خامسا ـ النبات
في اليوم الخامس.. كانت المحاضرات عن النباتات في القرآن الكريم، وقد غلب على محاضرات هذا اليوم ما غلب على محاضرات سائر الأيام من الاهتمام بالجانب البياني، وإغفال الجانب العلمي.
ثم قدم عالم النبات محاضرته التي ذكر فيها المبادئ العامة التي يعتمد عليها النظام الزراعي.
وهذا العالم ـ على حسب ما عرفته في الأيام السابقة ـ شخص شديد الاحتكاك بالطبيعة، شديد الحب لها، وقد كان يتألم كثيرا لكل خبر جديد يسمعه عن تأثير الإنسان في الطبيعة.
وكان أقرب الجماعة إلى التدين.. لقد كان يقول لي: أنا أشعر بأن هذه النباتات التي نتعامل معها كما نتعامل مع الجماد كائن حي له مشاعر لا تختلف كثيرا عن مشاعرنا.. وله توجه لخالقه الذي برأه لا يختلف عن توجهنا.
ولكنه ـ مع ذلك ـ كان منصرفا انصرافا كليا عن الكنيسة، وعن الكتاب المقدس، فلم يكن يشعر نحوهما بأي مشاعر إيمانية، وقد أفصح لي عن ذلك، وذكر لي من أسبابه ذلك التقزيم المفرط لله وعلاقته بكونه في الكتاب المقدس.
فالخالق الذي خلق كل شيء، وأبدع كل شيء ينحدر في الكتاب المقدس انحدارا عميقا ليصبح ربا لثلة محدودة من الناس، لا هم له إلا رضاها وتدليلها.
وقد اتخذ لذلك موقفا من سائر الأديان.. بما فيها الإسلام، ولو أنه لا يعلم عنه شيئا.
1 ـ الزراعة
في ذلك اليوم أرسل إلي علي مع صديقه حذيفة بأن نلتقي في مزرعة نموذجية للبيئة الصحراوية.
جنان الصحراء:
سرنا إليها في مساء ذلك اليوم، وقد كانت في غاية الروعة والجمال، وقد كتب على بابها قوله تعالى:﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (الرعد:4)
بقي صاحبي يتأمل الآية مستغرقا في معناها، وهو يسير، حتى كاد يسقط في بعض الأوحال..
قلت له: ما بالك ـ يا صاحبي ـ تنشغل بهذه الآية كل هذا الانشغال؟
قال: أهذه آية من القرآن.. كتاب المسلمين؟
قلت: أجل..
قال: إن الذي كتب هذه الآية خبير زراعي بارع.. لقد رسمت هذه الآية الملامح العامة لنظام زراعي شامل ومتكامل خاص بالبيئة الصحراوية، حيث العوامل القاسية.
فالبيئة الصحراوية تستدعي نظاما زراعيا يتكون من نسيج إيكولوجي له ثلاثة طبقات نباتية مختلفة، نصت عليها كلها هذه الآية، فالأول هو الزرع، وهو الطبقة العشبية، والثاني، الأعناب،أو الأشجار المثمرة بصفة عامة، والثالث النخيل، وهو الطبقة الشجرية.
وقد نصت على هذه جميعا هذه الآية..
سرنا قليلا، فرأينا لافتة أخرى.. وقد كتب عليها قوله تعالى:﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً ﴾ (الكهف:32)
فصاح صاحبي، وهو يقرؤها، ووقف، ولم يتحرك، وقال: أهذا النص أيضا من القرآن؟
قلت: أجل..
قال: هذا النص لا يكتبه إلا خبير زراعي بارع.. ومثل هذه الأبحاث بهذه الدقة لا تعرف إلا بالتجارب الطويلة.
قال لي: هل نستطيع أن نتعرف على صاحب هذه المزرعة؟
ما قال ذلك حتى قدم علي، وهو يقول: ما الذي تريد منه؟
قال عالم النبات: أريد أن أسأل عن سر وضعه لهذه الآية هنا، وعن سر هذه الآية.. فإني أرى لها شأنا.
قال علي: أنا مفوض عنه.. فهلم نجلس تحت ظل تلك النخلة، ولنتحدث بما يحلو لك ولأصحابك الحديث عنه.
قال عالم النبات: ما السر في وضعكم لهاتين الآيتين في مدخل هذه المزرعة؟.. وهل تدركون ما فيهما من العلم؟
قال علي: لقد أسسنا هذه المزرعة النموذجية الخاصة بالبيئة الجافة انطلاقا من هاتين الآيتين[1].. نحن نعلم أن القرآن كلام الله.. وكلام الله يمتلئ بالنصح لعباد الله.. فهو لذلك ينصحنا ـ نحن أصحاب المناطق الجافة ـ بهذا الأسلوب من أساليب الزراعة.
طبعا بالنسبة لكم قد لا تحتاجون لهذا الأسلوب.. ولكن أرضنا القاسية تستدعي إجراءات خاصة.
لقد رأى صاحب هذه المزرعة، وهو مهندس زراعي متخصص في الزراعة الصحراوية، ما تحتاجه بلاده من أنظمة خاصة للزراعة تتناسب مع البيئة الجافة التي تتواجد فيها.. فوجه اهتمامه لهذه البيئة.
وبما أنه كان ملتزما بالقرآن معظما له، فقد كان يشعر أن هذا النظام يتواجد بالقرآن الكريم.. وكان يقرؤه، ويتعرف على الله من خلال قراءته، ولكنه يشعر في نفس الوقت أن حروفه تختزن معلومات كثيرة ترتبط بما يبحث عنه من علم.
وذات يوم صلى ركعتين خاشعتين لله، وطلب منه أن يريه ما ينفع به قومه في هذا الباب، ولما انتهى من صلاته، وفتح المصحف وقعت عينه على الآية الأولى، فعلم أركان النظام الزراعي، ولم يعلم كيفية تنفيذه، فسأل الله أن يريه ذلك، فسمع قارئا يقرأ الآية الثانية، فعرف من خلالها هذا النظام.. فراح ينفذه.. وهذه المزرعة التي تراها نتيجة لتلك الآيتين.
قال عالم النبات: وهل اكتفى بما أصابه من نجاح؟
قال علي: لا.. هو لم يرد النجاح لنفسه، بل طلب النجاح لجميع المسلمين.. بل لجميع أهل الأرض ممن يعيشون في البيئة القاسية التي يعيشها..
لقد ضحى بالكثير من أجل أن يصيب هذا النجاح.. وقد وفقه الله فوصل إلى خير كثير..
قال عالم النبات: فهلا شرحت لي ما يعتمد عليه هذا النظام؟
قال علي: هذا النظام أولا سماه مكتشفه (جنان الصحراء) تفاؤلا بقوله تعالى:﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (الرعد:4)
وهذا النظام يتكون أساسا من جنتين من أعناب، وهي الطبقة الجنبية يحيط بها النخيل، وهي الطبقة الشجرية، وبين هاتين الجنتين يوجد الزرع، وهو الطبقة العشبية.
وقد بينت الآية الكريمة النتيجة الحتمية لهذا الترابط بين الطبقات النباتية الثلاثة، وهي الرفع من مستوى الإنتاج ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾(الكهف: من الآية33) ) أي أنه لا يوجد خسائر في الانتاج نتيجة توفير كل العوامل الملائمة لإنتاج جيد كمّا وكيفا.
قال عالم النبات: فهل تحقق هذا في المزرعة النموذجية التي أسسها صاحبك هذا؟
قال علي: أجل.. فهذا النظام الزراعي بتركيبته النباتية أعطانا فوائد وتأثيرات إيجابية كثيرة على مستوى المناخ والتربة.. بل ساهم مساهمة فعالة في رفع مستوى الإنتاج من ناحية وتحقيق التوازن الأيكولوجي لجميع الكائنات المتواجدة بهذه المنطقة من ناحية أخرى.
قال عالم النبات: فلنتكلم نقطة نقطة.. ما الفوائد المناخية التي أفادها هذا النظام الزراعي الذي استمددتموه من القرآن؟
قال علي: كثيرة هي الفوائد المناخية التي يمكن أن نجنيها من هذا النظام:
منها التخفيف من حدة الرياح، فالرياح تمثل أخطر العوامل التي تهدد الإنتاج النباتي بالمناطق الجافة، خاصة بالنسبة للطبقة العشبية (الزرع).
ففي هذا النظام يلعب النخيل دور جدار أولي من مصدات الرياح لحماية الأشجار المثمرة، إذ أنه يؤثر على ارتفاع هام في حين أن نفاذية منطقة الجذع تعتبر هامة جدا، فتأتي الطبقة الجنبية التي هي الأشجار لتكوّن جدارا ثانيا من مصدات الرياح ذات نفاذية منخفضة وارتفاع منخفض، وبالتالي فإن نسبة الرياح الواصلة إلى الطبقة العشبية التي هي الزرع غير معتبرة، وفاعليتها جد ضعيفة، علما وأن هذه الطبقة هي أكثر الطبقات حساسية ضد الرياح.
ومنها التخفيض من حدة جفاف الهواء، فهذا النظام بتركيبته هذه وطبقاته النباتية يوفر جوًا أكثر رطوبة.
ومنها التخفيض من درجة الحرارة، والفارق الحراري بين الليل والنهار.
ومنها التخفيض من نسبة التبخر، وبالتالي توفير اقتصاد أكثر في نسبة مياه الرّي.
قال عالم النبات: هذه فوائد معتبرة.. فما فوائد هذا النظام على التربة؟
قال علي: كثيرة هي فوائده على التربة..
منها تعديل درجات حرارة التربة.. وهذا يؤدي إلى تحسين حركة الكائنات المجهرية داخل التربة، وبالتالي تحسين نسبة تحلل المواد العضوية.
ومنها أن هذه الطبقات النباتية لها ثلاث مستويات للامتصاص، وبالتالي هناك نوع من توازن المواد الكيميائية في هذه المستويات المختلفة من التربة.
قال عالم النبات: فما الفوائد الاقتصادية والاجتماعية؟
قال علي: كثيرة.. منها تنويع الإنتاج بالمناطق الصحراوية، وهو يؤدي إلى الاكتفاء الذاتي الغذائي للسكان، وبالتالي توفير مصاريف النقل من أماكن بعيدة.
ومنها توزيع المحاصيل بالمزرعة، مما يساهم في تخفيف الخسائر في حالة الكوارث الطبيعية والتقلبات المناخية والاقتصادية.
ومنها الاستعمال الأمثل للأرض واليد العاملة طيلة أيام السنة.
ومنها أن تناسق هذه الطبقات النباتية الثلاث يعطي منظرا طبيعيا رائعا وظروف عيش أكثر رفاهية وجمالا.
النظام الزراعي:
قال عالم النبات: أرى أن قرآنكم يهتم بالزراعة.
قال علي: وكيف لا يهتم بها.. أليست من خلق الله.. القرآن الكريم كلام الله.. وكلام الله يتحدث مع جميع خلق الله، وعن جميع خلق الله.
إن في القرآن الكريم نظاما متكاملا للزراعة[2].. لو أذنت لي، وأذن لي أصحابك لحدثتك عنه.
أشار الجميع بالإذن.. فبدأ علي يتحدث بكل طلاقة.
قال: أول مبدأ ينطلق منه القرآن الكريم في هذا النظام، هو أن الله هو الزارع الحقيقي، وما على الإنسان في عملية الزرع إلا أن يتعاطى كل الأسباب بجده وجهده وعقله لإنجاح هذه العملية، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لقد نصت آيات كثيرة على ذلك، فالله تعالى يقول:﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ (يّـس:32-35)
ففي هذه الآيات يخبر الله تعالى أنه هو الذي يحي الأرض وهو الذي يخرج الحب ويجعل الجنات ويفجّر الأنهار.. فهو المزارع الحقيقي على الإطلاق، وما الإنسان إلا مجرد وسيلة.. فالله هو المالك الحقيقي، وفي الآن نفسه أكد على حقيقة أخرى وهي دور الإنسان وأهمية جده واجتهاده فقال ﴿ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾
ويقول في آية أخرى:﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)﴾(الواقعة)
ويقول في آية أخرى:﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ (النمل:60)
قال عالم النبات: إن هذه حقيقة عظيمة تقوم عليها فلسفة النظام الزراعي.. فنحن نقر بأن هذا النظام يرتبط إلى حد كبير بالقدرة الإلهية..
فالإنبات من أهم العمليات الحيوية التي تتم على سطح الكرة الأرضية وهي من دلائل القدرة الإلهية في الكون، ولولا الإنبات ما كان في الدنيا نبات، ولولا النبات ما كان على الأرض حياة.
بالإضافة إلى ذلك فهو نظام مرتبط بالمشيئة الإلهية، فهو نظام مرتبط بالكوارث المناخية والظواهر الطبيعية.. وبأشياء كثيرة ليس في قدرتنا الإحاطة بها.
قال علي: لقد أخبر القرآن الكريم عن هذا.. فذكر بعض الكوارث التي اجتاحت بعض الزروع التي أشرك أصحابها، وتصوروا أن أمرها لهم، فقال تعالى:﴿ نَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)﴾(القلم)
وفي قصة صاحب الجنتين ذكر الله تعالى يعض الكوارث التي يمكن أن تصيب الزراعة، فقال:﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)﴾(الكهف)
وقد أخبر الله تعالى عم احصل لتلك الجنة، فقال:﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)﴾(الكهف)
قال عالم النبات: إن القرآن بهذا يربي في نفوس الفلاحين معاني إيمانية عميقة تقيهم الأثر الخطير لما يحصل لأرضهم من جوائح.. والتي قد تجعل الكثير من الفلاحين يرغبون عن الفلاحة خوفا من تلك الجوائح.
قال علي: ولهذا كان المبدأ الزراعي الثاني الذي وردت به الكثير من النصوص هو التشجيع على الزراعة.
وأول ذلك إخبار القرآن الكريم بأن حب الزراعة والنباتات فطرة فطر عليها الإنسان، قال تعالى:﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ (آل عمران:14)
وقد أخبر r عن الأجر العظيم الذي يناله من زرع زرعا أو غرس غرسا، فقال:( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة )[3]
بل أمر بالاهتمام بالغرس، ولو في أحرج الساعات، فقال:( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها )[4]
وقد روى أن رجلاً مر بأبي الدرداء وهو من أصحاب محمد r، يغرس جوزة فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير، وهي لا تثمر إلا في كذا وكذا عاما، فقال أبو الدرداء: ما علي أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيري؟
وكان عمر الخليفة يساعد الرعية في غرس الأشجار , قال عمر بن الخطاب لخزيمة ابن ثابت: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال: أنا شيخ كبير أموت غدا, فقال عمر: أعزم عليك لتغرسنها, وقام عمر وغرس الأرض مع صاحبها.
بعد هذا شرع الإسلام ما يحمي النباتات من الهلاك بالحيوان والإنسان والإفساد في الأرض، ولذلك نص الفقهاء على أن صاحب الحيوان ضامن إذا خرجت حيواناته ليلاً وأهلكت زرع أحد، لأن عليه حماية حيواناته من الخروج ليلاً , كما جعل صاحب الزرع مسئولاً عن زرعه نهاراً، فعليه حراسته, وإذا اعتدت عليه الحيوانات فهو الضامن لنباته, وفي هذه حماية للنبات المزروع من الهلاك والرعي الجائر والتخريب بالليل والنهار.
وفي الحروب نهى الإسلام نهيا شديدا من إحراق النباتات وإتلافها، وقد أوصى أبو بكر قائد جيش الشام بقوله:( لا تقتل صبياً , ولا امرأة , ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاه ولا بعيراً إلا لمأكله، ولا تغرقن نخلا ولا تحرقه )
بل روي في الحديث أن من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار[5], وفي هذا حماية لأشجار البر من القطع الظالم وحماية لأشجار الغابات من القطع الجائر.
قال علي: والركن الثالث الذي يعتمد عليه النظام الزراعي ـ كما ورد في النصوص ـ هو الماء، فلا بد من توفير الماء لضمان المحصول الزراعي، فلهذا يرتبط ذكر الماء في القرآن الكريم بالحياة وبالإحياء.. فالماء هو الركيزة الأساسية لأي نظام زراعي، قال تعالى:﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً(16)﴾(النبأ)
وقال تعالى:﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ (النمل:60)
وقال تعالى:﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ (لقمان: من الآية10)
وقال تعالى:﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴾ (قّ:9)
قال عالم النبات: لقد ربطت هذه الآيات بين الماء والإنبات، فالماء شرط ضروري وأساسي للإنبات، وقد تظل البذور أو الحبة في التربة سنوات عدة لا تنبت ولا تتحرك إلى أن ينزل عليها الماء، فتبدأ العملية العجيبة المعجزة، عملية الإنبات.
وسألخص لكم باختصار كيف يحدث ذلك [6]..
إذا سقط الماء على البذرة أو الحبة تشربت الماء بفعل قوى التشرب والقوى الأسموزية ذات القوانين الرياضية الدقيقة والمعقدة.
وهذه القوى موجودة في غلاف الحبة، أو قصرة البذرة، فإذا كان الغلاف غير منفذ للماء لا يصل الماء إلى الجنين داخل الحبة أوالبذرة، فتفشل عملية الإنبات.
وبعض البذور فعلاً ذات قصرة (غلاف البذرة ) صلبة غير منفذة للماء تماماً مثل بذور نبات الخروع، ولكن هذه البذور زودت بثقب في مقدمة البذرة، وهو محاط بتركيب اسفنجي يتشرب الماء بسرعة يسمى البسباسة، فينفذ الماء من هذا الثقب ويصل الجنين.
فإذا دخل الماء إلى البذرة أو الحبة ازداد حجمها بفعل قوى التشرب، فيتمزق الغلاف، وفي نفس الوقت تحدث عمليات كيميائية كبيرة حيث يبدأ الجنين في فرز فيض ثجاج من الأنزيمات المحللة للمواد الغذائية المدخرة في البذور والحبوب فتحولها من مواد معقدة التركيب كبيرة الحجم لا تنفذ إلى خلايا الجنين ولا يستطيع استغلالها إلى مواد بسيطة التركيب صغيرة الجزيئات تنفذ خلال أغشية وجدر الخلايا حيث يستغلها الجنين ويتغذى عليها.
ومن العجب أن نوع الأنزيمات يتوافق مع نوع الغذاء المدخر، وهذه الأنزيمات تحلل بعض المواد شديدة الصلابة كتلك الموجودة في ثمار نبات الدوم والتي يصنع منا أزرار الملابس الصلبة، تحولها إلى مواد رخوة لينة في قوام اللبن، حلوة الطعم سهلة الهضم والامتصاص.
والعمليات السابقة جميعا تتم في درجة حرارة من (25ـ 35س ) وإذا أردنا أن نجري نفس العمليات في المختبر، فإننا نحتاج إلى حمامات من الماء المغلي، وإلى إضافة أحماض حارقة وكاوية ومحللة، ونحتاج إلى مبردات ومكثفات وأجهزة قياس دقيقة للحرارة، ومهندسين وعلميين وفنيين تزيد أعدادهم على المئات، ونحتاج إلى مصانع ذات ضجيج عال وأبخرة سامة متصاعدة.
بينما تتم هذه العمليات في النبات في هدوء عجيب، وسكون تام داخل البذور في حقل الزراعة البسيطة الذي لا يعرف معادلات ولا مختبرات ولا أبحاث.
قال علي: والركن الرابع الذي يقوم عليه النظام الزراعي الذي يمكن فهمه من القرآن الكريم هو إرشاده أو أمره بتنويع المحاصيل النباتية.. ففي الآيات الكثيرة نجد القرآن الكريم يذكر المحاصيل الكثيرة، وكأنه يرشد إلى استنباتها جميعا:
فالله تعالى يقول:﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ َإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ (المؤمنون18، 22)
ويقول:﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (النحل).
فقد أشارت هذه الآيات إلى تنوع المحاصيل والمنتجات النباتية، ومن الأصناف التي ركزت عليها هذه الآيات: الزرع والزيتون والنخيل والأعناب.
وهذه الأنواع تمثل مختلف الطبقات النباتية: العشبية، والجنبية والشجرية.. وتواجد هذه الطبقات في النظام الزراعي يمكن من التوازن الايكولوجي في هذا النظام البيئي.
وفي التركيز على هذا التنوع داخل النظام الزراعي، تعريض غير مباشر إلى مساوئ الزراعات الوحيدة، والتي أظهرت التجارب الزراعية الحديثة البعض منها مثل افتقار التربة، وكثرة الأمراض والآفات النباتية والحشرات واكتسابها المناعة ضد المبيدات.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله تعالى:﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾(الحجر)
ففي كلمتي (موزون، وقدر معلوم) دلالة واضحة على أن النظام الزراعي الصالح نظام متوازن ومتكامل يقوم على التوسط والاعتدال في كل مراحل الإنتاج ابتداء من الحرث والسقي إلى المداواة والتسميد والجني.. فالتوازن هو الركيزة الأساسية لضمان النجاح والاستمرارية لكل نشاط زراعي.
ونحن نرى الآن الاهتمام المتزايد بهذا النوع من الزراعة، وهو ما يعبر عنه بالزراعة المستديمة أو الزراعة البيولوجية، كما ارتفعت هذه الأيام أصوات حماة البيئة للحد من التلوث والاستغلال المفرط لثروات الأرض.
ونلاحظ أيضا أن القرآن ركز على عدة أنواع من المحاصيل كان يعرفها العرب مثل الرمان، والزرع، والعنب، والزيتون والنخيل وهي أصناف مقاومة للظروف المناخية الصعبة وتتلاءم مع مختلف أصناف التربة.
بل نلاحظ أن القرآن الكريم لم يكتف بذكر التنوع النباتي، بل ضم إليه ذكر الأنعام من الحيوانات، وفي ذلك إشارة إلى التكامل بين الإنتاج النباتي والحيواني.
بل إن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم نموذجا لمزرعة متكاملة، فقال:﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)﴾(النحل)
ففي هذه الآيات الكريمة نجد نموذجا لمزرعة تتوفر على كل الاحتياجات الغذائية والدوائية من الأنعام التي ينتفع بلحومها وألبانها، والمزروعات التي ينتفع بثمراتها، وما ينتج منها، وخلايا النحل التي ينتفع بعسلها.
كما أشارت هذه الآيات إلى نشاط تكميلي للنشاط الزراعي، وهو الصناعة الغذائية التحويلية مثل عملية التخمر لانتاج الخل والخبز، وتخمر الحليب لانتاج الجبن، واشتقاق العديد من المنتوجات الجديدة انطلاقا من هذه الثمرات كاستخراج الزيت من الزيتون والدبس من التمور، وعصير الغلال والمشروبات، والمربيات وتصبير الزيتون واستخراج الدقيق من القمح.
وفي هذه الصناعات دورة اقتصادية هامة وربح اقتصادي عظيم عبر عنه القرآن الكريم بالرزق الحسن.
قال عالم النبات: لكأن القرآن بهذه الإشارات المهمة التي ذكرتها يقوم بدور المرشد الفلاحي.
قال علي: وما له لا يقوم بذلك.. الفلاحة ركن أساسي لا تقوم الحياة إلا بها.. والقرآن جاء لحياة الروح والجسد.. ومن رحمة الله أن ضمن كلامه ما يخدم الروح والجسد.
ومما يدخل في هذا الباب ما ذكره القرآن من أنظمة تشريعية تختص بعالم النبات، ومن ذلك ما تضمنه قوله تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ (الأنعام:141)
فقد تضمنت هذه الآية الكريمة بعض الأحكام التي تتماشى مع هذا النظام الزراعي والتي من شأنها أن تحفظه من الهلاك، وتضمن نجاحه وديموميته وفاعليته.
فقد أمر الله عباده في هذه الآية بثلاثة أوامر تشريعية:
الأول: الأمر بالأكل، وقد جاء بهذه الصيغة ﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ﴾ أي أن الأكل لا يكون إلا عند تمام النضج والإثمار، وقد أثبت العلم أن القيمة الغذائية للثمرة لا تكون متوازنة إلا عند اكتمال النضج، فهناك من التفاعلات الكيميائية والإفرازات والتحولات الأنزيمية ما لا يتم إلا بتمام النضج.. ومنها زيادة نسبة السكريات عند تمام النضج.
كما أن في هذا التشريع صيانة للمحصول من الغش والاحتكار من طرف التجار، لأن الثمار في أول وقتها يكون ثمنها أغلى.
والثاني: ما ورد في قوله تعالى:﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾، وحقه يعني زكاته كي يبارك الله لنا في هذه النعم ويحفظها من الزوال وتزيد وتنمو.
وفي قوله ﴿ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ دقة تعبيرية بالغة لأن الثمار سريعا ما تتلف، خاصة التي تحتوي على نسبة عالية من الماءن بالإضافة إلى أن هناك العديد من العمليات والتفاعلات البيوكيميائية التي تحدث في الثمرة، والتي من شأنها أن تنقص من قيمتها الغذائية أو تقود إلى اتلافها بالعديد من الحشرات أو الفطريات.
ولهذا ـ كي تكون زكاة طيبة ـ أمرنا أن نسرع بإخراجها قبل إتلافها، وفي هذا الإسراع ـ أيضا ـ إشارة إلى توفير تكاليف الخزن، ففي أيامنا هذه صار هذا النشاط ذا أهميّة اقتصادية كبرى، كتقنيات التبريد والتكييف والتعبئة واللف وغيرها. وهناك عدة عوامل تتحكم في عملية الخزن: كالحرارة والرطوبة والتهوئة وصارت هذه التقنيات علما قائما بذاته.
والأمر الثالث، هو قوله تعالى:﴿ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾، والنهي عن الإسراف هنا عام.. وفي ذلك إشارة إلى المخاطر الكثيرة التي ترتبط بالإسراف في الجانب الزراعي، بالإضافة إلى مخاطر الإسراف في الأكل.
ومن مظاهر الإسراف في الجانب الزراعي أن الإسراف في الأسمدة واستعمالها، يؤدي إلى حدوث اضطرابات فسيولوجية للنبتة، ويتسبب في تلوث البيئة والمياه مثل مادة النيترات التي أصبحت تـهدد المياه الباطنية والسطحية.
ومنها أن الإسراف في استعمال الأدوية والمبيدات يتسبب في تلوث التربة والمياه والهواء بهذه السموم القاتلة، كما أن الثمار تصير مسمومة بهذه المواد مما يؤدي إلى ظهور العديد من العوارض والأمراض نتيجة هذا الاستعمال المفرط للمبيدات.
كما إن الإسراف في استعمال هذه المواد أدى إلى نقص المناعة الذاتية للنبات واكتساب الحشرات الضارة مناعة قوية ضد بعض المبيدات مما يستوجب استعمال مبيد آخر أكثر سمية وأغلى ثـمنا، ومن ثم الدخول في حلقة مفرغة تنهك المزارع من حيث المجهود والإنفاق:
كما أن الاستعمال المفرط للمبيدات يؤدي إلى إبادة كلية للحشرة الضارة، وبالتالي إلى إبادة الحشرة المفترسة، فيختل التوازن البيئي بين هذه الكائنات.
لذا فإن الاستراتيجية العلمية الحديثة لمكافحة الحشرات تعتمد على الحد من المداوات الكيميائية وتعويضها بالمكافحة المندمجة حيث تلعب المكافحة البيولوجية دوراً هاماً.
وفي هذا المجال ظهرت مدارس بأكملها متخصصة فيما يسمى بالزراعة البيولوجية للحصول على منتوج طبيعي غير ملوث بالمبيدات والأسمدة.
ومنها الإسراف في السقي، حيث يؤدي إلى تعفن الجذور والتربة وتأخر موعد النضج وانتشار الأوبئة والحشرات الضارة.
ومنها الإسراف في استعمال الآلات الميكانيكية والآليات الثقيلة، لأن ذلك يسبب ضغط التربة خاصة عندما تكون مبللة، ولهذا فإن كثرة الحرث والإسراف فيه يؤثر على قوام التربة ويعرضها لكثر الانجراف ويكوّن طبقة من التربة غير نافذة للماء تؤثر سلبا على نمو النبات.
ومنها الإسراف في الاهتمام بكمية الإنتاج على حساب نوعية المنتوج، فالمحاصيل المعدّلة جينياً قد تسبب كوارث بيئية وصحية، فقد ثبت في علم الجينات أن تطوير الجين المسؤول على كمية الانتاج يؤثر سلبا على جينات المقاومة للحشرات أو نقص المياه أو الملوحة.
ففي هذه الدعوة من الله تعالى لعدم الإسراف رؤية جديدة لزراعة متطورة ومتوازنة في نفس الوقت.
في اليوم الخامس.. كانت المحاضرات عن النباتات في القرآن الكريم، وقد غلب على محاضرات هذا اليوم ما غلب على محاضرات سائر الأيام من الاهتمام بالجانب البياني، وإغفال الجانب العلمي.
ثم قدم عالم النبات محاضرته التي ذكر فيها المبادئ العامة التي يعتمد عليها النظام الزراعي.
وهذا العالم ـ على حسب ما عرفته في الأيام السابقة ـ شخص شديد الاحتكاك بالطبيعة، شديد الحب لها، وقد كان يتألم كثيرا لكل خبر جديد يسمعه عن تأثير الإنسان في الطبيعة.
وكان أقرب الجماعة إلى التدين.. لقد كان يقول لي: أنا أشعر بأن هذه النباتات التي نتعامل معها كما نتعامل مع الجماد كائن حي له مشاعر لا تختلف كثيرا عن مشاعرنا.. وله توجه لخالقه الذي برأه لا يختلف عن توجهنا.
ولكنه ـ مع ذلك ـ كان منصرفا انصرافا كليا عن الكنيسة، وعن الكتاب المقدس، فلم يكن يشعر نحوهما بأي مشاعر إيمانية، وقد أفصح لي عن ذلك، وذكر لي من أسبابه ذلك التقزيم المفرط لله وعلاقته بكونه في الكتاب المقدس.
فالخالق الذي خلق كل شيء، وأبدع كل شيء ينحدر في الكتاب المقدس انحدارا عميقا ليصبح ربا لثلة محدودة من الناس، لا هم له إلا رضاها وتدليلها.
وقد اتخذ لذلك موقفا من سائر الأديان.. بما فيها الإسلام، ولو أنه لا يعلم عنه شيئا.
1 ـ الزراعة
في ذلك اليوم أرسل إلي علي مع صديقه حذيفة بأن نلتقي في مزرعة نموذجية للبيئة الصحراوية.
جنان الصحراء:
سرنا إليها في مساء ذلك اليوم، وقد كانت في غاية الروعة والجمال، وقد كتب على بابها قوله تعالى:﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (الرعد:4)
بقي صاحبي يتأمل الآية مستغرقا في معناها، وهو يسير، حتى كاد يسقط في بعض الأوحال..
قلت له: ما بالك ـ يا صاحبي ـ تنشغل بهذه الآية كل هذا الانشغال؟
قال: أهذه آية من القرآن.. كتاب المسلمين؟
قلت: أجل..
قال: إن الذي كتب هذه الآية خبير زراعي بارع.. لقد رسمت هذه الآية الملامح العامة لنظام زراعي شامل ومتكامل خاص بالبيئة الصحراوية، حيث العوامل القاسية.
فالبيئة الصحراوية تستدعي نظاما زراعيا يتكون من نسيج إيكولوجي له ثلاثة طبقات نباتية مختلفة، نصت عليها كلها هذه الآية، فالأول هو الزرع، وهو الطبقة العشبية، والثاني، الأعناب،أو الأشجار المثمرة بصفة عامة، والثالث النخيل، وهو الطبقة الشجرية.
وقد نصت على هذه جميعا هذه الآية..
سرنا قليلا، فرأينا لافتة أخرى.. وقد كتب عليها قوله تعالى:﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً ﴾ (الكهف:32)
فصاح صاحبي، وهو يقرؤها، ووقف، ولم يتحرك، وقال: أهذا النص أيضا من القرآن؟
قلت: أجل..
قال: هذا النص لا يكتبه إلا خبير زراعي بارع.. ومثل هذه الأبحاث بهذه الدقة لا تعرف إلا بالتجارب الطويلة.
قال لي: هل نستطيع أن نتعرف على صاحب هذه المزرعة؟
ما قال ذلك حتى قدم علي، وهو يقول: ما الذي تريد منه؟
قال عالم النبات: أريد أن أسأل عن سر وضعه لهذه الآية هنا، وعن سر هذه الآية.. فإني أرى لها شأنا.
قال علي: أنا مفوض عنه.. فهلم نجلس تحت ظل تلك النخلة، ولنتحدث بما يحلو لك ولأصحابك الحديث عنه.
قال عالم النبات: ما السر في وضعكم لهاتين الآيتين في مدخل هذه المزرعة؟.. وهل تدركون ما فيهما من العلم؟
قال علي: لقد أسسنا هذه المزرعة النموذجية الخاصة بالبيئة الجافة انطلاقا من هاتين الآيتين[1].. نحن نعلم أن القرآن كلام الله.. وكلام الله يمتلئ بالنصح لعباد الله.. فهو لذلك ينصحنا ـ نحن أصحاب المناطق الجافة ـ بهذا الأسلوب من أساليب الزراعة.
طبعا بالنسبة لكم قد لا تحتاجون لهذا الأسلوب.. ولكن أرضنا القاسية تستدعي إجراءات خاصة.
لقد رأى صاحب هذه المزرعة، وهو مهندس زراعي متخصص في الزراعة الصحراوية، ما تحتاجه بلاده من أنظمة خاصة للزراعة تتناسب مع البيئة الجافة التي تتواجد فيها.. فوجه اهتمامه لهذه البيئة.
وبما أنه كان ملتزما بالقرآن معظما له، فقد كان يشعر أن هذا النظام يتواجد بالقرآن الكريم.. وكان يقرؤه، ويتعرف على الله من خلال قراءته، ولكنه يشعر في نفس الوقت أن حروفه تختزن معلومات كثيرة ترتبط بما يبحث عنه من علم.
وذات يوم صلى ركعتين خاشعتين لله، وطلب منه أن يريه ما ينفع به قومه في هذا الباب، ولما انتهى من صلاته، وفتح المصحف وقعت عينه على الآية الأولى، فعلم أركان النظام الزراعي، ولم يعلم كيفية تنفيذه، فسأل الله أن يريه ذلك، فسمع قارئا يقرأ الآية الثانية، فعرف من خلالها هذا النظام.. فراح ينفذه.. وهذه المزرعة التي تراها نتيجة لتلك الآيتين.
قال عالم النبات: وهل اكتفى بما أصابه من نجاح؟
قال علي: لا.. هو لم يرد النجاح لنفسه، بل طلب النجاح لجميع المسلمين.. بل لجميع أهل الأرض ممن يعيشون في البيئة القاسية التي يعيشها..
لقد ضحى بالكثير من أجل أن يصيب هذا النجاح.. وقد وفقه الله فوصل إلى خير كثير..
قال عالم النبات: فهلا شرحت لي ما يعتمد عليه هذا النظام؟
قال علي: هذا النظام أولا سماه مكتشفه (جنان الصحراء) تفاؤلا بقوله تعالى:﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (الرعد:4)
وهذا النظام يتكون أساسا من جنتين من أعناب، وهي الطبقة الجنبية يحيط بها النخيل، وهي الطبقة الشجرية، وبين هاتين الجنتين يوجد الزرع، وهو الطبقة العشبية.
وقد بينت الآية الكريمة النتيجة الحتمية لهذا الترابط بين الطبقات النباتية الثلاثة، وهي الرفع من مستوى الإنتاج ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾(الكهف: من الآية33) ) أي أنه لا يوجد خسائر في الانتاج نتيجة توفير كل العوامل الملائمة لإنتاج جيد كمّا وكيفا.
قال عالم النبات: فهل تحقق هذا في المزرعة النموذجية التي أسسها صاحبك هذا؟
قال علي: أجل.. فهذا النظام الزراعي بتركيبته النباتية أعطانا فوائد وتأثيرات إيجابية كثيرة على مستوى المناخ والتربة.. بل ساهم مساهمة فعالة في رفع مستوى الإنتاج من ناحية وتحقيق التوازن الأيكولوجي لجميع الكائنات المتواجدة بهذه المنطقة من ناحية أخرى.
قال عالم النبات: فلنتكلم نقطة نقطة.. ما الفوائد المناخية التي أفادها هذا النظام الزراعي الذي استمددتموه من القرآن؟
قال علي: كثيرة هي الفوائد المناخية التي يمكن أن نجنيها من هذا النظام:
منها التخفيف من حدة الرياح، فالرياح تمثل أخطر العوامل التي تهدد الإنتاج النباتي بالمناطق الجافة، خاصة بالنسبة للطبقة العشبية (الزرع).
ففي هذا النظام يلعب النخيل دور جدار أولي من مصدات الرياح لحماية الأشجار المثمرة، إذ أنه يؤثر على ارتفاع هام في حين أن نفاذية منطقة الجذع تعتبر هامة جدا، فتأتي الطبقة الجنبية التي هي الأشجار لتكوّن جدارا ثانيا من مصدات الرياح ذات نفاذية منخفضة وارتفاع منخفض، وبالتالي فإن نسبة الرياح الواصلة إلى الطبقة العشبية التي هي الزرع غير معتبرة، وفاعليتها جد ضعيفة، علما وأن هذه الطبقة هي أكثر الطبقات حساسية ضد الرياح.
ومنها التخفيض من حدة جفاف الهواء، فهذا النظام بتركيبته هذه وطبقاته النباتية يوفر جوًا أكثر رطوبة.
ومنها التخفيض من درجة الحرارة، والفارق الحراري بين الليل والنهار.
ومنها التخفيض من نسبة التبخر، وبالتالي توفير اقتصاد أكثر في نسبة مياه الرّي.
قال عالم النبات: هذه فوائد معتبرة.. فما فوائد هذا النظام على التربة؟
قال علي: كثيرة هي فوائده على التربة..
منها تعديل درجات حرارة التربة.. وهذا يؤدي إلى تحسين حركة الكائنات المجهرية داخل التربة، وبالتالي تحسين نسبة تحلل المواد العضوية.
ومنها أن هذه الطبقات النباتية لها ثلاث مستويات للامتصاص، وبالتالي هناك نوع من توازن المواد الكيميائية في هذه المستويات المختلفة من التربة.
قال عالم النبات: فما الفوائد الاقتصادية والاجتماعية؟
قال علي: كثيرة.. منها تنويع الإنتاج بالمناطق الصحراوية، وهو يؤدي إلى الاكتفاء الذاتي الغذائي للسكان، وبالتالي توفير مصاريف النقل من أماكن بعيدة.
ومنها توزيع المحاصيل بالمزرعة، مما يساهم في تخفيف الخسائر في حالة الكوارث الطبيعية والتقلبات المناخية والاقتصادية.
ومنها الاستعمال الأمثل للأرض واليد العاملة طيلة أيام السنة.
ومنها أن تناسق هذه الطبقات النباتية الثلاث يعطي منظرا طبيعيا رائعا وظروف عيش أكثر رفاهية وجمالا.
النظام الزراعي:
قال عالم النبات: أرى أن قرآنكم يهتم بالزراعة.
قال علي: وكيف لا يهتم بها.. أليست من خلق الله.. القرآن الكريم كلام الله.. وكلام الله يتحدث مع جميع خلق الله، وعن جميع خلق الله.
إن في القرآن الكريم نظاما متكاملا للزراعة[2].. لو أذنت لي، وأذن لي أصحابك لحدثتك عنه.
أشار الجميع بالإذن.. فبدأ علي يتحدث بكل طلاقة.
قال: أول مبدأ ينطلق منه القرآن الكريم في هذا النظام، هو أن الله هو الزارع الحقيقي، وما على الإنسان في عملية الزرع إلا أن يتعاطى كل الأسباب بجده وجهده وعقله لإنجاح هذه العملية، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لقد نصت آيات كثيرة على ذلك، فالله تعالى يقول:﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ (يّـس:32-35)
ففي هذه الآيات يخبر الله تعالى أنه هو الذي يحي الأرض وهو الذي يخرج الحب ويجعل الجنات ويفجّر الأنهار.. فهو المزارع الحقيقي على الإطلاق، وما الإنسان إلا مجرد وسيلة.. فالله هو المالك الحقيقي، وفي الآن نفسه أكد على حقيقة أخرى وهي دور الإنسان وأهمية جده واجتهاده فقال ﴿ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾
ويقول في آية أخرى:﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)﴾(الواقعة)
ويقول في آية أخرى:﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ (النمل:60)
قال عالم النبات: إن هذه حقيقة عظيمة تقوم عليها فلسفة النظام الزراعي.. فنحن نقر بأن هذا النظام يرتبط إلى حد كبير بالقدرة الإلهية..
فالإنبات من أهم العمليات الحيوية التي تتم على سطح الكرة الأرضية وهي من دلائل القدرة الإلهية في الكون، ولولا الإنبات ما كان في الدنيا نبات، ولولا النبات ما كان على الأرض حياة.
بالإضافة إلى ذلك فهو نظام مرتبط بالمشيئة الإلهية، فهو نظام مرتبط بالكوارث المناخية والظواهر الطبيعية.. وبأشياء كثيرة ليس في قدرتنا الإحاطة بها.
قال علي: لقد أخبر القرآن الكريم عن هذا.. فذكر بعض الكوارث التي اجتاحت بعض الزروع التي أشرك أصحابها، وتصوروا أن أمرها لهم، فقال تعالى:﴿ نَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)﴾(القلم)
وفي قصة صاحب الجنتين ذكر الله تعالى يعض الكوارث التي يمكن أن تصيب الزراعة، فقال:﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)﴾(الكهف)
وقد أخبر الله تعالى عم احصل لتلك الجنة، فقال:﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)﴾(الكهف)
قال عالم النبات: إن القرآن بهذا يربي في نفوس الفلاحين معاني إيمانية عميقة تقيهم الأثر الخطير لما يحصل لأرضهم من جوائح.. والتي قد تجعل الكثير من الفلاحين يرغبون عن الفلاحة خوفا من تلك الجوائح.
قال علي: ولهذا كان المبدأ الزراعي الثاني الذي وردت به الكثير من النصوص هو التشجيع على الزراعة.
وأول ذلك إخبار القرآن الكريم بأن حب الزراعة والنباتات فطرة فطر عليها الإنسان، قال تعالى:﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ (آل عمران:14)
وقد أخبر r عن الأجر العظيم الذي يناله من زرع زرعا أو غرس غرسا، فقال:( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة )[3]
بل أمر بالاهتمام بالغرس، ولو في أحرج الساعات، فقال:( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها )[4]
وقد روى أن رجلاً مر بأبي الدرداء وهو من أصحاب محمد r، يغرس جوزة فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير، وهي لا تثمر إلا في كذا وكذا عاما، فقال أبو الدرداء: ما علي أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيري؟
وكان عمر الخليفة يساعد الرعية في غرس الأشجار , قال عمر بن الخطاب لخزيمة ابن ثابت: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال: أنا شيخ كبير أموت غدا, فقال عمر: أعزم عليك لتغرسنها, وقام عمر وغرس الأرض مع صاحبها.
بعد هذا شرع الإسلام ما يحمي النباتات من الهلاك بالحيوان والإنسان والإفساد في الأرض، ولذلك نص الفقهاء على أن صاحب الحيوان ضامن إذا خرجت حيواناته ليلاً وأهلكت زرع أحد، لأن عليه حماية حيواناته من الخروج ليلاً , كما جعل صاحب الزرع مسئولاً عن زرعه نهاراً، فعليه حراسته, وإذا اعتدت عليه الحيوانات فهو الضامن لنباته, وفي هذه حماية للنبات المزروع من الهلاك والرعي الجائر والتخريب بالليل والنهار.
وفي الحروب نهى الإسلام نهيا شديدا من إحراق النباتات وإتلافها، وقد أوصى أبو بكر قائد جيش الشام بقوله:( لا تقتل صبياً , ولا امرأة , ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاه ولا بعيراً إلا لمأكله، ولا تغرقن نخلا ولا تحرقه )
بل روي في الحديث أن من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار[5], وفي هذا حماية لأشجار البر من القطع الظالم وحماية لأشجار الغابات من القطع الجائر.
قال علي: والركن الثالث الذي يعتمد عليه النظام الزراعي ـ كما ورد في النصوص ـ هو الماء، فلا بد من توفير الماء لضمان المحصول الزراعي، فلهذا يرتبط ذكر الماء في القرآن الكريم بالحياة وبالإحياء.. فالماء هو الركيزة الأساسية لأي نظام زراعي، قال تعالى:﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً(16)﴾(النبأ)
وقال تعالى:﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ (النمل:60)
وقال تعالى:﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ (لقمان: من الآية10)
وقال تعالى:﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴾ (قّ:9)
قال عالم النبات: لقد ربطت هذه الآيات بين الماء والإنبات، فالماء شرط ضروري وأساسي للإنبات، وقد تظل البذور أو الحبة في التربة سنوات عدة لا تنبت ولا تتحرك إلى أن ينزل عليها الماء، فتبدأ العملية العجيبة المعجزة، عملية الإنبات.
وسألخص لكم باختصار كيف يحدث ذلك [6]..
إذا سقط الماء على البذرة أو الحبة تشربت الماء بفعل قوى التشرب والقوى الأسموزية ذات القوانين الرياضية الدقيقة والمعقدة.
وهذه القوى موجودة في غلاف الحبة، أو قصرة البذرة، فإذا كان الغلاف غير منفذ للماء لا يصل الماء إلى الجنين داخل الحبة أوالبذرة، فتفشل عملية الإنبات.
وبعض البذور فعلاً ذات قصرة (غلاف البذرة ) صلبة غير منفذة للماء تماماً مثل بذور نبات الخروع، ولكن هذه البذور زودت بثقب في مقدمة البذرة، وهو محاط بتركيب اسفنجي يتشرب الماء بسرعة يسمى البسباسة، فينفذ الماء من هذا الثقب ويصل الجنين.
فإذا دخل الماء إلى البذرة أو الحبة ازداد حجمها بفعل قوى التشرب، فيتمزق الغلاف، وفي نفس الوقت تحدث عمليات كيميائية كبيرة حيث يبدأ الجنين في فرز فيض ثجاج من الأنزيمات المحللة للمواد الغذائية المدخرة في البذور والحبوب فتحولها من مواد معقدة التركيب كبيرة الحجم لا تنفذ إلى خلايا الجنين ولا يستطيع استغلالها إلى مواد بسيطة التركيب صغيرة الجزيئات تنفذ خلال أغشية وجدر الخلايا حيث يستغلها الجنين ويتغذى عليها.
ومن العجب أن نوع الأنزيمات يتوافق مع نوع الغذاء المدخر، وهذه الأنزيمات تحلل بعض المواد شديدة الصلابة كتلك الموجودة في ثمار نبات الدوم والتي يصنع منا أزرار الملابس الصلبة، تحولها إلى مواد رخوة لينة في قوام اللبن، حلوة الطعم سهلة الهضم والامتصاص.
والعمليات السابقة جميعا تتم في درجة حرارة من (25ـ 35س ) وإذا أردنا أن نجري نفس العمليات في المختبر، فإننا نحتاج إلى حمامات من الماء المغلي، وإلى إضافة أحماض حارقة وكاوية ومحللة، ونحتاج إلى مبردات ومكثفات وأجهزة قياس دقيقة للحرارة، ومهندسين وعلميين وفنيين تزيد أعدادهم على المئات، ونحتاج إلى مصانع ذات ضجيج عال وأبخرة سامة متصاعدة.
بينما تتم هذه العمليات في النبات في هدوء عجيب، وسكون تام داخل البذور في حقل الزراعة البسيطة الذي لا يعرف معادلات ولا مختبرات ولا أبحاث.
قال علي: والركن الرابع الذي يقوم عليه النظام الزراعي الذي يمكن فهمه من القرآن الكريم هو إرشاده أو أمره بتنويع المحاصيل النباتية.. ففي الآيات الكثيرة نجد القرآن الكريم يذكر المحاصيل الكثيرة، وكأنه يرشد إلى استنباتها جميعا:
فالله تعالى يقول:﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ َإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ (المؤمنون18، 22)
ويقول:﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (النحل).
فقد أشارت هذه الآيات إلى تنوع المحاصيل والمنتجات النباتية، ومن الأصناف التي ركزت عليها هذه الآيات: الزرع والزيتون والنخيل والأعناب.
وهذه الأنواع تمثل مختلف الطبقات النباتية: العشبية، والجنبية والشجرية.. وتواجد هذه الطبقات في النظام الزراعي يمكن من التوازن الايكولوجي في هذا النظام البيئي.
وفي التركيز على هذا التنوع داخل النظام الزراعي، تعريض غير مباشر إلى مساوئ الزراعات الوحيدة، والتي أظهرت التجارب الزراعية الحديثة البعض منها مثل افتقار التربة، وكثرة الأمراض والآفات النباتية والحشرات واكتسابها المناعة ضد المبيدات.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله تعالى:﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾(الحجر)
ففي كلمتي (موزون، وقدر معلوم) دلالة واضحة على أن النظام الزراعي الصالح نظام متوازن ومتكامل يقوم على التوسط والاعتدال في كل مراحل الإنتاج ابتداء من الحرث والسقي إلى المداواة والتسميد والجني.. فالتوازن هو الركيزة الأساسية لضمان النجاح والاستمرارية لكل نشاط زراعي.
ونحن نرى الآن الاهتمام المتزايد بهذا النوع من الزراعة، وهو ما يعبر عنه بالزراعة المستديمة أو الزراعة البيولوجية، كما ارتفعت هذه الأيام أصوات حماة البيئة للحد من التلوث والاستغلال المفرط لثروات الأرض.
ونلاحظ أيضا أن القرآن ركز على عدة أنواع من المحاصيل كان يعرفها العرب مثل الرمان، والزرع، والعنب، والزيتون والنخيل وهي أصناف مقاومة للظروف المناخية الصعبة وتتلاءم مع مختلف أصناف التربة.
بل نلاحظ أن القرآن الكريم لم يكتف بذكر التنوع النباتي، بل ضم إليه ذكر الأنعام من الحيوانات، وفي ذلك إشارة إلى التكامل بين الإنتاج النباتي والحيواني.
بل إن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم نموذجا لمزرعة متكاملة، فقال:﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)﴾(النحل)
ففي هذه الآيات الكريمة نجد نموذجا لمزرعة تتوفر على كل الاحتياجات الغذائية والدوائية من الأنعام التي ينتفع بلحومها وألبانها، والمزروعات التي ينتفع بثمراتها، وما ينتج منها، وخلايا النحل التي ينتفع بعسلها.
كما أشارت هذه الآيات إلى نشاط تكميلي للنشاط الزراعي، وهو الصناعة الغذائية التحويلية مثل عملية التخمر لانتاج الخل والخبز، وتخمر الحليب لانتاج الجبن، واشتقاق العديد من المنتوجات الجديدة انطلاقا من هذه الثمرات كاستخراج الزيت من الزيتون والدبس من التمور، وعصير الغلال والمشروبات، والمربيات وتصبير الزيتون واستخراج الدقيق من القمح.
وفي هذه الصناعات دورة اقتصادية هامة وربح اقتصادي عظيم عبر عنه القرآن الكريم بالرزق الحسن.
قال عالم النبات: لكأن القرآن بهذه الإشارات المهمة التي ذكرتها يقوم بدور المرشد الفلاحي.
قال علي: وما له لا يقوم بذلك.. الفلاحة ركن أساسي لا تقوم الحياة إلا بها.. والقرآن جاء لحياة الروح والجسد.. ومن رحمة الله أن ضمن كلامه ما يخدم الروح والجسد.
ومما يدخل في هذا الباب ما ذكره القرآن من أنظمة تشريعية تختص بعالم النبات، ومن ذلك ما تضمنه قوله تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ (الأنعام:141)
فقد تضمنت هذه الآية الكريمة بعض الأحكام التي تتماشى مع هذا النظام الزراعي والتي من شأنها أن تحفظه من الهلاك، وتضمن نجاحه وديموميته وفاعليته.
فقد أمر الله عباده في هذه الآية بثلاثة أوامر تشريعية:
الأول: الأمر بالأكل، وقد جاء بهذه الصيغة ﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ﴾ أي أن الأكل لا يكون إلا عند تمام النضج والإثمار، وقد أثبت العلم أن القيمة الغذائية للثمرة لا تكون متوازنة إلا عند اكتمال النضج، فهناك من التفاعلات الكيميائية والإفرازات والتحولات الأنزيمية ما لا يتم إلا بتمام النضج.. ومنها زيادة نسبة السكريات عند تمام النضج.
كما أن في هذا التشريع صيانة للمحصول من الغش والاحتكار من طرف التجار، لأن الثمار في أول وقتها يكون ثمنها أغلى.
والثاني: ما ورد في قوله تعالى:﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾، وحقه يعني زكاته كي يبارك الله لنا في هذه النعم ويحفظها من الزوال وتزيد وتنمو.
وفي قوله ﴿ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ دقة تعبيرية بالغة لأن الثمار سريعا ما تتلف، خاصة التي تحتوي على نسبة عالية من الماءن بالإضافة إلى أن هناك العديد من العمليات والتفاعلات البيوكيميائية التي تحدث في الثمرة، والتي من شأنها أن تنقص من قيمتها الغذائية أو تقود إلى اتلافها بالعديد من الحشرات أو الفطريات.
ولهذا ـ كي تكون زكاة طيبة ـ أمرنا أن نسرع بإخراجها قبل إتلافها، وفي هذا الإسراع ـ أيضا ـ إشارة إلى توفير تكاليف الخزن، ففي أيامنا هذه صار هذا النشاط ذا أهميّة اقتصادية كبرى، كتقنيات التبريد والتكييف والتعبئة واللف وغيرها. وهناك عدة عوامل تتحكم في عملية الخزن: كالحرارة والرطوبة والتهوئة وصارت هذه التقنيات علما قائما بذاته.
والأمر الثالث، هو قوله تعالى:﴿ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾، والنهي عن الإسراف هنا عام.. وفي ذلك إشارة إلى المخاطر الكثيرة التي ترتبط بالإسراف في الجانب الزراعي، بالإضافة إلى مخاطر الإسراف في الأكل.
ومن مظاهر الإسراف في الجانب الزراعي أن الإسراف في الأسمدة واستعمالها، يؤدي إلى حدوث اضطرابات فسيولوجية للنبتة، ويتسبب في تلوث البيئة والمياه مثل مادة النيترات التي أصبحت تـهدد المياه الباطنية والسطحية.
ومنها أن الإسراف في استعمال الأدوية والمبيدات يتسبب في تلوث التربة والمياه والهواء بهذه السموم القاتلة، كما أن الثمار تصير مسمومة بهذه المواد مما يؤدي إلى ظهور العديد من العوارض والأمراض نتيجة هذا الاستعمال المفرط للمبيدات.
كما إن الإسراف في استعمال هذه المواد أدى إلى نقص المناعة الذاتية للنبات واكتساب الحشرات الضارة مناعة قوية ضد بعض المبيدات مما يستوجب استعمال مبيد آخر أكثر سمية وأغلى ثـمنا، ومن ثم الدخول في حلقة مفرغة تنهك المزارع من حيث المجهود والإنفاق:
كما أن الاستعمال المفرط للمبيدات يؤدي إلى إبادة كلية للحشرة الضارة، وبالتالي إلى إبادة الحشرة المفترسة، فيختل التوازن البيئي بين هذه الكائنات.
لذا فإن الاستراتيجية العلمية الحديثة لمكافحة الحشرات تعتمد على الحد من المداوات الكيميائية وتعويضها بالمكافحة المندمجة حيث تلعب المكافحة البيولوجية دوراً هاماً.
وفي هذا المجال ظهرت مدارس بأكملها متخصصة فيما يسمى بالزراعة البيولوجية للحصول على منتوج طبيعي غير ملوث بالمبيدات والأسمدة.
ومنها الإسراف في السقي، حيث يؤدي إلى تعفن الجذور والتربة وتأخر موعد النضج وانتشار الأوبئة والحشرات الضارة.
ومنها الإسراف في استعمال الآلات الميكانيكية والآليات الثقيلة، لأن ذلك يسبب ضغط التربة خاصة عندما تكون مبللة، ولهذا فإن كثرة الحرث والإسراف فيه يؤثر على قوام التربة ويعرضها لكثر الانجراف ويكوّن طبقة من التربة غير نافذة للماء تؤثر سلبا على نمو النبات.
ومنها الإسراف في الاهتمام بكمية الإنتاج على حساب نوعية المنتوج، فالمحاصيل المعدّلة جينياً قد تسبب كوارث بيئية وصحية، فقد ثبت في علم الجينات أن تطوير الجين المسؤول على كمية الانتاج يؤثر سلبا على جينات المقاومة للحشرات أو نقص المياه أو الملوحة.
ففي هذه الدعوة من الله تعالى لعدم الإسراف رؤية جديدة لزراعة متطورة ومتوازنة في نفس الوقت.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin