب القرآن )، وأول مؤلف وضع فى ذلك هو كتاب (غريب القرآن) لابن قتيبة فى القرن الثالث الهجرى، وكونه في هذا القرن دليل على أنه لم يكتب للمسلمين العرب، بل كان القصد منه هو أبناء الشعوب غير العربية التى دخلت فى الإسلام، وكانت جديدة المعرفة بالعربية.

    وكل المؤلفات التي ألفت في هذا الباب تحت هذا الاسم أو غيره ألفت لهذا الغرض.

    فما يطلق عليه (غريب القرآن) فى المؤلفات التراثية أو كتب علوم القرآن، وما تناوله مفسرو القرآن فى تفاسيرهم، هو غريب نسبى لا غريب مطلق.

    والغريب النسبى بكل الاعتبارات غريب فصيح سائغ، وليس غريباً عديم المعنى، أو لا وجود له فى معاجم اللغة ومصادرها، بل هو موضع إجماع بين علماء اللغة والبيان فى كل عصر ومصر.

    قلت: فقد وردت قصة عن ابن عباس تدل على غرابة كلمات قرآنية كثيرة على العرب.

    قال: تقصد ما يسمى بـ (مسائل ابن الأزرق)؟

    قلت: أجل.. فهي مسطورة فى كثير من كتب التراث مثل ابن الأنبارى فى كتابه (الوقف)، والطبرانى فى كتابه (المعجم الكبير)، والمبرد فى كتابه (الكامل)، وجلال الدين السيوطى فى كتابه (الإتقان فى علوم القرآن)، وغيرهم.

    وإن كنت لا تذكر القصة، فهي تنص على أن عبد الله بن عباس كان جالساً بجوار الكعبة يفسر القرآن، فأبصره رجلان هما: نافع بن الأزرق، ونجدة بن عويمر، فقال نافع لنجدة:( قم بنا إلى هذا الذى يجترئ على القرآن ويفسره بما لا علم له به)، فقاما إليه فقالا له:( إنَّا نريد أن نسألك عن أشياء فى كتاب الله، فتفسرها لنا، وتأتينا بما يصادقه من كلام العرب، فإن الله أنزل القرآن بلسان عربى مبين )، فقال ابن عباس: سلانى عما بدا لكما. ثم أخذا يسألانه وهو يجيب بلا توقف، مستشهداً فى إجاباته على كل كلمة، قرآنية سألاه عنها بما يحفظه من الشعر العربى المأثور عن شعراء الجاهلية، ليبين للسائلين أن القرآن نزل بلسان عربى مبين[10].

    قلت: فما في هذا من الشبهة؟

    قال: لولا أن في القرآن غريبا لما احتاج هذان الرجلان إلى تفسيره.

    قال: هذا مما يدلك على قوة لغة القرآن لا على ضعفها.

    قلت: كيف ذلك.. وقد استعمل غريبا لا يعرفه هؤلاء العرب الخلص.

    قال: لقد احتوى القرآن على معان كثيرة جليلة لا تستطيع الوفاء بها الكلمات القليلة التي يتداولها الناس فيما بينهم، فلذلك لم يكتف بها، بل استعمل خزان العربية الثري، لينهل منه الألفاظ الدالة على المعاني بدقة.

    وإن شئت دليلا على هذا.. فاذهب إلى القواميس الخاصة بالمصطلحات المرتبطة بكل فن من الفنون.. فأنت تجد في كل يوم مصطلحات جديدة للدلالة على المعاني الجديدة.

    قلت: وما علاقة ذلك بالقرآن؟

    قال: لقد جاء القرآن بعلوم كثيرة، ومواضيع كثيرة لم تعهدها العرب في كلامها، فلذلك اختار التعابير المناسبة لتلك المعارف العميقة..

    بل إنه لم يكتف بذلك.. بل وضع مصطلحات دالة على هذه المعاني.. كالصلاة والزكاة والذكر.. ومثلها كثير من المصطلحات لا نجدها إلا في القرآن.. ولكنا نجد أصولا لها في اللغة العربي.

    وهذا ما فسره ابن عباس لذلك الرجل..

    فالقرآن لم يبتدع ألفاظا لا يعرفها أحد من الناس، وإنما استعمل ما يعرفه الناس ليعبر عن المعاني التي يريد.

    وفي هذا يدخل ما ذكرته من الكلمات التي تصورت غرابتها ككلمة (غسلين) التي تعني الصديد، أى صديد أهل النار، وما يسيل من أجسادهم من أثر الحريق، ولما كان يسيل من كل أجسامهم شبه بالماء الذى يُغسَل به الأدران.

    فهذه الكلمة تدل على معنى غير موجود في لغة العرب.. ولكن القرآن استخدم اللفظ القريب المؤدي للمعنى.

    بل قد قد يستعمل القرآن أحيانا ألفاظا أعجمية عربتها العرب وجعلتها على موازينها..وذلك مثل إستبرق، وسندس، واليم، فهذه الألفاظ كانت مأنوسة الاستعمال عند العرب حتى قبل نزول القرآن، بل كانت شائعة شيوعاً ظاهراً فى محادثاتهم اليومية.

    وهى مفردات وليست تراكيب، بل هي أسماء مفردة لأشخاص أو أماكن أو معادن أو آلات.

    ثم إنها وإن لم تكن عربية الأصل، فهى ـ بالإجماع ـ عربية الاستعمال. ومعانيها كانت ـ وما تزال ـ معروفة فى القرآن، وفى الاستعمال العام.

    وهذه الظاهرة ليست خاصة بالعربية.. فاستعارة اللغات من بعضها من سنن المجتمعات البشرية، وهي دليل على حيوية اللغة.

    بل نجد هذه الظاهرة فاشية فى العصر الحديث، ويسميها اللغويون بـ (التقارض) بين اللغات.. تستوي في ذلك اللغات جميعا.. سامية أو غيرها كالإنجليزية والألمانية والفرنسية وفى اللغة الأسبانية كلمات مستعملة الآن من اللغة العربية.

    أما مااقترضته اللغة العربية من غيرها من اللغات القديمة أو ما له وجود حتى الآن فقد اهتم به العلماء المسلمون ونصوا عليه كلمة كلمة، وأسموه بـ (المعرَّب)، مثل كتاب العلامة الجواليقى، وقد يسمونه بـ (الدخيل)

    قلت: فكيف يستقيم هذا مع ما نص عليه القرآن في مواضع متفرقة من أنه أنزل بلسان عربي مبين.. ألم تقرأ فيه:) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2).. )وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ( (النحل:103)..) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (طـه:113).. )كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت:3).. ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت:44).. )إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3)

    فكيف يمكن أن يكون عربيا، وفيه هذه الألفاظ الأعجمية[11]؟

    كيف يكون القرآن عربيًّا مبينًا، وبه كلمات أعجمية كثيرة: من فارسية، وآشورية، وسريانية، وعبرية، ويونانية، ومصرية، وحبشية، وغيرها؟

    وإن شئت التمثيل لذلك.. فكل هذه الكلمات كلمات أعجمية (آدم أباريق إبراهيم أرائك استبرق إنجيل تابوت توراة جهنم حبر حور زكاة زنجبيل سبت سجيل سرادق سكينة سورة صراط طاغوت عدن فرعون فردوس ماعون مشكاة مقاليد ماروت هاروت.. )

    صمت قليلا، وكأنه يستجمع أفكاره ليجيبني، ثم قال: هل قرأت دائرة المعارف الإسلامية؟

    قلت: أجل.. اطلعت على الكثير منها، فهل فيها الإجابة على هذه الشبهة؟

    قال: أجل.. ولكن في نسختها العربية فقط.

    قلت: لقد قرأتها.. وقرأت مادة القرآن فيها، ولكني لم أجد الجواب عن هذه الشبهة.

    قلت: هل أنت متأكد من أنك قرأت النسخة العربية منها؟

    قلت: أجل.. مثلما أنا متأكد من وجودك معي.

    قال: لعلك قرأت نسخة مختلطة.. ليست عربية محضة.

    قلت: بل قرأت نسخة عربية محضة.

    قال مبتسما: بلسان عربي مبين.

    قلت: أجل.. بلسان عربي مبين.. فقد أشرف عليها لغويون كبار.

    قال: لقد أجبت نفسك عن شبهتك.

    قلت: كيف ذلك؟

    قال: ألا توجد في تلك النسخة كلمات أعجمية؟

    قلت: أجل.. يوجد الكثير منها.. وهو ضرورة.. فأحيانا يحتاج الكاتب إلى نقل النص بلغته الأصلية، بالإضافة إلى أن هناك أعلاما لابد أن تكتب بتلك الصيغة.

    قال: وهكذا القرآن.. فهو بلسان عربي مبين.. وكونه كذلك لا يمنع من وجود بعض الألفاظ القليلة التي تأتي على سبيل الندرة من الكلمات الأعجمية.

    فوجود مفردات أجنبية فى أى لغة سواء كانت اللغة العربية أو غير العربية لا يخرج تلك اللغة عن أصالتها، ومن المعروف أن الأسماء لا تترجم إلى اللغة التى تستعملها حتى الآن.. فالمتحدث بالإنجليزية إذا احتاج إلى ذكر اسم من لغة غير لغته، يذكره برسمه ونطقه فى لغته الأصلية.

    ومن هذا ما نسمعه فى نشرات الأخبار باللغات الأجنبية فى بلادنا، فإنها تنطق الأسماء العربية نُطقاً عربيَّا، ولا يقال: إن نشرة الأخبار ليست باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً، لمجرد أن بعض المفردات فيها نطقت بلغة أخرى.

    والمؤلفات العلمية والأدبية الحديثة التى تكتب باللغة العربية ويكثر فيها مؤلفوها من ذكر الأسماء الأجنبية والمصادر التى نقلوا عنها ويرسمونها بالأحرف الأجنبية والنطق الأجنبى لا يقال: إنها مكتوبة بغير اللغة العربية، لمجرد أن بعض الكلمات الأجنبية وردت فيها، وهكذا.

    ولهذا، فإن كل ما فى القرآن من كلمات غير عربية الأصل إنما هى كلمات مفردات، وهي في معظمها أسماء أعلام مثل ( إبراهيم، يعقوب، إسحاق، فرعون)

    زيادة على ذلك، فإن القرآن يخلو تمامًا من تراكيب غير عربية، فليس فيه جملة واحدة اسمية، أو فعلية من غير اللغة العربية.

    قلت: ليست الخطورة في هذا.. ولكن الخطورة في مصطلحات كثيرة ورد بها القرآن.. وهي دليل على تأثره بمصادر أجنبية.

    قال: ما أمثلة ذلك؟

    قلت: هي كلمات كثيرة لها دلالاتها الخاصة، كالزكاة، والسكينة، والحور، والسبت، والسورة، وعدن.. بل حتى كلمة (الله) التي هي علم على إله المسلمين.

    قال: من أخبرهم بأن هذه كلمات أعجمية.. هذه كلمات عربية أصيلة لها جذور لغُوية عريقة فى اللغة العربية، وقد ورد فى المعاجم العربية وكتب فقه اللغة وغيرها تأصيل هذه الكلمات عربيَّا، فالزكاة ـ مثلا ـ من زكا يزكو فهو زاكٍ، وأصل هذه المادة هى الطهر والنماء.. والسكينة، بمعنى الثبات والقرار، ضد الاضطراب لها جذر لغوى عميق فى اللغة العربية، يقال: سكن بمعنى أقام، ويتفرع عنه: يسكن، ساكن، مسكن، أسكن.. وهكذا سائر الكلمات..

    ومن أكذب الادعاءات أن يقال: إن لفظ الجلالة (الله) عبرى أو سريانى، وأن القرآن أخذه عن هاتين اللغتين، إذ ليس لهذا اللفظ (الله) وجود فى غير العربية.

    فالعبرية مثلاً تطلق على (الله) عدة إطلاقات، مثل ايل، الوهيم، وأدوناى، ويهوا أو يهوفا.. فأين هذه الألفاظ من كلمة (الله) فى اللغة العربية؟

    ومثلها في اللغة اليونانية التى ترجمت منها الأناجيل إلى اللغة العربية حيث نجد الله فيها (الوى) وقد وردت فى بعض الأناجيل يذكرها المسيح مستغيثاً بربه هكذا (الوى الوى )، وترجمتها إلهى إلهى.

    بالإضافة إلى هذا كله.. فإن هذه المفردات ـ التي وصفت بأنها غير عربية ـ وإن لم تكن عربية فى أصل الوضع اللغوى، فهى عربية باستعمال العرب لها قبل عصر نزول القرآن.. وبهذا الاستعمال فارقت أصلها غير العربى، وعُدَّتْ عربية نطقاً واستعمالاً وخطاًّ.

    صمت قليلا، سمعنا خلالها سورة الضحى بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد..كانت قراءة خاشعة تحلق بالروح لسموات جميلة مملوءة بفضل الله ورحمته وقربه من عباده.

    بعد أن انتهى القارئ من قراءته، قال: لا شك أن هذه القراءة هزت أعماقك.. هي تفعل ذلك معي.. وهي لا تفعل ذلك بسبب أداء القارئ فقط.. بل بمعانيها.. وبالكسوة التي كسيت بها معانيها.







    2 ـ التصوير الفني

    قلت: وعيت مرادك من التعبير الفني، وأشهد صادقا أن القرآن يحوي من جمال التعبير ما يسلب الألباب.. فما مرادك من التصوير الفني؟

    قال: هي ناحية أخرى من نواحي المتعة فيه.. إن القرآن لا يصف لك الأحادث كما يصفها البلغاء، فتتيه بألفاظهم وجمال تعابيرهم عن الأحداث التي يريدون وصفها لك.. بل إنه ينقل لك الأحداث لتراها بعينيك، وتسمعها بأذنيك، وتشمها بأنفك.

    إنه يختصر مسافات المكان والزمان لينقلك لترى الحقائق بصورة مشاهد تعيشها، وتنفعل لها..

    وهذا التصوير الجميل لم يكتمل إلا في القرآن.. فالقارئ فيه لا يقرأ، وإنما يشاهد ويعيش ويتحقق.. ولذلك كان تأثير القرآن أعظم من كل تأثير.

    إنني أقرأ في الكتاب المقدس قصة موسى.. وأرى الأحداث التي مر بها، فلا تختلف قراءتي فيه عن قراءتي لأي كتاب في التاريخ.. بينما أرجع إلى القرآن.. فأجد قصة موسى حية، تنبعث الحياة في كل جزء من أجزائها..

    إنني أقرأ التواراة.. فلا أجد فيها مثل هذا النص الجميل:) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ((القصص:7)

    إن هذا النص يصور أم موسى، وهي خائفة وجلة على ابنها، فيأتيها الأمر الإلهي الحي بأن تلقيه في اليم، وبأن لا تخاف عليه ولا تحزن، بل تستبشر لأن الله سيرده إليها، وسيجعله من المرسلين.

    إنك في هذا الحادث الذي تكاد تبصره بعينيك لا ترى أم موسى فقط.. بل ترى رحمة الله وفضله على عباده.. فالله لا يعبر في هذه الآية بصيغة الغائب، وإنما يعبر بصيغة المتكلم الحاضر.

    وأقرأ في القرآن قصة رحيل موسى إلى مدين، فأمتلئ بمعاني سامية أكاد أبصرها بعيني، وألمسها بيدي.. اسمع إلى هذا النص الجميل:) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (القصص: 20 ـ 28)

    إن هذا المشهد لا يروي مخيلتك فقط بالمشاهد، بل ينقل لك معها نفس موسى الطيبة وروحانيته، وتقواه، ومروءته، إنها صور كثيرة، لا لأشياء محسوسة فقط.. بل لأشياء لا يمكن أن تلمسها، ولا أن تراها.

    قلت: إن أي قصة في الدنيا يمكن أن تتحول إلى مشاهد في ذهن المستمع.. وليس للقرآن مزية في ذلك.

    قال: إن المشاهد القرآنية مختلفة تماما، إن حياتها لا تنبعث من تصويرها للأحداث المحسوسة، بل تنبعث من تصويرها لما وراء الأحداث، ولما قبلها، ولما بعدها.

    ومع ذلك.. فاسمع أي موضوع في القرآن تجده يصور لك أي شيء مهما غمض وخفي..

    إنه يصور النفوس في اضطرابها وحيرتها وقلقها وخوفها، فيقول:) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (البقرة:19 ـ 20)

    إن هذا مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب، فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء.. صيب من السماء هاطل غزير فيه ظلمات ورعد وبرق.. كلما أضاء لهم مشوا فيه.. وإذا أظلم عليهم قاموا حائرين لا يدرون أين يذهبون، وهم مفزعون يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت.

    إن الحركة التي تغمر المشهد كله من الصيب الهاطل، إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة التي تقف عندما يخيم الظلام.. إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي تعيش فيها نفوس أولئك المنافقون بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين.. بين ما يقولونه لحظة، ثم ينكصون عنه فجأة.. بين ما يطلبونه من هدى ونور، وما يفيئون إليه من ضلال وظلام.. فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية؛ ويجسم صورة شعورية[12].

    قلت: هو تصوير بارع.. نعم.. ولكن ما تأثير هذا على الأهداف التي جاء القرآن ليقررها، ويربي النفوس عليها؟

    قال: لا يمكن أن تتحقق أي أهداف في الدنيا حتى تصبح صورا ومشاهد تملأ نفوس أصحابها.

    لقد اعتمد القرآن هذا الأسلوب التصويري ليملأ التفوس بالطهارة، والأرواح بالسمو.

    صمت قليلا، قرأ القارئ خلالها بصوته الجميل قوله ':) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (الزمر: 68 ـ 75)
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68445
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Empty رد: كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 15:59

    أغلق الجهاز، ثم قال: هل رأيت هذا المشهد؟

    قلت: ما تقصد؟

    قال: هذا المشهد العظيم الذي ذكره القرآن.. إني أسمعه كلما قطعت هذه الطريق، ومع ذلك لا أمل من سماعه.. إن القرآن ينقل لي أحداثا كثيرة لا تزال لم تحدث بعد.. ليجعل عيناي تريانها بكل دقة.

    إن هذا المشهد يملأ النفوس طهارة.. والأرواح رفعة..

    إنه برفعك إلى آفاق سامية لا يستطيع أي جدل عقلي، ولا منطق حسي، ولا قصيدة وجدانية أن ترفعك إليها.

    وهو لا يكلف عقلك أي عنت لتفهم ما تقول.. بل يكفي أن تسرح لمخيلتك العنان لتعيش ما تسمع.. ثم تملأ النفس بعدها بالحقائق التي لا يستطيع الجدل أن يبلغها.

    إنه ( مشهد رائع حافل، يبدأ متحركاً، ثم يسير وئيداً، حتى تهدأ كل حركة، وتسكن كل نأمة، ويخيم على ساحة العرض جلال الصمت، ورهبة الخشوع، بين يدي الله )

    إنك ترى فيه الأرض، وقد طوي بساطها، والسماء وقد التحفت بإشراقة النور، إنك ترى فيه العالم بصورة مختلفة.. صورة تملأ النفس بالمواجيد الصادقة.

    قلت: هي مشاهد جميلة.. نعم.. وتروي الخيال.. نعم.. ولكن ما علاقة كل ذلك بالسلوك؟

    قال: كل سلوك صالح ينطلق من هذه المشاهد.. ألم تسمع ذلك الوصف لسوق أهل الجنة.. إنهم يقادون إلى الجنة كالملوك.. وهم يوصفون بالأتقياء لتتحرك في همة كل من يرى هذا المشهد إلى التحقق بالتقوى.

    وهو يصف أهل جهنم الذين يقادون إليها أذلاء بأنهم من الكفار لتمتلئ النفوس خوفا من الكفر الذي يوردها هذا المورد..

    إنه ليس مشهدا فقط.. إنه مدرسة تربوية كاملة.

    ولهذا لما امتلأ أصحاب محمد بمثل هذه المشاهد امتلأت نفوسهم بحب الجنة.. ولما امتلأت بحب الجنة امتلأت بما يقربهم إليها.

    اسمع الحارث بن مالك الانصاري، وهو أحد أصحاب محمد، وهو يصف تأثير هذه المشاهد على نفسه، قال: مررت بالنبي r فقال: كيف أصبحت يا حارث؟ قلت: أصبحت مؤمنا حقا، فقال: انظر ما تقول! فان لكل شئ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قلت: قد عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت لذلك ليلى وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال:( يا حارث! عرفت فالزم ) - قالها ثلاثا[13].

    ومما يروى من ذلك عن جبير بن مطعم أنه قال:( سمعت النبي r يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية:) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37)((الطور) كاد قلبي أن يطير ).

    صمت قليلا، ثم قال: بهذا الأسلوب يصور لك القرآن كل المشاهد.. الحسية والمعنوية.. وكل الحقائق.. العلوية والسفلية.. إنه يتكلم عن كل شيء.. ويصور كل شيء.

    سأضرب لك مثالا على كيفية تصوير القرآن لمعنى النفور الشديد من دعوة الإيمان.. اسمع هذه الآيات:) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)((المدثر)

    ففي هذا النص تشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال وانفعال السخرية وشعور الجمال.. السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلى الإيمان، والجمال الذي يرتسم في حركة الصورة حينما يتملاّها الخيال في إطار من الطبيعة تشرد فيه الحمر تيبعها قسورة، فالتعبير هنا يحرك مشاعر القارئ، وتنفعل نفسه مع الصورة التي نُقلت إليه وفي ثناياها الاستهزاء بالمعرضين.

    واسمع إلى القرآن كيف يصور عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله:) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ((الحج: 73)

    فالصورة الفنية هنا هي الربط بين قدسية الآلهة المزعومة حيث وُضعت في أذهان معتنقيها في أقدس صورة، والربط بينها وبين مخلوق حقير.. ولم يكتف بهذا الربط بل حشد لهذا المخلوق جموعأً ضخمة، فعجزوا عن خلقه، ثم في الصورة التي تنطبع في الذهن من طيرانهم خلف الذباب لاستنقاذ ما يسلبه، وفشلهم مع اتباعهم عن هذا الاستنقاذ.



    3 ـ النظم الفني

    قلت: فما تريد بالنظم الفني؟

    قال: لقد تميز القرآن بنظم خاص لا يشاكل فيه أي نظم في الدنيا.

    قلت: ما تقصد؟

    قال: ارجع إلى كل ما كتب في الدنيا من شعر ونثر وقارن بينه وبين القرآن، فستجد للقرآن أسلوبه الخاص الذي جمع بين محاسن الشعر ومحاسن النثر، ووقي في نفس الوقت من مساوئهما.

    لقد ذكر أبو العلاء المعري الشاعر الأديب المتهم بمعارضة القرآن هذه الخاصية فقال:( وأجمع ملحد ومهتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالاعجاز, ولقى عدوه بالارجاز, مـا حذى على مثال , ولا أشبه غريب الأمثال ,.. ما هو من القصيد الموزون , ولا الرجز, ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة, وجاءكالشمس , لو فهمه الهضب لتصدع , وإن الآية منه أوبعض الآية لتعرض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون, فتكون فيه كالشهاب المتلالىء في جنح غسق, والظهرة البادية في جدوب )

    والتفت إليها قبله الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو عدو من أعداء محمد الأولين، وقد عرف بين عرب الجاهلية بكياسته وحسن تدبيره , حتى سمي ريحانة قريش.. سمع آيات من سورة غافر فرجع الى قومه، فقال لهم:( واللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن , وإن له لحلاوة , وإن عليه لطلاوة, وإن أعلاه لمثمر, وإن أسفله لمغدق , وإنه ليعلو وما يعلى عليه )[14]

    وقد حجب الكثير من المتنبئين بهذا النوع من جمال الأسلوب عن حقائق القرآن التي تلبس تلك الثياب الجميلة، فرحوا يحاولون تقليد القرآن.. فضحكوا، واضحكوا عليهم الناس.

    التفت إلي، فرآني واجما، فقال: سأذكر لك منها ما يغسل صدرك غسلا.. ستضحك كما لم تضحك من قبل.

    لا شك أنك تعرف مسيلمة.. ذلك المتنبئ الكاذب.. قال ـ فيما يزعم أنه نزل عليه من السماء ـ:( والليل الاضخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم ) ذكر ذلك في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه.

    وقال فيهم:( والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس)

    وكان معجبا بأنواع من الحيوانات، فلذلك ضم قرآنه بعض أوصافها، فهو يقول في الغنم:( والشاء وألوانها، وأعجبها السود، وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الابيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تجتمعون )

    التفت إلي، وقد غلبني الضحك عن نفسي، فراح يكمل: وكان يقول:( ضفدع بنت ضفدعين، نقى ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الارض ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون!)

    وكان يقول:( والمبديات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغى فناوئوه )

    وبمثل ذلك نطق أكثر المتنبئين.

    اصطنعت الجد، وقلت له: أتصدق أن مثل أولئك قالوا مثل هذا.

    قال: قد كنت أكذبه.. حتى ظفرت بأدلة تصدق ذلك.

    قلت: وما ظفرت.. أرأيت مخطوطا تركه مسيلمة عليه بصمات يده فيه هذا الهذر.

    قال: لا.. لقد كتب قومي وقومك مثل قول مسيلمة، فاستدللت به على صدق ما ورد عن مسيلمة.

    قلت: ما تقول؟.. لم أسمع أن قومنا فكروا في تقليد القرآن.

    قال: لا.. بل فعلوا.. لقد كان هذا آخر اختراع اخترعوه في حربهم التي يشنونها على القرآن.

    قلت: ومن أين لهم الأدباء الفضلاء الذين انتدبوهم لهذا الغرض؟

    قال: لقد اشتروا بعض الألسن الفارغة، والعقول السخيفة، فراحت تهذر بنظم لا يختلف عن نظم مسيلمة[15].

    قلت: فأسمعني بعض ما قالوا.

    قال: سأسمعك قرآنا جديدا.. لم تمض مدة طويلة على تأليفه.. سماه مؤلفه، أو مؤلفوه (الفرقان الحق).. وهو محاولة عصرية لتقليد النص القرآني لفظاً ومعنىً وأسلوباً وصياغة[16].

    لا يمكنني أن أقرأ عليك هذا الفرقان جميعا.. فلن تطيق سماعه.. ولهذا سأقتصر على بعض سوره.. أو أربع منها.. ربما كانت أفضلها.

    أما السورة الأولى.. فهي (سورة الحق)، وأول آية منها تقول:( وأنزلنا الفرقان الحقَّ نوراً على نور محقاً للحقّ ومزهقاً للباطل وإن كره المبطلون)

    ابتسمت استغرابا لهذا التقليد العجيب، فقال: هذه آية واحدة من هذه السورة.. ولكنها مع ذلك تمتلئ أخطاء في الحروف والكلمات والأفعال والأسماء:

    فهذا النص يبدأ بـ (بالواو ) وهي على تعدد أنواعها لا تأتي في هذا الموضع إلا على احتمالين:إما أن تكون استئنافية، أو تكون عاطفة.. وفي كلا الحالين لابد من كلام قبلها، لنستأنف بالواو ما بدأناه، أو نعطف بها على جملة سبقتها.

    فلابدّ إذاً من تقدير جملة محذوفة قبل الواو، غير أنه لا بد للمحذوف من كلام يدلّ عليه أو يشير إليه، وليس فيما يلي الواو ما يدلّ على معنى سابق مقدّر، فما الحاجة إليها إذاً وهي لم تُفِدْ شيئاً، ولم تضف معنى؟ بل يمكن الاستغناء عنها، أو إبدالها حرف توكيد، حيث تتأتى من ذلك فائدة ليست في وجود الواو في هذا الموضع.

    ثم جاء الفعل (أنزلنا).. وهو تعبير مقتبس من القرآن كسائر الكلمات.. فلم اقتبسوه، ولم لم يقولوا قدّمنا أو كتبنا أو أرسلنا أو ألّفنا.

    ثم لماذا وصفوا الفرقان بكونه حقا، مع أن الفرقان اسم معرف بأل وهذه الـ ( أل) تفيد في أحد أمرين فإما أن يكون المتكلم والمخاطب متفقين على المعرّف بحيث تدل هذه الـ (أل) على ما تعارفا عليه كقولك لمن وضعت عنده كتاباً ( أين الكتاب؟ ) فيناولك إياه.

    أو تفيد الكمال أي تقول ( هذا الكلام ) أو ( هذا الرجل) وتقصد الكلام الكامل كما يجب أن يكون والرجولة الكاملة كما يجب أن تكون.

    والفرقان بذكره معرّفاً بأل يفيد الكمال أي كمال التفريق بين الحق والباطل ومن هنا فلا يضيف وصفه بـ ( الحقّ ) إلى معنى الفرقان جديداً، فتنعدم بذلك الفائدة من الصفة.

    فلو قيل ( الفرقان ) دون وصفه لكان المعنى الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل بشكله الكامل الذي لا نقص فيه فهو ( الحقّ )

    وثمة احتمال آخر وهو أن يكون ثمة فرقان آخر، هو الباطل وهذا الفرقان هو الحق فالصفة تفرّق بين اسمين مشتركين في اللفظ فتقول (مررت بزيد القائم ) وهذا يقتضي وجود رجل اسمه زيد وهو غير قائم.

    لكن كلمة الفرقان وحدها تكفي لتفند دعاوى من يدّعي باطلاً بأنه فرقان، ومن يكون حقاً فرقاناً، فلو ادّعى مجموعة أشخاص بأن كلاً منهم هو حكم أو عادل، ثم أشرت إلى رجل وقلت (هذا الحكم ) أو ( هذا العادل )، لكفاك ذلك في دحض دعاوى غيره بأنهم الحكام أو العادلون.

    قلت: دعني من مناقشة ما قالوا.. واذكر لي ما قالوا.. فلا أحسبني جاهلا باللغة إلى درجة أن يؤثر في أي كلام.

    قال: بعد تلك الآية تأتي هاتين الآيتين:( ففضحَ مكر الشيطان الرجيم، ولو تنزّل بوحي ملك رحيم، وأبطل فرية رسله الضالين، ولو نطقوا بما أعجز الأميين )

    غلبني الضحك، فقلت: هل قال:( ولو نطقوا بما أعجز الأميين )

    قال: أجل.. هل رأيت حمقه وكذبه وتحامله على القرآن.. إن القرآن تحدى أصحاب البلاغة والفصاحة والعلم والمعرفة.

    قلت: حدثني عن سورة أخرى من هذه السور العجيبة.

    قال: سأذكر لك الآية الأولى من سورة الفاتحة التي استهل بها مسيلمة الجديد فرقانه الحق.. إن هذه السورة تستدعي براعة الاستهلال ـ كما يسميها البلاغيون، وهي تقتضي أن تحوي عبارات موجزة وإشارات دالة يستطيع القارئ بواسطتها أن يفهم مضمون الكتاب المقدم على قراءته ـ اسمع ما قال في هذا:( هو ذا الفرقان الحق نوحيه فبلغه للضالين من عبادنا وللناس كافة ولا تخش القوم المعتدين )

    غلبني الضحك، وقلت: لماذا قال:( للضَّالين من عبادنا وللناس كافة ).. هل الضالون من العباد لا يندرجون تحت اسم (الناس كافة )؟

    زدني سورة أخرى..

    قلت: سأقرأ عليك بعض سورة حملت اسم (سورة الضّالين )

    ضحكت، فقال: سأقرأ عليك الآية الأولى منها، وهي:( وألبس الشيطان الباطلَ ثوب الحقّ وأضفى على الظلم جلباب العدل، وقال لأوليائه أنا ربكم الأحد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي منكم كفواً أحد)

    قلت: هذا كتبه حاقد.. ولم يكتبه متحد صادق.. وإلا فكيف يختار تعابير القرآن بل كلمات القرآن وأسلوب القرآن؟

    قال: أجل.. إنه لم يفعل سوى أن غير رصف كلمات القرآن لينشئ منها ما توهمه تحديا.. اسمع الآية الثانية من هذه السورة:( فأنا الملك الجبار المتكبر القهار القابض المذل المميت المنتقم الضّار المغني فإياي تعبدون وإياي تستعينون )

    قلت: ما الذي جاء به من عنده؟ كل ما ذكره ألفاظ قرآنية ومعاني قرآنية أعاد رصفها وصياغتها.

    قال: سأكمل لك الآيات المتبقية من هذه السورة.. اسمع:( ( 2 ) مهيمن يحطم سيف الظلم بكف العدل ويهدي الظالمين ( 3 ) ويهدم صرح الكفر بيد الإيمان ويشيد موئلاً للتائبين ( 4 ) وينزع غلَّ الصدر شذى المحبة ويشفي نفوس الحاقدين ( 5 ) ويطهّر نجس الزنى بماء العفة ويبرئ المسافحين ( 6 ) ويفضح قول الإفك بصوت الحق ويكشف مكر المفترين( 7 ) فيا أيها الذين ضلّوا من عبادنا توبوا وآمنوا فأبواب الجنة مفتوحة للتائبين )

    بهذه الآيات السبعة التي تتفق مع سورة الفاتحة في عددها تنتهي هذه السورة العجيبة التي تصور صاحبها أنه يعارض بها القرآن.

    قلت: دعنا من هذا الجنون.. وعد بنا إلى القرآن.. ما سر جمال النظم القرآني؟

    قال: إن القرآن ليس كلمات مرصوفة تبحث عن فاصلة تنتهي بها، بل هو حقائق تنساب كما ينساب الماء العذب في المنحدرات.. فلذلك كان له الجمال الذي لا يمكن وصفه.

    قلت: فكيف يفهم الغير سر إعجازه إذا لم تقدر على وصفه؟

    قال: الأشياء التي ينتهي فيها الجمال إلى مراتب لا تطاق لا يمكن وصفها.. لقد عبر عن ذلك ابن أبى الحديد، وهو عالم من علماء المسلمين، وأديب من أدبائهم، فقال:( اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق، والجلى والأجلى، والعلى والأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه، وهو بمنزلة جاريتين: إحداهما بيضاء مشربة حمرة، ودقيقة الشفتين، نقية الشعر، كحلاء العين، أسيلة الخد، دقيقة الأنف، معتدلة القامة، والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن، لكنها أحلى في العيون والقلوب منها، وأليق وأملح، ولا يدرى لأي سبب كان ذلك، لكنه بالذوق والمشاهدة يعرف، ولا يمكن تعليله.. وهكذا الكلام.. نعم، يبقى الفرق بين الوصفين أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها يدركه كل من له عين صحيحة، وأما الكلام فلا يعرفه إلا بالذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو أو باللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق، وممن يصلح لاتنقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة، فإلى أولئك ينبغى أن يرجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض )[17]

    سكت قليلا، ثم قال: لقد حاول بعض المحللين معرفة بعض سر ذلك، فذكر أن كون النظم معجزاً يتوقف على بيان نظم الكلام، ثم بيان أن هذا النظم مخالف لنظم ما عداه.

    ثم ذكر ان مراتب تأليف الكلام خمس.. تبدأ بضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث الاسم والفعل والحرف.. والثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض لتحصل الجمل المفيدة، وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعاً في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم، ويقال له المنثور من الكلام.. والثالثة: يضم بعض ذلك إلى بعض ضماً له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج، ويقال له المنظوم.. والرابعة: أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع، ويقال له المسجع.. والخامسة: أن يجعل مع ذلك وزن، ويقال له الشعر والمنظوم، إما محاورة ويقال له الخطابة، وإما مكاتبة ويقال له الرسالة.

    فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام، ولكل من ذلك نظم مخصوص، والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شيء منها يدل على ذلك، لأنه لا يصح أن يقال له رسالة أوخطابة أو شعرا أوسجعا، كما يصح أن يقال هوكلام، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم، ولها ورد في القرآن:) وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ((فصلت:42) تنبيهاً على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخر[18].

    سكت قليلا، ثم قال: لا شك أنك ترى القرآن مختلفا عن الشعر.. لقد ذكر القرآن ذلك، فقد جاء فيه:) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ((يّـس:69)

    ومع أن العرب كانوا يدركون أن القرآن ليس كالشعر إلا أنهم في خصومتهم شبهوه بالشعر.. وقد جاء في القرآن حكاية عن كفار العرب:) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ((الانبياء:5)

    وصدق القرآن، فليس هذا النسق شعراً.. ولكن العرب كذلك لم يكونوا مجانين ولا جاهلين بخصائص الشعر، يوم قالوا عن هذا النسق العالي: إنه شعر!

    لقد راع خيالهم بما فيه من تصوير بارع، وسحر وجدانهم بما فيه من منطق ساحر، وأخذ أسماعهم بما فيه من إيقاع جميل.. وتلك خصائص الشعر الأساسية، إذا نحن أغفلنا القافية والتفاعيل.

    على أن النسق القرآني قد جمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة.. وأخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر، الموسيقي الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، والتقفية التي تغني عن القوافي[19].

    قلت: لدي شبهة هنا لطالما رددها قومي.

    قال: تقصد كثرة الأخطاء النحوية في القرآن[20].

    قلت: أجل.. وقد عددنا منها الكثير، وهي مبثوثة في مواقعنا التبشيرية[21].

    ابتسم، وقال: هل وصلت الجرأة بقومنا إلى أن يفعلوا هذا.. وعلى أي قواعد يحتكمون، ولم تنشأ قواعد العربية إلا من خلال أمثلة القرآن.

    قلت: هم يبحثون عن أي شبهة معارضة ليلصقوها بالقرآن.. وهم يعلمون أن الكثير لا تهمهم الحقائق بقدر ما تهمهم الشبه.

    قال: فهل أنت منهم؟

    قلت: جزء مني تابع لهم.. وجزء هو معك يبحث عن الحقيقة.. وما أوردت لك هذه الشبهة إلا لما آنست فيك من معرفتك للغة العربية عساك تجيبني عنها.

    قال: فاذكر لي ما قالوا لنعرضه على قواعد اللغة العربية.

    قلت: مما ذكروه من الأخطاء النحوية في القرآن نصب المعطوف على المرفوع، وقد ذكروا لهذا الاختراق للقواعد العربية شاهدين:

    أما الأول، فهو الآية التي تقول:) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:162)

    فكلمة (المقيمين) منصوبة بينما ما قبلها (الراسخون) و(المؤمنون)، وما بعدها (المؤتون) و(المؤمنون) مرفوعاً.. وهذا من عطف المنصوب على المرفوع، أو نصب المعطوف على المرفوع.. وكان يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع فيقول:( والمقيمون الصلاة )

    وأما الثاني، فهو الآية التي تقول:) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177)

    والشاهد على هذه الشبهة هو قوله:) وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ(، فقد جاء منصوباً بـ (الياء) بعد قوله ) وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا(

    تأمل قليلا ما ذكرت، ثم قال: فلنبدأ بالآية الأولى.. والتي وردت فى سياق الحديث عن اليهود تنصف من استحق الإنصاف منهم بعد أن ذمت من عاند منهم، وحاد عن الحق، فى الآيات التى سبقت هذه الآية.

    إن ما ذكرته من مجىء (المقيمين) بالياء خلافاً لما قبلها وما بعدها لفت أنظار النحاة والمفسرين والقراء، فأكثروا القول فى توجيهها مع إجماعهم على صحتها[22].

    ومن أشهر ما قيل فيها أن (المقيمين) منصوب على الاختصاص[23] المراد منه المدح فى هذا الموضع بدلالة المقام ؛ لأن المؤدين للصلاة بكامل ما يجب لها من طهارة ومبادرة وخشوع وتمكن، جديرون بأن يُمدحوا من الله والناس.

    وقد قال الزمخشرى ـ وهو العالم باللغة وفنون القول ـ:( و(المقيمين) نُصِبَ على المدح، لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً فى خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان )[24]

    وهذا الرأى الذى اقتصر عليه الزمخشرى هو المشهور عند النحاة والمفسرين والقراء، وقد سبق الزمخشرى فى هذا التوجيه شيخ النحاة سيبويه وأبو البقاء العكبرى[25].

    وقد أوردوا على هذا شواهد عدة من الشعر العربى المحتج به لغوياً ونحوياً، ومما أورده سيبويه:

    ويأوى إلى نسوة عُطَّلٍ وشُعْثاً مراضيع مثل الثعالى

    ومنها قول الخرنق بنت هفان:

    لا يبعدنْ قومى الذين همو سًمُّ العداة وآفة الجزْر

    النازلين بكل معتركٍ والطيبون معاقد الأُزْر

    فقد نصب (شُعثا) فى البيت الأول مع أنه معطوف على مجرور، وهو (عُطَّلٍ)

    ونصب (النازلين) وهو معطوف على مرفوع، وهو (سمُّ العداة)

    وأما الآية الثانية والتي جاء إعراب (الصابرين) فيها مخالفاً لإعراب ما قبلها، فهي على نفس التوجيه السابق من الاختصاص بالمدح، ليلفت القرآن الأذهان إلى أهمية الصبر.

    زيادة على أن الإعراب المخالف لما قبله يفيد مع تركيز الانتباه، وتوفير العناية أمراً آخر مبهجاً للنفوس، هو مدح هؤلاء الصابرين شديدى العزيمة، قويى الاحتمال[26].

    التفت إلي، وقال: هل وعيت ما قلت؟

    قلت: أجل.. وقد رأيت أن هذا محل جمال في الأسلوب القرآني لا محل خطأ..

    ولكن لدي شبه أخرى.. فاصبر علي.

    قال: اذكر ما شئت.. فلا تقطع الطريق إلا بمثل هذا.

    قلت: لقد ذكروا أن القرآن يخالف القواعد العربية حين يرفع المعطوف على المنصوب في قوله:) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة:69)

    فـ (إن) حرف ناسخ ينصب المبتدأ ويرفع الخبر، واسم إن هنا هو الذين، وهو مبنى لأنه اسم موصول، وقد عطف عليه (الذين هادوا)، وبذلك تكون منصوبة، أما (الصابئون) فجاءت مرفوعة بالواو، لأنها جمع مذكر سالم، مع أنها معطوفة على منصوب، وكان حقها أن تنصب، فيقال: (والصابئين)

    قال: لقد أخرج للنحاة لهذا وجوها كثيرة كلها تدل على جواز هذا الاستعمال، وسأذكر لك منها ما تقر به عينك، وتعلم مدى سعة العربية، ومدى دقة القرآن في استعمال ألفاظها وتراكيبها:
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68445
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Empty رد: كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 16:01

    فمن الأقوال في ذلك:أن (الصابئون) مرفوع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف يدل عليه خبر ما قبله (إن الذين آمنوا)، والقصد فيه التأخير، أى تأخير (والصابئون) إلى ما بعد (والنصارى)

    وتقدير النظم والمعنى عندهم بهذا هو:( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون كذلك)[27]

    وشواهد هذا الحذف عند العرب كثيرة، منها قول الشاعر:

    نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأى مختلف

    فقد حذف الخبر من المبتدأ الأول، وتقديره (راضون) لدلالة الثانى عليه (راض)، والمعنى: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض.

    ومثله قول الآخر:

    ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإنى وقيَّار بها لغريب

    والتقدير: فإنى لغريب وقيار كذلك.

    ومنه قول الشاعر:

    وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم بغاة ما بقينا فى شقاق

    فالشاعر يصف الفريقين أنهم (بغاة)، إن استمروا فى الشقاق، والتقدير: اعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك[28].

    ومن الأقوال في توجيه ذلك أن (إن) فى الآية ليست هى (إنَّ) الناسخة، التى تنصب المبتدأ وترفع الخبر، بل هى بمعنى: نعم، يعنى حرف جواب، فلا تعمل فى الجملة الاسمية لا نصباً، ولا رفعاً، وعلى هذا فالذى بعدها مرفوع المحل، لأن (الذين) اسم موصول، وهو مبنى فى محل رفع، وكذلك (الصابئون) فإنه مرفوع لفظاً، وعلامة رفعه (الواو) لأنه جمع مذكر سالم.

    وقد استعملها العرب بهذا المعنى، كما قال الشاعر:

    بـرز الغوانى من الشباب يلمننى، وآلو مهنَّهْ

    ويقلن شيبٌ قد علاك وقد كبرتَ، فقلت إنَّهْ [29]

    أى فقلت: نعم.

    قلت: وعيت هذا.. ولا حاجة لي لذكر سائر الأقوال، ولكن ما الغرض البلاغي من اختيار هذا الأسلوب؟

    قال: إن في مخالفة إعراب (الصابئون) عما قبلها وعما بعدها إن قدرنا (والنصارى) معطوفاً على ما قبلها لمحة بلاغية رائعة ؛ تشير إلى وجود فرق كبير بين هذه الطوائف الأربع من الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئون.

    فالطوائف الثلاث الأولى يربط بينها رابط قوى هو أن كل طائفة منها لها كتاب ورسول معروف بخلاف الصابئين الذين لا يعرف لهم كتاب ولا رسول.

    قلت: لدي شبهة أخرى أنا لست مقتنعا بها، ولكن قومي يعارضون ويحاجون المسلمين بها.

    قال: فما هي؟

    قلت: هم يقولون بأن القرآن ينصب الفاعل.

    قال: أين ذلك؟

    قلت: في قوله:) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)

    فكلمة (الظالمين) فيها خطأً نحوياً؛ لأنها فاعل، والفاعل حكمه الرفع لا النصب، فكان حقها أن تكون هكذا:( لا ينال عهدى الظالمون)، لأنه جمع مذكر سالم، وعلامة رفعه (الواو)

    قال: هؤلاء المساكين لا يعرفون هذا الفعل.. ومن لم يعرف أخطأ في حكمه.

    قلت: ألهذا الفعل حكم خاص؟

    قال: أجل.. فمن خواص هذا الفعل (نال) أن فاعله يجوز أن يكون مفعولاً، ومفعوله يجوز أن يكون فاعلاً، على التبادل بينهما.

    قلت: لم؟

    قال: لأن ما نالك فقد نلته أنت، ولهذا جاء في القرآن:) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ )(الحج: من الآية37)

    قلت: فكيف تعرب الجملة السابقة على هذا؟

    قلت: تصبح كلمة (عهدي) هي الفاعل، وهو مرفوع بضمة مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة لياء المتكلم، والمفعول به هو (الظالمين) وعلامة نصبه هى (الياء) لأنه جمع مذكر سالم.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن تذكير خبر الاسم المؤنث.. وذلك في قوله:) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (لأعراف:56)

    فكلمة (قريب) هى (خبر) اسم (إن) الذي هو (رحمة).. ومع ذلك لا نلاحظ التطابق بين المبتدأ (رحمة) والخبر (قريب) فى التأنيث، لأن المبتدأ (رحمة) مؤنث. أما الخبر (قريب) فهو فى الآية مذكر.. وكان يجب أن يتبع خبر (إن) اسمها فى التأنيث فيقال: قريبة.

    قال: هذا مما اتفق عليه العرب، فهم يفرقون بين القرب والبعد من النسب وبين القرب والبعد فى المكان والزمان، فالأول: يلتزم فيه تأنيث ما جرى خبراً أو صفة لمؤنث.. أما الثانى: وهو القرب والبعد فى المكان والزمان، فإنهم يجيزون فيه الوجهين: التأنيث والتذكير.

    قلت: لم أفهم الفرق بين الأول والثاني؟

    قال: القرب والبعد الأول مرتبط بالنسب، وفي هذه الحالة تجب المطابقة، كقولك: فلانة قريبة منى، أى فى النسب، وبعيدة منى أى فى النسب.

    أما إذا أريد بها القرب المكانى أو الزمانى، فإنه يجوز الوجهان ؛ لأن قريباً وبعيداً قائم مقام المكان أو الزمان، فتقول: فلانة قريبة وقريب، وبعيدة وبعيد، والتقدير: هى فى مكان قريب وبعيد.

    وقد جاءت للدلالة على صحة كل هذا الشواهد الشعرية، فالشاعر يقول:

    عشية لا عفراء منك قريبة فتدنو ولا عفراء منك بعيد

    فالشاعر جمع في هذا البيت بين الوجهين: التأنيث والتذكير، والموصوف مؤنث؛ لأن (قريب) و(بعيد) أريد بهما القرب فى المكان والبعد فيه.

    ومثل ذلك قول امرئ القيس، وهو من شعراء الجاهلية، وشعرهم حُجة فى إثبات اللغة:

    له الويل إن أمسى ولا أم سالم قريب، ولا البسباسة ابنته يُشكرا

    والشاهد فى البيت تذكير (قريب) مع جريانه على مؤنث (أم سالم) وهو نظير (قريب) فى الآية الكريمة.

    وليس القرب المذكور في الآية قرب نسب، فيلزم تأنيثه، وإنما المراد قرب زمان أو قرب مكان، والعرب تجيز فيه الوجهين: التأنيث والتذكير[30].

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن تأنيث العدد، وجمع المعدود، وذلك في قوله:) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ( (لأعراف:160)

    فالشبهة في قوله (اثنتى عشرة أسباطاً أمماً)، مع أن الصواب هو أن يُذَكَّر العدد، ويأتى بمفرد المعدود فيقول (اثنى عشر سبطا)

    قال: أوردت شبهتين في هذه الآية:

    أما الجواب على الأولى، فهو أن السبط فى بنى إسرائيل كالقبيلة عند العرب[31]، والقبيلة مؤنث، ولذلك أنث جزئى العدد المركب، وهما: اثنتى، وعشرة.

    أما الجواب على الثانية، وهو أن الآية جمعت (أسباط)، وكان حقها أن تفرد، فقد روعى في الآية المعنى دون اللفظ، ومراعاة المعنى دون اللفظ، أو اللفظ دون المعنى كثير الورود فى النظم القرآنى، وفي الأدب العربي عموما، ومن ذلك قول الشاعر:

    فيها اثنتان وأربعون حلوبة سُوداً كخافية الغراب الأسحم

    فقد وصف الشاعر (حلوبة) وهى مفرد، بقوله (سُوداً ) وهو جمع سوداء.

    وقد كان العرب الذين نزل القرآن بلغتهم يذكِّرون عدد المؤنث مراعاة للفظ فيقولون: ثلاثة أنفس، أى رجال ويقولون عشر أبطن.

    ففى الأول (ثلاثة أنفس ) ذكَّروا العدد نظراً للمعنى ؛ لأن المعدود مذكر (رجال) وفى الثانى أنثوا العدد (عشر أبطن) لأن المعدود هو القبيلة أى عشر قبائل.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن جمع الضمير العائد على المثنى، وذلك في قوله:) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) (الحج:19)

    حيث كان يجب أن يثنى الضمير العائد على المثنى، فيقول:( خصمان اختصما فى ربهما )

    قال: لقد عرفنا من خلال الردود السابقة أن التعبير اللغوى الفصيح راعي في هذا الباب أحد أمرين: إما اللفظ، وإما المعنى.

    ولهذا، فإنه حيث جمع القرآن الضمير العائد على المثنى، فهو من استعمالات الطريقة الثانية، التى يراعى فيها جانب المعنى على جانب اللفظ.

    بالإضافة إلى هذا ينبغي أن يعلم مروجو هذه الشبه أن المثنى نوعان: مثنى حقيقى، وذلك مثلما ورد في القرآن:) قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ( (المائدة:23).. فـ (رجلان) مثنى حقيقى؛ لأن واحده فرد فى الوجود؛ وهذا هو المثنى الحقيقى.. فإذا وُصِفَ هذا النوع أو استؤنف الحديث عنه وجب تثنية الضمير العائد عليه.. وهذا النوع يسمى مثنى لفظاً ومعنى.

    أما النوع الثانى من المثنى، فهو المثنى اللفظى ومثاله من القرآن قوله:) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (هود:24).. وهذا النوع من المثنى ضابطه أن واحده جمع فرد من عدة أفراد، وليس فرداً واحداً.. وهذا النوع يسمى مثنى فى اللفظ، وجمعاً فى المعنى.. وفى وصفه أو استئناف الحديث عنه يجوز أن يراعى فيه جانب اللفظ، أو جانب المعنى.

    والآية التي ذكروها من هذا النوع الثاني.. ذلك أنه لما كان معناه جمعاً روعى فيه جانب المعنى، فقال:) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ (، ومعروف أن مفرد الخصمين خصم، وهو اسم جنس يندرج تحته ـ في هذا المحل ـ أفراد كثيرون، وبهذا نزل القرآن فى هذه الآية، فتحدث عن الخصمين بضمير الجمع الذى هو (واو الجماعة)( اختصموا)، ثم بضمير الجماعة (هم) فى قوله (فى ربهم)

    ومثل هذا في القرآن:) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا )(الحجرات: من الآية9)، فقد أعاد الضمير جمعاً (اقتتلوا) مع أن المبتدأ مثنى (طائفتان)، وذلك لأن هذا اللفظ مثنى غير حقيقى، بل هو مثنى فى اللفظ، جمع فى المعنى.

    وفى هذه الآية راعى النظم القرآنى المعنى فى جملة الخبر وحدها (اقتتلوا)، ثم راعى اللفظ فى بقية الآية:) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9)

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن جاء الإتيان باسم موصول عائد على الجمع مفرداً.. وذلك في هذه الآية:) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (التوبة:69)

    فكان يجب أن يجمع اسم الموصول العائد على ضمير الجمع فيقول:( خضتم كالذين خاضوا )

    قال: هذا واضح بسيط.. فالذى فى الآية اسم موصول مفرد يعود على المصدر المفهوم من الفعل الماضى (خضتم) فشبه القرآن خوض المنافقين بخوض الذين من قبلهم، ويكون المعنى على ذلك ( كالخوض الذى خاضوا)[32]

    وهذا هو النسق الذى دارت عليه المقارنة فى الآية، وهو تشبيه سلوك اللاحقين بسلوك السابقين من الأمم الغابرة.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن جزم الفعل المعطوف على المنصوب في هذه الآية:) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون:10)

    فقد جاء (وأكن) ساكن، لأنه محذوف الواو ساكن النون، وهو فعل معتل الوسط بالواو (أجوف)، ولا يحذف الواو منه إلا إذا سكن آخره، ولا يسكن آخره إلا إذا كان مجزوماً، ويجزم المضارع إذا دخل عليه جازم، أو عطف على مجزوم.

    ولما لم يدخل على الفعل هنا جازم، ولم يتقدم عليه مجزوم يصح جزمه بالعطف عليه، كان يجب أن ينصب الفعل المعطوف على المنصوب فيقال:( فأصدق وأكون )

    قال: أولا.. لقد قرئت هذه الآية بالنصب كما وصفت، فقد قرأها أبو عمرو هكذا (وأكون ) بالنصب عطفاً على (فأصدق)

    قلت: فهذه القراءة إذن هي الصواب، والثانية لحن.

    قال: لا..كلاهما صواب.. وكلاهما يحمل على معنى من المعاني الصحيحة.

    أما القراءة الثانية، فتحمل على ما ذكرته.

    وأما الأولى، والتي أثارت الشبهة والإشكال، فقد لفتت أنظار النحاة والمفسرين، واختلفت توجيهاتهم لورود الفعل المجزوم مردوفاً على الفعل المنصوب، مع اتفاقهم جميعاً على صحة هذا التركيب نحوياً، لأن نظم القرآن مشهود له بالصحة من ألد خصومه الذين بلغوا الذروة فى الفصاحة والبلاغة، وهم مشركو العرب.. فلم يُرو عنهم أنهم طعنوا فى القرآن فى صحة أساليبه، وضروب تراكيبه، بل سلموا له بالسمو والرفعة فى هذا المجال.

    ومن هذه التوجيهات أن هذا الفعل مجزوم على تضمن عبارة التمنى ) لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ( أو على الشرط المقدر بـ ( إن أخرتنى (

    وهو توجيه سديد، وقد سبق إلى القول به علمان من أئمة النحو، هما الخليل وسيبويه[33].. والذى سوَّغ إيثار عبارة التمنى (لولا أخرتنى) على الشرط الصريح (إن أخرتنى) أن قائل هذه العبارة يقولها فى ساعة يملكه فيها اليأس من التأخير، وهى ساعة حضور الموت، والتمنى يستعمل فى طلب المحال أو المتعذر، أما الشرط فيستعمل فى الأمور التى لا استحالة فيها ولا تعذر.

    فهو إذن من تبادل الصيغ وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغى.

    وقرينة إرادة الشرط من عبارة التمنى هو جزم الفعل (أكن)، وسره البلاغى أن من حضرته الوفاة، وهو مقصر فى طاعة الله، تدفعه شدة الحاجة التى نزلت به إلى طمعٍ من نوع ما، مما هو مستحيل أو متعذر الوقوع.

    وقد جّه الزمخشرى مجئ الفعل (وأكن) مجزوماً مردوفاً على الفعل المنصوب (فأصدق) بأن قوله (لولا أخرتنى) فى محل جزم لتضمنه معنى الشرط، فكأنه قيل (إن أخرتنى أصدقْ وأكن من الصالحين )[34]، ومثل هذا قاله ابن عطية، وأبو على الفارسى.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن جَعْلُ الضمير العائد على المفرد جمعاً، وذلك في هذه الآية:) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) (البقرة:17)

    فكان يجب أن يجعل الضمير العائد على المفرد مفرداً، فيقول(استوقد ـ ذهب الله بنوره )

    قال: لقد وجَّه النحاة جمع الضمير بعد (الذى) فقالوا: إن الذى ليس بمعنى المفرد، بل هو بمعنى (الذين).. وذلك أن (الذى) فى الاستعمال اللغوى لها معنيان: الأول: أن يكون بمعنى المفرد، وهو الغالب والكثير فيه.. والثانى: أن يكون بمعنى الجمع.

    ويُفرَّق بينهما بالقرائن، ففى الآية التى معنا (الذى) بمعنى الفريق أو الفوج الذى استوقد النار.

    وقد عبروا عن هذا التوجيه بقولهم: أراد بالذى جنس المستوقد، لا فرداً معيناً[35].

    وذكر الإمام الزمخشرى توجيها آخر، فذكر أن (الذى) هنا هي (الذين)، ولكن حذفت منها النون لاستطالتها، وشبه ذلك بقوله بما في القرآن:) وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا )(التوبة: من الآية69)

    وليس فى الكلام تشبيه الجماعة بالواحد على هذا التأويل، وأن المشبه هو حال المنافقين، بحال الذى استوقد ناراً.. وإنما المقصود هو تشبيه قصة المنافقين المضروب لها المثل، بقصة المستوقد للنار، وأن وجه الشبه بين القصتين هو (فبقوا خابطين فى ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح فى إحياء النار)[36]

    وذكر الإمام الشوكانى أن (الذى) موضوع موضع الذين، أى كمثل الذين استوقدوا، وهو موجود فى كلام العرب، ومنه قول الشاعر:

    وإن الذى حانت بفلج دماؤهم همُ القوم، كل القوم، يا أم خالد[37]

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن أتى جمع كثرة فى موضع جمع القلة، وذلك في هذه الآية:) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً )(البقرة: من الآية80)

    فهنا نجد كلمة (معدودة)، وهي جمع كثرة، والمقام الذى استعملت فيه يتطلب جمع القلة، وكان يجب أن يجمعها جمع قلة، فيقول (أياماً معدودات)

    وذلك لأن اليهود أرادوا جمع القلة، أى أنهم يمكثون فى النار أياماً قليلة، فجاء تعبير القرآن غير وافٍ بالمعنى الذى كانوا يقصدونه، وكان الواجب على القرآن أن يقول: أياماً معدودات، بدلاً من (أياماً معدودة)، وهو ما نصت عليه الآية الأخرى:) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (آل عمران:24)

    قال:أولا.. إن كلمة (معدودة) ليست جمعاً، لا جمع كثرة، ولا جمع قلة، بل هي مفرد.

    وثانياً: أن (معدودات) التى يقولون: إنها الصواب، وكان حق القرآن أن يعبر بها بدلاً من (معدودة) ظانين أن (معدودات) جمع قلة. هى ليست جمع قلة، كما توهموا، فهى على وزن (مفعولات)، وهو ليس من أوزان جموع القلة[38] بل من أوزان جموع الكثرة.. ولا ينفعهم قولهم إن اليهود أرادوا القلة، لأن هذه القلة يدل عليها سياق الكلام، لا المفردات المستعملة فى التركيب.

    وثالثاً: إن هذا التعبير لا ينظر فيه إلى جانب قلة أو كثرة، ولكن ينظر فيه من جانب آخر هو: معاملة غير العاقل معاملة العاقل أو عدم معاملته.

    ووصف الأيام بـ (معدودة ) فى ما حكاه القرآن عن اليهود هو وصف لها بما هو لائق بها، لأن الأيام لا تعقل فأجرى عليها الوصف الذى لغير العقلاء، وما جاء على الأصل فلا يسأل عنه.

    أما معاملة غير العاقل معاملة العاقل، فلها دواعٍ بلاغية هى فى النظم القرآنى من الكثرة بمكان، ولا يعامل غير العاقل معاملة العاقل إلا بتنزيله منزلة العاقل لداع بلاغى يقتضى ذلك التنزيل.

    ومن ذلك أن القرآن عبَّر فى وصف ( أياماً ) فى سورة آل عمران بـ ( معدودات)

    قلت: فما سر الاختلاف بين التعبيرين؟

    قال: إذا قارنَّا بين الآيتين وجدنا آية البقرة مبنية على الإيجاز.. فقد جاءت هكذا:) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً)(البقرة: من الآية80) بينما آية آل عمران مبنية على الإطناب هكذا:) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ)(آل عمران: من الآية24)

    وازن بين صدر آية البقرة (وقالوا) وصدر آية آل عمران (ذلك بأنهم قالوا) تجد أن جملة (ذلك بأنهم) اشتملت على اسم الإشارة الموضوع للبعيد، الرابط بين الكلامين السابق عليه، واللاحق به، ثم تجد (الباء) الداخلة على (إن) فى (بأنهم)، ثم (إن) التى تفيد التوكيد، ثم ضمير الجماعة (هم)

    وكل هذه الأدوات لم يقابلها فى آية البقرة إلا واو العطف (وقالوا)، فالمقامان إذن مختلفان، أحدهما إيجاز، والثانى إطناب.

    وهذا يبين لماذا كان (معدودة ) فى آية البقرة، و(معدودات) فى آية آل عمران.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن الإتيان بجمع قلة فى موضع جمع الكثرة، وذلك في هذه الآية:) )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )(البقرة: 183-184)

    فقوله (معدودات) جمع قلة، مع أن أيام الصيام فى شهر رمضان ثلاثون يوماً.. فهى أيام كثيرة يناسبها جمع الكثرة وهو (معدودة)

    ابتسم، وقال: لقد سبق أن عدوا الأربعين جمع قلة، في الآية السابقة، وهنا اعتبروا ثلاثين يوماً جمع كثرة وأن القرآن أخطأ مرة أخرى حين عبَّر عنها بجمع القلة.

    لكن لا بأس.. سنعاملهم بحسب عقولهم.

    لقد ذكرت لك من قبل أن معاملة غير العاقل معاملة العاقل أسلوب بلاغى رفيع، وهو عند البلاغيين استعارة، يشبه فيها غير العاقل بالعاقل لداعٍ بلاغى، يراعيه البليغ فى كلامه.

    وكلمة (معدودات) فى وصف أيام الصيام أتى بها القرآن لخصوصية بيانية، وهى تعظيم شأن تلك الأيام، حتى لكأنها لرفعة منزلتها عند الله صارت من ذوى العقول، مع أنها أوقات لا روح فيها كالأحياء العاقلين.

    فليس المدار فيها اعتبار قلة أو كثرة، بل المراد التنويه بفضلها وعلو منزلتها عند الله.. أما كونها قليلة، فتفهم من سياق الكلام الذى حدد أيام الصيام بالشهر الواحد:) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(البقرة: من الآية185)

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن جَمْعُ اسمِ عَلَمٍ يجب إفراده، وذلك في موضعين من القرآن.. وهو من التحريف الذي قصد به مراعاة الفاصلة في النظم القرآني:

    أما الأولى.. ففي قوله:)سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) (الصافات:130) مع أن الحديث عن إلياس:) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)(الصافات)

    وأما الثانية.. ففي قوله:) وَطُورِ سِينِينَ) (التين:2)، فلماذا قال (سينين) بالجمع تعبيرا عن سيناء؟.. فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العَلَمَ حباً فى السجع المتكلف؟

    قال: أنت تعلم أن الشيء الواحد قد يكون لها أسماء متعددة.

    قلت: ذلك صحيح.. وقد ورد لمكة في القرآن عدة أسماء، فهي مكة، وبكة، وأم القرى، والبلد الأمين.

    قال: ومثل هذا يقال فيما ذكرت من الأسماء:

    فإلياسين لغة فى إلياس، كما أن إدريسين لغة فى إدريس، وعلى هذا فإن (إلياسين) ليس جمعاً.. وإذا كان جمعاً فإن المراد إلياس مضموماً إليه من آمن به من قومه، كما قالت العرب (الخبيبون) و(المهلبون) فى (الخبيب) و(المهلب)، وهو من تسمية الأتباع باسم المتبوع[39].. ويؤيد هذا قراءة نافع وابن عامر وعلى: (آل ياسين)، و(ياسين)

    ومثل ذلك القول في (سينين)، فهي ليست جمعاً، بل هى لغة فى (سيناء) بكسر السين، كما أن (سَيناء) بفتح السين لغة فيها.. وبهاتين اللغتين: سِيناء، بالكسر، وسَيناء بالفتح وردت القراءات، فلها إذن فى القرآن ثلاثة لغات: سِيناء بكسر السين.. وسَيناء بفتح السين.. وسِينين، بكسر السين وياءين ونونين.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن الإتيان بالموصول بدل المصدر،وذلك في هذه الآية:) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177)

    فقد جاء في هذه الآية (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ )مع أن الصواب أن يقال (ولكن البر أن تؤمنوا بالله )، لأن البر هو الإيمان لا المؤمن.

    قال: يمكنك أن تفهم من هذا فهوما كثيرة كلها تجوزها اللغة العربية.. وهو من دلائل سعتها:

    فمنها أن تقدر في الكلام مضافاً محذوفاً، والتقدير هو (ولكن البر بر من آمن)، وقد اشتهر هذا التوجيه بين جمهور العلماء، وردده كثير منهم[40].

    ومنها تأويل (البر) بـ (ذو البر).. أي أن فى الكلام حذف مضاف تقديره قبل (البر).. وهو مخالف للتوجيه الأول الذي كان تقدير المضاف المحذوف قبل (من آمن)، وهذا المضاف خبر (البر) الذى هو اسم (ليس)

    ومنها أن يكون المصدر، وهو (البر) موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة، كما فى قول الخنساء تصف فرس أخيها صخر:

    ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت فإنما هى إقبال وإدبار

    فإقبال وإدبار مصدران حلا محل اسم الفاعل، والتقدير ؛ هى مقبلة مدبرة.

    ومن هذا قول العرب (رجل عدل) حيث عدلوا عن رجل عادل، إلى الإخبار عنه بالمصدر، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل صار كأنه العدل نفسه، لا فرق بينهما.

    ومنها اعتبار (من آمن) واقعاً موقع الإيمان، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل، ويدل هذا بقول الشاعر:

    لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى نَدِى

    حيث جعل الشاعر نبات اللحية خبراً عن الفتيان.. والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن وضع الفعل المضارع موضع الماضى في هذه الآية:) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59)

    حيث كان يجب أن يعتبر المقام الذى يقتضى صيغة الماضى، لا المضارع فيقول (قال له كُنْ فكان)

    قال: لقد عبر العلماء عن توجيه ذلك، فقالوا:( هى حكاية حال ماضية )[41]

    قلت: ما معنى ذلك؟

    قال: إن دور الفعل المضارع (يكون) هو أن يصور للمخاطبين ترتيب الأحداث ساعة حدوثها فى الزمن الذى خلق الله فيه آدم، وفائدته نقل أذهانهم إلى تلك اللحظة كأنهم يعاينونها بأبصارهم.

    وهذه هى دلالة المضارع إذا وضع موضع الماضى عند علماء المعانى، وهى بعث الماضى وتصويره فى صورة الذى يحدث فى الحال[42].

    ومن أمثلة ذلك في اللغة العربية قول الشاعر يحكى صراعًا حدث بينه وبين الضَّبُع:

    فأضربها بلا دهش فخرَّت صريعًا لليدين، وللجران [43]

    فالشاعر ضرب الضبع فى الماضى، ولكنه لما حكى صراعه معها للناس عبَّر عن الماضى (فضربتها) بالمضارع (فأضربها)

    والدلالة البلاغية للعدول عن الماضى إلى المضارع هى استحضار صورة الحدث الذى وقع فى الماضى، كأنه يحدث الآن فى زمن التكلم.

    قلت: فبهذا تكون دلالة المضارع خير من دلالة الماضي؟

    قال: أجل.. فلو قيل (كن فكان) لخلا هذا التعبير من كثير من الحسن الذى هو فيه.. لأن دلالة الماضى الأصل فيها الانقطاع عن الوجود المستمر، ولذلك يعبر عنه النحويون بأنه: ما دل على حدث وقع وانقطع قبل زمن التكلم، وهو غير مراد فى حكاية كيفية خلق لآدم، لأنه لو قيل: كن فكان لصدق هذا التعبير عن وجوده لحظة واحدة من الزمن، ولو كان قد مات لحظة خلقه.. أما (كن فيكون) فدلالتها استمرار وجوده، لأن دلالة المضارع تبدأ من الحال، وتستمر فى الاستقبال.

    بالإضافة إلى هذا فإن الفعل المضارع (يكون) يناسب سائر (الفواصل) لأن ما قبله كلها فواصل مبنية على حرف المد إما الياء، وهو الأكثر، وإما الواو مع النون، وهو كثير، أو مع الميم.. ومثل ذلك ما بعدها، والتناسق الصوتى فى النظم القرآنى المعجز، وجه من وجوه إعجازه، وهو مقصد صحيح ما دام لم يؤثر في المعنى.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن نرى عدم الإتيان بجواب (لمَّا) في هذه الآية:) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (يوسف:15) فأين جواب لما في هذه الآية؟

    قال: أنت تعلم أن من مظاهر القرآن ما يسمى بالإيجاز..

    قلت: علمت ذلك.. وسمعت بعضهم يهتم به اهتماما شديدا[44].

    قال: فمن الإيجاز القرآني ما يسمى بفن الحذف، وهو مبحث بلاغى أكثر منه نحويًّا، وقد الإمام عبد القاهر الجرجانى، وهو شيخ البلاغيين فى وصف الحذف البلاغى:( هو بحث دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبن )[45]

    وهذا النوع من الحذف قد شاع شيوعاً لا حصر له فى القرآن، إذ لم تكد تخلو منه سورة من سوره، ولا آية من آياته.

    بل إن المعانى التى يدل عليها الحذف فى القرآن تكاد تعادل ربع معانى القرآن كله.

    وينتمى الحذف البلاغى ـ كما ذكرت لك ـ إلى فن بلاغى حصر بعض العلماء البلاغة فيه، وهو (فن الإيجاز) أى قلة الألفاظ مع كثرة المعانى.. وله مقامات يتألق فيها، ومقتضيات يوفى بأغراضها.

    ومن مقاماته الحذف الوارد فى هذه الشبهة، فحذف جواب (لما) هنا أريد منه تهويل وتفظيع ما حدث من إخوة يوسف ليوسف، بعد أن أذن لهم أبوهم بالذهاب به إلى الصحراء، وقد روى عنهم أنهم أخذوا يؤذونه بالقول والفعل وهم فى الطريق إلى المكان الذى قصدوه، حتى كادوا يقتلونه، والدليل على هذا ما جاء في القرآن حكاية عن أحد إخوته:) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (يوسف:10)، فالنهى عن القتل لا يكون إلا عند العزم عليه ومباشرة أسبابه.

    لذلك حذف جواب (لما) لتذهب النفس فى تصور ما حدث كل مذهب.

    وحذف هذا الجواب فيه دلالة على طول ما حدث منهم، وعلى غرابته وبشاعته، لذلك قدره الإمام الزمخشرى فقال:( فعلوا به ما فعلوا من الأذى.. وأظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه، وإذا استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب )[46]

    قلت: فلم لم يحذف المسلمون (الواو) فى (وأوحينا) ليستقيم المعنى، ولا يحتاجون هذا التعليل الذي قد لا يفهمه العامة.

    قال: الحذف والزيادة عندنا نحن لا عند المسلمين.. المسلمون لا يضيفون حرفا واحدا لكتابهم، ولا ينقصون منه حرفا واحدا.

    ومع ذلك فخطأ جسيم ما ذكرته، لأن (أوحينا) ليس هو جواب (لما)، وإنما هو معطوف على الجواب المقدر، لأن جواب (لمَّا) هو ما حدث ليوسف من إخوته بمجرد خروجهم به من عند أبيهم وبعدهم عنه قليلاً، ودليل ذلك هو العطف بالفاء فى (فلما) لأنها تفيد الفورية والترتيب.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن نرى الإتيان بتركيب أدى إلى اضطراب المعنى.. وذلك في هذه الآية:) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفتح:9)

    فالضمائر الثلاثة فى(تعزروه) و(توقروه) و(تسبحوه)تؤدي إلى اضطراب في المعنى، بسبب الالتفات من خطاب محمد إلى خطاب غيره، ولأن الضمير المنصوب فى قوله:) وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ( عائد على الرسول المذكور آخرًا، بينما قوله.

    وفى قوله ) وَتُسَبِّحُوهُ ( عائد على اسم الجلالة المذكور أولاً.

    هذا ما يقتضيه المعنى، وليس فى اللفظ ما يعينه تعيينًا يزيل اللبس. فإن كان القول: وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً عائدًا على الرسول يكون كفرًا، لأن التسبيح لله فقط، وإن كان القول ) وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ( عائدًا على الله يكون كفرًا؛ لأن الله لا يحتاج لمن يعزره ويقويه.

    وبتعبير آخر: إذا جعل المسلمون الضمائر الثلاثة عائدة على الرسول فقد كفروا لأن الرسول بشر، والبشر لا يجوز أن يسبحهم أحد، لأن التسبيح لا يكون إلا لله.

    وإذا جعلوا الضمائر الثلاثة عائدة على الله فقد كفروا لأن الله غنى عن خلقه لا يحتاج منهم إلى تقوية.

    قال: أولا.. الضمير فى (وتسبحوه) عائد على الله قطعاً دون أدنى شك، لأن التسبيح عبادة، وليس في القرآن ما يدل على الإذن بعبادة غير الله.

    أما مرجع الضمير فى (وتعزروه)، فهو الرسول.

    وأما الضمير فى (وتوقروه) فلا مانع لا عقلاً، ولا شرعاً أن يكون عائداً على الله، لأن توقير الله هو إكباره وتعظيمه، وقد قال نوح لقومه موبخاً لهم:) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) (نوح:13).. ويجوز أن يكون عائداً على الرسول، وتوقيره هو احترامه وإنزاله منزلته من التكريم والطاعة.

    صمت، فقلت: أنت لم تزد طين الشبهة إلا بلا.. ولم أرك تذكر سوى الشبهة كما ذكروها.

    قال: القرآن يتعامل مع عقول تعي ما يقول.. وبالتالي يمكنها أن تنزل كل ضمير محله المناسب.. فمثلاً ورد في القرآن:) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:232)

    فأنت ترى الخطاب فيها واحداً (طلقتم ـ تعضلوهن)، والنظرة المستعجلة تحسب أن المخاطب فى الموضعين صنف واحد من الرجال لكن العقل المؤيد بالشرع سرعان ما يفرق بين الذين خوطبوا بـ (طلقتم)، والذين خوطبوا بـ (تعضلوهن)

    فالمخاطب الأول هم الأزواج الذين يطلقون زوجاتهم، والمخاطب الثانى هم أولياء أمور المطلقات، فالذى فرَّق بين مرجعى الضميرين ـ هنا ـ العقل، بمعونة الشرع.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن نرى صَرْفُ الممنوع من الصرف، وذلك في آيتين من سورة واحدة.. أما الأولى فهي:) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (الانسان:4)

    فكلمة (سلاسلا)جاءت بالتنوين مع أنها لا تُنَوَّنُ لامتناعها عن الصرف.

    وأما الثانية، فهي )وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا) (الانسان:15)

    فكلمة (قَوَارِيرَا ) جاءت بالتنوين مع أنها لا تُنَوَّنُ لامتناعها عن الصرف.

    قال: لقد وردت هاتان الكلمتان في القرآن بقراءتين: بالتنوين مصروفة منونة فى الموضعين معاً[47] .. ووردت بدون تنوين على المنع من الصرف، وعلة المنع من الصرف هى صيغة منتهى الجموع [48].

    قلت: ففي القراءة الأول خطأ إذن؟

    قال: لا.. أنت تعلم أن من فوائد القراءات المختلفة أنها جمعت الكثير من الوجوه الجائزة في اللغة العربية.

    قلت: أعلم هذا.

    قال: وهذا من تطبيق ذلك.. فوجه صرف الكلمتين أن بعض العرب كانت تصرف كل الكلام، وليس فى لهجتهم كلام مصروف وكلام غير مصروف.. بل هو كله مصروف، وقد جاءت تلك القراءة على ذلك الوجه[49].
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68445
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال Empty رد: كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ عاشرا ـ الجمال

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 16:02

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن نرى الإتيان بتوضيح الواضح، وذلك في الآية التي ورد فيها:) فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) (البقرة: من الآية196)

    فقوله ) تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ( بعد قوله ) فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ( لا دلالة له.. فلماذا لم يقل: تلك عشرة مع حذف كلمة (كاملة) تلافياً لإيضاح الواضح، فمَنْ الذى يظن أن العشرة تسعة؟

    قال: هذا فن من البيان العربي يسمى (الفذلكة) والمراد منها: إجمال المعنى فى عبارة موجزة بعد بسطه فى عبارة طويلة.

    ومما ورد على هذا الأسلوب قول الشاعر:

    فسرتُ إليهمُ عشرين شهراً وأربعة فذلك حِجّتان

    أى: سنتان،ومنه قول الآخر:

    ثلاث بالغداة فهُنَّ حسبى وست حين يدركنى العشاء

    فذلك تسعة فى اليوم ربى وشُرب المرء بعد الِرى داء

    وقد ذكر الزمخشري الغاية من هذا الفن، فقال:( فإن قلت: ما فائدة الفذلكة؟ قلت: الواو قد تجئ للإباحة فى نحو قولك: جالسى الحسن، وابن سيرين، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً، أو واحداً منهما كان ممتثلاً، فَفُذْلِكَتْ نفياً لتوهم الإباحة.

    وأيضاً ففائدة الفذلكة فى كل حساب أن يُعْلَم العدد جملة كما عُلِم تفصيلاً ليحاط به من جهتين فيتأكد العلم به.. وفى أمثال العرب (علمان خير من علم) وكذلك (كاملة) تأكيد آخر، وفيه زيادة توصية بصيامها، وألا يتهاون بها، ولا ينقص من عددها)[50]

    ففى هذه العبارة توكيدين: الأول فى (تلك عشرة)، والثانى فى (كاملة)

    قلت: لم أفهم سر تطبيق ما ذكره الزمخشري على الآية.

    قال: لقد وضح البيضاوى ما أجمله الزمخشرى فقال:( (تلك عشرة) فذلكة الحساب، وفائدتها ألا يتوهم متوهم أن (الواو)ـ أى فى (وسبعة إذا رجعتم) ـ كقولك جالسى الحسن وابن سيرين، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً )[51]

    لقد أراد البيضاوي أن يذكر بأنه ليس ببعيد أن يفهم بعض الناس أن المتمتع بالعمرة إلى الحج كفارته الصيام، فإن صام فى الحج، فيكفيه ثلاثة أيام، ومن لم يصم حتى رجع إلى بلده فعليه صيام سبعة أيام، وأن يفهم الاكتفاء بالثلاثة فى الحج للتخفيف على المحرمين بالحج ويؤدون مناسكه، أما بعد الرجوع إلى الوطن فلا داعى للتخفيف، لأنه غير مشغول بالمناسك، وليس غريباً عن بلده. فليس ببعيد أن يقع هذا الفهم فى أذهان بعض الناس حتى الفقهاء المجتهدين.

    لذلك جاءت الآية نافية هذا الوهم بتأكيدها على أن المراد عشرة أيام، لا ما قد يتوهمه المتوهمون.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن نرى الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى، وذلك في هذا النص القرآني:) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ( (يونس:22-23)

    قال: لا علاقة لهذه الشبهة بالنحو والصرف، بل هى مسألة بلاغية، وللبلاغة كما تعلم جانبان:

    جانب خارجى، هو مجموعة القواعد والأصول التى تكوِّن علوم البلاغة باعتبارها علماً راقياً من علوم اللسان.. فلكل علم أصوله ومبادئه الخاصة به.. وهذه القواعد يمكن تَعَلُّمها وإتقانها لكل راغب فيها.

    وجانب ذاتى، ممتزج بذات البليغ، وهو الإحساس المرهف بالجمال الفنى، والقدرة على التذوق، والخبرة بالأساليب إنشاءً ودراسة ونقداً وتقويماً.

    انطلاقا من هذا.. فإن البلغاء الخبراء بفنون الكلام هم وحدهم من له الحق في الحكم على الكلام جمالا أو قبحا..

    ولهذا سنستأنس بقول خبير في البلاغة لا شك في خبرته.. إنه الزمخشرى.. البليغ الذواقة، وقد قال فى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:( فإن قلت ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قلت: المبالغة، كأنه يذكر حالهم لغيرهم ليعجبَّهم منها، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح )[52]

    قلت: ما الذي يريد أن يقول الزمخشري بهذا؟

    قال: هو يقصد أن الذين تحدث القرآن عنهم فى هذه الآية، أنعم الله عليهم بالتسيير فى البر والبحر، وامتحنهم بالريح العاصف بعد أن أقلعت بهم الفلك تمخر عباب الماء، فتوجهوا إلى الله يطلبون منه الإنجاء، واعدين الله إذا أنجاهم أن يشكروه ويعرفوا فضله.. فلما أنجاهم نسوا ما وعدوا الله به، وعادوا إلى معصيته ) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (

    وكانت فائدة الالتفات عن خطابهم المباشر (كنتم فى الفلك) إلى حكاية حالتهم العجيبة إلى غيرهم، لكى يستثير سخطهم عليهم، ويقبِّحوا سوء صنيعهم مع الله.

    بالإضافة إلى ما ذكره الزمخشري، فإن السر فى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، هو أن الغيبة تناسب الفعل (جرين)، فهم كانوا على الشاطئ والفلك ترسو إلى جنبه، وأخذ الناس يركبون الفلك، حتى إذا تكاملوا على ظهره، وأقلعت آخذة فى السير السريع غابوا عن الأنظار، فهم ليسوا حاضرين حتى يُخاطَبُوا، ولكنهم غائبون فجرى الحديث عنهم مجرى الحديث عن الغائب.

    إن كلتا اللمحتين البلاغيتين تنبثقان من هذا التعبير (وجرين بهم)، ولا تنافر واحدة منهما الأخرى.

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن نرى الإتيان بفاعلين لفعل واحد[53]، وذلك في هذه الآية:) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (الانبياء:3)

    ففي هذه الآية نرى الجمع بين (وأسروا)، و(الذين ظلموا)، لأن (الواو) فى (أسروا) فاعل، كما أن (الذين) فى (الذين ظلموا) فاعل كذلك.. ولما كان كل فعل لا يتطلب إلا فاعلاً واحداً كان ذلك خطأ في القرآن، حيث جعل للفعل الواحد فاعلين.

    قال: هذه الآية تحتمل وجوها كلها من العربية الفصيحة، ولكل وجه منها دلالته الخاصة التي تزيد من ثراء المعاني القرآنية:

    أما الأول.. فاعتبار (الذين ظلموا) بدلا كل من كل من معنى (الواو) فى (أسروا) لأنه واو جماعة معناه الجمع.

    أما الثانى.. فكون ذلك جاء على لغة بعض القبائل العربية، التى تجمع بين الضمير إذا وقع فاعلاً وبين ما يفسره، وعلى ذلك ورد الحديث:( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار )[54].. بل على ذلك ورد في القرآن:) ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ)(المائدة: من الآية71)، فقد جُمِعَ فى الآية بين الضمير، وهو (الواو) فى (عموا) و(صموا) وبين الاسم الظاهر (كثير)

    ومن ذلك قول الشاعر:

    ولكن ديافى أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه

    فقد جَمَع الشاعر بين نون النسوة فى (يعصرن) وهو فاعل لـ (يعصر) وبين الاسم الظاهر (أقاربه)، وليس فى الكلام إلا فعل واحد يكفى فيه فاعل واحد.

    وأما الثالث.. فاعتبارها فى محل نصب على الذم، على تقدير فعل محذوف هو: أذم أو أخص الذين ظلموا.

    وأما الرابع.. فاعتبارها مبتدأ، وما قبله خبر عنه، أى الذين ظلموا أسروا النجوى، والذى اقتضى تقديم خبره عليه (أسروا النجوى) هو التسجيل عليهم بقبح ظلمهم وفحوشته.

    وأما الخامس.. فاعتبار (الذين ظلموا) هى الفاعل، أما (الواو) فهى علامة جمع الفاعل لا غير، فالعرب كانت تفعل ذلك حتى فى المثنى، فيقولون (قاما أخواك)، وعلى هذا جاء قول الشاعر:

    يلوموننى فى اشتراء النخيل قومى، فكلهمو يعزل

    حيث جمع بين (الواو) فى (يلوموننى) وبين الاسم الظاهر فى (قومى)

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن نرى الإتيان بالضمير العائد على المثنى مفردًا.. وذلك في قوله:) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) (التوبة:62)

    فقد ذكر الله، ثم ذكر رسوله معطوفاً عليه، ثم جاء الفعل (يُرضى) على الضمير المفرد، وهو (الهاء) فى (يُرضوه).. فلماذا لم يثنِّ الضمير العائد على الاثنين: اسم الجلالة ورسوله فيقول: (أن يُرضوهما)؟

    قال: هذه الآية جاءت من باب الإيجاز البليغ، فمعناها المراد هو ( والله أحق أن يُرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه) فحُذف (أحق أن يرضوه) من الأول، لدلالة الثانى (ورسوله أحق أن يرضوه) عليه.. وهذا النوع من الإيجاز يطلق عليه (الاحتباك)، وهو نوعان: الأول: أن يحذف كلام من جملة أولى، ويذكر ما يدل عليه فى جملة ثانية تجيء بعدها مباشرة، وذلك مثل الآية التى ذكرتها.

    وأما الثانى، فهو أن يحذف من جملة ثانية كلام يدل عليه ما ذكر فى الجملة التى قبلها، وذلك مثل ما ورد في القرآن في الآية الأخرى:) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النمل:86)، والمعنى: والنهار مبصراً ليسعوا فيه، فحذف لأن (ليسكنوا) دليل قوى عليه.

    وقد تلحظ حذفاً من الأول لدلالة الثانى عليه، وهو: مظلماً، أى جعلنا الليل مظلماً، وحذف لأن ما فى الثانى، وهو (مبصراً) دليلاً عليه.

    قلت: ولكن ما الغرض البلاغي الذي جعل القرآن ينتهج هذا الأسلوب؟

    قال: ليس هذا غرضا بلاغيا فقط.. بل هو غرض ديني بالدرجة الأولى..

    ذلك أن التوحيد هو ما قام عليه الإسلام.. ولم أجد كتابا في الدنيا يسد كل منافذ الشرك مثل القرآن.. فهو لذلك لا يجمع الله مع خلقه في أي موضع من المواضع.. اسمع هذه الآية مثلا:) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ )(التوبة: من الآية3).. فلم يقل (إن الله ورسوله بريئان من المشركين)،

    وفى سورة التوبة نفسها جاءت هذه الآية:) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) (التوبة:59)، فقد روعيت عقيدة التوحيد فى النظم القرآنى المعجز المفحم فى ثلاثة مواطن:

    الأول: في قوله:) مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ( حيث عطف رسوله على اسم الجلالة، دون عود ضمير مثنى.

    والثانى في قوله:) حَسْبُنَا اللَّهُ ( دون عطف رسوله على اسم الجلالة، لأن الحسب لا يكون إلا لله.

    والثالث في قوله:) سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ ( دون أن يُثَنِّى فيقول: من فضلهما.. وإنما عُطِف (رسوله) بعد تمام الجملة الأولى، ثم حذف من جملة (ورسوله) ما دل عليه الكلام السابق، أى (وسيؤتينا رسوله من فضله)

    قلت: لدي شبهة أخرى يرددها قومنا.. ففي القرآن نرى الإتيان بالجمع مكان المثنى في هذه الآية:) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم:4)

    فقد جاء المضاف (قلوب) جمعا، والمضاف إليه (كما) مثنى مع أن المتحدث عنه فى الآية (تتوبا) مثنى.. فلماذا لم يقل: (قلباكما)، لأنه ليس للاثنين أكثر من قلبين؟

    قال: هذا جاء على أساليب العرب في استثقال اجتماع تثنيين فى كلمة واحدة، فلذلك يعدلون عن التثنية إلى الجمع، لأن أول الجمع عندهم الاثنان.. ولهذا اعتبر أئمة اللغة والنحو في ما تصوروه شبهة ناحية بالغية في القرآن.. حيث قالوا في هذا:( و(قلوبكما) من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى، استثقالاً لمجئ تثنتين لوقيل (قلباكما))[55]

    وعلى مثل هذا جاءت الآية الأخرى:) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(المائدة: من الآية38)، فقد أوقع الجمع (أيدى) موقع المثنى: يدى، جرياً على سُنة العرب فى كلامهم..

    قلت: لدي شبهة أخرى، وهي الأخيرة.. يرددها قومنا.. ففي القرآن نرى المضاف إليه منصوبا في قوله:) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (هود:10)، فكلمة (ضراءَ) مضاف إليه، والمضاف هو كلمة (بعد)، ومع ذلك نرى فتحة فوق الهمزة من كلمة (ضراءَ) مع أنه كان يجب أن يجر المضاف إليه فيقول (بَعْدَ ضراءِ)

    ابتسم، وقال: ومن قال لك بأن المضاف إليه فى الآية منصوب.

    قلت: أرى الفتحة فوقه.

    قال: (ضراء) ممنوع من الصرف، والمانع له من الصرف ألف التأنيث الممدودة.. والممنوع من الصرف ـ كما تعلم ـ يُجر بالفتحة نيابة عن الكسرة، ولذلك وضعت الفتحة فوق الهمزة، فهذه الفتحة علامة جر لا علامة نصب.

    والممنوع من الصرف لا يجر بالفتحة إلا فى حالتين:أن يكون مضافاً، أو معرفاً بالألف واللام.. و(ضراء) فى الآية ليست مضافاً، ولا معرفة بالألف واللام.







    4 ـ النغم الفني

    قلت: فما تريد بالنغم الفني.. هل القرآن أغنية لها نغماتها المطربة.

    قال: القرآن أجمل أغنية لمن كان له سمع وذوق.. ألم ترنا نطرب لسماع ترتيله، بل نحلق في الأجواء العالية مع كلماته التي تترنم بها الحناجر الخاشعة.

    لقد ذكر القرآن كل ذلك، فقال عن تاثر القلوب المؤمنة لدى سماعه:) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(( الزمر:23)

    وأخبر عن أثره في القلوب التي تحن إلى الحق عندما تسمعه، فقال:) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ( (المائدة:83)

    بل أخبر عن أثره في الجبال لو أنزل عليها:) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ((الحشر:21)

    إن هذا التأثير العجيب الذي يحدثه سماع القرآن في النفوس إعجاز قائم بذاته.. لقد ذكر بعض القدماء من علماء المسلمين ذلك، فقال:( في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في الحال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق.. تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيماناً )[56]

    لم يكن هذا اكتشاف الأقدمين فقط.. بل إن المحدثين بما طوروه من علم الموسيقى اكتشفوا كثيرا من هذه الأنظمة الصوتية الدقيقة التي كسي بها القرآن.. إنه أنغام تبهر العقول، وتذهل النفوس، رصفت ألفاظه وعباراته على ترصيفات موسيقية رقيقة، متناسبات الأجراس، متناسقات التواقيع، في تقاسيم وتراكيب سهلة سلسة، عذبة سائغة، ذات رنّة وجذبة شعرية عجيبة، واستهواء سحريّ غريب.

    لقد ذكر سيد قطب[57] هذا النوع من الجمال القرآني، فقال:( إن هذا الإيقاع متعدد الأنواع، ويتناسق مع الجو، ويؤدي وظيفة أساسية في البيان )

    وذكر أن هذه الموسيقي القرآنية إشعاع للنظم الخاص في كل موضع، فهي تابعة لقصر الفواصل وطولها، كما هي تابعة لانسجام الحروف في الكلمة المفردة، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة..

    وحيثما تلا الإنسان القرآن أحس بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه، يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار، والفواصل السريعة، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة، ويتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال، ولكنه ـ على كل حال ـ ملحوظ دائماً في بناء النظم القرآني.

    وذكر مصطفى محمود الأديب الذواقة هذا الإحساس الذي يجده سامع القرآن وقارئه، فقال يحدث عن تجربته: لقد اكتشفت منذ الطفولة دون أن أدري، حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة في العبارة القرآنية، وهذا سر من أعمق الأسرار في التركيب القرآني.. إنه ليس بالشعر وبالنثر، ولا بالكلام المسجوع.. وإنما هو معمار خاص من الألفاظ صفت بطريقة تكشف عن الموسيقي الباطنة فيها.

    ويذكر الفرق بين النوعين من الموسيقى، الموسيقى الباطنة والموسيقى الظاهرة، فيضرب مثالا على ذلك ببيت للشاعر عمر بن أبي ربيعة، اشتهر بالموسيقي في شعره.. وهو البيت الذي ينشد فيه:

    قال لي صاحبي ليعلم ما بي أتحب القتول أخت الرباب؟

    ثم قال: أنت تسمع وتطرب وتهتز على الموسيقي.. ولكن الموسيقي هنا خارجية صنعها الشاعر بتشطير الكلام في أشطار متساوية، ثم تقفيل كل عبارة تقفيلاً واحداً على الباء الممدودة.

    الموسيقي تصل إلى أذنك من خارج العبارة وليس من داخلها، من التقفيلات (القافية)، ومن البحر والوزن.

    ثم قارن ذلك بأسلوب القرآن، فقال: أما حينما تتلو:) وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى( (الضحى:2)، فأنت أمام شطرة واحدة.. وهي بالتالي تخلو من التقفية والوزن والتشطير، ومع ذلك، فالموسيقي تقطر من كل حرف فيها، من أين، وكيف؟

    هذه هي الموسيقى الداخلية، والموسيقى الباطنة، سر من أسرار المعمار القرآني، لا يشاركه فيه أي تركيب أدبي.

    وضرب مثالا آخر على ذلك بما ورد في القرآن حينما يقول:) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى((طـه:5) وحينما يتلو كلمات زكريا لربه:) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً((مريم:4)، أو كلمة الله لموسى:) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى((طـه:15) أو كلمة الله وهو يتوعد المجرمين:) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى( (طـه:74)

    ثم يقول: كل عبارة بنيان موسيقي قائم بذاته تنبع فيه الموسيقي من داخل الكلمات ومن ورائها ومن بينها، بطريقة محيرة لا تدري كيف تتم؟!

    وحينما يروي القرآن حكاية موسى بذلك الأسلوب السيمفوني المذهل:) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (طه: 77 - 79)

    كلمات في غاية الرقة مثل (يبسا) أو لا تخاف (دركاً) بمعنى لا تخاف ادراكاً.. إن الكلمات لتذوب في يد خالقها وتصطف وتتراص في معمار ورصف موسيقي فريد، هو نسيج وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقاً ولا حقاً لا شبيه بينه وبين الشعر الجاهلي، ولا بينه وبين الشعر والنثر المتأخر، ولا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التأريخ، برغم كثرة الأعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن.

    في كل هذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصها تماماً، وكأنها ظاهرة بلا تبرير ولا تفسير، سوى أن لها مصدراً آخر غير ما نعرف.

    ***

    ما وصل صاحبي من حديثه إلى هذا الموضع حتى لاحت لنا القاهرة بمآذنها وعماراتها، فكف عن الحديث، ثم أخذ تلك الأشرطة، وخزنها في الموضع الذي أخرجها منه، والتفت إلي، وقال: هل تستر ما حدثتك به علي؟

    قلت: لا حرج عليك.. ولكني محتار فيك.. إن لك علما واسعا باللغة العربية، وبالقرآن، فكيف آثرت العمل في مطبعة الكتاب المقدس على أن تكون معلما من معلمي المسلمين، أو أستاذا من أساتذتهم.. أم أنهم يرفضون أن يدرسهم مسيحي؟

    قال: لذلك قصة طويلة لا يكفي ما بقي من طريق لأحدثك عنها.. ولكن هذه القصة لن تستمر طويلا.. سيأتي اليوم الذي ترتفع فيه تلك الحجب التي تحول بيني وبين الشمس..

    أنا الآن في شتاء تتجمع فيها الغيوم لتحجب أشعة الشمس.. لكن الربيع قادم.. وستشرق الشمس علي كما أشرقت على الملايين من مثلي..

    أنا مشتاق لذلك اليوم.. ومتلهف لوصوله..

    قلت: لم تفهم ما الذي تقصد.

    قال: ستفهم حين يحصل لك ما يحصل لي.. كل من تعرض لشعاع من أشعة شمس تلك الحقيقة لابد أن يحن إليها، فإذا اجتمع الحنين، وامتلأ القلب بالأشواق ضمته الشمس إليها، فصار شعاعا من أشعتها.

    لست أدري هل فهمت ما كان يقصد، أم لم أفهم، ولكن نبرة صوته أوحت إلي أن الرجل قريب جدا من شمس محمد، وأنه يوشك أن تضمه إليها كما ضمت الملايين من أمثاله.

    عندما وصلنا إلى المطار مد يده إلي، وصافحني بحرارة، ثم قال: لقد أعجبني إنصاتك.. فاستمر عليه.. فمن أنصت، فقد أذن للحقائق أن تصل إلى قلبه وعقله، ومن أذن للحقائق أن تصل إلى عقله وقلبه، فقد أذن لعقله وقلبه أن يتقبلها.

    قال ذلك، ثم مد يده إلى جيبه، وأخرج مصحفا صغيرا، وقال: خذ هذا المصحف معك.. واقرأة.. وقارن بينه وبين الكتاب المقدس.. فبالمقارنة تتميز الحقائق.

    ثم ركب شاحنته، وسار.. مددت يدي إلى محفظتي لأضع المصحف، فامتدت يدي إلى الورقة التي سلمها لي صاحبك، فعدت أقرأ فيها..

    لقد أيقنت حينها أن السور الأخير من أسوار الكلمات المقدسة لم يتحقق به أي كتاب في الدنيا غير القرآن الكريم.



    الخاتمة

    في الطائرة أخذت المصحف، ورحت أقرأ فيه بحرارة.. لست أدري كيف انجذبت إليه كل ذلك الانجذاب.. لقد كانت المعاني تلوح لي من كلماته، وكأنه بحر زاخر لا ساحل له.

    لقد انشغلت عن الطائرة، وركاب الطائرة.. وكل شيء..

    ولكني.. ولست أدري كيف، ولا لماذا.. خطر على بالي صاحبك الذي تعودت أن يجلس معي.. التفت.. فإذا به بجانبي بصمته وسكينته ووقاره، التفت إلي، وابتسم، وقال: لقد عدت تحمل كتابا مقدسا آخر..

    قلت: لا.. هذا القرآن.. هذا قرآن المسلمين.. هو كتاب مقدس عندهم.

    قال: ولكني رأيتك تغرق في بحره.. ورأيت أسارير وجهك تنم عن مشاعر لم أرها من قبل؟

    قلت: لست أدري.. أرى هذا الكتاب يتحدث بلغة غريبة.

    قال: لابد أن تكون لغة الكتاب المقدس لغة غريبة.. لأنها من مصدر غير الإنسان.

    قلت: ولكنها توجه للإنسان.. فكيف تكون غريبة عنه؟

    قال: هي توجه لكل الإنسان بكل لطائفه وطاقاته.. أما سائر الكلمات، فتوجه لبعض لطائف الإنسان، وتغفل عن غيرها.. قد تتوجه إلى العقل، وقد تتوجه إلى النفس، وقد تتوجه إلى المشاعر.. قد تخاطب فردا، وقد تخاطب مجموعا.. وقد تتحدث مع زمان، وتغفل عن زمان.. وقد تتحدث إلى مكان، وتغفل عن أمكنة..

    قلت: والكلمات المقدسة؟

    قال: تجمع الكل.. ويجتمع لديها الكل.. وهي لذلك كلمات غريبة في نظمها وأسلوبها ومعانيها وموضوعاتها.. لأن الذي قالها فوق الكل، ومبدع الكل.

    قلت: أشعر بهذا نحو القرآن.

    قال: فهو كلمات مقدسة إذن.

    قلت: لا أجرؤ أن أقول ذلك.. ولا أجرؤ أن أقر بذلك.. مع أني أشعر أنه كذلك.

    قال: فاذبح توأمك إذن.

    قلت: هو أخي.. فكيف تريد مني أن أذبحه؟

    قال: اذبح تلك الخيوط التي تربطك به، أو تجعلك أسيرا له.

    قلت: ولكنه يموت إن بقي وحده.

    قال: ولكن قلبك وعقلك وروحك وسرك يموت إن بقي مرتبطا به.

    قلت: فما أعمل؟

    قال: أنت الذي تعمل.. وأنت الذي تفكر ماذا تعمل.. وأنا لا طاقة لأن أرشدك لشيء.. فأنت الذي تبني، وأنت الذي تهدم.

    قلت: إن في نفسي من آثار البابا الذي زارنا ما لا يمحى.

    قال: فابحث عن الأشعة التي تنمحي بنورها كل الظلمات.

    قلت: قد ظفرت بكثير من الأشعة.. لكنها لم تطفئ ظلمتي بعد.

    قال: فليصحبك الشوق إلى الأشعة.. فإن الشوق ينير درب الأشعة.

    قلت: أتريد مني أن أبحث أنا عن الأشعة.. لا أن أتركها تبحث عني؟

    قال: كن صادقا في طلبها فقط.. وهي تأتيك، بل تهرول إليك.

    جاءت المضيفة.. وأخذته كعادتها.. وتركتني أسير حيرتي.

    ***

    التفت إلي البابا، وقال: كانت هذه هي رحلتي الثانية إلى شمس محمد r.. وقد تعرفت من خلالها على القرآن الكريم.. وعرفت أنه بحد ذاته شمس عظيمة.. كل آية فيه، بل كل كلمة، بل كل حرف، شعاع من الأشعة يدل على الله.. ويدل على محمد r.. ويدل على الإنسان.

    لقد ظل ذلك المصحف الذي أهداه إلي ذلك المتنعم بجمال القرآن يصاحبني إلى اليوم.. كنت أقرأ فيه.. وأبكي أحيانا كثيرة.. وترتجف جميع أوصالي..

    ولكني ما إن ألتقي أخي التوأم حتى تنسدل الحجب على قلبي لتجعلني أتعذب.. فلا أنا مع محمد.. ولا أنا مع أخي..

    ولكني كنت أشعر في كل رحلة أن تلك الخيوط التي تربطني بأخي بدأت تتقطع، وأن تلك الأشعة التي تقربني من محمد بدأت تجتمع ليتشكل منها في الأخير الخيار الذي اخترته لحياتي.. والذي جئت أنبئك عن قصته.

    قلت: فهل ستكمل لي سائر رحلتك إلى محمد r؟

    قال: أجل.. لا بد من ذلك.. وسأحدثك غدا ـ إن شاء الله ـ عن رحلتي الثالثة، والتي دخلت فيها مدينة العلم، لأتعرف على الحقائق الفائضة من بحار الأزل..

    قلت: إن لحديثك متعة لا تدانيها متعة.

    قال: فاستعد لنرحل إلى (معجزات علمية)[58]












    ([1]) ذكرنا رأيا في كتاب (الأبعاد الشرعية لتربية الأولاد) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية) هذا نصه:« بل نرى رأيا لا نجد المقام للاستدلال عليه هنا، وهو أن تسجل التلاوات للقرآن المترجم باللغات المختلفة، مرتلة بالأصوات الرخيمة الجذابة المؤثرة، على أن تكون الترجمة نفسها في قمة البلاغة الممكنة، ثم تشاع في البلاد التي لا تعرف العربية، ليكون ذلك طريقا من طرق إيصال هداية الله إليها.

    ولا مانع من ذلك، فيما نرى، إلا أعراف تعارفناها جعلتنا نحتكر القرآن الكريم مع كونه كلام الله ' الموجه للبشرية جميعا، فصرنا نتصور أن حرمته تكون بكتابته كتابة مزخرفة، ثم يوضع في لوح مكنون لا يمسه أحد، ولا يسمع به أحد، ليبقى طاهرا مقدسا، غافلين عما أمرنا به من الجهاد بالقرآن الكريم.

    وإنما ذكرنا هذا، لأن في الإنسان ميلا إلى الكلام المؤثر سواء في بلاغته أو طريقة أدائه، ولذلك كان القرآن الكريم في قمة البلاغة، وقد أمرنا بتزيين الأصوات به، ومن احتكار القرآن الكريم اعتبار ذلك خاصا بالعربية لا بغيرها من اللغات مع أن أكثر هذه الأمة ـ أمة الإجابة أو أمة الدعوة ـ من غير العرب.

    ([2]) الاستثناء هنا منقطع بلا شك .. فالقرآن ليس شعرا.

    ([3]) ذكر هذا النوع من الإعجاز البلاغي القرآني أبو سليمان حمد بن محمد بن إبرهيم الخطابي البستي (توفي سنة 388) في رسالته الوجيزة التي وضعها في بيان إعجاز القرآن، وهو من السابقين الباحثين في هذا الباب.

    ([4]) هو عمرو بن مالك الأزدي، من قحطان (ت70 ق. هـ / 554 م) شاعر جاهلي، يمان، كان من فتاك العرب وعدائيهم، وهو أحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم، وهو صاحب لامية العرب، شرحها الزمخشري في أعجب العجب المطبوع مع شرح آخر منسوب إلى المبرَّد ويظن أنه لأحد تلاميذ ثعلب، وللمستشرق الإنكليزي ردهوس المتوفي سنة 1892م رسالة بالانكليزية ترجم فيها قصيدة الشنفري وعلق عليها شرحاً وجيزاً .

    ([5])رواه القالي في أماليه لأبي محلم الشيباني في أواخر القرن الثاني من كتاب إلى بعض الحذائين في نعل.

    ([6])انظر في هذا ما كتب في الإعجاز البياني في القرآن الكريم، وهي كثيرة، ومن الكتب المعاصرة الميسرة:

    1. خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية للدكتور عبد العظيم المطعني. حصل من خلالها على مرتبة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى من كلية اللغة العربية / الأزهر سنة1974م. وهي مطبوعة في مجلدين سنة 1992م مكتبة وهبة / مصر.

    2. سر الإعجاز في تنوع الصيغ المشتقة من أصل لغوي واحد في القرآن للدكتور عودة الله منيع القيسي. وحصل بها على درجة الدكتوراة من كلية الآداب الجامعة الأردنية. ونشرتها دار البشير في عمان سنة 1996م.

    3. الترادف والاشتراك والتضاد في القرآن لمحمد نور الدين المنجد. وحصل بها على شهادة الماجستير من جامعة دمشق بتقدير ممتاز . طبعته دار الفكر سنة 1999م.

    4. إعجاز القرآن الكريم البياني ودلائل مصدره الرباني، د. صلاح الخالدي، دار عمار، عمان، ط2، 2004م.

    5. بلاغة الكلمة في التعبير القرآني، د. فاضل السامرائي، دار عمار، عمان، ط2، 2001م.

    6. التعبير القرآني، د. فاضل السامرائي، دار عمار، عمان، ط2، 2002م.

    7. لمسات بيانية في نصوص التنزيل، د. فاضل السامرائي، دار عمار، عمان، ط2، 2001م.

    ومن هذه المراجع استقينا بعض هذه الأمثلة.



    ([7])وهي التي وردت في قوله ':) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (القلم:16)



    ([8]) انظر الأمثلة الكثيرة المثبتة لهذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

    ([9]) هنا نرد على شبهة وجود الغريب في القرآن الكريم، وهو ما يمنع من فهمه، وهي من الشبه المشتهرة لدى المبشرين وغيرهم. انظر في الرد عليها (شبهات المشككين)

    ([10])جمع جلال الدين السيوطى هذه المسائل، وذكر منها مائة وثمانٍ وثمانين كلمة، وقد حرص على ذكر إجابات ابن عباس عليها، وقال: إنه أهمل نحو أربع عشرة كلمة من مجموع ما سئل عنه ابن عباس (انظر: الإتقان فى علوم القرآن. فصل ما يجب على المفسر لكتاب الله )

    ومن أمثلتها: كلمة (عزين).. قال نافع بن الأزرق لابن عباس:أخبرنى عن قوله ':) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) (المعارج:37)، فقال ابن عباس: عزين: الحلق من الرفاق. فسأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال ابن عباس: نعم، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:

    فجاءوا يُهرعون إليه حتى يكونوا حول منسره عزينا

    يعنى جماعات يلتفون حول الرسول( وهو مشتق من الاعتزاء، أى ينضم بعضهم إلى بعض، قال الراغب فى المفردات: العزين: الجماعة المنتسب بعضها إلى بعض)

    ومنها كلمة (الوسيلة ) .. قال نافع: أخبرنى عن قوله ':) وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)(المائدة: من الآية35)، فقال ابن عباس: الوسيلة: الحاجة، قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال ابن عباس: نعم، أما سمعت قول عنترة:

    إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلى وتخضبى

    يعنى: اطلبوا من الله حاجاتكم. واستعمال الوسيلة فى معنى الحاجة كما فسرها ابن عباس فيها إلماح أن طريق قضاء الحوائج يكون إلى الله ؛ لأن معنى الوسيلة: الطريق الموصل إلى الغايات.

    ومنها (شرعةً ومنهاجاً) فى قوله ':) لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً )(المائدة: من الآية48)، فقال ابن عباس: الشرعة: الدين، والمنهاج: الطريق، واستشهد بقول أبى سفيان الحارث بن عبد المطلب:

    لقد نطق المأمون بالصدق والهدى وبين للإسلام ديناً ومنهجاً.

    ومنها (ريشاً) فى قوله ':) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (لأعراف:26)، ففسره ابن عباس بالمال، واستشهد بقول الشاعر:

    فريشى بخير طالما قد بريتنى وخير الموالى من يريش ولا يبرى

    ومنها (كَبد) في قوله ':) لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد:4)، فقال ابن عباس: فى اعتدال واستقامة. ثم استشهد بقول لَبِيد بن ربيعة:

    يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم فى كبد

    وهكذا نهج ابن عباس فى جميع المسائل التي وجهت إليه، وعددها (188)مسألة، يجيب عنها بسرعة مذهلة، وذاكرة حافظة لأشعار العرب، وسرعة بديهة فى استحضار الشواهد الموافقة لفظاً ومعنى للكلمات القرآنية، التى سئل عنها( انظر: الإعجاز البيانى للقرآن. د.عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ط: دار المعارف بالقاهرة)



    ([11]) هنا نرد على شبهة وجود الكلمات الأعجمية في القرآن .. انظر المصادر السابقة.

    ([12]) من الظلال بتصرف.

    ([13])الطبراني في الكبير وأبو نعيم، والحديث أورده ابن حجر في الاصابة (174 / 175) قال البيهقى: هذا منكر وقد خبط فيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف جدا.

    وهكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 57) وقال رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به.

    ([14])روى هذا الحاكم، وصححه عن ابن عباس، وقصة ذلك أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي r، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال:يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أنى من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوا لله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت :) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ((المدثر:11-26 )

    ([15]) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (النبي المعصوم) من هذه السلسلة.

    ([16])انظر: أكذوبة الفرقان الحق، للباحث: ياسر الأقرع، من موقع الإعجاز العملي في القرآن والسنة.

    ([17]) نقلا عن الإتقان للسيوطي.

    ([18])الإتقان للسيوطي.

    ([19]) التصوير الفني في القرآن لسيد قطب.

    ([20])هنا نرد على (شبهة كثرة الأخطاء النحوية في القرآن الكريم)، انظر في الرد عليها المصادر السابقة، وانظر زيادة على ذلك مقالا تحت هذا العنوان للدكتور عبد الرحيم الشريف في موقع (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة)

    ([21])وردت هذه الشبهة في صفحة (أكذوبة الإعجاز العلمي) تحت عنوان (أخطاء لغوية).. وقد ذكروا في هذه الصفحة أن الإعجاز القرآني يرتكز بصورة رئيسية على فصاحته وبلاغته، وقد وضعوا العرب قبل الإسلام قواعد وأسسا للفصاحة والبلاغة والنطق، تعتبر هي المقياس الرئيسي في تمييز الكلام البليغ من غيره، وعلى هذه القواعد والأسس يجب أن تقاس النصوص.

    وذكروا أن المسلمين قلبوا القاعدة حين جعلوا القرآن هو القياس الذي يتحكم في صحة وخطأ قواعد اللغة .. وكان يجب على المسلمين ان يجعلوا من هذه القواعد مقياسا يحكموا به على القرآن وليس العكس كما هو حاصل.

    وذكروا أنه بالرغم من ذلك نجد في القرآن بعض الآيات التي لا تنسجم مع هذه القواعد بل تخالفها الأمر الذي يدعونا إلى القول بأن القرآن ليس معجزاً لانه لم يسر على نهج القواعد العربية وأصولها.

    وعللت صفحة (تعليقات على الإسلام) سبب كثرة الأخطاء اللغوية في القرآن الكريم؛ لتحريف الحجاج بن يوسف الثقفي، لا سيما وأنه كان مدرساً للغة العربية.

    وقد ذكرت الأخطاء النحوية المزعومة في صفحة (أكذوبة الإعجاز العلمي) ونقلتها عنها حرفياً صفحة (هل القرآن معصوم؟) تحت عنوان (الجزء الخامس: أسئلة لغوية) كما أخذت صفحة (تعليقات على القرآن) بعضاً منها، وزادت القليل، ووضعتها تحت عنوان (في القرآن أخطاء لغوية) وذكرت صفحة (قراءة نقدية للإسلام) قليلاً منها مبتدئة بعبارة ( وهناك كذلك أخطاء نحوية، في كثير من آيات القرآن)

    أما صاحب صفحة (تساؤلات حول القرآن)، فقد أثار عدداً آخر من الشبهات المأخوذة عن سلفه، وبدوره قام صاحب صفحة (الإعجاز اللغوي في القرآن) بالتكرار الحرفي عنه.

    ([22])ومنهم من جعل (المقيمين) مجروراً لا منصوباً، وقال: إن جره لأنه معطوف على الضمير المجرور محلاً فى (منهم)، والمعنى على هذا:« لكن الراسخون منهم والمقيمين الصلاة »

    وبعضهم قال إنه مجرور بالعطف على الكاف فى (أنزل إليك)

    وبعضهم قال إنه مجرور بالعطف على (ما) فى (بما أنزل إليك )

    أو هو مجرور بالعطف على (الكاف) فى (قبلك)

    انظر: الدر المصون (4/155).

    ([23])الاختصاص هو مخالفة إعراب كلمة لإعراب ما قبلها بقصد المدح كما فى هذه الآية، أو الذم، ويسمى الاختصاص والقطع.

    ([24])الكشاف (1/582).

    ([25]) الكتاب (1/248)، وإملاء ما من به الرحمن (1/202).

    ([26])وقد يقصد به الذم، كما فى قوله ' فى سورة المسد:) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (المسد:4)، أى امرأة أبى لهب التى كانت تحمل الشوك وتنثره فى طريق رسول الله r لتؤذيه، لأن كلمة (حمالة) جاءت منصوبة بعد رفع ما قبلها، وهى (امرأتُه) فهذا قطع القصد منه الذم، أى: أذم أو ألعن حمالة الحطب.

    وأياً كان القطع للمدح أو الذم، فإنه من أرقى الأساليب البلاغية، يحتوى على فضيلة الإيجاز وهى أن تكون المعانى أكثر وأوفر من الألفاظ التى تدل عليها، أو المستعملة فيها، لأن كل كلمة قُطِعَ إعرابها عما قبلها نابت هذه الكلمة مناب ثلاثة قيم بيانية، رامزة إلى وجودها فى المقام، وإن كانت محذوفة وهى:

    1 ـ الكلام الذى عمل الإعراب المخالف فى الكلمة المقطوع إعرابها عن إعراب ما قبلها، وهو فى (الصابرين) أمدح أو أخص الصابرين بالمدح. وفى آية (المسد) أذم أو ألعن.

    2 ـ إفادة المدح أو الذم بغير الألفاظ التى تدل عليهما.

    3 ـ فضيلة الإيجاز البيانى المفعم بالمعانى.

    ([27])انظر: الدر المصون للسمين الحلبى (4/354)

    ([28])وهو قول جمهور نحاة البصرة، الخليل وسيبويه وأتباعهما .. وقد اختار الزمخشرى هذا المذهب، فقال:« (والصابئون) رفع على الابتداء، وخبره محذوف والنية به التأخير عما فى حيز إن من اسمها وخبرها كأنه قيل:« إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك »(الكشاف (1/630)

    وقال الشوكانى:« (والصابئون) مرتفع على الابتداء، وخبره محذوف والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك.( فتح القدير (2/71)

    وقد ألمح الإمام الشوكانى إلى إضافة جديدة خالف بها كلا من الخليل وسيبويه والزمخشرى ؛ لأن هؤلاء جعلوا (الصابئون) مقدما من تأخير كما تقدم، أما هو فجعله قاراًّ فى موضعه غير مقدم من تأخير بدليل قوله:« والصابئون والنصارى كذلك » وهذه إضافة حسنة ومقبولة. وعليه يمكن جَعْل (النصارى) مرفوعة عطفاً على (الصابئون)، ولا حاجة إلى جعلها منصوبة عطفاً على (إن الذين آمنوا)

    ([29]) الكتاب لسيبويه (1/475).

    ([30])ومن الوجوه الأخرى التي ذكرها العلماء، وهي قاصرة عما ذكرناه:

    1. أن (رحمة الله) فى معنى الغفران أو الرضوان فلذلك جاء الخبر (قريب) مذكراً، وقد اختار هذا الرأى النضر بن شميل والزجاج .

    2.أن (قريب) صفة لخبر محذوف مذكر تقديره: شىء أو أمر قريب، ودليل هذا الحذف هو تذكير (قريب)

    3.أن ذلك من باب النسب، أى ذات قرب، كقولهم فى حائض: ذات حيض.

    4. أن (قريب) مصدر مستعمل استعمال الأسماء مثل النقيق، وهو صوت الضفادع. والضغيب وهو صوت الأرنب. والمصدر يُلتزم فيه الإفراد وإن جرى على جمع، والتذكير وإن جرى على مؤنث كما فى هذه الآية الكريمة.

    5. أن تأنيث (رحمة) لما كان تأنيثاً مجازياً لا حقيقياً جاز فى الاستعمال اللغوى تأنيث خبره وصفته، وجاز تذكيرهما على حدٍ سواء. سواء كان فى ضرورة الشعر، أو فى النثر، كما قال الحلبى تلميذ أبى حيان، وهما من الأئمة الأعلام فى النحو:« وهذا يجئ على مذهب ابن كيسان، فإنه لا يقصر ذلك على ضرورة الشعر، بل يجيزه فى السعة » يعنى فى النثر دون اشتراط ضرورة تدعو إليه. (انظر: الدرر المصون (5/345)

    ([31])أو أن الأسباط كالجماعة أو الفرقة أو الطائفة، وهي كلها مؤنثة.

    ([32])فتح القدير (2/433)

    ([33])حاشية الشهاب على البيضاوى (8/200).

    ([34])الكشاف (4/112).

    ([35])انظر: أنوار التنزيل للإمام البيضاوى (1/30) وحاشية الشهاب على البيضاوى (1/365).

    ([36])الكشاف (1/199).

    ([37])فتح القدير (1/55).

    ([38])أوزان جموع القلة هى: فِعْلَة ـ أفْعَال ـ أفعُل ـ أفْعِلَة.

    ([39])الكشاف (3/352).

    ([40])وقد اختار سيبويه هذا الرأى ورجحه لاعتبار قوى فحواه.

    ([41]) انظر: الكشاف (1/433)، وأنوار التنزيل (1/162).

    ([42])وقد ذهب بعض المفسرين اللغويين فى توجيه (فيكون) إلى أنه يجوز أن يكون على بابه من الاستقبال، والمعنى: فيكون كما يأمر الله فيكون، حكاية للحال التى يكون عليها آدم حين خلقه الله.

    ويجوز أن يكون (فيكون) بمعنى كان، وعلى هذا أكثر النحويين. انظر: الدر المصون (3/220-221).

    ([43])يعنى سقطت على الأرض على جنبها.

    ([44]) انظر الفصل المعنون بـ (الحق)

    ([45])دلائل الإعجاز (146) تحقيق الشيخ محمد محمد شاكر.

    ([46])الكشاف (3/306-307).

    ([47])وبها قرأ نافع وابن كثير والكسائى وأبو جعفر.

    ([48])وقرأها الباقون، ومنهم حفص عن عاصم.

    ([49])انظر: التوجيهات النحوية والصرفية للقراءات (1/598) للدكتور:على محمد فاخر.

    ([50])الكشاف (1/345)

    ([51])تفسير البيضاوي: (1/111)

    ([52])الكشاف (2/231)

    ([53]) عبارتهم في نص الشبهة هي (أتى بضمير فاعل مع وجود فاعل ) وذلك خطأ لأنه لا مانع من الإتيان بضمير فاعل عائد على الفاعل فى الكلام الفصيح، مثل: جاء صديقى الكريم خُلقه.

    ([54]) رواه البخاري ومسلم.

    ([55]) الدر المصون (10/366)

    ([56]) انظر: الإتقان للسيوطي.

    ([57]) وذلك في كتابه (التصوير الفني) في فصل خاص عن الإيقاع الموسيقي في القرآن، وذكر أن الموسيقيّ المبدع الأستاذ (محمد حسن الشجاعي) تفضل بمراجعته وضبط بعض المصطلحات الفنية الموسيقية عليه.

    ([58]) هي الجزء الثالث من هذه السلسلة، وهو التالي لهذا الجزء.

      الوقت/التاريخ الآن هو 23/9/2024, 16:30