..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty20/11/2024, 22:49 من طرف Admin

» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 23:30 من طرف Admin

» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 23:25 من طرف Admin

» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 23:20 من طرف Admin

» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 23:08 من طرف Admin

» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 23:03 من طرف Admin

» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 23:01 من طرف Admin

» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 22:57 من طرف Admin

» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 22:55 من طرف Admin

» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 22:41 من طرف Admin

» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 22:34 من طرف Admin

» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 22:23 من طرف Admin

» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 22:21 من طرف Admin

» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 21:50 من طرف Admin

» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty18/11/2024, 21:38 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول Empty كتاب: عنوان الكتاب: الكلمات المقدسة ـ نور الدين أبو لحية ـ سابعا ـ الشمول

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 15:20

    سابعا ـ الشمول

    في اليوم السابع.. خرجت ظهرا بعد أن أنهيت أشغال يومي، لأزور بعض المراكز العلمية الموجودة بالإسكندرية، فقد كان لي منذ صباي اهتمام بجميع العلوم التي أبدعتها الإنسانية في مختلف أطوارها.. بل كان لي شغف لأن يكون لي عقل موسوعي يشمل جميع تلك العلوم ويحيط بها.. لهذا كنت أكره التخصص وأمقته، لأنه يحول بين عقلي وبين رحاب واسعة من المعارف يشتاق إليها عقلي اشتياقا.

    وصلت إلى هذا المركز.. وقد كان ـ على حسب ما يبدو ـ يضم في تلك الأيام نشاطا علميا محترما..

    كانت هناك إعلانات كثيرة معلقة عن المحاضرات التي يضمها هذا النشاط، وعن الأساتذة الذين سيلقونها، اقتربت من أحدها، وقرأت لائحة المواضيع والمحاضرين، فوجدتها كلها تدور حول القرآن، وما يحتويه من المعارف والعلوم.

    لقد كانت أول مرة أرى فيها كتابا مقدسا يبحث فيه بهذه الطريقة.. لقد رأيت عناوين غريبة وشاملة وموسوعية تتناسب مع احتياجاتي العقلية والنفسية والاجتماعية.

    ففي اللائحة محاضرات عن العلوم النفسية والعلوم الاجتماعية.. بل والعلوم الطبية والجغرافية والفلكية والجيولوجية.. كل تلك العلوم وعلاقتها بالقرآن.. والإشارات القرآنية أو التصريحات القرآنية لما يرتبط بها من حقائق.

    لم أفاجأ بتلك العناوين فحسب، وإنما فوجئت بأن المحاضرين الذي يتناولون هذه المواضيع بالدراسة والبحث أساتذة لهم قيمتهم في البحث العلمي.. لقد كانوا كلهم خبراء في اختصاصاتهم.. ويبعد أن يتكلم الخبير فيما لا يعلم.

    لقد كانت هذه اللائحة هي أول ما شوق روحي للشعاع الثالث من أشعة محمد، والذي شرفت بالتعرض له في رحلتي الثالثة[1].

    لكني مع ذلك.. ولست أدري لم.. لم أكن أتصور أن يكون كل ذلك صادقا، بل ولا بعضه صادقا.. فكيف لكتاب جاء من تلك القرون الطويلة، من بيئة بدوية، ومن رجل أمي أن تكون له هذه الموسوعية والشمولية.

    بينما أنا أسير تلك الخواطر إذ أمسك بي رجل، ظن أني لم أعرف قاعة المحاضرات، وقال: تعال معي لأدلك على قاعة المحاضرات.. أنا سائر الآن إليها.. في هذا المساء محاضرة ممتازة عن أسباب سقوط الحضارات من خلال القرآن الكريم.

    لم أدر إلا وأنا أسير معه، ولكني ـ خشية أن يتعامل معي كمسلم ـ قلت له: أنا مسيحي.. فهل يأذنون للمسيحيين بدخول هذه المحاضرات؟

    ابتسم، وقال: ومن تظنني!؟.. أنا مسيحي مثلك.. بل فوق ذلك.. ستستمع إلى محاضر مسيحي.. ولكنه مسيحي منصف..

    قلت: كيف ينصر مسيحي دين غيره؟

    قال: هو لا ينصر.. ودين محمد لا يحتاج من ينصره.. لقد جاء لتقديم هذه المحاضرة بعد أن اقنع اقتناعا تاما بالعلاج القرآني لهذه الظاهرة.. ظاهرة سقوط الحضارات.. بل فوق ذلك كله، فإن هذا الرجل لإخلاصه لم يتقاض ما يقدم لغيره من الأساتذة من مكافآت على محاضراته.. بل فوق ذلك كله طلب أن يوضع نصيبه من المكافأة في خدمة البحوث المرتبطة بالقرآن.

    قلت: ما الذي دعاه إلى كل هذا الزهد؟

    قال: أنا أعرف هذا الرجل.. بل تشرفت بالتلمذة عليه في يوم من الأيام.. فهو مع مسيحيته المتجذرة ـ إلا أنه يفتخر بانتمائه للحضارة الإسلامية.. هو يعتبرها الحضارة الإنسانية الوحيدة على الأرض.. وهو لذلك ينتقد الحضارة الغربية انتقادا شديدا.. بل يراها أعظم الحظارات خطرا على المسيحية.

    قلت: لقد شوقتني لسماع هذا المحاضر..

    قال: هيا ندخل.. لقد وصلنا إلى قاعة المحاضرات..

    دخلنا.. وما لبثنا حتى صعد المحاضر إلى المنصة.. وقد كان أول ما بدأه أن قرأ بصوت جميل قوله ':) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً((الاسراء:16)

    فرحت فرحا شديدا لابتدائه بهذه الآية.. لقد كانت هذه الآية سهما من السهام التي يسلطها قومي على المسلمين.. فقد كانوا يفهمون منها بأن الله إذا أراد هلاك قرية بعث رسالة إلى مترفيها، أو بعث فيهم نبيا يطلب منهم أن يفسقوا فيها لينزل عليهم العذاب، فيدمرهم.

    لكن الرجل بدأ يذكر من الأسرار المرتبطة بهذه الآية ما نفى عنها كل شبهة.. بل ما جعل منها فوق ذلك تضم قواعد مهمة تدل على أسباب سقوط الحضارات المعبر عنها في القرآن بالقرى.

    واسمح لي أن أذكر لك بعض ما ذكره في تلك المحاضرة.

    لقد بدأ بذكر ما ورد في كلمة ( الأمر ) من أقوال، وهي ثلاثة [2]:

    الأول: أنه من الأمر، وفي الكلام إضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا[3]، ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر.

    والثاني: كثَّرنا يقال: أمرت الشيء وآمرته، أي: كثَّرته[4]، ومنه قولهم: مهرة مأمورة، أي: كثيرة النتاج، يقال: أَمِرَ بنو فلان يأمرون أمراً: إذا كثروا.

    والثالث: أنَّ معنى أَمرنا أمّرنا[5]، يقال: أَمرت الرجل، بمعنى، أمّرته، والمعنى: سلّطنا مترفيها بالإمارة.

    ثم أخذ في تطبيقها على الآية.. وعلى المجتمعات:

    فاستنتج من المعنى الأول أن الترف يؤدي لا محالة إلى الفسوق.. ذلك أن للترف من التسلط على أتباعه ما يمنع من رؤية الحق أو الإذعان له، وذلك لأن المترف لا يرى من الحياة إل جانبها الجسدي، ولا يرى من جانبها الجسدي إلا ما يملأ عليه شهواته التي لا تنتهي، فهو في شغل عن عبادة الله أو الاستماع لأوليائه، ولذلك جاء في القرآن:) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ( (المؤمنون:33).. ففي قوله:) يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ( دليل على أهم لم يكونوا يرون من نبيهم إلا الطعام الذي يأكله، والشراب الذي يشربه.. بل كانوا يتصورون أن معجزة النبي ينبغي أن تكون طعاما فارها، وأن كتابه المقدس ينبغي أن يكون كتاب طبخ يدلهم على أجمل الوصفات التي ترضي شهواتهم.. فلذلك تجد خشوعهم أمام من يصف لهم المطاعم والمشارب أعظم من خشوعهم أمام من يؤدبهم بآداب الله، ويهديهم إلى سبيله.

    واستنتج من المعنى الثاني أن الترف يشبه الفيروس الذي ينشر العدوى بين الناس، فلا يكتفي بالأغنياء يستل ما في خزائنهم من ثروات، بل يلجأ إلى الفقراء يستل ما في جيوبهم منها.. ولهذا ما إن يقدم غني من الأغنياء على عرف من الأعراف يستحدثه حتى يسرع الفقراء إلى كتب أولادهم ودفارتهم يبيعونها ليشتروا بدلها الترف الذي ابتدعه الغني.. وهو ما يتسبب بعد ذلك في انحرافات اجتماعية كثيرة تؤدي لا محالة إلى انهيار القرى والحضارات.

    واستنتج من المعنى الثالث أن انتشار فكر الترف بين العامة والذي دل عليه المعنى الثاني يعميهم عن الصالحين، فلا يرون صالحا للحكم غير المترفين، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى عن الطريقة التي تربع بها فرعون على العرش:) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ( (الزخرف:54).. فقد ربط تعالى بين استخفافه وفسقهم، فلولا فسقهم، ما استخف بهم.

    انتهى المحاضر من محاضرته بعد أن ملأها بالشواهد التاريخية الكثيرة التي تؤكد ما ورد في القرآن.. ثم طبق ما تقع فيه الحضارة الغربية على ما ورد في القرآن من حضارات مختلفة ليبين أن مصير هذه الحضارة لا يختلف عن مصير تلك الحضارات.

    لقد كانت محاضرة استفدت منها كثيرا.. ورأيت امتلاء الكثيرين من الحاضرين بالبشر لشعورهم بما تضمنته المحاضرة من معلومات منطقية مدعمة.

    بعد انتهائه من المحاضرة، وانصرافه، حثثت الخطى حتى وصلت إليه، وانتحيت به جانبا بمعزل عن المحيطين به، وعرفته بنفسي، ففرح بي كثيرا، فقلت له: أنا أدعوك الآن لتحاضر لنا في بعض مؤسساتنا عن نفس الموضوع.. ولكن بحسب نظرة الكتاب المقدس، لا بحسب القرآن.

    اكفهر وجهه، وقال: أعتذر إليك يا أخي.. أنا باحث علمي.. والباحث لا يتكلم إلا بما يهديه إليه بحثه، فإن شئت أن أقدم لكم محاضرة بحسب ما يهديني إليه بحثي فعلت.

    قلت: ونحن لا نطلب إلا ذلك.

    قال: ولكنها لا ترضيكم.

    قلت: كيف لا ترضينا.. نحن نحب الحقائق ونبحث عنها.

    قال: أرأيت نتيجة هذه المحاضرة؟

    قلت: أجل.. لقد كانت نتيجتها طيبة.. وذلك ما رغبني في أن تتناول هذا الموضوع، فإن لطريقة بحثك تأثيرا عظيما في النفوس.

    قال: لا.. أنت تنسب الأمور لغير أهلها.. القرآن هو صاحب الحقائق.. أما أنا، فلم يكن لي من دور إلا كشفها وتبيينها والبرهنة عليها.

    قلت: فافعل ذلك مع الكتاب المقدس..

    قال: أتراني ـ وأنا مسيحي ـ لو وجدت في كتابي ما يهديني إلى هذا وغيره أكون مقصرا..

    لقد بحثت هذه النقطة بالذات في الكتاب المقدس قبل أن أبحث عنها في القرآن.. لقد كان الموضوع الأصلي الذي أعددته هو في استنباط سقوط الحضارات من خلال الكتاب المقدس.. لكني لم أجد ما يرويني.. بل وجدت ما يثنيني، فعدت إلى القرآن لا لأظهر محاسنه، بل بنية أن أجد فيه ما وجدت في كتابنا المقدس.. لكني بهرت بما رأيت فيه من حقائق مدعمة بكل الأدلة.. وقد دعاني الإنصاف لأذكر ما ذكرت.

    قلت: لقد ورد في الكتاب المقدس ذم الترف.. وذم المترفين.. وتبيين ما وقع لبني إسرائيل من السقوط بسبب فسوقهم وعصيانهم.. ألم يكن ذلك كافيا؟

    قال: لقد رأيت ما يناقضه.. الكتاب المقدس كتب بأيدي مختلفة متناقضة.. فلا تتكلم عن شيء إلا وجدت من يرد عليك من الكتاب المقدس نفسه.. وأنا لست مستعدا لأن أدافع عن شيء يحمل دلائل إدانته.

    سكت قليلا، وقال: بالنسبة لما ذكرت.. جمعت الكثير من النصوص الدالة على ذلك وحللتها.. لكني سرعان ما وجدت الكتاب المقدس يناقضها مناقضة تامة.. فهو يصف داود وسليمان بكل الرذائل.. ثم بعد ذلك يكرمهما كل التكريم.

    وهو يصف لوطا بالنبي المصلح، ثم ينثني ليتهمه بالزنا بابنتيه وبشرب الخمر..

    هو هكذا في كل الأمور لا يملأك سرورا حتي ينثني ليملأك حزنا.

    فكيف تريد مني أن أتكلم عن موضوع كل الناس يعرفون تكلفي في الكلام عنه..

    أنا شخص أحترم تخصصي وموقفي، وأعتبر أن الكلمة أمانة، فلذلك لا أتكلم إلا بما يهديني إليه بحثي.. فاعطني كتابا مقدسا منقحا.. وسأتكلم لك عما تريد.

    قال ذلك، ثم انصرف ليتركني في حيرتي، وببعض نور محمد..

    سرت بتلك الحيرة، ومعها ذلك النور مطأطئ الرأس خجلا من نفسي.. بينما أنا كذلك إذ ناداني رجل كان مستلقيا على عشب في ساحة ذلك المركز، وقال: أرى في عينيك الهموم.. ما بالك؟.. أأنت حزين؟.. إن كنت كذلك، فسأعطيك دواء يرفع عنك كل الهموم، ويمسح عن قلبك كل الغموم.

    قلت: أفي الدنيا علاج مثل هذا؟

    قال: نعم.. وقد عولج به ملايين الناس، فشفاهم، بل ملأهم بسعادة يحسدهم عليها الملوك.

    قلت: ما هذا الدواء العجيب الذي لم أتشرف بمعرفته؟

    أخرج من جيبه مصحفا، وقال: هذا هو الدواء.. هذا هو القرآن الكريم.. هذا هو ربيع القلوب.. وربيع العقول.. وربيع الأرواح.

    قلت: أنا مسيحي.. ولي كتابي الذي هو ربيع قلبي.

    ابتسم وقال: هل أنت صادق في ذلك؟.. وأين تجد ربيع قلبك.. أفي الأنساب، أم في الأوصاف، أم في الحكايات، أم في الآثام؟

    قلت: لا يحق لك أن تتهجم على كتابي المقدس.

    قال: الكتاب المقدس كتاب الجميع.. وليس كتابك وحدك.. وأنا مسيحي مثلك، ولكني أرغمت على قول هذا.

    قلت: من أرغمك.. أخبرني عن هؤلاء المجرمين الذي يكرهون الناس على الاستهزاء بأديانهم.

    قال: ليس المجرمون هم الذين أكرهوني.. الكتاب المقدس هو الذي أكرهني.. لقد كنت أقرؤه.. ولكني لا ألبث أن أمل من قراءته.. فلما جربت القرآن وجدته يتحدث معي وعني وعن كل شيء.. وجدته يعطيني الإجابات الشافية التي ترضي عقلي وقلبي وروحي ونفسي.. لم أجد فيه أي شيء يتناقض مع حقيقتي أو حقيقة الكون، بل فوق ذلك وجدته يشبه الكون.. هو شامل كشمول الكون، واسع كسعته.

    في القرآن الكريم كل حقائق الوجود، وكل من تعلم من مدرسة القرآن الكريم لم يشعر تلك المشاعر المحيرة التي تنتاب من دخل كل الجامعات ونسي أن يدخل جامعة القرآن الكريم، لقد ذكر القرآن هذه الناحية المهمة فيه، بل صرح بهذه الحقيقة التي هي أم الحقائقن فقال:)  وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ((النحل: من الآية89)

    بل أخبر أن القرآن أنزل بعلم الله الشامل، فقال:) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً((النساء:166)، وقال:) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً((الفرقان:6)

    بل أخبر أن أول من يعرف القرآن وحقائق القرآن هم أهل العلم، اسمع:) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ((سـبأ:6)

    قلت: لقد قرأت القرآن.. فلم أجد فيه ما تقول.

    قال: لقد ذكر الغزالي هذا.. لا شك أنك تعرفه.. ذلك القديس المسلم الذي سبح في بحار القرآن ليستنبط منها اللآلئ..

    لقد ذكر سر ما وقعت فيه، فقال.. وكأنه يخاطبك، ويخاطب أمثالك:( إني أنبهك على رقدتك أيها المسترسل في تلاوتك، المتخذ دراسة القرآن عملا، المتلقف من معانيه ظواهر وجملا.. إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها، أوما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها، وتسافر إلى جزائرها لاجتناء أطايبها، وتغوص في عمقها، فتستغني بنيل جواهرها.. أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها، أوما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين، كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها.. أوما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها، فظفروا بالكبريت الأحمر، وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت الأحمر والدر الأزهر والزبرجد الأخضر، وساحوا في سواحلها، فالتقطوا العنبر الأشهب، والعود الرطب الأنضر، وتعلقوا الى جزائرها واستدروا من حيواناتها الترياق الأكبر والمسك الأذفر )[6]

    قلت: أنا أعرف الغزالي وأحترمه وكثير من قومي يحترمونه، ولكنه يعبر عن وجهة نظره الشخصية.. وربما تطغى الذاتية على صاحبها، فتحول بينه وبين الحقائق.

    قال: فما الذي جعلك تعتبر كلامه صادرا من ذاته.. لا من الحقيقة التي عاش من أجلها.

    قلت: أرى أن هذا الكتاب مهما حوى من التفاصيل إلا أنه أقصر من أن يضم جميع الحقائق التي تروي الحاجات البشرية.. إن الحاجات البشرية كمحيط واسع لا تكفيه جميع بحار الدنيا.. فكيف يكفيه كتاب يضم كلمات محدودة وصفحات معدودة؟

    قال: لقد تحدث الإمام بديع الزمان عن هذا.. لا شك أنك تعرفه.. لقد أرسل رسالة إلى بابا الفاتيكان في حياته.. وأنتم لا تكنون له إلا الاحترام.

    قلت: أجل.. أعرفه.. لا شك في صدقه.. فما قال؟

    قال: لقد رد على ما وقع في نفسك من تلك الشبهة بقوله:( نعم! انك اذا نظرت الى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا معروفاً، واضاءته سائر العلوم الاسلامية، حتى وضحت بشمس القرآن. أي اذا نظرت الى الآيات من خلال ستار الأُلفة، فانك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف انها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه اعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة )

    وكعادته في استعمال الأمثال، فقد ذكر المثال المقرب لهذه الحقيقة، فقال:( واذا أردت مشاهدة اعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع الى هذا المثال وتأمل فيه: لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد اُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طي طبقات الغيب.

    فمن المعلوم أن هناك توازناً وتناسباً وعلاقاتِ ارتباط بين اغصان الشجرة وثمراتها واوراقها وازاهيرها - كما هو موجود بين اعضاء جسم الانسان - فكل جزء من أجزائها يأخذ شكلاً معيناً وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

    فاذا قام احدٌ - من قِبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد - ورسم على شاشةٍ صورةً لكل عضو من اعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطاً تمثل العلاقات بين اغصانها وثمراتها واوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها - البعيدين عن بعضهما بما لايحد - بصورٍ وخطوط تمثل اشكال اعضائها تماماً وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى ادنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علماً، ومن بعد ذلك يصوّرها.

    قلت: ما علاقة هذا المثال بالقرآن؟.. أو كيف طبق هذا المثال على القرآن؟

    قال: لقد ذكر بديع الزمان ذلك، فقال:( فالقرآن المبين - كهذا المثال - ايضاً فان بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود الى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا الى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش الى العرش ومن الذرات الى الشموس) قد حافظت - تلك البيانات الفرقانية - على الموازنة والتناسب واعطت لكل عضو من الاعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون - لدى إجراء تحقيقاتهم وابحاثهم - إلى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. ان الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق إنما هو أنت وحدك ايها القرآن الحكيم!

    سكت قليلا، ثم قال: لا شك أنك تريد مثالا على ذلك.

    قلت: أجل.. فبالمثال يتضح المقال.

    قال: أنت ترى علوما كثيرة وحقائق كثيرة تمتلئ بها الكتب أوالمصنفات على امتداد التاريخ وامتداد الوجود.. أليس كذلك؟

    قلت: لا شك في ذلك.. فما علاقة القرآن بهذا؟

    قال: القرآن يربط بين جميع الحقائق التي قد نتوهم الصراع بينها.. لقد ذكر النورسي هذا.. لقد قال في مثال الشجرة:( فنرى أن القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها وأغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بياناً في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً اخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْماً لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الاسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والافعال الحكيمة بياناً معجزاً بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع اولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين امام جمال بيانه المعجز والاعجابُ يغمرهم:( سبحان الله! ما اصوبَ هذا! وما اكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما اجمله وأليقه )

    قلت: لقد قرأت اهتمام المسلمين بما ورد في القرآن من الحقائق، بل إنهم يذكرون أنه ما من رطب ولا يابس إلا وفي القرآن نبأه .. أفلست ترى في ذلك تكلفا؟

    قلت: لا.. لا أراه التكلف.. لقد ذكر النورسي هذا.. وأجاب عنه.. اسمع ما قال ذلك الرجل الرباني:( نعم! في القرآن كل شئ. ولكن لا يستطيع كل واحد أن يرى فيه كلَّ شئ. لأن صور الاشياء تبدو في درجات متفاوتة في القرآن الكريم، فأحياناً توجد بذور الشئ أو نواه، واحياناً مجمل الشئ أو خلاصته، واحياناً دساتيره، واحياناً توجد عليه علامات. ويرد كل من هذه الدرجات؛ اما صراحة أو اشارة أو رمزاً أو ابهاماً أو تنبيهاً. فيعبّر القرآن الكريم عن اغراضه ضمن أساليب بلاغته، وحسب الحاجة، وبمقتضى المقام والمناسبة )

    ثم ضرب مثالا على ذلك بما حجب به أهل عصره من تطورات تقنية، فقال:( نعم، إن القرآن الكريم بايراده معجزات الانبياء انما يخط الحدود النهائية لأقصى ما يمكن أن يصل اليه الانسان في مجال العلوم والصناعات، ويشير بها الى أبعد نهاياتها، وغاية ما يمكن أن تحققه البشرية من أهداف، فهو بهذا يعيّن أبعد الاهداف النهائية لها ويحددها، ومن بعد ذلك يحث البشرية ويحضّها على بلوغ تلك الغاية، ويسوقها اليها. إذ كما أن الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شؤونه، فالمستقبل أيضاً حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله )

    وقد ذكر نماذج تدل على ذلك إن أذنت لي أسمعتك بعضها.

    قلت: تفضل.. اذكر ما تشاء.

    قال: لقد ورد في القرآن الكريم ذكر ما وهب لسليمان:) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ((سـبأ: من الآية12)

    فهذه الآية تبين ما وهب لسليمان من تسخير الريح له، والآية تشير بذلك الى ان الطريق مفتوح امام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء، وقد ترجم هذا المعنى الجميل بديع الزمان، فقال:( فكأن الله سبحانه وتعالى يقول في معنى هذه الآية الكريمة:( إن عبداً من عبادي ترك هوى نفسه، فحمّلتُه فوق متون الهواء. وانت ايها الانسان! ان نبذت كسل النفس وتركته، واستفدت جيداً من قوانين سنتي الجارية في الكون، يمكنك ايضاً ان تمتطي صهوة الهواء )

    وضرب مثلا آخر على ذلك بما ورد في القرآن من قوله:) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ( (البقرة: من الآية60)، فهذه الآية تبين معجزة من معجزات موسى، وهي تشير إلى أنه يمكن الاستفادة من خزائن الرحمة المدفونة تحت الارض بآلات بسيطة، بل يمكن تفجير الماء، وهو ينبوع الحياة، من أرض صلدة ميتة كالحجر بوساطة عصا.

    وقد ترجم بديع الزمان ما تستنبطه حروفها من معان، فقال:( هذه الآية تقول لكم:( ما دمتُ أسلّم بيد عبد يعتمد عليّ ويثق بي عصا، يتمكن بها ان يفجّر الماء أينما شاء. فأنت أيها الانسان ان اعتمدت على قوانين رحمتي، يمكنك أيضاً ان تخترع آلةً شبيهة بتلك العصا، أو نظيرة لها. فهيا اسعَ لتجد تلك الآلة )

    قلت: فالآية تشير ـ بمنظار بديع الزمان ـ إلى وسائل الحفر الحديثة.

    قال: نعم.. فأنت ترى كيف أن هذه الآية سبّاقة لإيجاد الآلة التي بها يتمكن الانسان من استخراج الماء في أغلب الاماكن، والتي هي إحدى وسائل رقي البشرية.. بل ان الآية الكريمة قد وضعت الخط النهائي لحدود استخدام تلك الآلة ومنتهى الغاية منها، بمثل ما عيّنت الآية الاولى أبعد النقاط النهائية، وأقصى ما يمكن ان تبلغ اليه الطائرة الحاضرة.

    قلت: إن هذه نظرة ثاقبة.. وهي متعة عقلية رائعة.. فاذكر لي مثالا آخر.

    قال: لقد ضرب مثالا على ذلك بما ورد في سياق معجزات المسيح من قوله:) وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّه( (آل عمران: من الآية49)

    وقد استنبط منها بديع الزمان أن القرآن يحث البشرية على اتباع الأخلاق النبوية السامية التي يتحلى بها المسيح، فهو يرغّب فيها ويحض عليها رمزاً الى النظر الى ما بين يديه من مهنة مقدسة وطب رباني عظيم.

    وقد استنبط منها من ناحية أخرى ما نص عليه بقوله:( هذه الآية الكريمة تشير إلى أنه يمكن أن يُعثر على دواء يشفي أشد الأمراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس أيها الإنسان، ولا تقنط أيها المبتلى المصاب، فكل داء مهما كان له دواء، وعلاجه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسه بلون من ألوان الحياة الموقتة )

    وقد ترجم بديع الزمان المعنى الإشاري الذي أشارت إليه الآية، فقال:( إن الله تعالى يقول بالمعنى الاشاري لهذه الآية الكريمة:( لقد وهبتُ لعبد من عبادي تَركَ الدنيا لأجلي، وعافها في سبيلي، هديتين: احداهما دواء للاسقام المعنوية، والأخرى علاج للأمراض المادية.. فالقلوب الميتة تُبعث بنور الهداية، والمرضى الذين هم بحكم الاموات يجدون شفاءهم بنفث منه ونفخ، فيبرأون به، وأنت أيها الانسان بوسعك أن تجد في صيدلية حكمتي دواء لكل داء يصيبك، فاسعَ في هذه السبيل، واكشف ذلك الدواء فإنك لا محالة واجده وظافر به )

    أحسست بسرور يهزني، وأنا أسمع هذه الفهوم النبيلة، فتمنيت لو يزيدني منها.

    قرأ ما في عيني، فقال: ومثل ذلك ما ورد في القرآن من قوله:) وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ( (سـبأ: من الآية10)، فهذه الآية (تشير إلى النعمة الإلهية العظمى في تليين الحديد كالعجين وتحويله أسلاكاً رفيعة واسالة النحاس، واللذان هما محور معظم الصناعات العامة، حيث وهبها الباري الجليل على صورة معجزة عظمى لرسول عظيم وخليفة للأرض عظيم، فما دام سبحانه قد كرم مَن هو رسولٌ وخليفة معاً، فوهب للسانه الحكمة وفصل الخطاب، وسلّم الى يده الصنعة البارعة، وهو يحض البشرية على الاقتداء بما وهب للسانه حضاً صريحاً، فلابد أن هناك إشارة ترغّب وتحضّ على ما في يده من صنعة ومهارة )

    قلت: هذا فهم نبيل.. وهو ـ وإن لم يكن مقصد القرآن الأصلي ـ إلا أنه مع ذلك يمكن الاستفادة منه في الحض على العمل..

    قال: لا.. هذا ليس مجرد فهم فهمه بعض الناس.. ولكنه مقصد قرآني شريف.. لقد ذكر القرآن الحديد، وأكثر من ذكره، وقرنه بإرسال الرسل، وعبر عن خلقه بالإنزال، فقال تعالى:) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ( (الحديد:25)

    وأخبر عن استغلال عبده الصالح ذي القرنين له، فقال على لسانه:) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ( (الكهف:96).. أتدري لماذا أولاه القرآن الكريم كل هذه الأهمية؟

    قلت: لا شك في أهمية الحديد، فهو أساس الصناعة.

    قال: فالقرآن ـ عن طريق هذه النصوص ـ يحث على استغلال كل ما تمتلئ به أرض الله من فضل الله.

    كان لهذه الأحاديث لذة في نفسي لا تعدلها لذة.. وكان لصدق محدثي وإخلاصه ما رغبني في الجلوس إليه والاستماع منه.

    اتكأت على عشب الساحة كما اتكأ رافعا عن نفسي كل كلفة، وقلت: لقد بدأت حديثك عن علاج الكآبة.. فهل في القرآن رقية السرور؟

    أمسك المصحف بيده، وقال: ليس هناك رقية تمسح الآلام كهذا الكتاب.. إن شئت سمه (كتاب السعادة الأبدية) إنه لا يحل بواد مقفرا إلا ملأه ريا، ولا بضرع جاف إلا ملأه لبنا، ولا بسواد إلا ملأه بياضا.. إنه كتاب الابتسامة العذبة المشرقة.

    قلت: لا يهمني اللبن ولا البياض.. بل تهمني الابتسامة.. أحيانا تمتلئ نفسي بكآبة مخيفة.. أشعر أن باطني أدغال تقيم فيها الغيلان والعفاريت.. فهل في القرآن ما يقيني شر هذه الغيلان، وأذى هذه العفاريت؟ وهل في الخلق من قتل غيلان نفسه بحروف القرآن؟

    قال: إن النماذج الرفيعة التي عاشت بالقرآن، وتنعمت بالقرآن وقتلت أحزانها ويأسها وآلامها بالقرآن لا حصر لها، وهي منتشرة في كل مكان، وفي كل زمان، وهي من الكثرة ما يجعل قدرة القرآن على هذا حقيقة علمية تبز جميع الحقائق من جميع الوجوه.

    ولكني سأذكر لك عينتين وهبهما الله من قوة التعبير ما استطاعا أن يعبرا به عن قوة القرآن العجيبة في استئصال الكآبة وغرس الابتسامة.

    وهاتان العينتان لم تعيشا في القصور، ولم تنعما بما ينعم به أكثر أهل الدنيا من صنوف الرخاء، بل لم يكن لهما مما يملكه أكثر أهل الدنيا من أمن واستقرار.

    فقد عاشا حياة تحوطها المحن وصنوف البلاء ما لا تقوى على تحمله الجبال الرواسي.

    ولم يكن لهما في هذا الجو الكئيب زوج مؤنس، ولا ولد مشفق، بل حرما في أكثر الأحيان من الصديق والأنيس.

    وكانا مع كل هذا معرضين للموت في كل لحظة، فحبال المشانق معدة لهما، كما تعد للصوص والمجرمين.

    ولكن مع ذلك تطفح من كلامهما من صنوف البشر وأمارات السعادة ما لا يصدر من المترفين المنعمين الآمنين.

    قلت: رغبتني فيهما، فمن هما؟

    قال: أما أحدهما، فهو الإمام بديع الزمان النورسي الذي تعرض لصنوف البلاء، لكنه خرج منها جميعا بنور القرآن، وسأذكر لك هنا نموذجا لبعض الأدوية القرآنية التي خرج بها من أحزانه، ومن وقائع الألم التي مر بها، لترى من خلالها قوة القرآن في إحلال السكينة في النفوس المستعدة.

    يقول بديع الزمان:( ذات يوم من الايام الأخيرة للخريف، صعدت الى قمـّة قلعة انقرة، التي اصابها الكبر والبلى اكثر مني، فتمثـلـّت تلك القلعة امامي كأنها حوادث تأريـخية متحجرة، واعتراني حزن شديد واسى عميق من شيب السنة في موسم الـخريف، ومن شيبي انا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الـخلافة، ومن شيخوخة الدنيا )

    فهذه الآلام الكثيرة التي قد نبصر مثلها، وقد لا نبصره، ولكنه مع ذلك يعشش في قلوبنا ويملؤنا أسفا وحزنا، دعا بديع الزمان للبحث عن ترياق يعالج به هذه الكآبة، قال:( فاضطرتني تلك الـحالة الى النظر من ذروة تلك القلعة الـمرتفعة الى اودية الـماضي وشواهق الـمستقبل، أنقب عن نور، وابـحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من اكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم الـمتداخل الـمحيط )

    وهذا العزاء الذي بحث عنه بديع الزمان يبحث عنه كل إنسان شعر أو لم يشعر، ولكن يختلفون فقط في الجهة التي يولون لها وجوههم للبحث عن هذا العزاء، وكانت الجهة الأولى التي قصدها بديع الزمان هي الجهة التي يولي لها أكثر الناس وجوههم، وهي الجهة البعيدة عن الحقائق القرآنية، وهي بجهاتها الست لا تزيد القلب إلا غما وهما، قال بديع الزمان:( فـحينما نظرت الى اليـمين الذي هو الـماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الـجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي واجدادي والنوع الانساني، فأوحشتني بدلاً من ان تسلـّيني )

    أما اليسار الذي هو الـمستقبل:( فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضا من ان يؤنسني )

    أما الأمام وهو الزمن الـحاضر ( فبدا ذلك اليوم لنظري الـحسير ونظرتي التأريـخية على شكل نعش لـجنازة جسمي الـمضطرب كالـمذبوح بين الـموت والـحياة )

    أما القمة التي تمثل قمة شـجرة العمر ( فرأيت ان على تلك الشجرة ثـمرة واحدة فقط، وهي تنظر اليّ، تلك هي جنازتي )

    أما الأسفل الذي يمثل جذور شجرة العمر ( فرأيت ان التراب الذي هناك ما هو الاّ رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تـحت الاقدام، فأضافا الى دائي داء من دون ان يـمنحاني دواءً )

    أما الخلف الذي يمثل عمر الدنيا ( فرأيت ان هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في اودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من ان تواسيها بالـمرهم والعلاج الشافي )

    فهذه الجهات الست، والتي نتصورأنها تمثل الحقائق المطلقة، والتي نعزي أنفسنا بأنه لا محيد عنها، ولا مخرج منها، ثم نهرب منها لأي شيء نجعل ننساها يتكفل العلاج القرآني بمداواتها، قال النورسي يحكي عن تجربته الإيمانية مع القرآن:( وفيما كنت مضطرباً وسط الـجهات الست تتولى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، اذ بأنوار الإيـمان الـمتألقة في وجه القرآن الـمعجز البيان، تـمدني وتضيء تلك الـجهات الست وتنورها بانوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وانواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الانوار كافية ووافية لإحاطتها)

    وقد كان أثر أنوار القرآن الكريم عظيما:( فبدّلت - تلك الانوار - السلسلة الطويلة من الوحشة الى سلوان ورجاء، وحولـّت كل الـمخاوف الى انس القلب، وامل الروح الواحدة تلو الاخرى )

    فالقرآن الذي هو قبس الإيمان ( مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالـمقبرة الكبرى، وحوّلـها الى مـجلس منوّر أنوس والى ملتقى الاحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين )

    أما المستقبل الذي كان يمثل قبرا واسعا كبيرا، فإنه استحال بالنظرة القرآنية ( مـجلس ضيافة رحـمانية أعدّت في قصور السعادة الـخالدة )

    أما تابوت الزمن الحاضر، فقد صوره القرآن الكريم ( متجرا أخرويا، ودار ضيافة رائعة للرحـمن )

    أما الثمرة الوحيدة التي هي فوق شـجرة العمر على شكل نعش وجنازة، فإنها بالقرآن لم تبق كذلك، ( وانـما هي انطلاق لروحي - التي هي أهل للـحياة الابدية ومرشحة للسعادة الابدية - من وكرها القديـم إلى حيث آفاق النـجوم للسياحة والارتياد )

    حتى تلك الصور المريعة التي كانت الغفلة تصور بها ( عظامي ورميمها وتراب بداية خلقتي  ) لم تبق ( عظاماً حقيرة فانية تداس تـحت الاقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحـمة، وستار لسرادق الـجنة )

    أما أحوال الدنيا واوضاعها الـمنهارة في ظلمات العدم التي نبصرها بنظر الغفلة، فإنها لم تبق كذلك بنور القرآن الكريم ( بل انها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للاسـماء السبحانية قد أتّمت مهامها، وأفادت معانيها، واخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيـمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين )

    أما القبر، فلم يبق قبرا، بل هو بنظر القرآن الكريم ( باب لعالـم النور ) ومثله ذلك الطريق الـمؤدي الى الابد، فإن لم يبق ( طريقاً مـمتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل انه سبيل سوي الى عالـم النور، وعالـم الوجود وعالـم السعادة الـخالدة )

    وهكذا بددت النظرة القرآنية كل الأوهام التي سربتها الغفلة، وأصبح ما كان يتصور داء عين الدواء، يقول النورسي:( وهكذا اصبحت هذه الاحوال دواء لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة )

    قلت: وهل عاش هذا الرجل سعيدا؟

    قال: أجل.. بل أعظم سعيد.. مع أنه أمضى أكثر حياته منفيا مسجونا يدس له السم كل مرة.. وفوق ذلك يبعد عنه كل قريب.. بل يحرم كل أسباب الحياة.

    قلت: والثاني؟

    قال: لا شك أنك تعرفه.. إنه سيد قطب الذي عاش للقرآن وبالقرآن في زنزانة السجن ينتظر في كل حين أن يفصل رأسه عن جسده.

    لقد كانت ظلال القرآن هي الظلال الوحيدة التي احتمى بها من وهج حر آلام السجن والمرض، وكل ما يحيط به من صنوف البلاء.

    ومن رحمة الله أن ألهم الله سيدا فكتب في مقدمة الظلال بعض الوصفات القرآنية التي جعلته ثابتا كالطود الشامخ في وجه كل الأحزان والمآسي التي مر بها.

    وأول ما بدأ به هذه المقدمة هو التعبير عن نعمة الحياة في ظلال القرآن، النعمة التي لا يصدق بها إلا من ذاقها، يقول سيد:( الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه. )

    ثم يذكر تجربته مع القرآن الكريم، مع التنبيه إلى أن هذه المشاعر التي يذكرها عن نفسه استشعرها وهو في غياهب السجون مع قائمة طويلة تصاحبه من الأمراض، قال مع كل هذا:( والحمد لله.. لقد منَّ علي بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه )

    ثم يذكر السر الذي على أساسه حصل الشفاء القرآني، وهو التعامل الصحيح مع القرآن الكريم، التعامل الذي ينطلق مع الحياة مع القرآن، واستماع القرآن من الله مباشرة، يقول:( لقد عشت أسمع الله - سبحانه - يتحدث إلي بهذا القرآن.. أنا العبد القليل الصغير.. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟ )

    ومن هذا المنطلق المليء بالكرامة والعزة، نظر سيد من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، ( وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال.. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال. ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هذا الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟

    عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود.. لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني.. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب.. وأسأل.. كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟

    وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله.. ثم أنظر.. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها. وأقول في نفسي:أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟ يا حسرة على العباد!!!

    وعشت - في ظلال القرآن - أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود.. أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه.. إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وإنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها.. والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول.. كله إنما هو قسط من ذلك النصيب. وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك. فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع. على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود. كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع:   ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ..  تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده .. أي راحة، وأي سعة وأي أنس، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح؟

    وعشت - في ظلال القرآن - أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد.. إنه إنسان بنفخة من روح الله:   فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين .. وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض:  وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة .. ومسخر له كل ما في الأرض: وسخر لكم ما في الأرض جميعا.. ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة. جعلها آصرة العقيدة في الله.. فعقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله.. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج!..

    والمؤمن ذو نسب عريق، ضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم:نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد.. عليهم الصلاة والسلام..   وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ..

    هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن - مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد.

    وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء، ولا للفلتة العارضة.. وكل أمر لحكمة. ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تتكشف للنظرة الإنسانية القصيرة ) فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً((النساء: من الآية19).. والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها. ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج، وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ الآثار والنتائج كما تنشئ الأسباب والمقدمات سواء ) لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً((الطلاق: من الآية1).. ) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً((الانسان:30).. والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها. والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها.. والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين، والنجوة من الهواجس والوساوس:) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ((البقرة:268)

    ومن ثم عشت في ظلال القرآن هادئ النفس، مطمئن السريرة، قرير الضمير.. عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر. عشت في كنف الله وفي رعايته. عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها ) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ((النمل: من الآية62).. ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ((الأنعام:18).. ) واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ((يوسف: من الآية21).. ) وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ((لأنفال: من الآية24).. ) إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ((هود: من الآية107)

    إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء. فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة، والمشيئة المطلقة..

    أي طمأنينة ينشئها هذا التصور؟ وأي سكينة يفيضها على القلب؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع الصغير يسكبها في الضمير؟)

    قرأ جميع هذا الكلام.. وسكت.. وغابت عيناه في الأفق البعيد.. ثم راح يقول بينه وبين نفسه: لماذا لم يظهر في قومنا من يذكر حياته في ظلال الكتاب المقدس؟

    ثم راح يرسل ضحكات غريبة، وهو يقول: يا ترى ماذا عساه سيقول هذا المسكين الذي كتب له أن يعيش في ظل تناقضات الكتاب المقدس.

    سكت قليلا، ثم قال: إن الكتاب المقدس يبحث عمن يرفع تناقضه وقصوره.. فكيف يكون إجابة الله الشافية لحاجيات عباده التي لا تنتهي؟

    احتبست دموع في عيوني منعتني من الكلام.. بقيت واجما لحظة، ثم انصرفت.. وأنا مملوء حيرة.. ومعي بصيص جديد من النور اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد.

    عندما عدت آخر المساء إلى البيت، مددت يدي إلى محفظتي، فامتدت إلى الورقة التي سلمها لي صاحبك، فعدت أقرأ فيها..

    لقد أيقنت حينها أن هذا السور السابع من أسوار الكلمات المقدسة لم يتحقق به أي كتاب في الدنيا غير القرآن الكريم.
    ([1]) انظر الرسالة الثالثة من هذه السلسلة، والتي تحمل عنوان (معجزات علمية)

    ([2]) فصلنا الكلام فيما يرتبط بهذا الموضوع في رسالة ( مفاتيح المدائن )وهي الرسالة الثالثة من رسائل السلام من المجموعة الأولى.

    ([3] )  هذا مذهب سعيد بن جبير.

    ([4] )  هذا قول ابي عبيدة، وابن قتيبة.

    ([5] )  ذكره ابن الأنباري.

    ([6]) جواهر القرآن للغزالي.

      الوقت/التاريخ الآن هو 22/11/2024, 07:43