ثالثا ـ الحياة
في اليوم الثالث.. واصل المؤتمر أعماله بمحاضرات ترتبط بالحياة كما ورد الحديث عنها في القرآن الكريم، وقد كان الحديث في تلك المحاضرات لا يختلف عن الحديث في المرات السابقة، حيث غلب الجانب البياني والتوثيقي على الجانب العلمي والعقلي، فلذلك لم يكد يفهم أصحابي من العلماء شيئا مما قيل.
ثم قدم صاحبي عالم الحياة محاضرته، وقد كانت في وصف مظاهر الحياة وجمالها ودقة صنعها.
وصاحبي هذا من خلال تعرفي عليه رجل لا علاقة له بالدين من الأساس.
وسر ذلك يرجع إلى تصوره المادي للكون من جهة، وقد وجد من النظريات المادية ما يدعم هذا الاعتقاد، ووجد في نظرية التطور ما يدعم اعتقادة بالنشأة المادية للحياة..
وهو لذلك لا يجد مبررا لوجود خالق للكون..
ولكني ـ مع ذلك ـ لاحظت عليه من خلال سماعه لعلي في اليومين السابقين بعض التأثر، فقد كان يسمع ما يدور من حوار، بل كان يتنصت بلهفة، وكأنه يريد من النور ما يقضي به على الظلمات التي تملأ جوانب نفسه.
لقد صارحني بالاكتئاب الذي يعانيه.. وصارحني أكثر بأن للصورة المادية التي يتصورها للكون تأثيرها الكبير في ذلك الاكتئاب..
فالحياة تولد.. ثم تعيش فترة قصيرة جدا.. ثم لا تلبث حتى يضمها الفناء، ليلقيها في صحراء العدم الأبدي.
كان يبكي بكل كيانه، وهو يعبر عن هذا العبث الذي امتلأت به الحياة.
***
في مساء ذلك اليوم.. التقينا مع علي ـ بعد الاتصال به عن طريق صديقه حذيفة ـ في محمية طبيعية تعج بجميع مظاهر الحياة..
كانت المحمية غاية في الجمال.. وكأنها تضاريس للأرض جميعا بصحرائها وجبالها وبحارها.. بل شملت المحمية الأزمنة المختلفة.. وعبرت عنها خير تعبير.
كان الحديث هذا المساء ـ حسبما اتفقنا ـ مع عالم الحياة الذي كان يحب أن يسمى ( داروين)، ولذلك كنا ندعوه به.. وكان يفرح لذلك.
لقد كان (داروين) صاحب نظرية التطور هو مثله الأعلى.. فلذلك كان يحفظ أقواله وأقوال أنصاره.. ولا يمل من تردادها.
لست أدري هل كان يستشعر صدقها.. أم كان يفر من التساؤلات الخطيرة التي يفرزها كذبها؟
وهو نفسه لم يكن يعلم هل كان يعتقد بتلك النظرية لكونها علما، أم لكونها فكرة وضعها بعض الناس ليفروا بها من الله.
ولذلك كله كان يتألم.. كما كان يتألم جميع أصدقائي من العلماء.
1 ـ أصل الحياة
أمام قفص ضم مجموعة من القرود وقفت مع أصحابي العلماء ننظر لتلك الحركات المدهشة التي تقوم بها القرود.
لست أدري كيف خطر على بالي أن أسأل صاحبي عالم الحياة (داروين) عن سر هذه التصرفات والحركات التي تتميز بها الحيوانات.. فكل حيوان من الحيوانات يحمل من الذكاء ما يستطيع أن يحفظ به وجوده فترة من الزمن.. بل له من الذكاء ما يحفظ به استمرار نسله من بعده.
كنت أعلم رأيه في المسألة.. ولكني لم أكن أعلم مدى ما يحمله تصوره من موضوعية علمية، فلهذا أردت أن أستوضحها منه، وفي نفس الوقت كان لي أمل أن يظهر علي.. ليذكر ما يمكن أن يرد به عليه، وعلى هذه النظرية التي يتخذها بعض الملحدين مطية لإنكار صانع الحياة.
لقد كان المسيحيون ـ ولا زالوا ـ يتفقون مع المسلمين في إنكار هذه النظرية[1] ورفضها، لأنها لا تخالف مبدأ الخلق كما نعتقده فقط، بل تخالف أيضا ما ورد في الكتاب المقدس من كون البشر الأول كان سوي الخلق، ولم يتناسل من أي نوع من الأنواع.
فقد ورد في الكتاب المقدس:( وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة )(تكوين: 7)
وورد فيه أنه فقد ضلعا خُلقت منه امرأته مباشرة:( فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما وبني الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم ) (تكوين: 21و22)
ولذا اختارت الكنيسة رفض التطور بحزم، ولكنها مع ذلك قصرت كثيرا في رفضه، مقارنة بما قابلت به العلماء الذين خالفوها في القضايا الكونية.
ولهذا نجد هذه النظرية تدرس بحرية تامة من غير أن تثار عليها أي زوبعة.
سألت (داروين): كيف تفسر هذه الحركات العجيبة التي تقوم بها القرود، ومثلها كل الكائنات الحية التي تتمتع بذكاء خاص يضمن لها البقاء؟
ابتسم داروين، وقال: أنا لست محتاجا لادعاء صانع للحياة وللغرائز التي تقتضها الحياة[2].. لأن الحل العلمي وفر لي الإجابة المنطقية التي تجيبني عن سؤالك، بل تجيبني عن تأسيس الحياة من أولها.
أنا أعلم أن هذا يخالف الدين.. ولكني وجدت العلم والعقل يخالف الدين، فآثرت العلم والعقل.. اعذرني عن هذه الصراحة الوقحة التي أبدو بها.. ولكن ذلك هو الواقع.. ولو أني وجدت في الدين من القوة ما يقنع عقلي لآثرت ما يقوله الدين على ما تقوله الحقائق التي أعتقدها..
ذلك أن الدين يجيب عن هذه الأسئلة إجابات أجمل بكثير من تلك الإجابات التي يجيب عنها العلم.
قلت: فلم لم تتبعه، وتكتفي به؟
قال داروين: وكيف أتبع ما لا أقتنع به.. إني بذلك أخون عقلي ونفسي.. بل إني بذلك أتحول إلى منافق لا إلى متدين.. فكيف يكون عقلي في واد وقلبي في واد آخر؟
قلت: فكيف تفسر الحياة؟.. وهذا التنوع في الحياة؟
قال داروين: ذلك بسيط.. سأقص عليك القصة من أولها.. وسترى أن السيناريو الذي أطرحه صالح لتفسير الحياة.. وعدم حاجتها لمصدر خارجي..
تبدأ القصة بعدما بردت الارض وتكونت بحارها وجبالها وسهولها وغلافها الجوى واستعدت لاستقبال الحياة عليها، وذلك بعد تعرضها خلال ملايين السنين للتطور من حال إلى حال[3].
وكان أول ظهور للحياة على الأرض فوق سطح الماء والمحيطات والمستنقعات وعلى شواطئ المسطحات المائية التى تكونت عندها مادة الطين، حيث اختلط الماء بالتراب.
ومن عفن الطين المنتن نشأت أبسط وأصغر أنواع الحياة التى نراها ممثلة في بعض أنواع البكتيريا وبعض الكائنات وحيدة الخلية التى لم تتميز بعد على أنها نبات أو حيوان.
ومن هذا الأصل المشترك لجميع الكائنات نبت فرعان من الخلايا المجهرية ـ أى التى لا ترى إلا بواسطة المجاهر المكبرة ـ تولد من أحدهما النبات، ومن الآخر الحيوان.
أما فرع الحلايا المكونة للنباتات، فسرعان ما استحدثت طريقة عجيبة لتركيب مادة الكلوروفيل الخضراء في هيكلها لتكسب بها الطاقة من ضوء الشمس، وتستعين بها على استخلاص الكربون من غاز ثانى أكسيد الكربون الموجود في الجو، ثم تحويله إلى مواد سكرية ونشوية، وكان هذا بدء ممارسة عملية التمثيل الضوئى لنمو النبات.
ثم إن الخلايا أخذت تحيط أجسامها الدقيقة بجدران من هذه المواد الكربونية في هيئة السليولوز، وكانت تستعمل الطاقة التى تنبعث في أجسامها نتيجه التمثيل الضوئى داخل هذه الجدران في التحرك.
ثم إن هذه الخلايا كانت كائنات متناهية في الدقة تعيش في غير جلبة أو ضوضاء، ويأتيها رزقها رغدا من الهواء وماء البحر وأملاحه.
وبعد زمن طويل مضى على هذه الخلايا، وهى تنمو وتتطور نشأت في البحار كائنات كثيرة لا عدد لها.
وكانت هذه العضويات الأولى هي الأصل في جميع أعضاء مملكة النبات التى تكاثرت وغطت الارض بأعشابها وأشجارها وغاباتها الضخمة الكثيفة.
ومثل ذلك حصل لعالم الحيوان، فقد انقسمت الخلايا الحيوانية، وكونت الحيوانات التى عاشت على النبات وغيره، وصارت أنواعا مختلفة من الأحياء على الأرض.
الغرائز والوحي الإلهي:
قلت: هذا تفسيرك للحياة.. فما تفسيرك لهذه السلوكات العجيبة التي تبديها الحيوانات.. بل حتى النباتات؟
قال داروين: إنها الغريزة.. فالغريزة هي التفسير العلمي لتلك السلوكيات.. إنها التفسير الصحيح لقابلية الحيوان للقيام بسلوك معين منذ الولادة.
قلت: فكيف اكتسبت الحيوانات هذه الغريزة؟.. وكيف كان ظهور أول سلوك غريزي لديها؟.. وكيف تم انتقال هذه الغريزة كابراً عن كابر؟
سكت داروين قليلا، وكأنه يتأمل سؤالي، ثم قال: إن شئت الحقيقة.. هناك أجوبة كثيرة عن هذا.. ولكنها تكاد تكون أسئلة هي الأخرى، لا أجوبة.. فكل سؤال منها سيستدعي منك أسئلة أخرى.. ولو بقينا هنا إلى آخر الدهر مع مثل هذه الأسئلة، فلن نخرج أبدا.
ثم أضاف: هناك اختصاصي في علم الجينات، وأحد أصحابنا من دعاة نظرية التطور، يدعى Gordon Taylor Rottary ذكر في كتابه (The great evolution Myster ) (سر التطور العظيم) اعترافاً يعجز النظرية عن الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغريزة، فقال:( لو تساءلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي، وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة)[4]
هناك آخرون من أصحابنا على شاكلة Gordon Taylor، يؤمنون بنظرية التطور، ولكنهم لا يودون الاعتراف بهذه الحقيقة، وبدلاً من ذلك يحاولون التمسك بإجابة غامضة تحتاج هي الأخرى إلى إجابة.
بالنسبة لهؤلاء، فإن الغرائز تعتبر جينات موجودة لدى الحيوانات، تظهر على شكل أنماط سلوكية، واستناداً إلى هذا التعريف يقوم نحل العسل ببناء الخلية على الشكل المنتظم المعروف بوحدات بنائية هندسية مسدسة وفق الغريزة الحيوانية، وبمعنى آخر يوجد جين خاص في أجسام كل أنواع نحل العسل يجعل هذه الأنواع تبني خلاياها غريزياً وفق الشكل المعروف.
قلت: وهل تؤمن بهذا؟
قال داروين: لقد ذكرت لك أن هذا نفسه سيحتاج إلى أسئلة جديدة، بل أسئلة كثيرة.
أولها ستقول لي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟
أنا أعلم أنه لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه.. وأنه لا بد لكل برنامج من مبرمج.
قلت: نعم.. كنت سأسألك هذه الأسئلة.. فما الإجابة التي أعددتها لها؟
قال داروين: لقد وفر أصحابنا العناء على أنفسهم.. فذكروا إجابة ربما ستستدعي منك أسئلة أخرى.
قلت: فما قالوا؟
قال داروين: هم يقولون.. أو بالأحرى نحن نقول بأن الطبيعة الأم ـ التي تتشكل من البحيرات والجبال والأشجار والظواهر المختلفة ـ لها القدرة على الخلق، إنها بديل علمي منطقي عن الخالق..
قلت: إن الطبيعة كيان متعدد الأنواع.. فأي نوع منها لديه القدرة على إكساب الحيوانات المختلفة أنماطها السلوكية المختلفة؟
قال داروين: كنت أعلم أنك ستسأل هذا السؤال.
قلت: لست أنا وحدي الذي يسأله.. بل عقلك أيضا يسأله، أنا أشعر أن عقلك يحتاج إلى إجابة منطقية على هذا السؤال.
إن الطبيعة تتألف من الحجر والتراب والأشجار والنباتات..
من من هذه العناصر تكون له القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟
أي جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك؟
هل ترى أنه يمكن للإنسان العاقل أن يقول، وهو يرى لوحة زيتية جميلة:( ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة )؟.. بلا شك فإن كلامه لن يكون منطقيا.
إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقاً للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي.
ما وصلت إلى هذا الموضع حتى قدم علي، فشعرت بالمدد ينزل علي من جهة لا أعرفها..
لقد ظهر هذه المرة بصورة عالم جليل له دوره البارز في الرد على نظرية التطور من جهة، وبيان نواحي الإعجاز القرآني من جهة أخرى.. وهو العالم التركي المسلم هارون يحي[5].
وليجذب انتباه صديقنا (داروين)، فقد لبس لباس سائح جاب الأرض، وهو يبحث فيها عن أسرار الحياة.. لعله لبس ثياب داروين نفسه.. ولكن لا ليثبت نظرية التطور، وإنما ليثبت نظرية الخلق.
لقد مر، وهو يقرأ قوله تعالى:﴿ وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُختَلِفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 68 –69)[6]
تقدم منا، وقال بكل أدب كعادته: اسمحوا لي أن أخوض معكم في هذا الموضوع.. فأنا مثلكم باحث عن الحقيقة.. وقد كنت أتنصت لما تقولون.. وبما أني أتصور أني قد وجدت الأجوبة عن كل الأسئلة المحيرة التي طرحتموها.. فأذنوا لي أن أتكلم بينكم عنها.. لتقبلوها، أو لتجعلوني أنضم إليكم في حيرتكم.
شعر الفلكي بأنه يعرف هذا الصوت.. لقد كان هو الصوت الذي اكتشف به أشياء كثيرة كانت تملؤه بالحيرة.. ومثل ذلك الجيولوجي..
قام كلاهما، وقالا: تفضل.. يسرنا أن نسمع منك.
قال علي: سأبدأ من هذه الآية التي كنت أتلوها عليكم.. إنها من القرآن الكريم، كتاب المسلمين المقدس.. نحن نستلهم منه عقائدنا، وسلوكنا، ونهتدي به في علمنا وعملنا.. إنه كتاب محيط.. وهو كلام ربنا لنا ولكم ولكل البشرية.
ابتسم داروين، وقال: أجئت لتعظنا أم لتطرح علينا الإجابة العلمية على تساؤلاتنا.
قال علي: بل جئت لأسألكم ولأجيبكم.. ولأطرح علكيم الوجهة التي أرى أنها صحيحة.
قال داروين: فاطرح رأيك بعيدا عن دينك.
قال علي: لا بأس.. ولو أني لم أكن لأهتدي إليه لولا ديني.. ومن الأمانة أن نكل الأمور إلى أهلها.
ومع ذلك.. فلن أخاطبك إلا بما تعرفه.. بما يعرفه عقلك.. وما يعرفه أصحابك.
أنتم ـ دعاة نظرية التطور، أو دعاة التفسير المادي للحياة ـ تعرفون عجز نظرية التطور عن التفسير المنطقي للحياة، ولسلوك الحياة..
لقد سمعت بعضكم.. وهو من كباركم.. يقول ـ وهو يتحدث عن سلوك دودة القز ـ لعلك تعرفه.. إنه هيرمان فون ديثفورت (Haimar Von Dithfurth ).. لقد سمعته يقول:( إن فكرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة كوسيلة للتمويه فكرة باهرة، ترى من يكون صاحب هذه الفكرة؟ من صاحب هذه الفكرة الذكية التي تقلل من احتمال عثور الطير على الفريسة التي يبحث عنها؟ ولا بد للدودة أن تكون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفكرة الذكية…كل هذه الظواهر لا بد أن تتوفر لدى إنسان ذكي للغاية يحاول أن يظل على قيد الحياة، ولا بد لنا أن نقبل بهذه الحقيقة، علماً أن لدودة القز جهازاً عصبياً بسيطاً للغاية فضلاً عن بدائية سلوكها الحياتي، وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابلية تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف )
ثم يتساءل متعجبا:( ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع عن نفسها، وهي بهذا الضعف من التكوين؟. وعندما جابه علماء الطبيعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم يجدوا لها تفسيراً إلا بالمعجزة؛ أي تبنوا فكرة وجود قوة غير طبيعية خلاقة، أي أنهم آمنوا بوجود الله الذي يعطي مخلوقاته آليات معينة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إلى هذه الطريقة في التفكير تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث في الطبيعة، ومن جانب آخر يقوم العلم الحديث بتفسير هذه الظواهر تفسيراً خالياً من أي معنى عبر التمسك بمفهوم الغريزة، لأنه على عكس ما يعتقده أغلبنا، فإن تفسير السلوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السلوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يقدم ولا يؤخر في تساؤلنا بل يعيق بحثنا عن إجابة محدودة وواضحة، ولا يمكن الحديث عن السلوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل )
ثم قال:( هناك تفسير وحيد لظاهرة رعاية الكائنات الحية غير العاقلة لصغارها بهذه الشفقة والحنان وذودها عنها، وهو انقيادها للإلهام الإلهي، ومثال على ذلك هذا الطائر الغطاس الذي يرعى صغيره بوحي إلهام إلهي.
ومرة أخرى نعود إلى الحديث حول السلوك المعين للحيوانات، فإن هناك ما يفرض نفسه أمام أعيننا وهو الترتيب العقلاني لهذه الأنماط السلوكية، ولو لم يكن هذا السلوك المعين مثل تحديد الهدف أو التحسب للمستقبل أو توقع ما يمكن أن يقدم عليه أي حيوان آخر وحساب رد الفعل اللازم إبداءه تجاهه كعلامة على وجود عقل مدبر ومفكر، فإذن ما هو تفسير هذا السلوك؟ )[7]
هذا الكلام يقوله هذا المتبني لنظرية التطور، وهو يحلل أو يحاول أن يصل إلى تحليل منطقي لسلوك دودة القز، هذا السلوك العقلاني المدروس.
أنت لا ترى في إجابته ـ كما في كل الكتب والإصدارات التي تصدرها هذه النظرية ـ إلا أسئلة بدون ردود واضحة، أو تناقضات فكرية لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود.
حتى صاحب النظرية تشارلز داروين قد اعترف بهذه الحقيقة، فذكر أن سلوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديداً واضحاً لصحة نظريته.. لقد ذكر ذلك في كتابه (أصل الأنواع) عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فيها.. اسمع ما يقول مثلا:( أغلب الغرائز تمتاز بتأثير بالغ، وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس )[8]
أما نجل تشارلز داروين المدعو فرانسيس داروين، فقد قام بتحليل وشرح رسائل أبيه في كتابه (الحياة ورسائل تشارلز داروين ) أو (The Life And Letters Of Darwin)، وذكر فيه مدى الصعوبات التي واجهها داروين في تفسيره للغرائز قائلاً في الكتاب (يعني أصل الأنواع):( وفي الباب الثالث منه يتحدث في القسم الأول عن العادات الحيوانية والغرائز والاختلاف الحاصل فيها، والسبب في إدخال هذا الموضوع في بداية الباب تشريد فكر القراء عن إمكانية رفضهم لفكرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبيعي، ويعتبر باب الغرائز من أصعب المواضيع التي احتواها كتاب (أصل الأنواع))[9]
قال داروين: لداروين ولنجل داروين أن يقولا ما يشاءان.. ولكن النظرية لا تقتصر عليهما.. نعم ربما تكون قد بدأت منهما، لكنها لم تنتهي عندهما.
بالإضافة إلى هذا، فإن لدينا الجواب على ما طرحته من تساؤلات، فنحن نعتقد أن الحيوانات تكسب أنماطاً سلوكية عن طريق التجربة، ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي، وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السلوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة.
ابتسم علي، وقال: كلامك هذا يحوي معنين.. ثانيهما يبنى على أولهما.. ففسر لي أولهما، لأبين لك وجهة نظري حوله.
قال داروين: المقدمة الأولى التي تعتمد عليها نظريتنا لتفسير الغرائز هي ما نسميه (الانتخاب الطبيعي).. إنه الحجر الأساس لنظرية التطور.
قال علي: فما تعنون بالانتخاب الطبيعي؟
قال داروين: هو يعني بكل بساطة اختيار أي تغيير مفيد وصالح للكائن الحي (قد يكون هذا التغيير هيكلياً أو سلوكياً)، ثم اختيار ذلك الكائن الحي لتوريث ذلك التغيير للأجيال اللاحقة.
قال علي: فأنت بقولك هذا تجعل الطبيعة هي المحك لتمييز المفيد من الضار، وأنها القوة المؤثرة والعاقلة في الوجود.
قال داروين: أجل.. قولي يستلزم ما ذكرته.
قال علي: ولكن، أنت ترى أنه لا يوجد في الطبيعة من يميز بين الضار والمفيد كقوة مؤثرة حيث لا يوجد بين الحيوانات أو غير الحيوانات ذاك الذي يملك قرار ذلك أو القابلية على اتخاذ هذا القرار.
لقد اعترف داروين نفسه باستحالة اكتساب السلوكيات المفيدة عن طريق الانتخاب الطبيعي إلا أنه يعود ويدافع عن وجهة نظره التي هي محض خيال واستمر في الدفاع عن رأيه على الرغم من كونه هذراً وغير منطقي حيث يقول:( في النهاية يمكن اعتبار أنّ الغرائز التي تجعل زغلول الحمام يطرد إخوانه غير الأشقاء من العش، وتجعل مملكة النحل مقسمة إلى خدم وملكة ليست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصيل حية وصغيرة لدستور عام لعالم الأحياء، وهذه التفاصيل الصغيرة تتولى مهمة التكثير والتغيير عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولكن هذا الاعتبار لا يبدو لي منطقياً ولكنه قريب إلى الأفكار التي تدور في مخيلتي )[10]
ويعترف داعية آخر لنظرية التطور.. لا شك أنك تعرفه.. إنه من تركيا.. وهو البروفيسور جمال يلدرم.. هو يعترف بأن عاطفة الأمومة لدى الأم لا يمكن تفسيرها بواسطة الانتخاب الطبيعي.. لقد سمعته يقول:( هل توجد إمكانية لتفسير عاطفة الأمومة تجاه الأبناء بواسطة نظام أعمى يفتقر إلى مشاعر روحية مثل نظام الانتخاب الطبيعي؟.. وبلا شك فشل علماء الأحياء، ومنهم مؤيدو داروين في إيراد جواب مقنع لهذا السؤال. وهنالك صفات معنوية لدى الكائنات الحية غير العاقلة وبما أنها لا تستطيع أن تكتسب هذه الصفات بإرادتها، فإذن يجب أن يكون هناك من منحها هذه الصفات، وحيث إن الطبيعة وقانون الانتخاب الطبيعي عاجزان عن إكساب الأحياء هذه الطبيعة المعنوية بسبب كونهما يفتقدان للصفات المعنوية فإنّ الحقيقة الساطعة كالشمس تتمثل بوجود كافة الأحياء تحت العناية الإلهية وتدبيره المحكم، ولهذه الأسباب المتقدمة نستطيع أن نشاهد في الطبيعة أنماطاً سلوكية لبعض الحيوانات تثير الحيرة والاستغراب وتجعلنا نتساءل: كيف تسنى لهذا الحيوان الاهتداء إلى هذا السلوك؟ وكيف يستطيع هذا الحيوان أو ذاك التفكير بهذه الطريقة؟)
هذه هي المقدمة الأولى.. وذاك ما يبين تهافتها، فما المقدمة الثانية؟
قال داروين: أنا لم أسلم لك بكل ما ذكرته في الرد على المقدمة الأولى.. ومع ذلك، فالمقدمة الثانية هي أنا نرى أن السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي يتم توارثها عبر الأجيال.
قال علي: هل حقا بقي من العلماء من يقول هذا.. إن أي عقل يعلم أن أي سلوك جديد يكتسبه الحيوان عن طريق التجربة لا يمكن توريثه لجيل لاحق بأي حال من الأحوال، لأن التجربة المكتسبة تخص ذاك الجيل وحده، ولا يمكن إدخال هذه التجربة السلوكية الجديدة المكتسبة في البناء الجيني للحيوان إطلاقاً.
يقول Gordon Rtaylor في الرد على الذين يدعون توارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة:( يدعي علماء الأحياء أن هناك إمكانية لتوارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة، ويمكن مشاهدة هذه الظاهرة في الطبيعة فمثلاً Dobzhansky يدعي أن جميع وظائف جسم الكائن الحي ما هي إلا نتاج التوارث الناتج بتأثير العناصر والعوامل المتوفرة في المحيط الخارجي، وفي هذه الحالة يكون الأمر مقبولاً بصورته النهائية بالنسبة لجميع أنواع الأنماط السلوكية، ولكن هذا غير صحيح أبداً ويعتبر أمراً محزناً أن يكون هذا رأي عالم له مكانته مثل Dobzhansky ويمكن القول: إنّ هنالك بعض الأنماط السلوكية لبعض الأحياء يتم توارثها عبر الأجيال اللاحقة ولكن لا يمكن تعميم الأمر على جميع الأنماط السلوكية )
ويضيف:( إن الحقيقة الظاهرة للعيان هي عدم وجود أي دليل علمي يمكن بواسطته إثبات توارث بعض الأنماط السلوكية بواسطة الخريطة الجينية للكائن الحي.
لأن المعروف علميا أن الجينات مسؤولة فقط عن بناء البروتينات حيث يتم بناؤها أكثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السيطرة على سلوك الكائن الحي بصورة عامة.
فمثلا يكون الحيوان نشيطاً أو بالعكس خاملاً أو أن يكون الوليد أكثر ارتباطاً بأمه، ولكن لا يوجد أي دليل يثبت توارث السلوك الخاص الذي يجعل الحيوان يبني عشه بالترتيب والتزامن والانتظام المعروف.
ولو كان الأمر كذلك، فإذن ما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية التوريث؟ لأن هناك فرضيات تثبت وجودها، ولم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال[11])
التفت إلى داروين، ثم قال: كما أفاد به Gordon Rtaylor فإن الادعاء بكون الأنماط قابلة للتوارث أمر غير مقبول علمياً، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع يقتضي وجود نوع من الأنماط السلوكية المعقدة، كالتصميم والتخطيط للمستقبل، وهذه لا يمكن توارثها عبر الأجيال.
دعنا من كل هذا.. هناك مثال آخر يفرض نفسه بشدة.. وهو المتعلق بسلوك العاملات القاصرات في مملكة النمل.
فهذه العاملات لها سلوك خاص تتميز به يتطلب منها أن تكون على دراية تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، قد ترجع الأمر إلى الوراثة.. ولكنك تصطدم بأن هذه الأنماط السلوكية لعاملات النمل لا يمكن أن تكتسب بالتوارث لسبب وحيد هو كونها قاصرات، ولا يمكن لها التكاثر لذا لا تستطيع توريث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة.
وما دام الأمر بهذه الصورة كيف تسنى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر؟
وما تزال هذه العاملات سواء أكانت نملاً أو نحلاً أو أي حيوان آخر تعمل ـ منذ أحقاب طويلة من السنين ـ بهذا السلوك الذي يعكس مدى العقلانية والقابلية والتكافل والانتظام وتوزيع الأدوار بدقة إضافة إلى روح التضحية إلا أن هذه المخلوقات لم تستطع البتة أن تورث هذه الأنماط السلوكية منذ خلقت لأول مرة.
ولا يمكننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهداً في اكتساب هذه الأنماط السلوكية لأنها تبدأ في اتباع هذا السلوك منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأكمل صورة.
ولا تصادف في أي طور من أطوار حياتها أية مرحلة للتعليم وجميع سلوكها مكتسب بالفطرة، وهذا الأمر جائز مع جميع الكائنات الحية. إذن فمن الذي علم الكائنات الحية تلك الأنماط السلوكية؟
هذا السؤال هو نفسه الذي طرحه داروين قبل أكثر من 150 سنة ولم يستطع دعاة نظرية التطور الإجابة عنه، وهناك تناقض عبر عنه داروين نفسه قائلاً:( إنه لخطأ كبير أن نتحدث عن فرضية اكتساب الأنماط السلوكية الغريزية بالتطبع وتوريثها إلى أجيال لاحقة، لأنّه كما نعلم هناك غرائز محيرة للغاية كتلك التي عند النمل أو النحل ولا يمكن البتة اكتسابها بالتطبع )
فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج، أي افترضنا أنها عملية انتخاب للصفات الصالحة ثم يتمّ توريثها بعد ذلك إلى أجيال لاحقة وبصورة متعاقبة وفي كل مرة يتم انتخاب صفات مفيدة تورث إلى جيل لاحق وهكذا، لو افترضنا ذلك لأصبحت فرضيتنا مستحيلة لسبب وحيد هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير إضافة إلى كونها عقيمة، ولهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السلوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن تفسير هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبيعي؟
ألا يتبين لك من خلال هذا.. ومن خلال اعترافات العلماء وأقوالهم.. استحالة تفسير الأنماط السلوكية المحيرة لهذه الكائنات الحية بواسطة نظرية التطور، بسبب بسيط، وهو أن هذه الأنماط السلوكية لم تكتسب عبر الانتخاب الطبيعي، ولا يمكن توريثها بالتالي إلى أجيال لاحقة.
سكت قليلا، ثم قال: والأمر الأخطر من ذلك كله هو زعمكم بأن الغرائز تتطور بتطور الأحياء، فأنتم تزعمون بأن الكائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور.
ووفقاً لهذه النظرية تكون الزواحف قد نشأت من الأسماك، والطيور من الزواحف… مع أن النوع الواحد يختلف تماماً من حيث السلوك، حيث تختلف السمكة عن الزواحف اختلافاً كلياً.
تعقيد الحياة:
قال علي: هذا أولا.. والثاني وهو أعظم خطرا من الأول.. هو تصوركم لبداية الحياة.. كيف يفسر أصحابك بداية الحياة.. أو بداية أول خلية؟
قال داروين: طبعا يفسرونها بالصدفة، أو نتيجة اجتماع ظروف معينة.
قال علي: اسمح لي قبل أن أرد على هذا أن أذكر لك بأن هذه النظرية في أصلها نشأت في غمرة الانبهار بالعلم.. لقد تصور أهل تلك الفترة.. الفترة التي تملص فيها العلم من الكنيسة.. أنه بإمكانهم أن يفسروا كل شيء بالعلم.
فلذلك ذهبوا إلى أن الكون ولد صدفة.. كما أن الحياة ولدت صدفة.. وأنها نشأت من تلقاء نفسها نتيجة ظروف طبيعية.
ولكن العلم بجيمع فروعه ـ اليوم ـ ينص بحاله ومقاله على خلاف هذه النظرية، فقد أثبتت فروع علمية كثيرة مثل علم الحفريات، والوراثة، والكيمياء الحيوية، والأحياء الجزيئية استحالة أن تكون الحياة قد نشأت بالمصادفة، أو أن تكون قد ظهرت من تلقاء نفسها نتيجة ظروف طبيعية.
هناك ـ اليوم ـ اتفاق سائد في الأوساط العلمية على أن الخلية الحية تشكل أعقد تركيب واجهته البشرية حتى الآن..
لقد كشف العلم الحديث أن التعقيد الموجود في تركيب خلية حية واحدة، وفي ترابط نظمها يفوق ذلك الموجود في أي مدينة كبرى.. ولا يمكن أن يعمل هذا التركيب المعقد إلا إذا نشأت كل أجزائه المتفرقة في وقت واحد، وفي حالة عمل على أكمل وجه، وإلا فسيكون هذا التركيب بلا جدوى، وسينهار بمرور الوقت ويختفي.
ولا يمكننا أن نتوقع ظهور أجزاء هذا التركيب بمحض المصادفة على مدى ملايين السنين كما تدعي نظرية التطور.
لقد برهنت التجارب العلمية في الواقع استحالة أن تكون أول خلية حية، أو حتى جزيء واحد من ملايين جزيئات البروتين في تلك الخلية، قد نشأت بالمصادفة، ولم يثبت ذلك من خلال التجارب والملاحظات فحسب، بل أيضا من خلال حسابات الاحتمالية الرياضية.
فيستحيل أن تكون الخلية، وهي أصغر وحدة للحياة، قد ظهرت مصادفة في الظروف البدائية غير الخاضعة لأي ضوابط في الأيام الأولى لتكوين الأرض، كما يريد أنصار التطور.
ولا تقتصر الاستحالة على هذا الفرض فحسب، ذلك أن تصنيع هذه الخلية غير ممكن حتى في أكثر معامل القرن العشرين تقدما.. فالأحماض الأمينية، التي تمثل وحدات بناء البروتينات المكوِنة للخلية الحية، تعجز عن تكوين الجزيئات العضوية organelles في الخلية مثل الفتيلات الخيطية mitochondria، أو الريبوسومات ribosomes، أو أغشية الخلايا cell membranes، أو شبكة الخلية الباطنية endoplasmic reticulum، ناهيك عن تكوين خلية كاملة.
بالإضافة إلى هذه العقد الكثيرة التي تواجه هذه النظرية، فإن هناك عقبة كؤودا تقف في وجه هذه النظرية، وهي جزيء (د ن أ) الموجود في نواة الخلية الحية، فهو عبارة عن نظام تشفير يتكون من 3.5 بليون وحدة تتضمن كل تفاصيل الحياة.
وفي أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات، تم اكتشاف جزيء (د ن أ) لأول مرة عند دراسة البلّورات بالأشعة السينية، وهو عبارة عن جزيء ضخم يتسم بقدر عال من التميز من ناحيتي التخطيط والتصميم.
فعلى سبيل المثال، بفضل (مشروع الجينوم البشري) أصبح بإمكان الجميع الآن إدراك التصميم العجيب ومحتوى المعلومات الهائل الموجود في الجينات البشرية.
وفي إطار هذا المشروع، عمل علماء من بلدان كثيرة، من الولايات المتحدة إلى الصين، لمدة 10 سنوات من أجل فك شفرة الثلاثة بلايين شفرة كيميائية الموجودة في جزيء (د ن أ) الواحدة تلو الأخرى. ونتيجة لذلك، تم ترتيب كل المعلومات الموجودة تقريبا في الجينات البشرية في وضعها الصحيح.
وبالرغم من أن هذا تطور مثير ومهم للغاية، ولكنه مع ذلك ليس سوى الخطوة الأولى في فك شفرة المعلومات الموجودة في جزيء (د ن أ).
ولفهم السبب وراء مضي 10 سنوات والاستعانة بجهود مئات العلماء للكشف عن الشفرات المكوِّنة لهذه المعلومات، يجب أن نفهم ضخامة المعلومات المحتواة في جزيء (د ن أ).
ذلك أن المعلومات المحتواة في جزيء (د ن أ) الخاص بخلية بشرية واحدة تكفي لملء موسوعة مكوَّنة من مليون صفحة، مما يجعل من المستحيل قراءتها كلها في عمر واحد.
فإذا شرع شخص ما في قراءة شفرة (د ن أ) واحدة كل ثانية، دون توقف، طوال اليوم، وكل يوم، فسيستغرق ذلك منه 100 سنة.
ذلك أن الموسوعة تضم ثلاثة بلايين شفرة مختلفة، وإذا دوَّنا كل المعلومات الموجودة في جزيء (د ن أ) على ورق، فسيمتد هذا الورق من القطب الشمالي إلى خط الاستواء، وهو ما يوازي نحو 1000 مجلد كبير – وهو أكثر مما يلزم لملء مكتبة كبيرة.
والأهم من ذلك هو أن جميع تلك المعلومات محتواة في نواة كل خلية، وبما أن كل فرد يتكون من نحو 100 تريليون خلية، فإن هناك 100 تريليون نسخة من نفس المكتبة.
وإذا أردنا أن نقارن خزانة المعلومات هذه بمستوى المعرفة الذي وصل إليه الإنسان حتى الآن، سيستحيل علينا أن نقدم أي مثال بنفس الحجم، ذلك أن الصورة التي تقدم نفسها هنا لا يمكن تصديقها: 100 تريليون × 1000 كتاب! سيفوق الناتج عدد حبات الرمل الموجودة في العالم.
وفضلا عن ذلك، إذا ضربنا هذا العدد في الستة بلايين شخص الذين يعيشون على الأرض حاليا، وبلايين الأشخاص الذين عاشوا عليها في أي وقت سابق، عندئذ سيفوق العدد قدرتنا الإدراكية، وستمتد كمية المعلومات إلى ما لا نهاية.
وتعتبر هذه الأمثلة مؤشرا على ضخامة المعلومات الملازمة لنا. فنحن نملك أجهزة كمبيوتر متقدمة تستطيع أن تخزن كميات وافرة من المعلومات. ومع ذلك، عندما نقارن جزيء (د ن أ) بأجهزة الكمبيوتر هذه، سنندهش عندما نرى أن أحدث وسائل التكنولوجيا ـ التي هي نتاج لجهد ومعرفة بشرية تراكمية على مدار القرون ـ لا تمتلك حتى الطاقة التخزينية لخلية واحدة.
وقد قال جين مايرز، وهو أحد أبرز خبراء سيليرا جينومكس، الشركة المنفِّذة لمشروع الجينوم البشري:( ما أذهلني حقا هو أسلوب بناء الحياة.. فنظامها معقد للغاية، وكأنه مُصمَّم.. إذ يوجد به قدر هائل من الذكاء )
وهناك جانب آخر مثير، ألا وهو أن كل أشكال الحياة على الكوكب قد نتجت عن أوصاف مُشفرة مكتوبة بنفس هذه اللغة، إذ لا يتكون بكتير، أو نبات، أو حيوان بدون جزيء (د ن أ) الخاص به.
ومن الجلي للغاية أن كل أشكال الحياة نشأت نتيجة أوصاف تستخدم نفس اللغة وتنبع من نفس مصدر المعرفة.
قال داروين: بمناسبة ذكرك لجزيء (د ن أ) كيف تفسر التشابه الكبير بين جينوم البشر وجينوم الشمبانزيات، فقد وصلت نسبة التشابه بينهما إلى 99 في المائة.. ألا ترى هذا وحده كافيا لأن يثبت لك الأصل الذي جاء منه الإنسان؟
ابتسم علي، وقال: لقد قرأت هذا كثيرا.. ففي كل أدبية من أدبيات التطور، يمكنك أن تقرأ جملا مثل ( نحن نتطابق مع الشمبانزيات بنسبة 99 في المائة ) أو (لا يوجد إلا واحد في المائة من جزيء (د ن أ) يجعلنا بشرا )
ولكني أتعجب كيف يستطيع أحد مقارنة خريطة الجينات الإنسانية مع خريطة جينات قرد الشمبانزي التي لم تسجل ولم تكتشف بعد!؟
ألا يجب من أجل إجراء مثل هذه المقارنة اكتشاف خريطة جينات الشمبانزي وتثبيتها بعد دراسات ستستغرق أيضًا سنوات عديدة؟
أما ادعاء وجود تشابه بنسبة 99% بين جينات الإنسان وجينات الشمبانزي فيستند في الحقيقة إلى شيء آخر، فقد لوحظ وجود تشابه في شكل التراص لجزيئات D.N.A. في أربعين جزيئة من جزيئات البروتين في الإنسان مع ما هو موجود لدى القرود[12].
فالإنسان يملك 100 ألف بروتين، والادعاء بأن الإنسان تطور من القرد من مجرد تشابه 40 بروتينًا فقط ادعاء غريب وغير علمي.
بالإضافة إلى ذلك، فمن الطبيعي وجود مثل هذا الشبه بين جميع المخلوقات، وليس بين الإنسان والقرد فقط، فالأحياء جميعًا تتكون من الجزيئات نفسها.
ولكن هل وجود العجلة في الدراجة وفي السيارة وفي الطائرة وفي القطار وفي الحاصدة الزراعية وفي آلات وأجهزة أخرى كثيرة يدل على أن السيارة تطورت آليًّا من الدراجة ثم تطورت إلى الطائرة أو إلى القطار.
ولكن يدل على أن هذه المكائن كلها من تصميم الإنسان، أي يرجع إلى مصمم واحد هو الإنسان. والأبنية بمختلف أشكالها وأنواعها ووظائفها ترجع إلى وحدات أساسية في الأصل هي الطوب أو الخرسانة ولا يمكن لأحد الادعاء بأن بعضها تطور عن البعض الآخر استنادًا إلى تشابه لَبِنَات البناء.
والدليل على أن هذا التشابه المحدود والضئيل ليس دليلاً على تطور الإنسان من القرد هو أن أبحاثًا كثيرة جرت على أنواع عديدة من البروتينات مثل بروتين (ريلاكسين Relaxin) وبروتين (الأنسولين Insulin)، فظهر أن الإنسان ـ لو أخذنا بمنطق تشابه جزيئات هذه البروتينات ـ قريب من الدجاج ومن الخنزير ومن السلحفاة أكثر من قربه من الأحياء الأخرى.
إذن فوجود مثل هذا الشبه لا يعني شيئًا حول القرابة بين الأحياء، ففي أحد الأبحاث ظهر أن بين الإنسان ودودة Nematod تشابهًا بنسبة 75 بالمائة [13] بالمائة.
وقد كشفت إحدى الدراسات في تشرين أول 2002، أن الدعاية التي ينشرها أنصار التطور حول هذا الموضوع زائفة تماما.. ذلك أن البشر والشمبانزيات لا يتشابهان بنسبة 99% كما يقول أنصار التطور.. إذ تبين أن التشابه الوراثي بينهما أقل من 95% فقد جاء في قصة إخبارية نقلها موقع CNN.com بعنوان (البشر والشمبانزيات أكثر اختلافا مما نعتقد)“Human, chimps more different than thought”، ورد:( وفقا لدراسة وراثية جديدة، تبين أن الاختلافات بين الشمبانزي والإنسان أكثر مما كنا نعتقد في الماضي، فلطالما اعتقد علماء الأحياء أن جينات الشمبانزيات والبشر متطابقة بنسبة 98.5 في المائة تقريبا. ولكن روي بريتن Roy Britten، عالم الأحياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ذكر في دراسة نشرت هذا الأسبوع أن هناك طريقة جديدة لمقارنة الجينات أظهرت أن التشابه الوراثي بين الإنسان والشمبانزي لا يتعدى نسبة 95 في المائة تقريبا.
وقد استند بريتن في دراسته تلك إلى برنامج كمبيوتر قارن من خلاله 780.000 زوج من بين الثلاثة بلايين زوج الأساسية base pairs الموجودة في حلزون جزيء (د ن أ) البشري بتلك الخاصة بالشمبانزي. واكتشف فروقا أكثر من تلك التي اكتشفها الباحثون السابقون، واستخلص أن 3.9 في المائة على الأقل من أزواج جزيء (د ن أ) الأساسية مختلفة.
ودعاه ذلك إلى الاستنتاج بوجود اختلاف وراثي جوهري بين النوعين يبلغ 5 في المائة )
وفي مجلة نيو ساينتست New Scientist، وهي إحدى المجلات العلمية الرائدة الداعمة بقوة للداروينية، نشرت حول هذا الموضوع مقالة بعنوان (الاختلاف بين جزيء (د ن أ) في الإنسان والشمبانزي يزداد ثلاثة أضعاف)Human-chimps DNA difference trebled”، جاء فيها:( نحن أكثر تفردا مما اعتقدنا في السابق، وذلك وفقا لمقارنات جديدة أجريت على جزيء (د ن أ) في الإنسان والشمبانزي، فلطالما كان هناك اعتقاد بأننا نشترك في 98.5 في المائة من مادتنا الوراثية مع أقرب أقربائنا. ولكن يبدو الآن أن هذا خطأ. وفي الواقع، نحن نشترك في أقل من 95 في المائة من مادتنا الوراثية مع الشمبانزي، وهو ما يعني أن التغاير بيننا وبين الشمبانزيات ازداد ثلاثة أضعاف)
قال داروين: ولكن هذه النسبة مع ذلك تظل عالية.
قال علي: ولو.. ومع ذلك فإن الفرق يظل بعيدا.. أليست هذه الجينات هي الحروف التي يتشكل على أساسها الكائن؟
قال داروين: بلى.. الجينات هي الحروف التي تتشكل منها كلمة الكائن.
قال علي: فاسمك هذا الذي تفرح به لو بدلنا منه حرفا واحدا أو حركة واحدة لتغير تماما.. فهكذا هذه الجينات بتبدل جين واحد يتغير تغيرا تاما.. كما تتغير الذرات بتغيير بروتوناتها وإلكتروناتها.
بالإضافة إلى هذا فإن جزيء (د ن أ) البشري مشابه كذلك لنظيره في الديدان، والبعوض، والدجاج.
فالبروتينات الأساسية عبارة عن جزيئات حيوية شائعة لا توجد فقط في الشمبانزيات، بل إنها توجد أيضا في كائنات حية كثيرة مختلفة كل الاختلاف عن بعضها البعض. كما أن تركيب البروتينات في كل هذه الأنواع مشابه جدا لتركيب البروتين البشري.
قال داروين: نحن نرى أن هذا التشابه يدل على الأصل الواحد.. فكيف تفسره أنت؟
قال علي: ليس من المستغرب أن يكون في الجسم البشري بعض أوجه الشبه الجزيئي بالكائنات الحية الأخرى؛ لأنها جميعا مكونة من نفس الجزيئات، وكلها تستخدم نفس المياه والهواء، وكلها تستهلك أطعمة مكونة من نفس الجزيئات. ولا ريب في أن يكون تكوينها الجيني، متشابها، ومع ذلك، لا يعد ذلك دليلا على أنها تطورت من سلف مشترك، ذلك أن هذه المادة المشتركة ليست نتاجا لتطور، بل لتصميم مشترك، أي، لكونها خُلقت وفقا لنفس الخطة.
سأضرب لك مثالا يوضح هذا.. تستخدم كل الإنشاءات في العالم مواد متشابهة (قرميد، وحديد، وإسمنت، وغيرها)، ومع ذلك، لا يعني ذلك أن تلك المباني تطورت من بعضها البعض، فقد أُنشئ كل منها بشكل منفصل باستخدام مواد بناء مشتركة، وينطبق ذات الشيء على الكائنات الحية أيضا، مع فارق عظيم بين الكائنات الحية وهذه المباني.
في اليوم الثالث.. واصل المؤتمر أعماله بمحاضرات ترتبط بالحياة كما ورد الحديث عنها في القرآن الكريم، وقد كان الحديث في تلك المحاضرات لا يختلف عن الحديث في المرات السابقة، حيث غلب الجانب البياني والتوثيقي على الجانب العلمي والعقلي، فلذلك لم يكد يفهم أصحابي من العلماء شيئا مما قيل.
ثم قدم صاحبي عالم الحياة محاضرته، وقد كانت في وصف مظاهر الحياة وجمالها ودقة صنعها.
وصاحبي هذا من خلال تعرفي عليه رجل لا علاقة له بالدين من الأساس.
وسر ذلك يرجع إلى تصوره المادي للكون من جهة، وقد وجد من النظريات المادية ما يدعم هذا الاعتقاد، ووجد في نظرية التطور ما يدعم اعتقادة بالنشأة المادية للحياة..
وهو لذلك لا يجد مبررا لوجود خالق للكون..
ولكني ـ مع ذلك ـ لاحظت عليه من خلال سماعه لعلي في اليومين السابقين بعض التأثر، فقد كان يسمع ما يدور من حوار، بل كان يتنصت بلهفة، وكأنه يريد من النور ما يقضي به على الظلمات التي تملأ جوانب نفسه.
لقد صارحني بالاكتئاب الذي يعانيه.. وصارحني أكثر بأن للصورة المادية التي يتصورها للكون تأثيرها الكبير في ذلك الاكتئاب..
فالحياة تولد.. ثم تعيش فترة قصيرة جدا.. ثم لا تلبث حتى يضمها الفناء، ليلقيها في صحراء العدم الأبدي.
كان يبكي بكل كيانه، وهو يعبر عن هذا العبث الذي امتلأت به الحياة.
***
في مساء ذلك اليوم.. التقينا مع علي ـ بعد الاتصال به عن طريق صديقه حذيفة ـ في محمية طبيعية تعج بجميع مظاهر الحياة..
كانت المحمية غاية في الجمال.. وكأنها تضاريس للأرض جميعا بصحرائها وجبالها وبحارها.. بل شملت المحمية الأزمنة المختلفة.. وعبرت عنها خير تعبير.
كان الحديث هذا المساء ـ حسبما اتفقنا ـ مع عالم الحياة الذي كان يحب أن يسمى ( داروين)، ولذلك كنا ندعوه به.. وكان يفرح لذلك.
لقد كان (داروين) صاحب نظرية التطور هو مثله الأعلى.. فلذلك كان يحفظ أقواله وأقوال أنصاره.. ولا يمل من تردادها.
لست أدري هل كان يستشعر صدقها.. أم كان يفر من التساؤلات الخطيرة التي يفرزها كذبها؟
وهو نفسه لم يكن يعلم هل كان يعتقد بتلك النظرية لكونها علما، أم لكونها فكرة وضعها بعض الناس ليفروا بها من الله.
ولذلك كله كان يتألم.. كما كان يتألم جميع أصدقائي من العلماء.
1 ـ أصل الحياة
أمام قفص ضم مجموعة من القرود وقفت مع أصحابي العلماء ننظر لتلك الحركات المدهشة التي تقوم بها القرود.
لست أدري كيف خطر على بالي أن أسأل صاحبي عالم الحياة (داروين) عن سر هذه التصرفات والحركات التي تتميز بها الحيوانات.. فكل حيوان من الحيوانات يحمل من الذكاء ما يستطيع أن يحفظ به وجوده فترة من الزمن.. بل له من الذكاء ما يحفظ به استمرار نسله من بعده.
كنت أعلم رأيه في المسألة.. ولكني لم أكن أعلم مدى ما يحمله تصوره من موضوعية علمية، فلهذا أردت أن أستوضحها منه، وفي نفس الوقت كان لي أمل أن يظهر علي.. ليذكر ما يمكن أن يرد به عليه، وعلى هذه النظرية التي يتخذها بعض الملحدين مطية لإنكار صانع الحياة.
لقد كان المسيحيون ـ ولا زالوا ـ يتفقون مع المسلمين في إنكار هذه النظرية[1] ورفضها، لأنها لا تخالف مبدأ الخلق كما نعتقده فقط، بل تخالف أيضا ما ورد في الكتاب المقدس من كون البشر الأول كان سوي الخلق، ولم يتناسل من أي نوع من الأنواع.
فقد ورد في الكتاب المقدس:( وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة )(تكوين: 7)
وورد فيه أنه فقد ضلعا خُلقت منه امرأته مباشرة:( فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما وبني الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم ) (تكوين: 21و22)
ولذا اختارت الكنيسة رفض التطور بحزم، ولكنها مع ذلك قصرت كثيرا في رفضه، مقارنة بما قابلت به العلماء الذين خالفوها في القضايا الكونية.
ولهذا نجد هذه النظرية تدرس بحرية تامة من غير أن تثار عليها أي زوبعة.
سألت (داروين): كيف تفسر هذه الحركات العجيبة التي تقوم بها القرود، ومثلها كل الكائنات الحية التي تتمتع بذكاء خاص يضمن لها البقاء؟
ابتسم داروين، وقال: أنا لست محتاجا لادعاء صانع للحياة وللغرائز التي تقتضها الحياة[2].. لأن الحل العلمي وفر لي الإجابة المنطقية التي تجيبني عن سؤالك، بل تجيبني عن تأسيس الحياة من أولها.
أنا أعلم أن هذا يخالف الدين.. ولكني وجدت العلم والعقل يخالف الدين، فآثرت العلم والعقل.. اعذرني عن هذه الصراحة الوقحة التي أبدو بها.. ولكن ذلك هو الواقع.. ولو أني وجدت في الدين من القوة ما يقنع عقلي لآثرت ما يقوله الدين على ما تقوله الحقائق التي أعتقدها..
ذلك أن الدين يجيب عن هذه الأسئلة إجابات أجمل بكثير من تلك الإجابات التي يجيب عنها العلم.
قلت: فلم لم تتبعه، وتكتفي به؟
قال داروين: وكيف أتبع ما لا أقتنع به.. إني بذلك أخون عقلي ونفسي.. بل إني بذلك أتحول إلى منافق لا إلى متدين.. فكيف يكون عقلي في واد وقلبي في واد آخر؟
قلت: فكيف تفسر الحياة؟.. وهذا التنوع في الحياة؟
قال داروين: ذلك بسيط.. سأقص عليك القصة من أولها.. وسترى أن السيناريو الذي أطرحه صالح لتفسير الحياة.. وعدم حاجتها لمصدر خارجي..
تبدأ القصة بعدما بردت الارض وتكونت بحارها وجبالها وسهولها وغلافها الجوى واستعدت لاستقبال الحياة عليها، وذلك بعد تعرضها خلال ملايين السنين للتطور من حال إلى حال[3].
وكان أول ظهور للحياة على الأرض فوق سطح الماء والمحيطات والمستنقعات وعلى شواطئ المسطحات المائية التى تكونت عندها مادة الطين، حيث اختلط الماء بالتراب.
ومن عفن الطين المنتن نشأت أبسط وأصغر أنواع الحياة التى نراها ممثلة في بعض أنواع البكتيريا وبعض الكائنات وحيدة الخلية التى لم تتميز بعد على أنها نبات أو حيوان.
ومن هذا الأصل المشترك لجميع الكائنات نبت فرعان من الخلايا المجهرية ـ أى التى لا ترى إلا بواسطة المجاهر المكبرة ـ تولد من أحدهما النبات، ومن الآخر الحيوان.
أما فرع الحلايا المكونة للنباتات، فسرعان ما استحدثت طريقة عجيبة لتركيب مادة الكلوروفيل الخضراء في هيكلها لتكسب بها الطاقة من ضوء الشمس، وتستعين بها على استخلاص الكربون من غاز ثانى أكسيد الكربون الموجود في الجو، ثم تحويله إلى مواد سكرية ونشوية، وكان هذا بدء ممارسة عملية التمثيل الضوئى لنمو النبات.
ثم إن الخلايا أخذت تحيط أجسامها الدقيقة بجدران من هذه المواد الكربونية في هيئة السليولوز، وكانت تستعمل الطاقة التى تنبعث في أجسامها نتيجه التمثيل الضوئى داخل هذه الجدران في التحرك.
ثم إن هذه الخلايا كانت كائنات متناهية في الدقة تعيش في غير جلبة أو ضوضاء، ويأتيها رزقها رغدا من الهواء وماء البحر وأملاحه.
وبعد زمن طويل مضى على هذه الخلايا، وهى تنمو وتتطور نشأت في البحار كائنات كثيرة لا عدد لها.
وكانت هذه العضويات الأولى هي الأصل في جميع أعضاء مملكة النبات التى تكاثرت وغطت الارض بأعشابها وأشجارها وغاباتها الضخمة الكثيفة.
ومثل ذلك حصل لعالم الحيوان، فقد انقسمت الخلايا الحيوانية، وكونت الحيوانات التى عاشت على النبات وغيره، وصارت أنواعا مختلفة من الأحياء على الأرض.
الغرائز والوحي الإلهي:
قلت: هذا تفسيرك للحياة.. فما تفسيرك لهذه السلوكات العجيبة التي تبديها الحيوانات.. بل حتى النباتات؟
قال داروين: إنها الغريزة.. فالغريزة هي التفسير العلمي لتلك السلوكيات.. إنها التفسير الصحيح لقابلية الحيوان للقيام بسلوك معين منذ الولادة.
قلت: فكيف اكتسبت الحيوانات هذه الغريزة؟.. وكيف كان ظهور أول سلوك غريزي لديها؟.. وكيف تم انتقال هذه الغريزة كابراً عن كابر؟
سكت داروين قليلا، وكأنه يتأمل سؤالي، ثم قال: إن شئت الحقيقة.. هناك أجوبة كثيرة عن هذا.. ولكنها تكاد تكون أسئلة هي الأخرى، لا أجوبة.. فكل سؤال منها سيستدعي منك أسئلة أخرى.. ولو بقينا هنا إلى آخر الدهر مع مثل هذه الأسئلة، فلن نخرج أبدا.
ثم أضاف: هناك اختصاصي في علم الجينات، وأحد أصحابنا من دعاة نظرية التطور، يدعى Gordon Taylor Rottary ذكر في كتابه (The great evolution Myster ) (سر التطور العظيم) اعترافاً يعجز النظرية عن الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغريزة، فقال:( لو تساءلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي، وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة)[4]
هناك آخرون من أصحابنا على شاكلة Gordon Taylor، يؤمنون بنظرية التطور، ولكنهم لا يودون الاعتراف بهذه الحقيقة، وبدلاً من ذلك يحاولون التمسك بإجابة غامضة تحتاج هي الأخرى إلى إجابة.
بالنسبة لهؤلاء، فإن الغرائز تعتبر جينات موجودة لدى الحيوانات، تظهر على شكل أنماط سلوكية، واستناداً إلى هذا التعريف يقوم نحل العسل ببناء الخلية على الشكل المنتظم المعروف بوحدات بنائية هندسية مسدسة وفق الغريزة الحيوانية، وبمعنى آخر يوجد جين خاص في أجسام كل أنواع نحل العسل يجعل هذه الأنواع تبني خلاياها غريزياً وفق الشكل المعروف.
قلت: وهل تؤمن بهذا؟
قال داروين: لقد ذكرت لك أن هذا نفسه سيحتاج إلى أسئلة جديدة، بل أسئلة كثيرة.
أولها ستقول لي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟
أنا أعلم أنه لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه.. وأنه لا بد لكل برنامج من مبرمج.
قلت: نعم.. كنت سأسألك هذه الأسئلة.. فما الإجابة التي أعددتها لها؟
قال داروين: لقد وفر أصحابنا العناء على أنفسهم.. فذكروا إجابة ربما ستستدعي منك أسئلة أخرى.
قلت: فما قالوا؟
قال داروين: هم يقولون.. أو بالأحرى نحن نقول بأن الطبيعة الأم ـ التي تتشكل من البحيرات والجبال والأشجار والظواهر المختلفة ـ لها القدرة على الخلق، إنها بديل علمي منطقي عن الخالق..
قلت: إن الطبيعة كيان متعدد الأنواع.. فأي نوع منها لديه القدرة على إكساب الحيوانات المختلفة أنماطها السلوكية المختلفة؟
قال داروين: كنت أعلم أنك ستسأل هذا السؤال.
قلت: لست أنا وحدي الذي يسأله.. بل عقلك أيضا يسأله، أنا أشعر أن عقلك يحتاج إلى إجابة منطقية على هذا السؤال.
إن الطبيعة تتألف من الحجر والتراب والأشجار والنباتات..
من من هذه العناصر تكون له القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟
أي جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك؟
هل ترى أنه يمكن للإنسان العاقل أن يقول، وهو يرى لوحة زيتية جميلة:( ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة )؟.. بلا شك فإن كلامه لن يكون منطقيا.
إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقاً للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي.
ما وصلت إلى هذا الموضع حتى قدم علي، فشعرت بالمدد ينزل علي من جهة لا أعرفها..
لقد ظهر هذه المرة بصورة عالم جليل له دوره البارز في الرد على نظرية التطور من جهة، وبيان نواحي الإعجاز القرآني من جهة أخرى.. وهو العالم التركي المسلم هارون يحي[5].
وليجذب انتباه صديقنا (داروين)، فقد لبس لباس سائح جاب الأرض، وهو يبحث فيها عن أسرار الحياة.. لعله لبس ثياب داروين نفسه.. ولكن لا ليثبت نظرية التطور، وإنما ليثبت نظرية الخلق.
لقد مر، وهو يقرأ قوله تعالى:﴿ وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُختَلِفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 68 –69)[6]
تقدم منا، وقال بكل أدب كعادته: اسمحوا لي أن أخوض معكم في هذا الموضوع.. فأنا مثلكم باحث عن الحقيقة.. وقد كنت أتنصت لما تقولون.. وبما أني أتصور أني قد وجدت الأجوبة عن كل الأسئلة المحيرة التي طرحتموها.. فأذنوا لي أن أتكلم بينكم عنها.. لتقبلوها، أو لتجعلوني أنضم إليكم في حيرتكم.
شعر الفلكي بأنه يعرف هذا الصوت.. لقد كان هو الصوت الذي اكتشف به أشياء كثيرة كانت تملؤه بالحيرة.. ومثل ذلك الجيولوجي..
قام كلاهما، وقالا: تفضل.. يسرنا أن نسمع منك.
قال علي: سأبدأ من هذه الآية التي كنت أتلوها عليكم.. إنها من القرآن الكريم، كتاب المسلمين المقدس.. نحن نستلهم منه عقائدنا، وسلوكنا، ونهتدي به في علمنا وعملنا.. إنه كتاب محيط.. وهو كلام ربنا لنا ولكم ولكل البشرية.
ابتسم داروين، وقال: أجئت لتعظنا أم لتطرح علينا الإجابة العلمية على تساؤلاتنا.
قال علي: بل جئت لأسألكم ولأجيبكم.. ولأطرح علكيم الوجهة التي أرى أنها صحيحة.
قال داروين: فاطرح رأيك بعيدا عن دينك.
قال علي: لا بأس.. ولو أني لم أكن لأهتدي إليه لولا ديني.. ومن الأمانة أن نكل الأمور إلى أهلها.
ومع ذلك.. فلن أخاطبك إلا بما تعرفه.. بما يعرفه عقلك.. وما يعرفه أصحابك.
أنتم ـ دعاة نظرية التطور، أو دعاة التفسير المادي للحياة ـ تعرفون عجز نظرية التطور عن التفسير المنطقي للحياة، ولسلوك الحياة..
لقد سمعت بعضكم.. وهو من كباركم.. يقول ـ وهو يتحدث عن سلوك دودة القز ـ لعلك تعرفه.. إنه هيرمان فون ديثفورت (Haimar Von Dithfurth ).. لقد سمعته يقول:( إن فكرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة كوسيلة للتمويه فكرة باهرة، ترى من يكون صاحب هذه الفكرة؟ من صاحب هذه الفكرة الذكية التي تقلل من احتمال عثور الطير على الفريسة التي يبحث عنها؟ ولا بد للدودة أن تكون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفكرة الذكية…كل هذه الظواهر لا بد أن تتوفر لدى إنسان ذكي للغاية يحاول أن يظل على قيد الحياة، ولا بد لنا أن نقبل بهذه الحقيقة، علماً أن لدودة القز جهازاً عصبياً بسيطاً للغاية فضلاً عن بدائية سلوكها الحياتي، وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابلية تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف )
ثم يتساءل متعجبا:( ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع عن نفسها، وهي بهذا الضعف من التكوين؟. وعندما جابه علماء الطبيعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم يجدوا لها تفسيراً إلا بالمعجزة؛ أي تبنوا فكرة وجود قوة غير طبيعية خلاقة، أي أنهم آمنوا بوجود الله الذي يعطي مخلوقاته آليات معينة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إلى هذه الطريقة في التفكير تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث في الطبيعة، ومن جانب آخر يقوم العلم الحديث بتفسير هذه الظواهر تفسيراً خالياً من أي معنى عبر التمسك بمفهوم الغريزة، لأنه على عكس ما يعتقده أغلبنا، فإن تفسير السلوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السلوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يقدم ولا يؤخر في تساؤلنا بل يعيق بحثنا عن إجابة محدودة وواضحة، ولا يمكن الحديث عن السلوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل )
ثم قال:( هناك تفسير وحيد لظاهرة رعاية الكائنات الحية غير العاقلة لصغارها بهذه الشفقة والحنان وذودها عنها، وهو انقيادها للإلهام الإلهي، ومثال على ذلك هذا الطائر الغطاس الذي يرعى صغيره بوحي إلهام إلهي.
ومرة أخرى نعود إلى الحديث حول السلوك المعين للحيوانات، فإن هناك ما يفرض نفسه أمام أعيننا وهو الترتيب العقلاني لهذه الأنماط السلوكية، ولو لم يكن هذا السلوك المعين مثل تحديد الهدف أو التحسب للمستقبل أو توقع ما يمكن أن يقدم عليه أي حيوان آخر وحساب رد الفعل اللازم إبداءه تجاهه كعلامة على وجود عقل مدبر ومفكر، فإذن ما هو تفسير هذا السلوك؟ )[7]
هذا الكلام يقوله هذا المتبني لنظرية التطور، وهو يحلل أو يحاول أن يصل إلى تحليل منطقي لسلوك دودة القز، هذا السلوك العقلاني المدروس.
أنت لا ترى في إجابته ـ كما في كل الكتب والإصدارات التي تصدرها هذه النظرية ـ إلا أسئلة بدون ردود واضحة، أو تناقضات فكرية لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود.
حتى صاحب النظرية تشارلز داروين قد اعترف بهذه الحقيقة، فذكر أن سلوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديداً واضحاً لصحة نظريته.. لقد ذكر ذلك في كتابه (أصل الأنواع) عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فيها.. اسمع ما يقول مثلا:( أغلب الغرائز تمتاز بتأثير بالغ، وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس )[8]
أما نجل تشارلز داروين المدعو فرانسيس داروين، فقد قام بتحليل وشرح رسائل أبيه في كتابه (الحياة ورسائل تشارلز داروين ) أو (The Life And Letters Of Darwin)، وذكر فيه مدى الصعوبات التي واجهها داروين في تفسيره للغرائز قائلاً في الكتاب (يعني أصل الأنواع):( وفي الباب الثالث منه يتحدث في القسم الأول عن العادات الحيوانية والغرائز والاختلاف الحاصل فيها، والسبب في إدخال هذا الموضوع في بداية الباب تشريد فكر القراء عن إمكانية رفضهم لفكرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبيعي، ويعتبر باب الغرائز من أصعب المواضيع التي احتواها كتاب (أصل الأنواع))[9]
قال داروين: لداروين ولنجل داروين أن يقولا ما يشاءان.. ولكن النظرية لا تقتصر عليهما.. نعم ربما تكون قد بدأت منهما، لكنها لم تنتهي عندهما.
بالإضافة إلى هذا، فإن لدينا الجواب على ما طرحته من تساؤلات، فنحن نعتقد أن الحيوانات تكسب أنماطاً سلوكية عن طريق التجربة، ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي، وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السلوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة.
ابتسم علي، وقال: كلامك هذا يحوي معنين.. ثانيهما يبنى على أولهما.. ففسر لي أولهما، لأبين لك وجهة نظري حوله.
قال داروين: المقدمة الأولى التي تعتمد عليها نظريتنا لتفسير الغرائز هي ما نسميه (الانتخاب الطبيعي).. إنه الحجر الأساس لنظرية التطور.
قال علي: فما تعنون بالانتخاب الطبيعي؟
قال داروين: هو يعني بكل بساطة اختيار أي تغيير مفيد وصالح للكائن الحي (قد يكون هذا التغيير هيكلياً أو سلوكياً)، ثم اختيار ذلك الكائن الحي لتوريث ذلك التغيير للأجيال اللاحقة.
قال علي: فأنت بقولك هذا تجعل الطبيعة هي المحك لتمييز المفيد من الضار، وأنها القوة المؤثرة والعاقلة في الوجود.
قال داروين: أجل.. قولي يستلزم ما ذكرته.
قال علي: ولكن، أنت ترى أنه لا يوجد في الطبيعة من يميز بين الضار والمفيد كقوة مؤثرة حيث لا يوجد بين الحيوانات أو غير الحيوانات ذاك الذي يملك قرار ذلك أو القابلية على اتخاذ هذا القرار.
لقد اعترف داروين نفسه باستحالة اكتساب السلوكيات المفيدة عن طريق الانتخاب الطبيعي إلا أنه يعود ويدافع عن وجهة نظره التي هي محض خيال واستمر في الدفاع عن رأيه على الرغم من كونه هذراً وغير منطقي حيث يقول:( في النهاية يمكن اعتبار أنّ الغرائز التي تجعل زغلول الحمام يطرد إخوانه غير الأشقاء من العش، وتجعل مملكة النحل مقسمة إلى خدم وملكة ليست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصيل حية وصغيرة لدستور عام لعالم الأحياء، وهذه التفاصيل الصغيرة تتولى مهمة التكثير والتغيير عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولكن هذا الاعتبار لا يبدو لي منطقياً ولكنه قريب إلى الأفكار التي تدور في مخيلتي )[10]
ويعترف داعية آخر لنظرية التطور.. لا شك أنك تعرفه.. إنه من تركيا.. وهو البروفيسور جمال يلدرم.. هو يعترف بأن عاطفة الأمومة لدى الأم لا يمكن تفسيرها بواسطة الانتخاب الطبيعي.. لقد سمعته يقول:( هل توجد إمكانية لتفسير عاطفة الأمومة تجاه الأبناء بواسطة نظام أعمى يفتقر إلى مشاعر روحية مثل نظام الانتخاب الطبيعي؟.. وبلا شك فشل علماء الأحياء، ومنهم مؤيدو داروين في إيراد جواب مقنع لهذا السؤال. وهنالك صفات معنوية لدى الكائنات الحية غير العاقلة وبما أنها لا تستطيع أن تكتسب هذه الصفات بإرادتها، فإذن يجب أن يكون هناك من منحها هذه الصفات، وحيث إن الطبيعة وقانون الانتخاب الطبيعي عاجزان عن إكساب الأحياء هذه الطبيعة المعنوية بسبب كونهما يفتقدان للصفات المعنوية فإنّ الحقيقة الساطعة كالشمس تتمثل بوجود كافة الأحياء تحت العناية الإلهية وتدبيره المحكم، ولهذه الأسباب المتقدمة نستطيع أن نشاهد في الطبيعة أنماطاً سلوكية لبعض الحيوانات تثير الحيرة والاستغراب وتجعلنا نتساءل: كيف تسنى لهذا الحيوان الاهتداء إلى هذا السلوك؟ وكيف يستطيع هذا الحيوان أو ذاك التفكير بهذه الطريقة؟)
هذه هي المقدمة الأولى.. وذاك ما يبين تهافتها، فما المقدمة الثانية؟
قال داروين: أنا لم أسلم لك بكل ما ذكرته في الرد على المقدمة الأولى.. ومع ذلك، فالمقدمة الثانية هي أنا نرى أن السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي يتم توارثها عبر الأجيال.
قال علي: هل حقا بقي من العلماء من يقول هذا.. إن أي عقل يعلم أن أي سلوك جديد يكتسبه الحيوان عن طريق التجربة لا يمكن توريثه لجيل لاحق بأي حال من الأحوال، لأن التجربة المكتسبة تخص ذاك الجيل وحده، ولا يمكن إدخال هذه التجربة السلوكية الجديدة المكتسبة في البناء الجيني للحيوان إطلاقاً.
يقول Gordon Rtaylor في الرد على الذين يدعون توارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة:( يدعي علماء الأحياء أن هناك إمكانية لتوارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة، ويمكن مشاهدة هذه الظاهرة في الطبيعة فمثلاً Dobzhansky يدعي أن جميع وظائف جسم الكائن الحي ما هي إلا نتاج التوارث الناتج بتأثير العناصر والعوامل المتوفرة في المحيط الخارجي، وفي هذه الحالة يكون الأمر مقبولاً بصورته النهائية بالنسبة لجميع أنواع الأنماط السلوكية، ولكن هذا غير صحيح أبداً ويعتبر أمراً محزناً أن يكون هذا رأي عالم له مكانته مثل Dobzhansky ويمكن القول: إنّ هنالك بعض الأنماط السلوكية لبعض الأحياء يتم توارثها عبر الأجيال اللاحقة ولكن لا يمكن تعميم الأمر على جميع الأنماط السلوكية )
ويضيف:( إن الحقيقة الظاهرة للعيان هي عدم وجود أي دليل علمي يمكن بواسطته إثبات توارث بعض الأنماط السلوكية بواسطة الخريطة الجينية للكائن الحي.
لأن المعروف علميا أن الجينات مسؤولة فقط عن بناء البروتينات حيث يتم بناؤها أكثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السيطرة على سلوك الكائن الحي بصورة عامة.
فمثلا يكون الحيوان نشيطاً أو بالعكس خاملاً أو أن يكون الوليد أكثر ارتباطاً بأمه، ولكن لا يوجد أي دليل يثبت توارث السلوك الخاص الذي يجعل الحيوان يبني عشه بالترتيب والتزامن والانتظام المعروف.
ولو كان الأمر كذلك، فإذن ما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية التوريث؟ لأن هناك فرضيات تثبت وجودها، ولم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال[11])
التفت إلى داروين، ثم قال: كما أفاد به Gordon Rtaylor فإن الادعاء بكون الأنماط قابلة للتوارث أمر غير مقبول علمياً، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع يقتضي وجود نوع من الأنماط السلوكية المعقدة، كالتصميم والتخطيط للمستقبل، وهذه لا يمكن توارثها عبر الأجيال.
دعنا من كل هذا.. هناك مثال آخر يفرض نفسه بشدة.. وهو المتعلق بسلوك العاملات القاصرات في مملكة النمل.
فهذه العاملات لها سلوك خاص تتميز به يتطلب منها أن تكون على دراية تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، قد ترجع الأمر إلى الوراثة.. ولكنك تصطدم بأن هذه الأنماط السلوكية لعاملات النمل لا يمكن أن تكتسب بالتوارث لسبب وحيد هو كونها قاصرات، ولا يمكن لها التكاثر لذا لا تستطيع توريث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة.
وما دام الأمر بهذه الصورة كيف تسنى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر؟
وما تزال هذه العاملات سواء أكانت نملاً أو نحلاً أو أي حيوان آخر تعمل ـ منذ أحقاب طويلة من السنين ـ بهذا السلوك الذي يعكس مدى العقلانية والقابلية والتكافل والانتظام وتوزيع الأدوار بدقة إضافة إلى روح التضحية إلا أن هذه المخلوقات لم تستطع البتة أن تورث هذه الأنماط السلوكية منذ خلقت لأول مرة.
ولا يمكننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهداً في اكتساب هذه الأنماط السلوكية لأنها تبدأ في اتباع هذا السلوك منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأكمل صورة.
ولا تصادف في أي طور من أطوار حياتها أية مرحلة للتعليم وجميع سلوكها مكتسب بالفطرة، وهذا الأمر جائز مع جميع الكائنات الحية. إذن فمن الذي علم الكائنات الحية تلك الأنماط السلوكية؟
هذا السؤال هو نفسه الذي طرحه داروين قبل أكثر من 150 سنة ولم يستطع دعاة نظرية التطور الإجابة عنه، وهناك تناقض عبر عنه داروين نفسه قائلاً:( إنه لخطأ كبير أن نتحدث عن فرضية اكتساب الأنماط السلوكية الغريزية بالتطبع وتوريثها إلى أجيال لاحقة، لأنّه كما نعلم هناك غرائز محيرة للغاية كتلك التي عند النمل أو النحل ولا يمكن البتة اكتسابها بالتطبع )
فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج، أي افترضنا أنها عملية انتخاب للصفات الصالحة ثم يتمّ توريثها بعد ذلك إلى أجيال لاحقة وبصورة متعاقبة وفي كل مرة يتم انتخاب صفات مفيدة تورث إلى جيل لاحق وهكذا، لو افترضنا ذلك لأصبحت فرضيتنا مستحيلة لسبب وحيد هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير إضافة إلى كونها عقيمة، ولهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السلوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن تفسير هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبيعي؟
ألا يتبين لك من خلال هذا.. ومن خلال اعترافات العلماء وأقوالهم.. استحالة تفسير الأنماط السلوكية المحيرة لهذه الكائنات الحية بواسطة نظرية التطور، بسبب بسيط، وهو أن هذه الأنماط السلوكية لم تكتسب عبر الانتخاب الطبيعي، ولا يمكن توريثها بالتالي إلى أجيال لاحقة.
سكت قليلا، ثم قال: والأمر الأخطر من ذلك كله هو زعمكم بأن الغرائز تتطور بتطور الأحياء، فأنتم تزعمون بأن الكائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور.
ووفقاً لهذه النظرية تكون الزواحف قد نشأت من الأسماك، والطيور من الزواحف… مع أن النوع الواحد يختلف تماماً من حيث السلوك، حيث تختلف السمكة عن الزواحف اختلافاً كلياً.
تعقيد الحياة:
قال علي: هذا أولا.. والثاني وهو أعظم خطرا من الأول.. هو تصوركم لبداية الحياة.. كيف يفسر أصحابك بداية الحياة.. أو بداية أول خلية؟
قال داروين: طبعا يفسرونها بالصدفة، أو نتيجة اجتماع ظروف معينة.
قال علي: اسمح لي قبل أن أرد على هذا أن أذكر لك بأن هذه النظرية في أصلها نشأت في غمرة الانبهار بالعلم.. لقد تصور أهل تلك الفترة.. الفترة التي تملص فيها العلم من الكنيسة.. أنه بإمكانهم أن يفسروا كل شيء بالعلم.
فلذلك ذهبوا إلى أن الكون ولد صدفة.. كما أن الحياة ولدت صدفة.. وأنها نشأت من تلقاء نفسها نتيجة ظروف طبيعية.
ولكن العلم بجيمع فروعه ـ اليوم ـ ينص بحاله ومقاله على خلاف هذه النظرية، فقد أثبتت فروع علمية كثيرة مثل علم الحفريات، والوراثة، والكيمياء الحيوية، والأحياء الجزيئية استحالة أن تكون الحياة قد نشأت بالمصادفة، أو أن تكون قد ظهرت من تلقاء نفسها نتيجة ظروف طبيعية.
هناك ـ اليوم ـ اتفاق سائد في الأوساط العلمية على أن الخلية الحية تشكل أعقد تركيب واجهته البشرية حتى الآن..
لقد كشف العلم الحديث أن التعقيد الموجود في تركيب خلية حية واحدة، وفي ترابط نظمها يفوق ذلك الموجود في أي مدينة كبرى.. ولا يمكن أن يعمل هذا التركيب المعقد إلا إذا نشأت كل أجزائه المتفرقة في وقت واحد، وفي حالة عمل على أكمل وجه، وإلا فسيكون هذا التركيب بلا جدوى، وسينهار بمرور الوقت ويختفي.
ولا يمكننا أن نتوقع ظهور أجزاء هذا التركيب بمحض المصادفة على مدى ملايين السنين كما تدعي نظرية التطور.
لقد برهنت التجارب العلمية في الواقع استحالة أن تكون أول خلية حية، أو حتى جزيء واحد من ملايين جزيئات البروتين في تلك الخلية، قد نشأت بالمصادفة، ولم يثبت ذلك من خلال التجارب والملاحظات فحسب، بل أيضا من خلال حسابات الاحتمالية الرياضية.
فيستحيل أن تكون الخلية، وهي أصغر وحدة للحياة، قد ظهرت مصادفة في الظروف البدائية غير الخاضعة لأي ضوابط في الأيام الأولى لتكوين الأرض، كما يريد أنصار التطور.
ولا تقتصر الاستحالة على هذا الفرض فحسب، ذلك أن تصنيع هذه الخلية غير ممكن حتى في أكثر معامل القرن العشرين تقدما.. فالأحماض الأمينية، التي تمثل وحدات بناء البروتينات المكوِنة للخلية الحية، تعجز عن تكوين الجزيئات العضوية organelles في الخلية مثل الفتيلات الخيطية mitochondria، أو الريبوسومات ribosomes، أو أغشية الخلايا cell membranes، أو شبكة الخلية الباطنية endoplasmic reticulum، ناهيك عن تكوين خلية كاملة.
بالإضافة إلى هذه العقد الكثيرة التي تواجه هذه النظرية، فإن هناك عقبة كؤودا تقف في وجه هذه النظرية، وهي جزيء (د ن أ) الموجود في نواة الخلية الحية، فهو عبارة عن نظام تشفير يتكون من 3.5 بليون وحدة تتضمن كل تفاصيل الحياة.
وفي أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات، تم اكتشاف جزيء (د ن أ) لأول مرة عند دراسة البلّورات بالأشعة السينية، وهو عبارة عن جزيء ضخم يتسم بقدر عال من التميز من ناحيتي التخطيط والتصميم.
فعلى سبيل المثال، بفضل (مشروع الجينوم البشري) أصبح بإمكان الجميع الآن إدراك التصميم العجيب ومحتوى المعلومات الهائل الموجود في الجينات البشرية.
وفي إطار هذا المشروع، عمل علماء من بلدان كثيرة، من الولايات المتحدة إلى الصين، لمدة 10 سنوات من أجل فك شفرة الثلاثة بلايين شفرة كيميائية الموجودة في جزيء (د ن أ) الواحدة تلو الأخرى. ونتيجة لذلك، تم ترتيب كل المعلومات الموجودة تقريبا في الجينات البشرية في وضعها الصحيح.
وبالرغم من أن هذا تطور مثير ومهم للغاية، ولكنه مع ذلك ليس سوى الخطوة الأولى في فك شفرة المعلومات الموجودة في جزيء (د ن أ).
ولفهم السبب وراء مضي 10 سنوات والاستعانة بجهود مئات العلماء للكشف عن الشفرات المكوِّنة لهذه المعلومات، يجب أن نفهم ضخامة المعلومات المحتواة في جزيء (د ن أ).
ذلك أن المعلومات المحتواة في جزيء (د ن أ) الخاص بخلية بشرية واحدة تكفي لملء موسوعة مكوَّنة من مليون صفحة، مما يجعل من المستحيل قراءتها كلها في عمر واحد.
فإذا شرع شخص ما في قراءة شفرة (د ن أ) واحدة كل ثانية، دون توقف، طوال اليوم، وكل يوم، فسيستغرق ذلك منه 100 سنة.
ذلك أن الموسوعة تضم ثلاثة بلايين شفرة مختلفة، وإذا دوَّنا كل المعلومات الموجودة في جزيء (د ن أ) على ورق، فسيمتد هذا الورق من القطب الشمالي إلى خط الاستواء، وهو ما يوازي نحو 1000 مجلد كبير – وهو أكثر مما يلزم لملء مكتبة كبيرة.
والأهم من ذلك هو أن جميع تلك المعلومات محتواة في نواة كل خلية، وبما أن كل فرد يتكون من نحو 100 تريليون خلية، فإن هناك 100 تريليون نسخة من نفس المكتبة.
وإذا أردنا أن نقارن خزانة المعلومات هذه بمستوى المعرفة الذي وصل إليه الإنسان حتى الآن، سيستحيل علينا أن نقدم أي مثال بنفس الحجم، ذلك أن الصورة التي تقدم نفسها هنا لا يمكن تصديقها: 100 تريليون × 1000 كتاب! سيفوق الناتج عدد حبات الرمل الموجودة في العالم.
وفضلا عن ذلك، إذا ضربنا هذا العدد في الستة بلايين شخص الذين يعيشون على الأرض حاليا، وبلايين الأشخاص الذين عاشوا عليها في أي وقت سابق، عندئذ سيفوق العدد قدرتنا الإدراكية، وستمتد كمية المعلومات إلى ما لا نهاية.
وتعتبر هذه الأمثلة مؤشرا على ضخامة المعلومات الملازمة لنا. فنحن نملك أجهزة كمبيوتر متقدمة تستطيع أن تخزن كميات وافرة من المعلومات. ومع ذلك، عندما نقارن جزيء (د ن أ) بأجهزة الكمبيوتر هذه، سنندهش عندما نرى أن أحدث وسائل التكنولوجيا ـ التي هي نتاج لجهد ومعرفة بشرية تراكمية على مدار القرون ـ لا تمتلك حتى الطاقة التخزينية لخلية واحدة.
وقد قال جين مايرز، وهو أحد أبرز خبراء سيليرا جينومكس، الشركة المنفِّذة لمشروع الجينوم البشري:( ما أذهلني حقا هو أسلوب بناء الحياة.. فنظامها معقد للغاية، وكأنه مُصمَّم.. إذ يوجد به قدر هائل من الذكاء )
وهناك جانب آخر مثير، ألا وهو أن كل أشكال الحياة على الكوكب قد نتجت عن أوصاف مُشفرة مكتوبة بنفس هذه اللغة، إذ لا يتكون بكتير، أو نبات، أو حيوان بدون جزيء (د ن أ) الخاص به.
ومن الجلي للغاية أن كل أشكال الحياة نشأت نتيجة أوصاف تستخدم نفس اللغة وتنبع من نفس مصدر المعرفة.
قال داروين: بمناسبة ذكرك لجزيء (د ن أ) كيف تفسر التشابه الكبير بين جينوم البشر وجينوم الشمبانزيات، فقد وصلت نسبة التشابه بينهما إلى 99 في المائة.. ألا ترى هذا وحده كافيا لأن يثبت لك الأصل الذي جاء منه الإنسان؟
ابتسم علي، وقال: لقد قرأت هذا كثيرا.. ففي كل أدبية من أدبيات التطور، يمكنك أن تقرأ جملا مثل ( نحن نتطابق مع الشمبانزيات بنسبة 99 في المائة ) أو (لا يوجد إلا واحد في المائة من جزيء (د ن أ) يجعلنا بشرا )
ولكني أتعجب كيف يستطيع أحد مقارنة خريطة الجينات الإنسانية مع خريطة جينات قرد الشمبانزي التي لم تسجل ولم تكتشف بعد!؟
ألا يجب من أجل إجراء مثل هذه المقارنة اكتشاف خريطة جينات الشمبانزي وتثبيتها بعد دراسات ستستغرق أيضًا سنوات عديدة؟
أما ادعاء وجود تشابه بنسبة 99% بين جينات الإنسان وجينات الشمبانزي فيستند في الحقيقة إلى شيء آخر، فقد لوحظ وجود تشابه في شكل التراص لجزيئات D.N.A. في أربعين جزيئة من جزيئات البروتين في الإنسان مع ما هو موجود لدى القرود[12].
فالإنسان يملك 100 ألف بروتين، والادعاء بأن الإنسان تطور من القرد من مجرد تشابه 40 بروتينًا فقط ادعاء غريب وغير علمي.
بالإضافة إلى ذلك، فمن الطبيعي وجود مثل هذا الشبه بين جميع المخلوقات، وليس بين الإنسان والقرد فقط، فالأحياء جميعًا تتكون من الجزيئات نفسها.
ولكن هل وجود العجلة في الدراجة وفي السيارة وفي الطائرة وفي القطار وفي الحاصدة الزراعية وفي آلات وأجهزة أخرى كثيرة يدل على أن السيارة تطورت آليًّا من الدراجة ثم تطورت إلى الطائرة أو إلى القطار.
ولكن يدل على أن هذه المكائن كلها من تصميم الإنسان، أي يرجع إلى مصمم واحد هو الإنسان. والأبنية بمختلف أشكالها وأنواعها ووظائفها ترجع إلى وحدات أساسية في الأصل هي الطوب أو الخرسانة ولا يمكن لأحد الادعاء بأن بعضها تطور عن البعض الآخر استنادًا إلى تشابه لَبِنَات البناء.
والدليل على أن هذا التشابه المحدود والضئيل ليس دليلاً على تطور الإنسان من القرد هو أن أبحاثًا كثيرة جرت على أنواع عديدة من البروتينات مثل بروتين (ريلاكسين Relaxin) وبروتين (الأنسولين Insulin)، فظهر أن الإنسان ـ لو أخذنا بمنطق تشابه جزيئات هذه البروتينات ـ قريب من الدجاج ومن الخنزير ومن السلحفاة أكثر من قربه من الأحياء الأخرى.
إذن فوجود مثل هذا الشبه لا يعني شيئًا حول القرابة بين الأحياء، ففي أحد الأبحاث ظهر أن بين الإنسان ودودة Nematod تشابهًا بنسبة 75 بالمائة [13] بالمائة.
وقد كشفت إحدى الدراسات في تشرين أول 2002، أن الدعاية التي ينشرها أنصار التطور حول هذا الموضوع زائفة تماما.. ذلك أن البشر والشمبانزيات لا يتشابهان بنسبة 99% كما يقول أنصار التطور.. إذ تبين أن التشابه الوراثي بينهما أقل من 95% فقد جاء في قصة إخبارية نقلها موقع CNN.com بعنوان (البشر والشمبانزيات أكثر اختلافا مما نعتقد)“Human, chimps more different than thought”، ورد:( وفقا لدراسة وراثية جديدة، تبين أن الاختلافات بين الشمبانزي والإنسان أكثر مما كنا نعتقد في الماضي، فلطالما اعتقد علماء الأحياء أن جينات الشمبانزيات والبشر متطابقة بنسبة 98.5 في المائة تقريبا. ولكن روي بريتن Roy Britten، عالم الأحياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ذكر في دراسة نشرت هذا الأسبوع أن هناك طريقة جديدة لمقارنة الجينات أظهرت أن التشابه الوراثي بين الإنسان والشمبانزي لا يتعدى نسبة 95 في المائة تقريبا.
وقد استند بريتن في دراسته تلك إلى برنامج كمبيوتر قارن من خلاله 780.000 زوج من بين الثلاثة بلايين زوج الأساسية base pairs الموجودة في حلزون جزيء (د ن أ) البشري بتلك الخاصة بالشمبانزي. واكتشف فروقا أكثر من تلك التي اكتشفها الباحثون السابقون، واستخلص أن 3.9 في المائة على الأقل من أزواج جزيء (د ن أ) الأساسية مختلفة.
ودعاه ذلك إلى الاستنتاج بوجود اختلاف وراثي جوهري بين النوعين يبلغ 5 في المائة )
وفي مجلة نيو ساينتست New Scientist، وهي إحدى المجلات العلمية الرائدة الداعمة بقوة للداروينية، نشرت حول هذا الموضوع مقالة بعنوان (الاختلاف بين جزيء (د ن أ) في الإنسان والشمبانزي يزداد ثلاثة أضعاف)Human-chimps DNA difference trebled”، جاء فيها:( نحن أكثر تفردا مما اعتقدنا في السابق، وذلك وفقا لمقارنات جديدة أجريت على جزيء (د ن أ) في الإنسان والشمبانزي، فلطالما كان هناك اعتقاد بأننا نشترك في 98.5 في المائة من مادتنا الوراثية مع أقرب أقربائنا. ولكن يبدو الآن أن هذا خطأ. وفي الواقع، نحن نشترك في أقل من 95 في المائة من مادتنا الوراثية مع الشمبانزي، وهو ما يعني أن التغاير بيننا وبين الشمبانزيات ازداد ثلاثة أضعاف)
قال داروين: ولكن هذه النسبة مع ذلك تظل عالية.
قال علي: ولو.. ومع ذلك فإن الفرق يظل بعيدا.. أليست هذه الجينات هي الحروف التي يتشكل على أساسها الكائن؟
قال داروين: بلى.. الجينات هي الحروف التي تتشكل منها كلمة الكائن.
قال علي: فاسمك هذا الذي تفرح به لو بدلنا منه حرفا واحدا أو حركة واحدة لتغير تماما.. فهكذا هذه الجينات بتبدل جين واحد يتغير تغيرا تاما.. كما تتغير الذرات بتغيير بروتوناتها وإلكتروناتها.
بالإضافة إلى هذا فإن جزيء (د ن أ) البشري مشابه كذلك لنظيره في الديدان، والبعوض، والدجاج.
فالبروتينات الأساسية عبارة عن جزيئات حيوية شائعة لا توجد فقط في الشمبانزيات، بل إنها توجد أيضا في كائنات حية كثيرة مختلفة كل الاختلاف عن بعضها البعض. كما أن تركيب البروتينات في كل هذه الأنواع مشابه جدا لتركيب البروتين البشري.
قال داروين: نحن نرى أن هذا التشابه يدل على الأصل الواحد.. فكيف تفسره أنت؟
قال علي: ليس من المستغرب أن يكون في الجسم البشري بعض أوجه الشبه الجزيئي بالكائنات الحية الأخرى؛ لأنها جميعا مكونة من نفس الجزيئات، وكلها تستخدم نفس المياه والهواء، وكلها تستهلك أطعمة مكونة من نفس الجزيئات. ولا ريب في أن يكون تكوينها الجيني، متشابها، ومع ذلك، لا يعد ذلك دليلا على أنها تطورت من سلف مشترك، ذلك أن هذه المادة المشتركة ليست نتاجا لتطور، بل لتصميم مشترك، أي، لكونها خُلقت وفقا لنفس الخطة.
سأضرب لك مثالا يوضح هذا.. تستخدم كل الإنشاءات في العالم مواد متشابهة (قرميد، وحديد، وإسمنت، وغيرها)، ومع ذلك، لا يعني ذلك أن تلك المباني تطورت من بعضها البعض، فقد أُنشئ كل منها بشكل منفصل باستخدام مواد بناء مشتركة، وينطبق ذات الشيء على الكائنات الحية أيضا، مع فارق عظيم بين الكائنات الحية وهذه المباني.
عدل سابقا من قبل Admin في 1/6/2021, 17:12 عدل 1 مرات
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin