سادسا ـ الروحانية
اليوم السادس، كان يوم أحد، وقد كلفوني بإجراء الطقوس الدينية، وقراءة الموعظة، لكني أبيت، وطلبت من أخي أن يقوم بدلا مني بذلك.. لقد كان يتقن فن التأثير في مثل هذه المجامع إتقانا عظيما.. وبسبب هذا الإتقان ترقينا في مراتب الكنيسة إلى الكرسي الذي كنا نحلم به جميعا.
جلست أنا مع المصلين في كرسي من الكراسي، وقعدت أسمع كما يسمع سائر المصلين، وأتحرك كما يتحركون.
كان بجواري رجل.. كان يفعل مثلما أفعل.. ولا يبدو عليه أي تأثر مثلما لا يبدو علي.. لقد كانت النغمات جميلة تهز الجبال بجمالها، ولكني في نفس الوقت كنت أفتقد المعنى الذي يهز نفسي لجمالها.
لقد كان الكلام الذي يردد في هذه المجالس التي نسميها صلاة هو نفس الكلام الذي أسمعه في بلادي.. إنه نوع من النواح على المسيح وصلب المسيح.. وهو في نفس الوقت نوع من العزاء.. فالمسيح الذي صلب لم يكن إلا جسدا.. أما المسيح الإله.. فهو إله دائما.
كان هذا أكثر ما نسمعه، ولم يكن هذا يكفي لملأ روحي التي لا تقل عن عقلي شوقا لعالم الحقائق.. العالم الذي يجتمع فيه المنطق العقلي مع الأشواق الروحية.
بعدما خرجنا من الكنيسة فوجئنا بصوت الآذان يرتفع من مآذن الإسكندرية.. لقد كان صوتا حانيا قويا عميقا.. لكأنه يأتي من السماء، ولا يرتفع من الأرض.. لقد كان هناك فرق كبير بين الأجراس التي ندقها.. وبين الآذان الذي ينادي به المسلمون.
بقيت مستغرقا أتأمل ألفاظ الآذان ومدى انسجامها مع العقل.. ومدى صلاحها لإرواء الروح.. ومدى اتفاقها مع الدعوة إلى الصلاة.
بينما أنا كذلك إذ أمسك بيدي من كان يجاورني في الصلاة في الكنيسة، وقال: مرحبا بك في بلدك.. أنا من أبناء الإسكندرية.. وقد تشرفت اليوم بالصلاة بجانبك.
قلت: شكرا على هذا الأدب.
قال: إذا سمحت لي تجولت بك في بعض شوارع الإسكندرية العتيقة.. لعلك ترى فيها ما لم تره في الإسكندرية الجديدة.
قلت: بورك فيك.. أنا أحب زيارة المدن القديمة.. فهيا سر بي.. فليس لي اليوم أي عمل عدا التجوال.
امتطينا سيارة نزلت بنا بعض الشوارع، وتركتنا فيها لنسير معا في حي من الأحياء القديمة.
ما سرنا قليلا حتى صادفنا مسجد بسيط.. والناس يدخلون إليه لأداء الصلاة.
قال لي، وقد رآني أنظر إليه بنوع من اللهفة والشوق: هذا مسجد قديم من مساجد الإسكندرية.. لقد ظل يحتفظ بكسوته هذه منذ قرون طويلة.
منذ قرون طويلة.. والمصلون يدخلون من هذا الباب.. والمؤذن يؤذن من تلك الزاوية.
أنا أعرف إمام هذا المسجد.. فإن شئت دخلنا جميعا لترى عمرانه الداخلي فعلت.
قلت: ولكني سمعت أن المسلمين لا يأذنون لمن ليس من دينهم بدخول مساجدهم، أو بلمس مصاحفهم.
قال: ذلك قول بعض فقهائهم.. ولكن إمام هذا المسجد يخالفهم.. ويأخذ بأقوال فقهية أخرى[1].. وهو يرى أنها هي الأقوال الصحيحة لأنها تنسجم مع ما فعله محمد مع وفد زار مدينته من المسيحيين.
لقد روى ابن إسحق وهو يؤرخ حياة نبيهم أن وفد نجران ـ وهم من المسيحيين ـ لما قدموا على محمد بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال محمد:( دعوهم ) فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وقد عقب الفقيه ابن القيم على هذه القصة فذكر مما فيها من الفقه ( جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وتمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضًا، إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك )
قلت: فهم مختلفون في هذه المسألة إذن.
قال: أجل.. وإمام هذا المسجد يرى هذا الرأي.. ولهذا كثيرا ما تجد المسيحيين، بل وغيرهم من أهل الديانات المختلفة يزورون هذا المسجد ليروا كيفية أداء المسلمين شعائرهم الدينية.
وقد وضع إمام المسجد لأجل هذا محلا خاصا بهؤلاء حتى لا يحصل أي تشويش على المصلين.
قلت: فلم لم يصدر رؤساء دينهم قرارات ترفع هذه الخلافات؟
قال: لا.. الأمر مختلف عند المسلمين.. هم يتصورون أن الوحدة في التعدد، وأن الفرقة في جبر الناس على التوحد.
قلت: كيف ذلك؟.. كيف تصبح الوحدة فرقة؟
قال: أنت تعلم قيمة العقل في الإسلام.. وتعرف أن بناء الأحكام الشرعية ينطلق من النصوص، ولكنه لا يفهم إلا بالعقل.. ولذلك قد تختلف العقول أحيانا.. ولا يصح لعقل أن يسلم لعقل آخر.
لكأن الإسلام قصد هذا الاختلاف حتى يكون توسعة للناس..
تصور.. لولا أن هناك خلافا في المسألة لما وجدنا مثل هذا المسجد، ولا إماما كإمامه.
قلت: هيا ندخل.
دخلنا مع المصلين.. وجلسنا في الركن المخصص للضيوف من غير المسلمين.
ما لبثنا حتى قامت الصلاة، وقام المسلمون يسوون صفوفهم خلف الإمام، وقد استووا جميعا يصلي غنيهم بجنب فقيرهم، وقويهم بجنب ضعيفهم، فليس هناك في مساجد المسلمين أي طبقية توزع محال المسجد بين المصلين.
كان الإمام يصلي بهم رافعا صوته بالتكبير والتسميع.. وهم يقتدون به في جميع حركاته.
كانت صورة الصلاة غريبة بالنسبة لي.. ولكني كنت أشعر أن هذه الحركات تحتوي رموزا عميقة لن يصعب على العقل إدراكها.
انتهت الصلاة.. وتفرق المصلون بعدها.. منهم من قام مسرعا إلى حذائه ينتعله، ويخرج بعد أن أدى واجبه.. ومنهم من بقي في المسجد يصلي أو يذكر أو يقرأ القرآن.. وقد كان منظرا جميلا.. منظر الحرية الشخصية في التعبد في المسجد.
شد انتباهي رجل لم يكن بعيدا عني.. كان يقرأ القرآن..وعيناه تفيضان من الدموع.. كان الخشوع باديا على وجهه، وكانت الأنوار تكسوه بهالة من الوقار لم أرها في أحد طيلة حياتي.
استأذنت صاحبي في أن أقترب من ذلك القارئ، فأذن لي.. فاقتربت منه، وحييته بتحية الإسلام احتراما للمحل الذي أجلس فيه، فرد علي السلام.
لم أرد أن أظهر أمامه باعتباري مسلما، فلذلك قلت: أنا مسيحي.. زرت هذه البلاد في مهمة خاصة..
نظر إلي، وهو يبتسم، وقال: جئت لأجل الإشراف على طباعة طبعة خاصة من الكتاب المقدس.
قلت: أجل.. وما أدراك بذلك؟
قال: أنا أعمل في تلك المطبعة منذ سنوات طويلة.
قلت: لم أكن أعلم أن تلك المطبعة توظف مسلمين.
قال: ومن قال لك بأني مسلم.. أنا مسيحي.
ازداد عجبي، وقلت: أأنت مسيحي؟.. وتجلس في المسجد كما يجلس المسلمون، وتقرأ القرآن كما يقرؤون، بل وتبكي كما يبكي خاصة المسلمين.
قال: لذلك قصة قد لا تهمك تفاصيلها.. ولكني سأذكر لك منها ما قد ينفعك في يوم من الأيام، فتجلس مثلي في مثل هذا المجلس.
قلت: قصها علي.. فإني أرى تصرفك تصرفا غريبا.
قال: لقد ذكرت لك أني مسيحي.. بل من عائلة عريقة في مسيحيتها.. وقد هداني حبي لعالم الروح إلى العمل في مطبعة الكتاب المقدس مع أنه قد أتيح لي وظائف كثيرة في غيرها.. إلا أني آثرت الارتباط بالدين، وبرجال الدين.
قلت: هذه علاقتك بالكتاب المقدس.. فكيف تحولت إلى القرآن؟
قال: لقد كان الكتاب المقدس هو مقدمتي للقرآن.. أو قل هو دليلي إلى القرآن.
قلت: لم أفهم ذلك.
قال: لقد ذكرت لك أني أبحث عن أشواق روحي الفائضة..
أنا أشعر أننا ـ معشر البشر ـ من عالم آخر.. عالم مليء بالجمال، له صلة عميقة بخالق هذا الكون ومدبره.
وقد بحثت عن جذور هذه الصلة وحقيقتها في الكتاب المقدس، فلم أجد إلا إشارات اهتديت بها إلى القرآن..
فلذلك جئت إلى القرآن.. لأبحث فيه عنها.
قلت: فهل وجدت في القرآن ما يروي ظمأ روحك؟
قال: لم يمض لصحبتي للقرآن إلا أسابيع محدودة.. وأنا في كل يوم أكتشف أشياء كثيرة.. أشياء تملأ روحي بمشاعر لا أجدها عند قراءة الكتاب المقدس، ولا عند قراءة غيره.
1 ـ الصلة بالله
قلت: أريدك أن تصور لي بعض هذه المشاعر.
فتح المصحف، وقال: اسمع هذه الآيات مثلا:) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)(آل عمران)
رتلها بصوت خاشع كما يرتل المسلمون، ثم قال: في هذه الآيات تجتمع جميع أشواق الروح المنسجمة مع العقل..
تبدأ الآيات بمنظر السموات والأرض، وهما ينزعان ثياب نظر الغفلة ليلبسا ثياب نظر الاعتبار.. ويبرز بعدها أولو الألباب الذين اكتحلت عيونهم بتلك النظرة المقدسة، فيهرعون إلى ذكر الله، والبحث عنه في ملكه وملكوته.
ثم لا يلبثون أن يهتدوا إلى الله، فتحلق أرواحهم إليه، وتجلس بين يديه، وتمد يدها إليه بالدعاء.. وتنتهي الآيات بذكر استجابة الله لدعواتهم وتبشيره لهم.
إنه مشهد حي يمكن أن يفعله أي مسلم في أي محل ومن غير حاجة إلى أي واسطة.
تحكي عائشة زوج محمد أثر هذه الآيات على محمد عندما نزلت عليه، فتقول لمن سألها عن أعجب شيء رأته من محمد، فَبَكَتْ، وقالت: كُلُّ أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي، قالت: فقلت: والله إني لأحب قربك، وإني أحب أن تَعبد لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بَل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يُؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله، ما يُبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر، فقال:( ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل عليّ في هذه الليلة:) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ (، ثم قال:( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها )[2]
ذرف بعض الدموع، ثم قال: بالقرآن تعيش أجواء روحية عالية تفتقد مثلها، وأنت تقرأ الكتاب المقدس.
لقد قارنت بين الدعاء في القرآن، والدعاء في الكتاب المقدس، فوجدت فرقا كبيرا:
الدعاء في القرآن ينبئ عن علاقة روحية عميقة للداعي بالله، فهو يستشعر قربه وحضوره، وكرمه، فهو لا يدعوه فقط ليحقق مطالبه، وإنما يشعر بأنه يتقرب إليه، ويقترب منه.
اسمع إخبار الله عن إجابة دعوات عباده:
يقول القرآن:) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ((البقرة:186).. وفيه:) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ((غافر: من الآية60)
ليس ذلك فقط، بل اعتبر عدم رفع الأيدي بالدعاء نوعا من أنواع الكبر، فقد جاء تتمة للآية التي ذكرتها:) إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( (غافر: من الآية60)
والقرآن يحكي دعوات المؤمنين ولجوءهم الدائم إلى الله:
ففي الوقت الذي يهتم فيه الكتاب المقدس بتفاصيل بنيان الهيكل، وما وضع فيه من الذهب الخالص، وفي الوقت الذي يذكر الصفحات الكثيرة في صفة التابوت.. يقتصر القرآن عند إخباره عن بناء إبراهيم للكعبة، هو وابنه إسماعيل على دعاء الله والتوجه إليه.. اسمع ما يقول القرآن:) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)(البقرة)
وهكذا تجد في المواقف المختلفة إبراهيم، وهو دائم الصلة بالله، يلجأ إليه كل حين داعيا، أو مناجيا.. اسمع هذه الدعوات الرقيقة التي صاحت بها روح إبراهيم بعد أن ترك زوجه وابنها في تلك البرية التي لا تنبت زرعا، ولا تمطر غيثا:) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)(إبراهيم)
وفي موقف آخر يقول لقومه، وهو يمزج خطابه لهم بدعاء الله:) أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)(الشعراء)
اسمع هذه الدعوات الرقيقة الخاشعة الحامدة لله والمنيبة له، وقارنها بما ذكرته أناجيلنا عن المسيح، فقد كتب متى في الباب السابع والعشرين:( ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي لما شبقتني. أي إلهي إلهي لماذا تركتني )، وفي الباب الخامس عشر من إنجيل مرقس:( الوى الوى لما شبقتني. الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني )
قارن تلك الدعوات المتوجهة لله المسلمة له بهذه الشكوى.
القرآن يذكر لجوء الأنبياء الدائم إلى الله في الوقت الذي يظهر الكتاب المقدس هؤلاء الأنبياء بصورة مشوهة تجعل كل هممهم متوجهة لمكاسب بسيطة لا تعدو المجتمع الإسرائيلي البسيط الذي كانوا يعيشون فيه.
فموسى الذي شوهت صورته في الكتاب المقدس يظهر في القرآن بصورة مختلفة تماما.. يظهر بصورة الأواب اللاجئ إلى الله في كل حين:
اسمع قصة موسى في القرآن وقارنها بمثيلتها في الكتاب المقدس.. القرآن يخبر عن صلة موسى الدائمة بالله.. اسمع:) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ((القصص:21)
ثم سار إلى مدين هربا من المصريين، القرآن يخبر عن ذلك، فيقول:) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)((القصص)
هذه القصة نجد مثلها تماما في العهد القديم، ولكنها نجدها تفتقد أهم شيء.. تفتقد تلك الروحانية العميقة التي تفيض بها روح موسى.. إن التوراة تقصها كما تقص قصة أي رجل قتل قتيلا، ثم هرب خوفا من أن يقتلوه.
اسمع ما ورد في التوراة:( وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم. فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من إخوته فالتفت الى هنا وهناك ورأى ان ليس احد فقتل المصري وطمره في الرمل ) (الخروج:2/11 -12)
لاحظ.. إن التوراة تجعل موسى متعمدا للقتل.. وتعتبره عنصريا، فهو لم يقتله إلا لأنه مصري، بينما القرآن يصور هذا بصورة مختلفة تماما.. لقد جاء في القرآن:) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ (19)(القصص)
موسى في القرآن يظهر بمظهر المنيب التائب بينما تصوره التوراة بصورة المجرم الذي يتلفت ذات اليمين وذات الشمال ليمارس جريمته.
لا زال الخلاف بين القرآن والتوراة عميقا في سيرة موسى.. اسمع ما تقول التوراة في مقابلة ما قرأناه من القرآن:( ثم خرج في اليوم الثاني واذا رجلان عبرانيان يتخاصمان. فقال للمذنب لماذا تضرب صاحبك. فقال من جعلك رئيسا وقاضيا علينا. أمفتكر انت بقتلي كما قتلت المصري. فخاف موسى وقال حقا قد عرف الامر فسمع فرعون هذا الامر فطلب ان يقتل موسى. فهرب موسى من وجه فرعون وسكن في ارض مديان وجلس عند البئر وكان لكاهن مديان سبع بنات. فاتين واستقين وملأن الاجران ليسقين غنم ابيهنّ فاتى الرعاة وطردوهنّ فنهض موسى وانجدهنّ وسقى غنمهنّ. فلما اتين الى رعوئيل ابيهنّ قال ما بالكنّ اسرعتنّ في المجيء اليوم. فقلن رجل مصري انقذنا من ايدي الرعاة وانه استقى لنا ايضا وسقى الغنم. فقال لبناته واين هو. لماذا تركتنّ الرجل. ادعونه لياكل طعاما. فارتضى موسى ان يسكن مع الرجل. فاعطى موسى صفورة ابنته. فولدت ابنا فدعا اسمه جرشوم. لانه قال كنت نزيلا في ارض غريبة) (الخروج:2/13-22)
وعندما تريد أن ترسم التوراة صلة الله بعباده في هذا النص تعود لتشوه الله ورحمة الله.. اسمع ما ورد بعد ذلك النص كتمهيد لنبوة موسى:( وحدث في تلك الايام الكثيرة ان ملك مصر مات. وتنهّد بنو اسرائيل من العبودية وصرخوا. فصعد صراخهم الى الله من اجل العبودية. فسمع الله انينهم فتذّكر الله ميثاقه مع ابراهيم واسحق ويعقوب. ونظر الله بني اسرائيل وعلم الله ) (الخروج:2/23-25)
القرآن لا يقصر هذا اللجوء على أنبيائه.. بل هو يعممه على كل الصالحين الذين يرجعون إلى الله في كل حين، ولكل سبب.
اسمع ما يقول القرآن عن الجيش الذي قاتل مع طالوت الذي ندعوه شاول:) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ((البقرة:250)
واسمع هذه الدعوات الفائضة من حناجر المؤمنين:) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)(البقرة)
واسمع هذا اللجوء إلى الله:) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)(آل عمران)
واسمع هؤلاء الداعين وصفاتهم:) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)((آل عمران)
واسمع القرآن وهو يصف قومنا حين يسمعون آيات القرآن:) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)((المائدة)
واسمع إليه، وهو يردد أوصاف عباد الرحمن، ويذكر دعواتهم:) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (77)((الفرقان)
واسمع إليه، وهو يردد دعوات الأجيال المؤمنة لبعضها بعضا على امتداد التاريخ:) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ((الحشر:10)
2 ـ عبودية الروح
صمت قليلا، ثم قال: ليس ذلك فقط.. الكتاب المقدس يركز كثيرا على الطقوس.. ويتصور الطهارة ـ التي هي في عمومها طهارة حسية ـ قمة قمم الرقي الإنساني.
بينما القرآن يعتبر الطهارة هي بداية الرقي.. فالروح تبدأ من الطهارة لترتقي في درجات الكمال التي لا تنتهي..
ودرجات الكمال في القرآن تبدأ من القلب.. بتطهيره من كل الأوزار التي تحول بينه وبين صحبة الله.. فالله لا يحب إلا الطاهرين، ولا يصحبه إلا الطاهرون، ولذلك لا ينجو عند الله إلا أصحاب القلوب السليمة:) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ((الشعراء:89)، وقد أثنى القرآن على إبراهيم أعظم الثناء، ففيه:) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ((الصافات:84)
فإذا تطهر القلب نال من الكمال الروحي بحسب سيره..
والقرآن يذكر هذا السير القلبي، ويركز عليه، ويعتبره حقيقة الإيمان، فالإيمان لا يعبر عنه اللسان بل يعبر عنه القلب، ولهذا يقول القرآن في أوصاف المؤمنين:) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ((المجادلة:22)
هذه الآية تتحدث عن هذا السير القلبي.. فالولاء القلبي لله، والرضى التام عن الله، هو الذي يجعل المؤمن من حزب الله المفلحين.
ونتيجة لكون السير الروحي لله هو الأساس في علاقة المؤمن بالله، فالله ينفي الإيمان عمن تمسك بالطقوس، ولم تكن تلك الطقوس نابعة من القلب، اسمع:) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ((الحجرات: من الآية14)
فالإيمان لا يصح.. ولا يكمل.. والسير إلى الله لا يبدأ إلا إذا انطلق من القلب.. القلب التي هي روح الإنسان الواعية.
فالقلب ـ لا الجسد ـ هو الذي يؤمن، وهو الذي يكفر، ولذلك يركز القرآن كثيرا على القلب، فيربط كل سلوك به:
فالكافر إنما يكفر لأنه ختم على قلبه، وطبع عليه، فصار لا يعي الحقائق التي يشرق بها الوجود:) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ((البقرة:7)
والله لا يطبع على قلوب عباده، ولا يختم عليها إلا بعد أن تمارس من الرذائل ما يعميها عن الحقائق.. فالختم من الله، ولكن المتسبب هي القلوب نفسها، كما ورد في القرآن عن بني إسرائيل:) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً((النساء:155)
وقال عنهم وعن غيرهم:) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ((محمد:16)
وأخبر أن أساس التحريف الذي حصل للكتب المقدسة هو قساوة القلوب.. فلولا قساوة القلوب ما جرأت الأيدي على تغيير كلام الله:) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ((المائدة:13)
واسمع الآية الأخرى التي تقسم الإيمان إلى إيمان قلبي وإيمان شفوي:) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ((المائدة:41)
ولهذا فإن القرآن يرجع كل سلوك ظاهري إلى منبعه الباطني سواء كان سلوكا طيبا، أو سلوكا خبيثا:
فالقرآن يرجع سر عدم التضرع إلى الله، وعدم اللجوء إليه إلى قساوة القلوب:) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ((الأنعام:43)
وهو يرجع كل سلوك طيب إلى منبعه القلبي:) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ((لأنفال:2).. ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ((لأنفال:63).. ) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ((الرعد:28)
اليوم السادس، كان يوم أحد، وقد كلفوني بإجراء الطقوس الدينية، وقراءة الموعظة، لكني أبيت، وطلبت من أخي أن يقوم بدلا مني بذلك.. لقد كان يتقن فن التأثير في مثل هذه المجامع إتقانا عظيما.. وبسبب هذا الإتقان ترقينا في مراتب الكنيسة إلى الكرسي الذي كنا نحلم به جميعا.
جلست أنا مع المصلين في كرسي من الكراسي، وقعدت أسمع كما يسمع سائر المصلين، وأتحرك كما يتحركون.
كان بجواري رجل.. كان يفعل مثلما أفعل.. ولا يبدو عليه أي تأثر مثلما لا يبدو علي.. لقد كانت النغمات جميلة تهز الجبال بجمالها، ولكني في نفس الوقت كنت أفتقد المعنى الذي يهز نفسي لجمالها.
لقد كان الكلام الذي يردد في هذه المجالس التي نسميها صلاة هو نفس الكلام الذي أسمعه في بلادي.. إنه نوع من النواح على المسيح وصلب المسيح.. وهو في نفس الوقت نوع من العزاء.. فالمسيح الذي صلب لم يكن إلا جسدا.. أما المسيح الإله.. فهو إله دائما.
كان هذا أكثر ما نسمعه، ولم يكن هذا يكفي لملأ روحي التي لا تقل عن عقلي شوقا لعالم الحقائق.. العالم الذي يجتمع فيه المنطق العقلي مع الأشواق الروحية.
بعدما خرجنا من الكنيسة فوجئنا بصوت الآذان يرتفع من مآذن الإسكندرية.. لقد كان صوتا حانيا قويا عميقا.. لكأنه يأتي من السماء، ولا يرتفع من الأرض.. لقد كان هناك فرق كبير بين الأجراس التي ندقها.. وبين الآذان الذي ينادي به المسلمون.
بقيت مستغرقا أتأمل ألفاظ الآذان ومدى انسجامها مع العقل.. ومدى صلاحها لإرواء الروح.. ومدى اتفاقها مع الدعوة إلى الصلاة.
بينما أنا كذلك إذ أمسك بيدي من كان يجاورني في الصلاة في الكنيسة، وقال: مرحبا بك في بلدك.. أنا من أبناء الإسكندرية.. وقد تشرفت اليوم بالصلاة بجانبك.
قلت: شكرا على هذا الأدب.
قال: إذا سمحت لي تجولت بك في بعض شوارع الإسكندرية العتيقة.. لعلك ترى فيها ما لم تره في الإسكندرية الجديدة.
قلت: بورك فيك.. أنا أحب زيارة المدن القديمة.. فهيا سر بي.. فليس لي اليوم أي عمل عدا التجوال.
امتطينا سيارة نزلت بنا بعض الشوارع، وتركتنا فيها لنسير معا في حي من الأحياء القديمة.
ما سرنا قليلا حتى صادفنا مسجد بسيط.. والناس يدخلون إليه لأداء الصلاة.
قال لي، وقد رآني أنظر إليه بنوع من اللهفة والشوق: هذا مسجد قديم من مساجد الإسكندرية.. لقد ظل يحتفظ بكسوته هذه منذ قرون طويلة.
منذ قرون طويلة.. والمصلون يدخلون من هذا الباب.. والمؤذن يؤذن من تلك الزاوية.
أنا أعرف إمام هذا المسجد.. فإن شئت دخلنا جميعا لترى عمرانه الداخلي فعلت.
قلت: ولكني سمعت أن المسلمين لا يأذنون لمن ليس من دينهم بدخول مساجدهم، أو بلمس مصاحفهم.
قال: ذلك قول بعض فقهائهم.. ولكن إمام هذا المسجد يخالفهم.. ويأخذ بأقوال فقهية أخرى[1].. وهو يرى أنها هي الأقوال الصحيحة لأنها تنسجم مع ما فعله محمد مع وفد زار مدينته من المسيحيين.
لقد روى ابن إسحق وهو يؤرخ حياة نبيهم أن وفد نجران ـ وهم من المسيحيين ـ لما قدموا على محمد بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال محمد:( دعوهم ) فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وقد عقب الفقيه ابن القيم على هذه القصة فذكر مما فيها من الفقه ( جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وتمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضًا، إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك )
قلت: فهم مختلفون في هذه المسألة إذن.
قال: أجل.. وإمام هذا المسجد يرى هذا الرأي.. ولهذا كثيرا ما تجد المسيحيين، بل وغيرهم من أهل الديانات المختلفة يزورون هذا المسجد ليروا كيفية أداء المسلمين شعائرهم الدينية.
وقد وضع إمام المسجد لأجل هذا محلا خاصا بهؤلاء حتى لا يحصل أي تشويش على المصلين.
قلت: فلم لم يصدر رؤساء دينهم قرارات ترفع هذه الخلافات؟
قال: لا.. الأمر مختلف عند المسلمين.. هم يتصورون أن الوحدة في التعدد، وأن الفرقة في جبر الناس على التوحد.
قلت: كيف ذلك؟.. كيف تصبح الوحدة فرقة؟
قال: أنت تعلم قيمة العقل في الإسلام.. وتعرف أن بناء الأحكام الشرعية ينطلق من النصوص، ولكنه لا يفهم إلا بالعقل.. ولذلك قد تختلف العقول أحيانا.. ولا يصح لعقل أن يسلم لعقل آخر.
لكأن الإسلام قصد هذا الاختلاف حتى يكون توسعة للناس..
تصور.. لولا أن هناك خلافا في المسألة لما وجدنا مثل هذا المسجد، ولا إماما كإمامه.
قلت: هيا ندخل.
دخلنا مع المصلين.. وجلسنا في الركن المخصص للضيوف من غير المسلمين.
ما لبثنا حتى قامت الصلاة، وقام المسلمون يسوون صفوفهم خلف الإمام، وقد استووا جميعا يصلي غنيهم بجنب فقيرهم، وقويهم بجنب ضعيفهم، فليس هناك في مساجد المسلمين أي طبقية توزع محال المسجد بين المصلين.
كان الإمام يصلي بهم رافعا صوته بالتكبير والتسميع.. وهم يقتدون به في جميع حركاته.
كانت صورة الصلاة غريبة بالنسبة لي.. ولكني كنت أشعر أن هذه الحركات تحتوي رموزا عميقة لن يصعب على العقل إدراكها.
انتهت الصلاة.. وتفرق المصلون بعدها.. منهم من قام مسرعا إلى حذائه ينتعله، ويخرج بعد أن أدى واجبه.. ومنهم من بقي في المسجد يصلي أو يذكر أو يقرأ القرآن.. وقد كان منظرا جميلا.. منظر الحرية الشخصية في التعبد في المسجد.
شد انتباهي رجل لم يكن بعيدا عني.. كان يقرأ القرآن..وعيناه تفيضان من الدموع.. كان الخشوع باديا على وجهه، وكانت الأنوار تكسوه بهالة من الوقار لم أرها في أحد طيلة حياتي.
استأذنت صاحبي في أن أقترب من ذلك القارئ، فأذن لي.. فاقتربت منه، وحييته بتحية الإسلام احتراما للمحل الذي أجلس فيه، فرد علي السلام.
لم أرد أن أظهر أمامه باعتباري مسلما، فلذلك قلت: أنا مسيحي.. زرت هذه البلاد في مهمة خاصة..
نظر إلي، وهو يبتسم، وقال: جئت لأجل الإشراف على طباعة طبعة خاصة من الكتاب المقدس.
قلت: أجل.. وما أدراك بذلك؟
قال: أنا أعمل في تلك المطبعة منذ سنوات طويلة.
قلت: لم أكن أعلم أن تلك المطبعة توظف مسلمين.
قال: ومن قال لك بأني مسلم.. أنا مسيحي.
ازداد عجبي، وقلت: أأنت مسيحي؟.. وتجلس في المسجد كما يجلس المسلمون، وتقرأ القرآن كما يقرؤون، بل وتبكي كما يبكي خاصة المسلمين.
قال: لذلك قصة قد لا تهمك تفاصيلها.. ولكني سأذكر لك منها ما قد ينفعك في يوم من الأيام، فتجلس مثلي في مثل هذا المجلس.
قلت: قصها علي.. فإني أرى تصرفك تصرفا غريبا.
قال: لقد ذكرت لك أني مسيحي.. بل من عائلة عريقة في مسيحيتها.. وقد هداني حبي لعالم الروح إلى العمل في مطبعة الكتاب المقدس مع أنه قد أتيح لي وظائف كثيرة في غيرها.. إلا أني آثرت الارتباط بالدين، وبرجال الدين.
قلت: هذه علاقتك بالكتاب المقدس.. فكيف تحولت إلى القرآن؟
قال: لقد كان الكتاب المقدس هو مقدمتي للقرآن.. أو قل هو دليلي إلى القرآن.
قلت: لم أفهم ذلك.
قال: لقد ذكرت لك أني أبحث عن أشواق روحي الفائضة..
أنا أشعر أننا ـ معشر البشر ـ من عالم آخر.. عالم مليء بالجمال، له صلة عميقة بخالق هذا الكون ومدبره.
وقد بحثت عن جذور هذه الصلة وحقيقتها في الكتاب المقدس، فلم أجد إلا إشارات اهتديت بها إلى القرآن..
فلذلك جئت إلى القرآن.. لأبحث فيه عنها.
قلت: فهل وجدت في القرآن ما يروي ظمأ روحك؟
قال: لم يمض لصحبتي للقرآن إلا أسابيع محدودة.. وأنا في كل يوم أكتشف أشياء كثيرة.. أشياء تملأ روحي بمشاعر لا أجدها عند قراءة الكتاب المقدس، ولا عند قراءة غيره.
1 ـ الصلة بالله
قلت: أريدك أن تصور لي بعض هذه المشاعر.
فتح المصحف، وقال: اسمع هذه الآيات مثلا:) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)(آل عمران)
رتلها بصوت خاشع كما يرتل المسلمون، ثم قال: في هذه الآيات تجتمع جميع أشواق الروح المنسجمة مع العقل..
تبدأ الآيات بمنظر السموات والأرض، وهما ينزعان ثياب نظر الغفلة ليلبسا ثياب نظر الاعتبار.. ويبرز بعدها أولو الألباب الذين اكتحلت عيونهم بتلك النظرة المقدسة، فيهرعون إلى ذكر الله، والبحث عنه في ملكه وملكوته.
ثم لا يلبثون أن يهتدوا إلى الله، فتحلق أرواحهم إليه، وتجلس بين يديه، وتمد يدها إليه بالدعاء.. وتنتهي الآيات بذكر استجابة الله لدعواتهم وتبشيره لهم.
إنه مشهد حي يمكن أن يفعله أي مسلم في أي محل ومن غير حاجة إلى أي واسطة.
تحكي عائشة زوج محمد أثر هذه الآيات على محمد عندما نزلت عليه، فتقول لمن سألها عن أعجب شيء رأته من محمد، فَبَكَتْ، وقالت: كُلُّ أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي، قالت: فقلت: والله إني لأحب قربك، وإني أحب أن تَعبد لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بَل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يُؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله، ما يُبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر، فقال:( ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل عليّ في هذه الليلة:) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ (، ثم قال:( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها )[2]
ذرف بعض الدموع، ثم قال: بالقرآن تعيش أجواء روحية عالية تفتقد مثلها، وأنت تقرأ الكتاب المقدس.
لقد قارنت بين الدعاء في القرآن، والدعاء في الكتاب المقدس، فوجدت فرقا كبيرا:
الدعاء في القرآن ينبئ عن علاقة روحية عميقة للداعي بالله، فهو يستشعر قربه وحضوره، وكرمه، فهو لا يدعوه فقط ليحقق مطالبه، وإنما يشعر بأنه يتقرب إليه، ويقترب منه.
اسمع إخبار الله عن إجابة دعوات عباده:
يقول القرآن:) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ((البقرة:186).. وفيه:) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ((غافر: من الآية60)
ليس ذلك فقط، بل اعتبر عدم رفع الأيدي بالدعاء نوعا من أنواع الكبر، فقد جاء تتمة للآية التي ذكرتها:) إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( (غافر: من الآية60)
والقرآن يحكي دعوات المؤمنين ولجوءهم الدائم إلى الله:
ففي الوقت الذي يهتم فيه الكتاب المقدس بتفاصيل بنيان الهيكل، وما وضع فيه من الذهب الخالص، وفي الوقت الذي يذكر الصفحات الكثيرة في صفة التابوت.. يقتصر القرآن عند إخباره عن بناء إبراهيم للكعبة، هو وابنه إسماعيل على دعاء الله والتوجه إليه.. اسمع ما يقول القرآن:) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)(البقرة)
وهكذا تجد في المواقف المختلفة إبراهيم، وهو دائم الصلة بالله، يلجأ إليه كل حين داعيا، أو مناجيا.. اسمع هذه الدعوات الرقيقة التي صاحت بها روح إبراهيم بعد أن ترك زوجه وابنها في تلك البرية التي لا تنبت زرعا، ولا تمطر غيثا:) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)(إبراهيم)
وفي موقف آخر يقول لقومه، وهو يمزج خطابه لهم بدعاء الله:) أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)(الشعراء)
اسمع هذه الدعوات الرقيقة الخاشعة الحامدة لله والمنيبة له، وقارنها بما ذكرته أناجيلنا عن المسيح، فقد كتب متى في الباب السابع والعشرين:( ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي لما شبقتني. أي إلهي إلهي لماذا تركتني )، وفي الباب الخامس عشر من إنجيل مرقس:( الوى الوى لما شبقتني. الذي تفسيره إلهي إلهي لماذا تركتني )
قارن تلك الدعوات المتوجهة لله المسلمة له بهذه الشكوى.
القرآن يذكر لجوء الأنبياء الدائم إلى الله في الوقت الذي يظهر الكتاب المقدس هؤلاء الأنبياء بصورة مشوهة تجعل كل هممهم متوجهة لمكاسب بسيطة لا تعدو المجتمع الإسرائيلي البسيط الذي كانوا يعيشون فيه.
فموسى الذي شوهت صورته في الكتاب المقدس يظهر في القرآن بصورة مختلفة تماما.. يظهر بصورة الأواب اللاجئ إلى الله في كل حين:
اسمع قصة موسى في القرآن وقارنها بمثيلتها في الكتاب المقدس.. القرآن يخبر عن صلة موسى الدائمة بالله.. اسمع:) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ((القصص:21)
ثم سار إلى مدين هربا من المصريين، القرآن يخبر عن ذلك، فيقول:) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)((القصص)
هذه القصة نجد مثلها تماما في العهد القديم، ولكنها نجدها تفتقد أهم شيء.. تفتقد تلك الروحانية العميقة التي تفيض بها روح موسى.. إن التوراة تقصها كما تقص قصة أي رجل قتل قتيلا، ثم هرب خوفا من أن يقتلوه.
اسمع ما ورد في التوراة:( وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم. فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من إخوته فالتفت الى هنا وهناك ورأى ان ليس احد فقتل المصري وطمره في الرمل ) (الخروج:2/11 -12)
لاحظ.. إن التوراة تجعل موسى متعمدا للقتل.. وتعتبره عنصريا، فهو لم يقتله إلا لأنه مصري، بينما القرآن يصور هذا بصورة مختلفة تماما.. لقد جاء في القرآن:) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ (19)(القصص)
موسى في القرآن يظهر بمظهر المنيب التائب بينما تصوره التوراة بصورة المجرم الذي يتلفت ذات اليمين وذات الشمال ليمارس جريمته.
لا زال الخلاف بين القرآن والتوراة عميقا في سيرة موسى.. اسمع ما تقول التوراة في مقابلة ما قرأناه من القرآن:( ثم خرج في اليوم الثاني واذا رجلان عبرانيان يتخاصمان. فقال للمذنب لماذا تضرب صاحبك. فقال من جعلك رئيسا وقاضيا علينا. أمفتكر انت بقتلي كما قتلت المصري. فخاف موسى وقال حقا قد عرف الامر فسمع فرعون هذا الامر فطلب ان يقتل موسى. فهرب موسى من وجه فرعون وسكن في ارض مديان وجلس عند البئر وكان لكاهن مديان سبع بنات. فاتين واستقين وملأن الاجران ليسقين غنم ابيهنّ فاتى الرعاة وطردوهنّ فنهض موسى وانجدهنّ وسقى غنمهنّ. فلما اتين الى رعوئيل ابيهنّ قال ما بالكنّ اسرعتنّ في المجيء اليوم. فقلن رجل مصري انقذنا من ايدي الرعاة وانه استقى لنا ايضا وسقى الغنم. فقال لبناته واين هو. لماذا تركتنّ الرجل. ادعونه لياكل طعاما. فارتضى موسى ان يسكن مع الرجل. فاعطى موسى صفورة ابنته. فولدت ابنا فدعا اسمه جرشوم. لانه قال كنت نزيلا في ارض غريبة) (الخروج:2/13-22)
وعندما تريد أن ترسم التوراة صلة الله بعباده في هذا النص تعود لتشوه الله ورحمة الله.. اسمع ما ورد بعد ذلك النص كتمهيد لنبوة موسى:( وحدث في تلك الايام الكثيرة ان ملك مصر مات. وتنهّد بنو اسرائيل من العبودية وصرخوا. فصعد صراخهم الى الله من اجل العبودية. فسمع الله انينهم فتذّكر الله ميثاقه مع ابراهيم واسحق ويعقوب. ونظر الله بني اسرائيل وعلم الله ) (الخروج:2/23-25)
القرآن لا يقصر هذا اللجوء على أنبيائه.. بل هو يعممه على كل الصالحين الذين يرجعون إلى الله في كل حين، ولكل سبب.
اسمع ما يقول القرآن عن الجيش الذي قاتل مع طالوت الذي ندعوه شاول:) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ((البقرة:250)
واسمع هذه الدعوات الفائضة من حناجر المؤمنين:) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)(البقرة)
واسمع هذا اللجوء إلى الله:) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)(آل عمران)
واسمع هؤلاء الداعين وصفاتهم:) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)((آل عمران)
واسمع القرآن وهو يصف قومنا حين يسمعون آيات القرآن:) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)((المائدة)
واسمع إليه، وهو يردد أوصاف عباد الرحمن، ويذكر دعواتهم:) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (77)((الفرقان)
واسمع إليه، وهو يردد دعوات الأجيال المؤمنة لبعضها بعضا على امتداد التاريخ:) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ((الحشر:10)
2 ـ عبودية الروح
صمت قليلا، ثم قال: ليس ذلك فقط.. الكتاب المقدس يركز كثيرا على الطقوس.. ويتصور الطهارة ـ التي هي في عمومها طهارة حسية ـ قمة قمم الرقي الإنساني.
بينما القرآن يعتبر الطهارة هي بداية الرقي.. فالروح تبدأ من الطهارة لترتقي في درجات الكمال التي لا تنتهي..
ودرجات الكمال في القرآن تبدأ من القلب.. بتطهيره من كل الأوزار التي تحول بينه وبين صحبة الله.. فالله لا يحب إلا الطاهرين، ولا يصحبه إلا الطاهرون، ولذلك لا ينجو عند الله إلا أصحاب القلوب السليمة:) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ((الشعراء:89)، وقد أثنى القرآن على إبراهيم أعظم الثناء، ففيه:) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ((الصافات:84)
فإذا تطهر القلب نال من الكمال الروحي بحسب سيره..
والقرآن يذكر هذا السير القلبي، ويركز عليه، ويعتبره حقيقة الإيمان، فالإيمان لا يعبر عنه اللسان بل يعبر عنه القلب، ولهذا يقول القرآن في أوصاف المؤمنين:) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ((المجادلة:22)
هذه الآية تتحدث عن هذا السير القلبي.. فالولاء القلبي لله، والرضى التام عن الله، هو الذي يجعل المؤمن من حزب الله المفلحين.
ونتيجة لكون السير الروحي لله هو الأساس في علاقة المؤمن بالله، فالله ينفي الإيمان عمن تمسك بالطقوس، ولم تكن تلك الطقوس نابعة من القلب، اسمع:) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ((الحجرات: من الآية14)
فالإيمان لا يصح.. ولا يكمل.. والسير إلى الله لا يبدأ إلا إذا انطلق من القلب.. القلب التي هي روح الإنسان الواعية.
فالقلب ـ لا الجسد ـ هو الذي يؤمن، وهو الذي يكفر، ولذلك يركز القرآن كثيرا على القلب، فيربط كل سلوك به:
فالكافر إنما يكفر لأنه ختم على قلبه، وطبع عليه، فصار لا يعي الحقائق التي يشرق بها الوجود:) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ((البقرة:7)
والله لا يطبع على قلوب عباده، ولا يختم عليها إلا بعد أن تمارس من الرذائل ما يعميها عن الحقائق.. فالختم من الله، ولكن المتسبب هي القلوب نفسها، كما ورد في القرآن عن بني إسرائيل:) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً((النساء:155)
وقال عنهم وعن غيرهم:) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ((محمد:16)
وأخبر أن أساس التحريف الذي حصل للكتب المقدسة هو قساوة القلوب.. فلولا قساوة القلوب ما جرأت الأيدي على تغيير كلام الله:) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ((المائدة:13)
واسمع الآية الأخرى التي تقسم الإيمان إلى إيمان قلبي وإيمان شفوي:) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ((المائدة:41)
ولهذا فإن القرآن يرجع كل سلوك ظاهري إلى منبعه الباطني سواء كان سلوكا طيبا، أو سلوكا خبيثا:
فالقرآن يرجع سر عدم التضرع إلى الله، وعدم اللجوء إليه إلى قساوة القلوب:) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ((الأنعام:43)
وهو يرجع كل سلوك طيب إلى منبعه القلبي:) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ((لأنفال:2).. ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ((لأنفال:63).. ) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ((الرعد:28)
عدل سابقا من قبل Admin في 1/6/2021, 15:23 عدل 1 مرات
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin