سادسا ـ الحيوان
في اليوم السادس.. كان موضوع المحاضرات يتناول الحيوانات في القرآن الكريم.
وقد قدم العلماء محاضراتهم التي غلب عليها الجانب البياني والفقهي.. كعادتهم في سائر الأيام.
ثم قدم صاحبي عالم الحيوان محاضرته، ولم يكن هناك أي رابط بين تلك المحاضرات..
وصاحبي هذا ـ بالإضافة إلى كونه عالم حيوان ـ من جمعية للرفق بالحيوان، فهو محب لها غاية الحب، رفيق بها غاية الرفق، بل هو يكاد يتعامل معها كما يتعامل مع الإنسان، بل إنه ـ لغرابة أطواره في هذا ـ كان كلما ذكر حيوانا أطلق عليه لفظ أخي أو صديقي، جادا غير هازل، وهو لا يعبأ بضحك من يضحك من المستمعين له من طلبته أو أصدقائه.
وكان لهذا قريبا من الدين.. ولكنه شديد البعد من الكتاب المقدس، وقد ذكر لي سبب ذلك، فقال: لماذا يشوه الكتاب المقدس سلام المسيح؟
قلت: ما الذي تقصد؟
قال: لقد قرأت في أول شبابي ما جاء عن تسبب المسيح بمقتل ألفي حيوان في وقت واحد.. كما في (مرقس: 5: 11):( وَكَانَ هُنَاكَ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى عِنْدَ الْجَبَلِ، فَتَوَسَّلَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلَةً: أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا، فَأَذِنَ لَهَا بِذَلِكَ، فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ، فَانْدَفَعَ قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ مِنْ عَلَى حَافَةِ الْجَبَلِ إِلَى الْبُحَيْرَةِ، فَغَرِقَ فِيهَا، وَكَانَ عَدَدُهُ نَحْوَ أَلْفَيْنِ)؟
قرأ هذا النص، ثم قال: ما ذنب الخنازير، وما ذنب صاحب الخنازير ، حين أراد إخراج الشياطين من المجنون؟..ألم يكن من الأجدى إخراج الشياطين دون الإضرار بالخنازير؟!
قال ذلك ، ثم قال: من ذلك اليوم الذي قرأت فيه هذا النص لم أعد للكتاب المقدس.. فلا أتصور أن الله يقسو على خلقه بهذه الطريقة.
كان هذا هو بداية موقفه من المسيحية، أما الإسلام، فلم يتخذ منه موقفا سلبيا إلا في ذلك اليوم ، فقد ألقى بعض المحاضرين محاضرة عن موقف سليمان u من الخيل، وذلك في تفسير قوله تعالى:﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)﴾(ص)
وللأسف، فإن هذا المفسر بعد استعراضه لجميع الأقوال في تفسير الآية لم يحلو له إلا أن يفسرها بما يسيء لسليمان، وبمثله للقرآن.
لقد ذكر أن سليمان u عرض عليه الخيل الجياد في وقت العصر، فألهاه هذا العرض عن صلاة العصر، فلما اقترب المغرب غضب وطلب من الله أن يرد الشمس بعد أن غربت ليصلي العصر فردت.. وكصورة من غضبه على الخيل لأنها كانت السبب في فوات العصر وألهته عن الصلاة قام وقطع سوقها وأعناقها مسحاً بالسيف.
ومع أن القائلين بهذا من التابعين الذي استفادوا هذه التفاسير من اليهود الذين أسلموا إلا أنه راح يدافع على هذا، ويخالف ابن عباس صاحب رسول الله r الذي فسرها بأنه جعل يمسح أعراف الخيل، وعراقيبها حبالها.
وقد قال تعليقا على هذا القول: وهذا القول اختاره ابن جرير ، واستدل له بأنه لم يكن سليمان u ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها.
ثم علق عليه بقوله:( وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، ولا سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه شغل بها حتى خرج وقت الصلاة؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر، فهذا أسرع وخير من الخيل )[1]
لقد كان لذلك الترجيح تأثيره السلبي على صديقنا عالم الحيوان..
ومع أنه كان يرى طرق المسلمين في الذبح.. ولكنه لم يكن ينكر عليها، بل كان يرى ذلك أرحم للحيوان من سائر الطرق التي يقتل بها الحيوان[2].
في ذلك المساء.. سرنا إلى حديقة للحيوانات.. وقد أبلغت عليا بالمحل الذي نذهب إليه.
وهناك في تلك الحديقة رحنا نتجول على الحيوانات.. ونستمع لما يقوله صديقنا عالم الحيوانات عنها.
1 ـ حيوانات مسخرة
أمام مجموعة من الخيل العربية الأصيلة وقفنا ننظر إلى جمالها ورشاقتها، وفجأة سمعنا عليا يحادث صديقه حذيفة بطريقته المعهودة، وبصوت مرفوع، وكأنه يتعمد أن يسمعنا.
قال علي: ويل لهم.. كيف يسيئون للقرآن؟.. إنهم يحرفون القرآن الكريم من حيث لا يشعرون.
قال حذيفة: هم لم يذكروا إلا ما قال المفسرون.
قال علي: ألم تسمع بما قال الإمام أحمد من أنه ثلاثة لا أصول لها، وذكر من بينها التفسير؟
قال حذيفة: أسمع هذا.. بل لدي سند بروايته إلى أحمد.
قال علي: فكيف رحتم تتساهلون في التفسير مع علمكم أنه تفسير لكلام الله.. لقد تشددتم في حروف القرآن.. ولكنكم أعطيتم الحرية المطلقة لمن يريد تشويهه؟
قال حذيفة: ولكنهم يروون هذه الأقوال عن قتادة وغيره من التابعين.
قال علي: فيكف رغبوا عن ابن عباس ترجمان القرآن.. وراحوا لقتادة..
ثم لماذا تركوا الألفاظ الصريحة الظاهرة، وراحوا يؤولون ويتحكمون ويتلاعبون!؟
لقد ذكر القرآن المسح.. وليس للمسح في ظاهر اللغة إلا معناه المعروف.. ألم يرد في القرآن الكريم:﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً)(النساء: من الآية43)، وقال تعالى:﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(المائدة: من الآية6)
قال حذيفة: بلى..
قال علي: فما معنى المسح في هاتين الآيتين؟
قال حذيفة: معناه المسح المعروف الذي هو وضع اليد بحنان على الممسوح.
قال علي: فلم رغبوا عن هذا المعنى الظاهر المؤيد يقول الصحابي الجليل إلى غيره؟
سكت حذيفة، فقال علي: ليس من سبب لذلك غير الجهل بالمعاني السامية للقرآن الكريم..
إن هؤلاء الذين ينشرون مثل هذه المعاني، كمن وصف له طبيب دواء ليستعمله، فراح بفهمه السقيم، واشترى بدله سما راح يتجرعه، ويسقيه لغيره.
قال حذيفة: ما تقول؟
قال علي: هذه هي الحقيقة.. أنت تعرفني.. فأنا لا أحب المجاملات.
قال حذيفة: فأين الداوء ، وأين السم في الآية؟
قال علي: إن هذه الآية تصف وصفة طبية نفسية شرعية لكيفية التعامل مع الحيوانات.. لكنهم بفهمهم السقيم حولوها سما يسقونه الناس، ويشوهون به الحقائق.
قال حذيفة: فصل لي ما ذكرت.
الخيل:
قال علي: أنت تعرف ما ورد في النصوص الكثيرة من فضل الخيل.
قال حذيفة: أجل.. ويكفيها شرفا أن رسول الله r قال فيها:﴿ الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة )[3]
قال علي: بل إن الله تعالى أمر بالاحتفاظ بها وتهيئتها لمقاومة الظالمين، فقال:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)
قال حذيفة: وقد وردت الأحاديث في فضلها لأجل ذلك.. فقد قال r:( الخيل لثلاثة: لرجل أجْر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر؛ فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج ـ أو: روضة ـ فما أصابت في طيلها ذلك من المرج ـ أو: الروضة ـ كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقي به، كان ذلك حسنات له؛ فهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تغنِّيًا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر، ورجل ربطها فخرًا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر )[4]
وفي حديث آخر عن عبد الله بن مسعود t ، عن النبي r قال:( الخيل ثلاثة: ففرس للرحمن، وفرس للشيطان، وفرس للإنسان، فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله، وذكر ما شاء الله. وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها، فهي ستر من فقر)[5]
وقد روي في الاثار الموقوفة ما يدل على تحبيب الله للخيل، فقد أن معاوية بن حديج مر على أبي ذر، وهو قائم عند فرس له، فسأله: ما تعالج من فرسك هذا؟ فقال: إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته! قال: وما دعاء بهيمة من البهائم؟ قال: والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر فيقول: اللهم، أنت خولتني عبدا من عبادك، وجعلت رزقي بيده، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده[6].
قال علي: لقد نص القرآن الكريم على هذا، فقد قال تعالى:﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14)
قال حذيفة: فهمت هذا ووعيته، فما الذي تريد منه؟
قال علي: أفترى أن هذا النبي الكريم غاب عنه ما جعل الله في الخيل من فضل، فراح يقتلها من غير فائدة.
قال حذيفة: لا أرى ذلك.. وبورك فيك.. فقد نبهتني لسوء ما كنت أعتقده، ولكن ما الذي جعلك ترى أن ما فعله سليمان دواء يمكن الاستفادة منه؟
قال علي: بلى.. هو دواء.. وما ذكره الله لنا إلا لنستفيد منه، ألم يقل الله تعالى:﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام: من الآية90)؟
قال حذيفة: فما هذا الدواء[7]؟
قال علي: إن اختيار سليمان u لمواضع معينة يمسح بها على خيله يتوافق تماما مع الفحص البيطري المعمول به لخيل السبق في الوقت الحاضر.
فكل المراجع العلمية الحديثة المرتبطة بعلم الحيوان أفردت لفحص واختبار الخيل فصولاً طويلة أساسها كلها ما جاء في القرآن الكريم، فنجد في كتاب (أصول الطب البيطري)، وتحت عنوان (الاقتراب من الحيوانات) قوله:( للحيوانات الأهلية أمزجة متباينة، وطباع تتقلب بين الدعة والشراسة لذلك يتطلب الاقتراب منها حرصاً وانتباهاً عظيمين خصوصاً للغريب الذي لم يسبق له معاملتها أو خدمتها ، نجد أنه في الخيل يجب أن يظهر فاحص الحصان نحوه كثيراً من العطف وهو داخل عليه فيربت على رأسه ورقبته وظهره فيطمئن إليه ويعلم أن القادم صديق فلا يتهيج أو يرفس )
ولما كانت أهم أجزاء الحصان قوائمه، فهي التي تجري عليها، والجري من أهم صفات الخيل الرئيسية، فإن أول ما يتجه إليه الإنسان عند فحص الخيل هو اختبار قوائمه ويجب رفع قائمة الحصان عند فحصه، وفي ذلك يقول نفس الكتاب:( ولرفع القائمة الأمامية يمسك الفاحص بزمام الحصان ويقف الفاحص بجوار كتفه متجهاً للمؤخرة ثم يربت له على جانب رقبته وكتفه إلى أن يصل باليد إلى المرفق فالساعد فيصل المسافة بين الركبة والرمانة وهنا يشعر الحصان باليد التي تمسك أوتار قائمته فيرفعها طائعاً مختاراً )
وقياس نبض الخيل من أهم الأمور التي يجب على الفاحص أن يبدأ بها فحصه للحصان، فعن طريق النبض يمكن معرفة حالة الحصان المرضية، ويقرر العلم أن قياس النبض في الخيل يكون من الشريان تحت الفكي والشريان الصدغي والشريان الكعبري.
وإذا كان قياس النبض، والحصان في حالة هدوئه إنما يكشف للإنسان عن حالة الحصان المرضية وعما إذا كان مصاباً بمرض أو سليماً، فإن قياس نبضه لمعرفة درجة احتمال قلبه وطاقته لابد أن تكون بعد أن يقوم الحصان بل بشوط من الجري.. كما أنه توجد في بعض الخيول عيوب تقلل من قيمة الحصان، ولذلك فإن الطريقة التي أصبحت دستوراً يعمل به عند فحص واختبار الخيل هي أنه بعد الفحص الظاهري الأول للحصان والتأكد من صلاحيته شكلاً ومنظراً يقوم بالعدو لشوط كبير على قدر الاستطاعة ومراقبته أثناء العدو.. ثم قياس نبضه بعد أن فحص الخيل فحصاً ظاهرياً إذ عرضت عليه.
لذلك أمر النبي سليمان u بأن تعدو الخيل إلى أقصى وأبعد ما يستطاع حتى توارت بالحجاب، فلم تعد رؤيتها مستطاعة.. ثم طلب أن تعود بعد هذا الشوط الطويل من العدو، وعندها قام بالفحص العملي لقياس النبض من الشريان تحت الفكي والصدغي والكعبري كما قام بفحص ساق الحصان بعد هذا المجهود ليعرف أثر العدو عليه وطاقة الساق عليه.
ما سمع صاحبي عالم الحيوانات هذا الكلام حتى ارتسمت على وجهه أسارير السعادة، ثم طلب منا أن نتبع هذين الرجلين لنتنصت عليهما، وعلى حوارهما الهادئ اللطيف.
قال حذيفة: لقد وصف القرآن الكريم هذه الخيل بالجياد.. فما مراده من ذلك؟
قال علي: لقد وصفت قبل وصفها بالجياد بكونها صافنات، والصافنات وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة لقوتها وخفتها، وهي علامة الصحة للخيل.
والجياد معناها السراع، ولا شك في أن قيمة الخيل في سرعتهان وقد ورد وصف لسرعتها في سورة أخرى من القرآن الكريم ، وهي سورة العاديات، قال تعالى:﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)﴾(العاديات)
فالله تعالى يقسم في هذه السورة بخيل المعركة، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر منها، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو، مثيرة للنقع والغبار، غبار المعركة على غير انتظارن وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب[8].
قال حذيفة: لكأن الله تعالى يأمرنا في هذه السورة بأن ندرب الخيل لنؤهلها لمثل هذه الصفات.
قال علي: بورك فيك.. هكذا ينبغي أن نفهم القرآن.. فكل آياته تربية وتعليم وتوجيه.
قال حذيفة: زدني من صفات الخيل في القرآن.
قال علي: لقد وصف الله الخيل بأنها ترسل عرفها أي تنشره على رقبتها، قال تعالى:﴿ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً﴾(المرسلات:1) والآية بالأصل تصف الرياح وتشبهها بالخيل.
الحمار:
سار علي وحذيفة نحو قفص قريب وضع فيه أحمرة بألوانها المختلفة، وأنواعها المختلفة، فقال حذيفة: هذا هو الحمار الذي ورد النكير عليه في النصوص.
قال علي: لم أجد نصا ينكر على الحمار.. الحمار من نعم الله الكبرى على البشر، لقد ظل فترة طويلة مسخرا للإنسان يركبه ويستعمله ، وهو لا يزال يفعل ذلك.
بل إن القرآن من علينا به، فقال:﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل:8)
قال حذيفة: أنت لم تفهم قصدي.. أنا أقصد قوله تعالى:﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:19)، فهذا الخطاب جاء على لسان لقمان الحكيم u ، وهو يعظ ابنه حيث طلب منه إخفاض صوته لأن الصوت العالي يصبح منكراً.
قال علي: فالإنكار للصوت العالي، لا للحمار، والصوت العالي منكر سواء كان من الحمار أو غيره، بل إن العلماء عدوا الضجيج من التلوث البيئي.
قال حذيفة: فالحمار يلوث البيئة إذن؟
قال علي: لا.. إن الصوت الحمير أرحم بكثير من تلك الفوضى الصوتية التي يعيشها البشر..
ومع ذلك فالله تعالى يؤدبنا بهذا ليعلمنا كيف ندرب أصواتنا حتى لا تكون منكرة.
قال حذيفة: وهل يمكن ذلك.. الأصوات شيء خارج عن أيدينا.
قال علي: لا.. بل إن الكثير منه في أيدينا.. ولولا ذلك ما أمر لقمان u ابنه به.
قال حذيفة: فما وجه الإشارة في الآية إلى هذا التدريب؟
قال علي: لقد وجد العلماء أن سبب قبح صوت الحمار يكمن في قلة حركته وعدوه.. بخلاف الخيل التي وصفت بـ ﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾(العاديات:1) فقد ربطت بين العدو والصهيل، فصوت الضبح هو الصهيل الخفيف غير المزعج، والذي اكتسبه الحصان بفضل العدو حيث ذابت كل الشحوم حول الأحبال الصوتية، وتعرضت هذه الأحبال للإحماء والشد من خلال رياضة العدو، فيشبه ذلك شد أوتار المعازف لكي تحصل على صوت عال ذي نبرة رفيعة جميلة، والضبح صوت بين الصهيل والحمحمة ينتج من العدو.
قال حذيفة: ليس هذا فقط مما ورد الإنكار عليه من صوت الحمار.
قال علي: فما ذاك؟
قال حذيفة: لقد أخبر r عن قدرة الحمار على رؤية الشيطان، وذلك مما يعيبه، فقد قال r:( إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله ، فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمار ، فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنه رأى شيطانا)[9]
قال علي: فأنت ترى أن رسول الله r مدح الديك في هذا الحديث، وذم الحمار؟
قال حذيفة: هذا ما أراه.
قال علي: فأنت تفضل الطباخ على الطبيب إذن؟
قال حذيفة: ما قصدك؟
قال علي: الطباخ يلبي حاجات شهوات بطنك، والطبيب ينبهك إلى أعدائك المتربصين بك، بل قد يحرمك من تلك الشهوات التي وصفها لك الطباخ.
قال حذيفة: فهمت قصدك.. أنت تقصد الحمير بمثابة الأطباء الذي ينبهون الإنسان إلى مكامن الخطر.
قال علي: أو مثل الحراس الذين يمسكون بصفارات حادة الأصوات لينبهوا الغافل إلى العدو المقبل.
قال حذيفة: فقد مدح r الحمير إذن بهذا؟
قال علي: أجل.. لقد أخبر رسول الله r عن طاقة من طاقات الحمار التي ننتفع بها، وهي قدرته على رؤية عالم الشر، ورؤية الشر ليست شرا، بل إن العلم بالشر هو الواقي للإنسان من الوقوع فيه.
والحمار بهذه الطاقة ، وما ينبه به داعية من دعاة ذكر الله ، وقد قال r:( لا ينهق الحمار حتى يرى شيطانا أو يتمثل له شيطان , فإذا كان ذلك فاذكروا الله وصلوا علي)[10]
ولعل ذلك الصوت المزعج للحمار سببه هذه الرؤية ، وليكون تنبيها للنفوس حتى لا تستريح لصوته ـ في حال كونه جميلا ـ عن الاستعاذة والصلاة.
قال حذيفة: فالحمار بذلك يمثل جنديا من جنود الله التي يتعرف المؤمن من خلالها على أعدائه ، أو هو عين من العيون التي يتبصر بها المؤمن بعض عوالم الله.
قال علي: وهو في كلا الدورين يشبه الديك ، فالديك هو عيننا على عالم الملائكة، كما أن الحمار عيننا على عالم الشياطين.
قال حذيفة: فهمت الآن سر تلك الآداب العالية التي كان يتصف بها السلف الصالح مع الحمير، فقد وري عن بعضهم قوله:( من الأدب إذا ركب العبد دابة أن يرحمها بالنزول عنها ولا يركب إلا عند الضرورة )
قال علي: بل إن r أمر بذلك، فقد نهى عن إتخاذ ظهور الدواب منابر، وعلل ذلك بقوله: ( فرب مركوبة خيرا أو أكثر ذكرا لله تعالى من راكبها)[11]
قال حذيفة: لقد ذكر القرآن الكريم هذا الدور الذي تقوم به، فقال:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة:5)
سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى في هذا إنكارا على الحمار؟
قال علي: لا.. الحمار لا يلام بأنه لا يعرف قيمة ما يحمل.. هو يؤدي دوره الذي طلب منه.. ولكن اللوم على من لا يفهم مع أن الله أعطاه آلة الفهم.
ألسنا نسب أحيانا بعض الناس، فننعتم بالصغار، فهل الصغار مذمومون؟
قال حذيفة: لا.. فما ذنب الصغير المسكين؟
قال علي: وهكذا الحمار.. فهو لا يلام، لأن اللوم لا يتوجه إلا لمن فرط في طاقاته وعطلها.
قال حذيفة: لقد وصفت الحمر في القرآن الكريم بكونها مستنفرة، فقال تعالى:﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾(المدثر:50-51 ) فما معنى ذلك؟
قال علي: هاتان الآيتان تتحدثان عن الحمر الوحشية التي يحب صيدها الأسد، وحمار الوحش حيوان جميل الشكل قريب الشبه بالخيل والحمار، ويختلف عنها بجلده المخطط.. وحمير الوحش من فصيلة متوحشة غير قابلة للاستئناس، وتتميز بوجود الخطوط السوداء على جسدها، وهي توجد في قطعان هائلة في السهول الفسيحة في أفريقيا.
البغال:
سار علي وحذيفة نحو قفص قريب معد للبغال، فقال حذيفة: لقد ذكر الله تعالى البغال من جملة الحيوانات المسخرة للركوب، فقال تعالى عنها:﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾(النحل:8)
قال علي: البغل هو الهجين الذي ينشأ من تزاوج الحمار والفرس، فيأخذ حجم الفرس وتحمل الحمار، لذا يكون الناتج أقوى.
وما يزيد قوته أيضاً أنه عقيم، والسبب في ذلك أنه يحمل عددا فردي للكروموسومات (63) حيث ينشأ من الوحدة بين كروموسومات الحمار (عددها62) والفرس أنثى الحصان(عدد كروموسوماتها64).
قال حذيفة: ألا ترى في ذكر القرآن للبغال ـ ما دامت بهذه الصفة ـ في هذه الآية التي ذكرت وسائل النقل أي إشارة عملية؟
قال علي: أجل.. إن فيها إشارة إلى نوع مفيد من الهندسة الوراثية.
قال حذيفة: ماذا تعني.. فالهندسة الوراثية لم تجلب لنا إلا الدمار.
قال علي: بل فيها بعض الخير، أو كثير من الخير لو حسنت النيات.
قال حذيفة: فكيف نطبقها في هذا المجال؟
قال علي: باختيار السلالات الطيبة من الحيوانات وإجراء التلاقح بينها لاستنتاج سلالات جيدة.. ألم تر أن القرآن الكريم وصف الخيل بالجياد؟
قال حذيفة: فما في ذلك؟
قال علي: لينبهنا إلى البحث عن الجيد.
الإبل:
سار علي وحذيفة إلى قفص آخر، وضعت فيه الجمال بأنواعها، فقال حذيفة: لقد ذكر القرآن الكريم كثيرا عالم الإبل[12].. بل إنه أمر بالنظر إليها، فقال تعالى:﴿ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية:17)
قال علي: هذه آية عظيمة.. فالله تعالى يدعونا إلى النظر في أسرار خلقه وما أودع فيها من جمال وطاقات.. إن هذا الأمر يستوي فيه البدوي بفطرته السليمة في صدر الإسلام، وعلماء الأحياء بأجهزتهم المستحدثة في أواخر القرن العشرين.
قال حذيفة: فعلمني من علمها ما علمك الله.
قال علي: إن ما كشفه العلم حديثاً عن بعض الحقائق المذهلة في خلق الإبل يفسر لنا بعض السر في اختيار الله للإبل لتكون محل نظرنا[13].
أول ما يلفت الأنظار في الإبل خصائصها البينات والشكل الخارجي الذي لا يخلو تكوينه من لطائف تأخذ بالألباب، فالعينان محاطتان بطبقتين من الأهداب الطوال تقيانهما القذى والرمال.
أما الأذنان فصغيرتان قليلتا البروز، فضلاً عن أن الشعر يكتنفها من كل جانب، ليقيها الرمال التي تذروها الرياح، ولهما القدرة عن الانثناء خلفاً والالتصاق بالرأس إذا ما هبت العواصف الرملية.
أما المنخران، فيتخذات شكل شقين ضيقين محاطين بالشعر وحافتهما لحمية، فيستطيع الجمل أن يغلقهما دون ما قد تحمله الرياح إلى رئتيه من دقائق الرمال.
أما ذيله ، فيحمل على جانبيه شعراً يحمى الأجزاء الخلفية من حبات الرمل التي تثيرها الرياح السافيات كأنها وابل من طبقات الرصاص.
أما قوائم الجمل، فهي طويلة لترفع جسمه عن كثير مما يثور تحته من غبار، كما أنها تساعده على اتساع الخطو وخفة الحركة.
وتتحصن أقدام الجمل بخف يغلفه جلد قوي غليظ يضم وسادة عريضة لينة تتسع عندما يدوس الجمل بها فوق الأرض، ومن ثم يستطيع السير فوق أكثر الرمل نعومة، وهو ما يصعب على أية دابة سواه، وهذاما يجعله جديراً بلقب (سفينة الصحراء)
لهذه الخصائص وغيرها ما زالت الإبل في كثير من المناطق القاحلة الوسيلة المثلى لارتياد الصحارى، وقد تقطع قافلة الإبل بما عليها من زاد ومتاع نحوا من خمسين أو ستين كيلومترا في اليوم الواحد، ولم تستطع السيارات بعد منافسة الجمل في ارتياد المناطق الصحراوية الوعرة غير المعبدة.
ومن الإبل أيضاً ما هو أصلح للركوب وسرعة الانتقال، مثل الرواحل المضمرة الأجسام التي تقطع في اليوم الواحد مسيرة مائة وخمسين كيلومترا.
ومما يناسب ارتفاع قوائم الجمل طول عنقه، حتى يتناول طعامه من نبات الأرض، كما أنه يستطيع قضم أوراق الأشجار المرتفعة حين يصادفها، هذا فضلاً عن أن هذا العنق الطويل يزيد الرأس ارتفاعاً عن الأقذاء، ويساعد الجمل على النهوض بالأثقال.
وحين يبرك الجمل للراحة أو يناخ ليعد للرحيل يعتمد جسمه الثقيل على وسائد من جلد قوي سميك على مفاصل أرجله، ويرتكز بمعظم ثقله على كلكله، حتى أنه لو جثم به فوق حيوان أو إنسان طحنه طحناً.
وهذه الوسائد إحدى معجزات الخالق التي أنعم بها على هذا الحيوان العجيب، حيث أنها تهيئه لأن يبرك فوق الرمل الخشنة الشديدة الحرارة التي كثيراً ما لا يجد الجمل سواها مفترشاً له، فلا يبالي بها ولا يصيبه منها أذى.
والجمل الوليد يخرج من بطن أمه مزودا بهذه الوسائد المتغلظة، فهي شيء ثابت موروث وليست من قبيل ما يظهر بأقدام الناس من الحفاء أو لبس الأحذية الضيقة.
قال حذيفة: فقد أعد الله تعالى الإبل إعدادا من أجل مهام السفر الصعبة!؟
قال علي: ليس ذلك فقط.. أو بالأحرى ذلك ما يمكن أن يعرف بالنظر البسيط القاصر.
قال حذيفة: فهل هناك نظر آخر أعمق وأطول؟
قال علي: أجل.. هناك أشياء تحتاج إلى نظر أعمق، أو بأجهزة تعين البصر القاصر.
قال حذيفة: فحدثني عن بعض ما دل عليه النظر الأعمق.
قال علي: منها أن الجمل يحافظ على مياهه بقدر الإمكان، لأنه في صحراء قليلة المياه، فلذلك لا تراه يتنفس من فمه، ولا يلهث أبداً مهما اشتد الحر أو استبد به العطش، وهو بذلك يتجنب تبخر الماء من هذا السبيل.
وهو لا يفرز إلا مقدار ضئيلاً من العرق عند الضرورة القصوى بفضل قدرة جسمه على التكيف مع المعيشة في ظروف الصحراء التي تتغير فيها درجة الحارة بين الليل والنهار، ويستطيع جهاز ضبط الحرارة في جسم الجمل أن يجعل مدى تفاوت الحرارة نحو سبع درجات كاملة دون ضرر، أي بين 34م و41 م ، ولا يضطر الجمل إلى العرق إلا إذا تجاوزت حرارة جسمه 41م ويكون هذا في فترة قصيرة من النهار، أما في المساء فإن الجمل يتخلص من الحرارة التي اختزنها عن طريق الإشعاع إلى هواء الليل البارد دون أن يفقد قطرة ماء، وهذه الآلية وحدها توفر للجمل خمسة ألتار كاملة من الماء.
ولا يفوتنا أن نقارن بين هذه الخاصة التي يمتاز بها الجمل وبين نظيرتها عند جسم الإنسان الذي ثبت درجة حرارة جسمه العادية عند حوالي 37 م ، وإذا انخفضت أو ارتفعت يكون هذا نذير مرض ينبغي أن يتدارك بالعلاج السريع، وربما توفي الإنسان إذا وصلت حرارة جسمه إلى القيمتين اللتين تتراوح بينهما درجة حرارة جسم الجمل ( 34م و41 م )
و هناك أمر آخر يستحق الذكر، وهو أن الجسم يكتسب الحرارة من الوسط المحيط به بقدر الفرق بين درجة حرارته ودرجة ذلك الوسط، ولو لم يكن جهاز ضبط حرارة جسم الجمل ذكياً ومرنا بقدرة الخالق اللطيف لكان الفرق بين درجة حرارة الجمل ودرجة حرارة هجير الظهيرة فرقاً كبيراً يجعل الجمل إلى 41م في نهار الصحراء الحارق يصبح هذا الفرق ضئيلاً وتقل تبعاً لذلك كمية الحرارة التي يمتصها الجسم، وهذا يعني ان الجمل الظمآن يكون أقدر على تحمل القيظ من الجمل الريان ، فسبحان الله العليم بخلقه.
ويضيف علماء الأحياء ووظائف الأعضاء سببا جديداً يفسر قدرة الإبل على تحمل الجوع والعطش عن طريق إنتاج الماء الذي يحتاجه من الشحوم الموجودة في سنامه بطريقة كيماوية يعجز الإنسان عن مضاهاتها.
فمن المعروف أن الشحم والمواد الكربوهيدراتية لا ينتج عن احتراقها في الجسم سوى الماء وغاز ثاني أسيد الكربون الذي يتخلص منه الجسم في عملية التنفس، بالإضافة إلى تولد كمية كبيرة من الطاقة اللازمة لواصلة النشاط الحيوي.
ومعظم الدهن الذي يختزنه الجمل في سنامه يلجأ إليه الجمل حين يشح الغذاء أو ينعدم ، فيحرقه شيئاً فشياً ويذوى معه السنام يوماً بعد يوم حتى يميل على جنبه ، ثم يصبح كيساً متهدلاً خاوياً من الجلد إذا طال الجوع والعطش بالجمل المسافر المنهك.
و من حكمة خلق الله في الإبل أن جعل احتياطي الدهون في الإبل كبيراً للغاية يفوق أي حيوان آخر ويكفي دليل على ذلك أن نقارن بين الجمل والخروف المشهور بإليته الضخمة المملوءة بالشحم، فعلى حين نجد الخروف يختزن زهاء 11كجم من الدهن في إليته، نجد أن الجمل يختزن ما يفوق ذلك المقدار بأكثر من عشرة أضعاف ( أي نحو 120 كجم) ، وهي كمية كبيرة بلا شك يستفيد منها الجمل بتمثيلها وتحويلها إلى ماء وطاقة وثاني أكسيد الكربون.
ولهذا يستطيع الجمل أن يقضي حوالي شهر ونصف بدون ماء يشربه، ولكن آثار العطش الشديد تصيبه بالهزال وتفقده الكثير من وزنه، وبالرغم من هذا فإنه يمضي في حياته صلدا لا تخور قواه إلى أن يجد الماء العذب أو المالح فيعب ( تعزى قدرة الجمل الخارقة على تجرع محاليل الأملاح المركزة إلى استعداد خاص في كليته لإخراج تلك الأملاح في بول شديد التركيز بعد أن تستعيد معظم ما فيه من ماء لترده إلى الدم )فيعب منه عبا حتى يطفئ ظمأه.
و ثمة ميزة أخرى للإبل تهيئه لهذه المهام الصعبة، فإن الجمل الظمآن يستطيع أن يطفئ ظمأه من أي نوع وجد من الماء، حتى وإن كان ماء البحر أو ماء في مستنقع شديد الملوحة أو المرارة، وذلك بفضل استعداد خاص في كليتيه لإخراج تلك الأملاح في بول شديد التركيز بعد أن تستعيدا معظم ما فيه من ماء لترده على الدم.
والأعجب من هذا كله أن الجمل إذا وضع في ظروف بالغة القسوة من هجير الصحراء اللافح فإنه سوف يستهلك ماء كثيراً في صورة عرق وبول وبخار ماء ، مع هواء الزفير حتى يفقد نحو ربع وزنه دون ضجر أو شكوى، والعجيب في هذا أن معظم هذا الماء الذي فقده استمده من أنسجة جسمه، ولم يستنفذ من ماء دمه إلا الجزء الأقل، وبذلك يستمر الدم سائلاً جارياً موزعاً للحرارة ومبددا لها من سطح جسمه.
قال حذيفة: فكل هذا من الخصائص التي وفرت لهذا الحيوان ليكون مركبا صالحا في الصحراء القاحلة.
قال علي: هذا بعض ما تمكن العلم من معرفته.. وهناك الكثير مما لا يزال في طي الغيب.
قال حذيفة: لقد ميز الله الإبل بخلاف سائر الأنعام بأنها تستعمل في الركوب والتغذية.
قال علي: أجل.. وهذا من المزايا العظيمة.. ألم أقل لك: إنها حيوان الظروف الصعبة الشديدة.. ولولاها لما تمكن الإنسان في القديم من اختراق الصحراء.
قال حذيفة: فحدثني عن الجمل المغذي، كما حدثتني عن الجمل المركوب.
قال علي: لقد شرف الله تعالى الجمل، فجعلها من شعائر الله، فقال:﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الحج:36) ، ولا شك أنك تعلم القيمة الغذائية للحم الجمل.
ولذلك سأحدثك عن ألبانها.. لأنها مصدر ثري من مصادر الغذاء..
لقد عرفت البشرية الدور المتميز الذي يمكن أن تقوم به الإبل في مشاكل الأمن الغذائي للبشر، ففي عامي 1984 و1985، حين أصيبت أفريقيا بالجفاف هلكت ـ أو كادت تهلك ـ في كينيا القبائل التي كانت تعيش على الأبقار التي كفت عن إفراز اللبن، ثم مات معظمها، بينما نجت القبائل التي كانت تعيش على الإبل، لأن النوق استمرت في الجود بألبانها في موسم الجفاف.
وقد اهتم العلماء بالأبحاث المتعلقة بألبان الإبل في الربع الأخير من القرن العشرين فأجريت مئات الأبحاث على أنواع الجمال، وكمية الألبان التي تدرها في اليوم وفترة إدرارها للألبان بعد الولادة، ومكونات لبن الإبل. وبعد دراسات مستفيضة خلص العلماء إلى أن لبن الإبل يعتبر عنصراً أساسياً في تحسين غذاء الإنسان كما ونوعًا.
وتدل الإحصائيات على أن الناقة تحلب لمدة عام كامل في المتوسط بمعدل مرتين يومياً، ويبلغ متوسط الإنتاج اليومي لها من 5 ـ 10 كجم من اللبن، بينما يبلغ متوسط الإنتاج السنوي لها حوالي 230 ـ 260 كجم[14].
قال حذيفة: فما هي مكونات لبن الإبل التي أهلته لهذا الدور الخطير؟
قال علي: يتدرج لبن الإبل في مكوناته بناء على مرحلة الإدرار وعمر الناقة وعدد أولادها وكمية ونوع الطعام الذي تتغذى عليه، وكذلك على كمية الماء المتوفر للشرب.
ويعتبر لبن الإبل عالي القلوية ولكن سرعان ما يصير حمضيا إذا ترك فترة من الزمن إذا يتراوح PH من 6.5 إلى6.7 بالمائة، ويتحول للحمضية بسرعة حيث يزداد حمض اللاكتيك من 0.03 بعد ساعتين إلي 14بالمائة بعد 6 ساعات، ويتراوح الماء في لبن الإبل من 84 إلى90بالمائة من مكوناته، وتتراوح الدهون في اللبن في المتوسط حوالي 5.4 ، والبروتين حوالي 3 بالمائة، ونسبة سكر اللاكتوز حوالي 3.4 والمعادن حوالي 0.7بالمائة مثل الحديد والكالسيوم والفوسفور والمنجنيز والبوتاسيوم والماغنيسيوم.
وهناك اختلافات كبيرة في هذه المركبات بين الأنواع المختلفة من الإبل، وتعتمد على الطعام والشراب المتوفر لها، ونسبة الدهون إلي المواد الصلبة في لبن الإبل أقل منها في لبن الجاموس حيث تبلغ في لبن الإبل 31.6بالمائة بينما في الجاموس 40.9بالمائة كما أن الدهون في لبن الإبل توجد على هيئة حبيبات دقيقة متحدة مع البروتين لذلك يصعب فصلها في لبن الإبل بالطرق المعتادة في الألبان الأخرى.
والأحماض الدهنية الموجودة في لبن الإبل قصيرة السلسلة، وهي أقل منها في الألبان الأخرى، كما أن لبن الإبل يحتوي على تركيز اكبر للأحماض الدهنية المتطايرة خصوصاً حمض اللينوليك والأحماض الدهنية المتعددة غير المتشيعة، والتي تعتبر حيوية في غذاء الإنسان خصوصا مرضى القلب،. كما أن نسبة الكليستيرول في لبن الإبل منخفضة مقارنة بلبن البقر بحوالي 40بالمائة.
وتصل نسبة بروتين الكازين في بروتين لبن الإبل الكلي إلى 70بالمائة مما يجعل لبن الإبل سهل الهضم.
ويحتوي لبن الإبل على فيتامين ج بمعدل ثلاثة أضعاف وجوده في لبن البقر، ويزداد إذا تغذت الإبل على أعشاب وغذاء غني بهذا الفيتامين.
كما أن فيتامين ب 1، 2 موجود بكمية كافية في اللبن أعلي من لبن الغنم كما يوجد فيه فيتامين أ (A) والكاروتين بنسب كافية.
قال حذيفة: هذا تركيبه، فما استعمالاته الصحية، فقد وردت الأحاديث في التداوي بألبان الإبل[15]؟
قال علي: هناك اكتشافات مثيرة جدا فيما يتعلق بالتركيبة الكيماوية لحليب الناقة الذي يشبه حليب الأم أكثر مما يشبه حليب البقرة.
فقد اكتشف أن حليب الناقة يحتوي على كمية قليلة من اللاكتوز سكر الحليب والدهن المشبع، إضافة إلى احتوائه على كمية كبيرة من فيتامين ج ، الكالسيوم والحديد، مما يجعله ملائما للأطفال الذين لا يرضعون.
كما تبين أن حليب الناقة غني ببروتينات جهاز المناعة، وهو ملائم لمن لا يتمكن جهازه الهضمي من هضم سكر الحليب.
ويحتوي هذا الحليب على مواد قاتلة للجراثيم، ولذلك يلائم من يعانون من الجروح، ومن يعانون من أمراض التهاب الأمعاء، كما يوصى به لمن يعانون من مرض الربو، ولمن يتلقون علاجا كيماويا لتخفيف حدة العوارض الجانبية مثل التقيؤ، كما يوصى به للمرضى الذين يعانون من أمراض تتعلق بجهاز المناعة مثل أمراض المناعة الذاتية حين يبدأ الجسم بمهاجمة نفسه.
وقد أوضحت الدراسات العديدة التي قام بها بعض الباحثين (1994 و2000) أن لبن الإبل يمتاز بميزات مناعية فريدة ، حيث أنه يحتوي على تركيزات مرتفعة للغاية من بعض المركبات المثبطة لفعل بعض البكتريا الممرضة وبعض الفيروسات.
وفي الهند يستخدم لبن الإبل كعلاج للاستسقاء واليرقان ومتاعب الطحال والسل والربو والأنيميا والبواسير وفي علاج مرض الكبد الوبائي المزمن وتحسين وظائف الكبد وقد تحسنت وظائف الكبد في المرضى المصابين بإلتهاب الكبد بعد أن عولجوا بلبن الإبل.
كما ثبت أن حليب الإبل يخفض مستوي الجلوكوز، وبالتالي يمكن أن يكون له دور في علاج السكري(1، 2)، ومن المدهش أنه قد وجد في لبن الإبل مستويات عالية من الأنسولين وبروتينات شبيه بالأنسولين، وإذا شرب اللبن فإن هذه المركبات تنفذ من خلال المعدة إلي الدم من غير أن تتحطم، بينما يحطم الحمض المعوي الأنسولين العادي، وهذا قد أعطى الأمل لتصنيع أنسولين يتناوله الإنسان بالفم، وتعكف شركات الدواء اليوم على تصنيعه وتسويقه في القريب العاجل.
وقد وجد في دراسة حديثة أن مرضى النوع الأول من السكري قد استفادوا حينما تناولوا كوباً من حليب الإبل وانخفض لديهم مستوي السكر في الدم وخفضوا كمية الأنسولين المقررة لهم.
وفي أحدث دراسة[16] وجد أن عائلة الجمال وخصوصا الجمال العربية ذات السنام الواحد تتميز عن غيرها من بقية الثدييات في أنها تملك في دمائها وأنسجتها أجســـاما مضادة صغيرة تتركب من سلاسل قصيرة من الأحماض الأمينية.
ولا توجد هذه الأجسام المضادة إلا في الإبل العربية ، زيادة على وجود الأجسام المضادة الأخرى الموجودة في الإنسان وبقية الحيوانات الثديية فيها أيضا.
وحجم هذه الأجسام المضادة هو عشر حجم المضادات العادية وأكثر رشاقة من الناحية الكيميائية وقادرة على أن تلتحم بأهدافها وتدمرها بنفس قدرة الأضداد العادية، وتمر بسهولة عبر الأغشية الخلوية وتصل لكل خلايا الجسم.
وتمتاز هذه الأجسام النانوية بأنها أكثر ثباتا في مقاومة درجة الحرارة ولتغير الأس الأيدروجيني تغيرا متطرفاً، وتحتفظ بفاعليتها اثناء مرورها بالمعدة والأمعاء بعكس الأجسام المضادة العادية التي تتلف بالتغيرات الحرارية وبإنزيمات الجهاز الهضمي، مما يعزز من آفاق ظهور حبات دواء تحتوي أجساما نانوية لعلاج مرض الأمعاء الالتهابي وسرطان القولون والروماتويد وربما مرضى الزهايمر أيضاً.
وقد تركزت الأبحاث العلمية على هذه الأجسام المضادة منذ حوالي 2001م في علاج الأورام على حيوانات التجارب وعن الإنسان، وأثبتت فاعليتها في القضاء على الأورام السرطانية حيث تلتصق بكفاءة عالية بجدار الخلية السرطانية وتدمرها، وقد نجحت بعض الشركات المهتمة بأبحاث التكنولوجيا الحيوية الخاصة في بريطانيا وأمريكا في إنتاج دواء على هيئة أقراص مكون من مضادات شبيهة بالموجودة في الإبل لعلاج السرطان والأمراض المزمنة العديدة والالتهابات البكتيرية والفيروسية.
وطورت بعض الشركات هذه الأجسام النانوية لتحقق ستة عشر هدفاً علاجياً تغطي معظم الأمراض المهمة التي يعاني منها الإنسان، وأولها السرطان، يليها بعض الأمراض الالتهابية، وأمراض القلب والأوعية الدموية.
في اليوم السادس.. كان موضوع المحاضرات يتناول الحيوانات في القرآن الكريم.
وقد قدم العلماء محاضراتهم التي غلب عليها الجانب البياني والفقهي.. كعادتهم في سائر الأيام.
ثم قدم صاحبي عالم الحيوان محاضرته، ولم يكن هناك أي رابط بين تلك المحاضرات..
وصاحبي هذا ـ بالإضافة إلى كونه عالم حيوان ـ من جمعية للرفق بالحيوان، فهو محب لها غاية الحب، رفيق بها غاية الرفق، بل هو يكاد يتعامل معها كما يتعامل مع الإنسان، بل إنه ـ لغرابة أطواره في هذا ـ كان كلما ذكر حيوانا أطلق عليه لفظ أخي أو صديقي، جادا غير هازل، وهو لا يعبأ بضحك من يضحك من المستمعين له من طلبته أو أصدقائه.
وكان لهذا قريبا من الدين.. ولكنه شديد البعد من الكتاب المقدس، وقد ذكر لي سبب ذلك، فقال: لماذا يشوه الكتاب المقدس سلام المسيح؟
قلت: ما الذي تقصد؟
قال: لقد قرأت في أول شبابي ما جاء عن تسبب المسيح بمقتل ألفي حيوان في وقت واحد.. كما في (مرقس: 5: 11):( وَكَانَ هُنَاكَ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى عِنْدَ الْجَبَلِ، فَتَوَسَّلَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلَةً: أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا، فَأَذِنَ لَهَا بِذَلِكَ، فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ، فَانْدَفَعَ قَطِيعُ الْخَنَازِيرِ مِنْ عَلَى حَافَةِ الْجَبَلِ إِلَى الْبُحَيْرَةِ، فَغَرِقَ فِيهَا، وَكَانَ عَدَدُهُ نَحْوَ أَلْفَيْنِ)؟
قرأ هذا النص، ثم قال: ما ذنب الخنازير، وما ذنب صاحب الخنازير ، حين أراد إخراج الشياطين من المجنون؟..ألم يكن من الأجدى إخراج الشياطين دون الإضرار بالخنازير؟!
قال ذلك ، ثم قال: من ذلك اليوم الذي قرأت فيه هذا النص لم أعد للكتاب المقدس.. فلا أتصور أن الله يقسو على خلقه بهذه الطريقة.
كان هذا هو بداية موقفه من المسيحية، أما الإسلام، فلم يتخذ منه موقفا سلبيا إلا في ذلك اليوم ، فقد ألقى بعض المحاضرين محاضرة عن موقف سليمان u من الخيل، وذلك في تفسير قوله تعالى:﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)﴾(ص)
وللأسف، فإن هذا المفسر بعد استعراضه لجميع الأقوال في تفسير الآية لم يحلو له إلا أن يفسرها بما يسيء لسليمان، وبمثله للقرآن.
لقد ذكر أن سليمان u عرض عليه الخيل الجياد في وقت العصر، فألهاه هذا العرض عن صلاة العصر، فلما اقترب المغرب غضب وطلب من الله أن يرد الشمس بعد أن غربت ليصلي العصر فردت.. وكصورة من غضبه على الخيل لأنها كانت السبب في فوات العصر وألهته عن الصلاة قام وقطع سوقها وأعناقها مسحاً بالسيف.
ومع أن القائلين بهذا من التابعين الذي استفادوا هذه التفاسير من اليهود الذين أسلموا إلا أنه راح يدافع على هذا، ويخالف ابن عباس صاحب رسول الله r الذي فسرها بأنه جعل يمسح أعراف الخيل، وعراقيبها حبالها.
وقد قال تعليقا على هذا القول: وهذا القول اختاره ابن جرير ، واستدل له بأنه لم يكن سليمان u ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها.
ثم علق عليه بقوله:( وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، ولا سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه شغل بها حتى خرج وقت الصلاة؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر، فهذا أسرع وخير من الخيل )[1]
لقد كان لذلك الترجيح تأثيره السلبي على صديقنا عالم الحيوان..
ومع أنه كان يرى طرق المسلمين في الذبح.. ولكنه لم يكن ينكر عليها، بل كان يرى ذلك أرحم للحيوان من سائر الطرق التي يقتل بها الحيوان[2].
في ذلك المساء.. سرنا إلى حديقة للحيوانات.. وقد أبلغت عليا بالمحل الذي نذهب إليه.
وهناك في تلك الحديقة رحنا نتجول على الحيوانات.. ونستمع لما يقوله صديقنا عالم الحيوانات عنها.
1 ـ حيوانات مسخرة
أمام مجموعة من الخيل العربية الأصيلة وقفنا ننظر إلى جمالها ورشاقتها، وفجأة سمعنا عليا يحادث صديقه حذيفة بطريقته المعهودة، وبصوت مرفوع، وكأنه يتعمد أن يسمعنا.
قال علي: ويل لهم.. كيف يسيئون للقرآن؟.. إنهم يحرفون القرآن الكريم من حيث لا يشعرون.
قال حذيفة: هم لم يذكروا إلا ما قال المفسرون.
قال علي: ألم تسمع بما قال الإمام أحمد من أنه ثلاثة لا أصول لها، وذكر من بينها التفسير؟
قال حذيفة: أسمع هذا.. بل لدي سند بروايته إلى أحمد.
قال علي: فكيف رحتم تتساهلون في التفسير مع علمكم أنه تفسير لكلام الله.. لقد تشددتم في حروف القرآن.. ولكنكم أعطيتم الحرية المطلقة لمن يريد تشويهه؟
قال حذيفة: ولكنهم يروون هذه الأقوال عن قتادة وغيره من التابعين.
قال علي: فيكف رغبوا عن ابن عباس ترجمان القرآن.. وراحوا لقتادة..
ثم لماذا تركوا الألفاظ الصريحة الظاهرة، وراحوا يؤولون ويتحكمون ويتلاعبون!؟
لقد ذكر القرآن المسح.. وليس للمسح في ظاهر اللغة إلا معناه المعروف.. ألم يرد في القرآن الكريم:﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً)(النساء: من الآية43)، وقال تعالى:﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(المائدة: من الآية6)
قال حذيفة: بلى..
قال علي: فما معنى المسح في هاتين الآيتين؟
قال حذيفة: معناه المسح المعروف الذي هو وضع اليد بحنان على الممسوح.
قال علي: فلم رغبوا عن هذا المعنى الظاهر المؤيد يقول الصحابي الجليل إلى غيره؟
سكت حذيفة، فقال علي: ليس من سبب لذلك غير الجهل بالمعاني السامية للقرآن الكريم..
إن هؤلاء الذين ينشرون مثل هذه المعاني، كمن وصف له طبيب دواء ليستعمله، فراح بفهمه السقيم، واشترى بدله سما راح يتجرعه، ويسقيه لغيره.
قال حذيفة: ما تقول؟
قال علي: هذه هي الحقيقة.. أنت تعرفني.. فأنا لا أحب المجاملات.
قال حذيفة: فأين الداوء ، وأين السم في الآية؟
قال علي: إن هذه الآية تصف وصفة طبية نفسية شرعية لكيفية التعامل مع الحيوانات.. لكنهم بفهمهم السقيم حولوها سما يسقونه الناس، ويشوهون به الحقائق.
قال حذيفة: فصل لي ما ذكرت.
الخيل:
قال علي: أنت تعرف ما ورد في النصوص الكثيرة من فضل الخيل.
قال حذيفة: أجل.. ويكفيها شرفا أن رسول الله r قال فيها:﴿ الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة )[3]
قال علي: بل إن الله تعالى أمر بالاحتفاظ بها وتهيئتها لمقاومة الظالمين، فقال:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)
قال حذيفة: وقد وردت الأحاديث في فضلها لأجل ذلك.. فقد قال r:( الخيل لثلاثة: لرجل أجْر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر؛ فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج ـ أو: روضة ـ فما أصابت في طيلها ذلك من المرج ـ أو: الروضة ـ كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقي به، كان ذلك حسنات له؛ فهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تغنِّيًا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر، ورجل ربطها فخرًا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر )[4]
وفي حديث آخر عن عبد الله بن مسعود t ، عن النبي r قال:( الخيل ثلاثة: ففرس للرحمن، وفرس للشيطان، وفرس للإنسان، فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله، وذكر ما شاء الله. وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها، فهي ستر من فقر)[5]
وقد روي في الاثار الموقوفة ما يدل على تحبيب الله للخيل، فقد أن معاوية بن حديج مر على أبي ذر، وهو قائم عند فرس له، فسأله: ما تعالج من فرسك هذا؟ فقال: إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته! قال: وما دعاء بهيمة من البهائم؟ قال: والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر فيقول: اللهم، أنت خولتني عبدا من عبادك، وجعلت رزقي بيده، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده[6].
قال علي: لقد نص القرآن الكريم على هذا، فقد قال تعالى:﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14)
قال حذيفة: فهمت هذا ووعيته، فما الذي تريد منه؟
قال علي: أفترى أن هذا النبي الكريم غاب عنه ما جعل الله في الخيل من فضل، فراح يقتلها من غير فائدة.
قال حذيفة: لا أرى ذلك.. وبورك فيك.. فقد نبهتني لسوء ما كنت أعتقده، ولكن ما الذي جعلك ترى أن ما فعله سليمان دواء يمكن الاستفادة منه؟
قال علي: بلى.. هو دواء.. وما ذكره الله لنا إلا لنستفيد منه، ألم يقل الله تعالى:﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام: من الآية90)؟
قال حذيفة: فما هذا الدواء[7]؟
قال علي: إن اختيار سليمان u لمواضع معينة يمسح بها على خيله يتوافق تماما مع الفحص البيطري المعمول به لخيل السبق في الوقت الحاضر.
فكل المراجع العلمية الحديثة المرتبطة بعلم الحيوان أفردت لفحص واختبار الخيل فصولاً طويلة أساسها كلها ما جاء في القرآن الكريم، فنجد في كتاب (أصول الطب البيطري)، وتحت عنوان (الاقتراب من الحيوانات) قوله:( للحيوانات الأهلية أمزجة متباينة، وطباع تتقلب بين الدعة والشراسة لذلك يتطلب الاقتراب منها حرصاً وانتباهاً عظيمين خصوصاً للغريب الذي لم يسبق له معاملتها أو خدمتها ، نجد أنه في الخيل يجب أن يظهر فاحص الحصان نحوه كثيراً من العطف وهو داخل عليه فيربت على رأسه ورقبته وظهره فيطمئن إليه ويعلم أن القادم صديق فلا يتهيج أو يرفس )
ولما كانت أهم أجزاء الحصان قوائمه، فهي التي تجري عليها، والجري من أهم صفات الخيل الرئيسية، فإن أول ما يتجه إليه الإنسان عند فحص الخيل هو اختبار قوائمه ويجب رفع قائمة الحصان عند فحصه، وفي ذلك يقول نفس الكتاب:( ولرفع القائمة الأمامية يمسك الفاحص بزمام الحصان ويقف الفاحص بجوار كتفه متجهاً للمؤخرة ثم يربت له على جانب رقبته وكتفه إلى أن يصل باليد إلى المرفق فالساعد فيصل المسافة بين الركبة والرمانة وهنا يشعر الحصان باليد التي تمسك أوتار قائمته فيرفعها طائعاً مختاراً )
وقياس نبض الخيل من أهم الأمور التي يجب على الفاحص أن يبدأ بها فحصه للحصان، فعن طريق النبض يمكن معرفة حالة الحصان المرضية، ويقرر العلم أن قياس النبض في الخيل يكون من الشريان تحت الفكي والشريان الصدغي والشريان الكعبري.
وإذا كان قياس النبض، والحصان في حالة هدوئه إنما يكشف للإنسان عن حالة الحصان المرضية وعما إذا كان مصاباً بمرض أو سليماً، فإن قياس نبضه لمعرفة درجة احتمال قلبه وطاقته لابد أن تكون بعد أن يقوم الحصان بل بشوط من الجري.. كما أنه توجد في بعض الخيول عيوب تقلل من قيمة الحصان، ولذلك فإن الطريقة التي أصبحت دستوراً يعمل به عند فحص واختبار الخيل هي أنه بعد الفحص الظاهري الأول للحصان والتأكد من صلاحيته شكلاً ومنظراً يقوم بالعدو لشوط كبير على قدر الاستطاعة ومراقبته أثناء العدو.. ثم قياس نبضه بعد أن فحص الخيل فحصاً ظاهرياً إذ عرضت عليه.
لذلك أمر النبي سليمان u بأن تعدو الخيل إلى أقصى وأبعد ما يستطاع حتى توارت بالحجاب، فلم تعد رؤيتها مستطاعة.. ثم طلب أن تعود بعد هذا الشوط الطويل من العدو، وعندها قام بالفحص العملي لقياس النبض من الشريان تحت الفكي والصدغي والكعبري كما قام بفحص ساق الحصان بعد هذا المجهود ليعرف أثر العدو عليه وطاقة الساق عليه.
ما سمع صاحبي عالم الحيوانات هذا الكلام حتى ارتسمت على وجهه أسارير السعادة، ثم طلب منا أن نتبع هذين الرجلين لنتنصت عليهما، وعلى حوارهما الهادئ اللطيف.
قال حذيفة: لقد وصف القرآن الكريم هذه الخيل بالجياد.. فما مراده من ذلك؟
قال علي: لقد وصفت قبل وصفها بالجياد بكونها صافنات، والصافنات وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة لقوتها وخفتها، وهي علامة الصحة للخيل.
والجياد معناها السراع، ولا شك في أن قيمة الخيل في سرعتهان وقد ورد وصف لسرعتها في سورة أخرى من القرآن الكريم ، وهي سورة العاديات، قال تعالى:﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)﴾(العاديات)
فالله تعالى يقسم في هذه السورة بخيل المعركة، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر منها، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو، مثيرة للنقع والغبار، غبار المعركة على غير انتظارن وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب[8].
قال حذيفة: لكأن الله تعالى يأمرنا في هذه السورة بأن ندرب الخيل لنؤهلها لمثل هذه الصفات.
قال علي: بورك فيك.. هكذا ينبغي أن نفهم القرآن.. فكل آياته تربية وتعليم وتوجيه.
قال حذيفة: زدني من صفات الخيل في القرآن.
قال علي: لقد وصف الله الخيل بأنها ترسل عرفها أي تنشره على رقبتها، قال تعالى:﴿ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً﴾(المرسلات:1) والآية بالأصل تصف الرياح وتشبهها بالخيل.
الحمار:
سار علي وحذيفة نحو قفص قريب وضع فيه أحمرة بألوانها المختلفة، وأنواعها المختلفة، فقال حذيفة: هذا هو الحمار الذي ورد النكير عليه في النصوص.
قال علي: لم أجد نصا ينكر على الحمار.. الحمار من نعم الله الكبرى على البشر، لقد ظل فترة طويلة مسخرا للإنسان يركبه ويستعمله ، وهو لا يزال يفعل ذلك.
بل إن القرآن من علينا به، فقال:﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل:8)
قال حذيفة: أنت لم تفهم قصدي.. أنا أقصد قوله تعالى:﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:19)، فهذا الخطاب جاء على لسان لقمان الحكيم u ، وهو يعظ ابنه حيث طلب منه إخفاض صوته لأن الصوت العالي يصبح منكراً.
قال علي: فالإنكار للصوت العالي، لا للحمار، والصوت العالي منكر سواء كان من الحمار أو غيره، بل إن العلماء عدوا الضجيج من التلوث البيئي.
قال حذيفة: فالحمار يلوث البيئة إذن؟
قال علي: لا.. إن الصوت الحمير أرحم بكثير من تلك الفوضى الصوتية التي يعيشها البشر..
ومع ذلك فالله تعالى يؤدبنا بهذا ليعلمنا كيف ندرب أصواتنا حتى لا تكون منكرة.
قال حذيفة: وهل يمكن ذلك.. الأصوات شيء خارج عن أيدينا.
قال علي: لا.. بل إن الكثير منه في أيدينا.. ولولا ذلك ما أمر لقمان u ابنه به.
قال حذيفة: فما وجه الإشارة في الآية إلى هذا التدريب؟
قال علي: لقد وجد العلماء أن سبب قبح صوت الحمار يكمن في قلة حركته وعدوه.. بخلاف الخيل التي وصفت بـ ﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾(العاديات:1) فقد ربطت بين العدو والصهيل، فصوت الضبح هو الصهيل الخفيف غير المزعج، والذي اكتسبه الحصان بفضل العدو حيث ذابت كل الشحوم حول الأحبال الصوتية، وتعرضت هذه الأحبال للإحماء والشد من خلال رياضة العدو، فيشبه ذلك شد أوتار المعازف لكي تحصل على صوت عال ذي نبرة رفيعة جميلة، والضبح صوت بين الصهيل والحمحمة ينتج من العدو.
قال حذيفة: ليس هذا فقط مما ورد الإنكار عليه من صوت الحمار.
قال علي: فما ذاك؟
قال حذيفة: لقد أخبر r عن قدرة الحمار على رؤية الشيطان، وذلك مما يعيبه، فقد قال r:( إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله ، فإنها رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمار ، فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنه رأى شيطانا)[9]
قال علي: فأنت ترى أن رسول الله r مدح الديك في هذا الحديث، وذم الحمار؟
قال حذيفة: هذا ما أراه.
قال علي: فأنت تفضل الطباخ على الطبيب إذن؟
قال حذيفة: ما قصدك؟
قال علي: الطباخ يلبي حاجات شهوات بطنك، والطبيب ينبهك إلى أعدائك المتربصين بك، بل قد يحرمك من تلك الشهوات التي وصفها لك الطباخ.
قال حذيفة: فهمت قصدك.. أنت تقصد الحمير بمثابة الأطباء الذي ينبهون الإنسان إلى مكامن الخطر.
قال علي: أو مثل الحراس الذين يمسكون بصفارات حادة الأصوات لينبهوا الغافل إلى العدو المقبل.
قال حذيفة: فقد مدح r الحمير إذن بهذا؟
قال علي: أجل.. لقد أخبر رسول الله r عن طاقة من طاقات الحمار التي ننتفع بها، وهي قدرته على رؤية عالم الشر، ورؤية الشر ليست شرا، بل إن العلم بالشر هو الواقي للإنسان من الوقوع فيه.
والحمار بهذه الطاقة ، وما ينبه به داعية من دعاة ذكر الله ، وقد قال r:( لا ينهق الحمار حتى يرى شيطانا أو يتمثل له شيطان , فإذا كان ذلك فاذكروا الله وصلوا علي)[10]
ولعل ذلك الصوت المزعج للحمار سببه هذه الرؤية ، وليكون تنبيها للنفوس حتى لا تستريح لصوته ـ في حال كونه جميلا ـ عن الاستعاذة والصلاة.
قال حذيفة: فالحمار بذلك يمثل جنديا من جنود الله التي يتعرف المؤمن من خلالها على أعدائه ، أو هو عين من العيون التي يتبصر بها المؤمن بعض عوالم الله.
قال علي: وهو في كلا الدورين يشبه الديك ، فالديك هو عيننا على عالم الملائكة، كما أن الحمار عيننا على عالم الشياطين.
قال حذيفة: فهمت الآن سر تلك الآداب العالية التي كان يتصف بها السلف الصالح مع الحمير، فقد وري عن بعضهم قوله:( من الأدب إذا ركب العبد دابة أن يرحمها بالنزول عنها ولا يركب إلا عند الضرورة )
قال علي: بل إن r أمر بذلك، فقد نهى عن إتخاذ ظهور الدواب منابر، وعلل ذلك بقوله: ( فرب مركوبة خيرا أو أكثر ذكرا لله تعالى من راكبها)[11]
قال حذيفة: لقد ذكر القرآن الكريم هذا الدور الذي تقوم به، فقال:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة:5)
سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى في هذا إنكارا على الحمار؟
قال علي: لا.. الحمار لا يلام بأنه لا يعرف قيمة ما يحمل.. هو يؤدي دوره الذي طلب منه.. ولكن اللوم على من لا يفهم مع أن الله أعطاه آلة الفهم.
ألسنا نسب أحيانا بعض الناس، فننعتم بالصغار، فهل الصغار مذمومون؟
قال حذيفة: لا.. فما ذنب الصغير المسكين؟
قال علي: وهكذا الحمار.. فهو لا يلام، لأن اللوم لا يتوجه إلا لمن فرط في طاقاته وعطلها.
قال حذيفة: لقد وصفت الحمر في القرآن الكريم بكونها مستنفرة، فقال تعالى:﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾(المدثر:50-51 ) فما معنى ذلك؟
قال علي: هاتان الآيتان تتحدثان عن الحمر الوحشية التي يحب صيدها الأسد، وحمار الوحش حيوان جميل الشكل قريب الشبه بالخيل والحمار، ويختلف عنها بجلده المخطط.. وحمير الوحش من فصيلة متوحشة غير قابلة للاستئناس، وتتميز بوجود الخطوط السوداء على جسدها، وهي توجد في قطعان هائلة في السهول الفسيحة في أفريقيا.
البغال:
سار علي وحذيفة نحو قفص قريب معد للبغال، فقال حذيفة: لقد ذكر الله تعالى البغال من جملة الحيوانات المسخرة للركوب، فقال تعالى عنها:﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾(النحل:8)
قال علي: البغل هو الهجين الذي ينشأ من تزاوج الحمار والفرس، فيأخذ حجم الفرس وتحمل الحمار، لذا يكون الناتج أقوى.
وما يزيد قوته أيضاً أنه عقيم، والسبب في ذلك أنه يحمل عددا فردي للكروموسومات (63) حيث ينشأ من الوحدة بين كروموسومات الحمار (عددها62) والفرس أنثى الحصان(عدد كروموسوماتها64).
قال حذيفة: ألا ترى في ذكر القرآن للبغال ـ ما دامت بهذه الصفة ـ في هذه الآية التي ذكرت وسائل النقل أي إشارة عملية؟
قال علي: أجل.. إن فيها إشارة إلى نوع مفيد من الهندسة الوراثية.
قال حذيفة: ماذا تعني.. فالهندسة الوراثية لم تجلب لنا إلا الدمار.
قال علي: بل فيها بعض الخير، أو كثير من الخير لو حسنت النيات.
قال حذيفة: فكيف نطبقها في هذا المجال؟
قال علي: باختيار السلالات الطيبة من الحيوانات وإجراء التلاقح بينها لاستنتاج سلالات جيدة.. ألم تر أن القرآن الكريم وصف الخيل بالجياد؟
قال حذيفة: فما في ذلك؟
قال علي: لينبهنا إلى البحث عن الجيد.
الإبل:
سار علي وحذيفة إلى قفص آخر، وضعت فيه الجمال بأنواعها، فقال حذيفة: لقد ذكر القرآن الكريم كثيرا عالم الإبل[12].. بل إنه أمر بالنظر إليها، فقال تعالى:﴿ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية:17)
قال علي: هذه آية عظيمة.. فالله تعالى يدعونا إلى النظر في أسرار خلقه وما أودع فيها من جمال وطاقات.. إن هذا الأمر يستوي فيه البدوي بفطرته السليمة في صدر الإسلام، وعلماء الأحياء بأجهزتهم المستحدثة في أواخر القرن العشرين.
قال حذيفة: فعلمني من علمها ما علمك الله.
قال علي: إن ما كشفه العلم حديثاً عن بعض الحقائق المذهلة في خلق الإبل يفسر لنا بعض السر في اختيار الله للإبل لتكون محل نظرنا[13].
أول ما يلفت الأنظار في الإبل خصائصها البينات والشكل الخارجي الذي لا يخلو تكوينه من لطائف تأخذ بالألباب، فالعينان محاطتان بطبقتين من الأهداب الطوال تقيانهما القذى والرمال.
أما الأذنان فصغيرتان قليلتا البروز، فضلاً عن أن الشعر يكتنفها من كل جانب، ليقيها الرمال التي تذروها الرياح، ولهما القدرة عن الانثناء خلفاً والالتصاق بالرأس إذا ما هبت العواصف الرملية.
أما المنخران، فيتخذات شكل شقين ضيقين محاطين بالشعر وحافتهما لحمية، فيستطيع الجمل أن يغلقهما دون ما قد تحمله الرياح إلى رئتيه من دقائق الرمال.
أما ذيله ، فيحمل على جانبيه شعراً يحمى الأجزاء الخلفية من حبات الرمل التي تثيرها الرياح السافيات كأنها وابل من طبقات الرصاص.
أما قوائم الجمل، فهي طويلة لترفع جسمه عن كثير مما يثور تحته من غبار، كما أنها تساعده على اتساع الخطو وخفة الحركة.
وتتحصن أقدام الجمل بخف يغلفه جلد قوي غليظ يضم وسادة عريضة لينة تتسع عندما يدوس الجمل بها فوق الأرض، ومن ثم يستطيع السير فوق أكثر الرمل نعومة، وهو ما يصعب على أية دابة سواه، وهذاما يجعله جديراً بلقب (سفينة الصحراء)
لهذه الخصائص وغيرها ما زالت الإبل في كثير من المناطق القاحلة الوسيلة المثلى لارتياد الصحارى، وقد تقطع قافلة الإبل بما عليها من زاد ومتاع نحوا من خمسين أو ستين كيلومترا في اليوم الواحد، ولم تستطع السيارات بعد منافسة الجمل في ارتياد المناطق الصحراوية الوعرة غير المعبدة.
ومن الإبل أيضاً ما هو أصلح للركوب وسرعة الانتقال، مثل الرواحل المضمرة الأجسام التي تقطع في اليوم الواحد مسيرة مائة وخمسين كيلومترا.
ومما يناسب ارتفاع قوائم الجمل طول عنقه، حتى يتناول طعامه من نبات الأرض، كما أنه يستطيع قضم أوراق الأشجار المرتفعة حين يصادفها، هذا فضلاً عن أن هذا العنق الطويل يزيد الرأس ارتفاعاً عن الأقذاء، ويساعد الجمل على النهوض بالأثقال.
وحين يبرك الجمل للراحة أو يناخ ليعد للرحيل يعتمد جسمه الثقيل على وسائد من جلد قوي سميك على مفاصل أرجله، ويرتكز بمعظم ثقله على كلكله، حتى أنه لو جثم به فوق حيوان أو إنسان طحنه طحناً.
وهذه الوسائد إحدى معجزات الخالق التي أنعم بها على هذا الحيوان العجيب، حيث أنها تهيئه لأن يبرك فوق الرمل الخشنة الشديدة الحرارة التي كثيراً ما لا يجد الجمل سواها مفترشاً له، فلا يبالي بها ولا يصيبه منها أذى.
والجمل الوليد يخرج من بطن أمه مزودا بهذه الوسائد المتغلظة، فهي شيء ثابت موروث وليست من قبيل ما يظهر بأقدام الناس من الحفاء أو لبس الأحذية الضيقة.
قال حذيفة: فقد أعد الله تعالى الإبل إعدادا من أجل مهام السفر الصعبة!؟
قال علي: ليس ذلك فقط.. أو بالأحرى ذلك ما يمكن أن يعرف بالنظر البسيط القاصر.
قال حذيفة: فهل هناك نظر آخر أعمق وأطول؟
قال علي: أجل.. هناك أشياء تحتاج إلى نظر أعمق، أو بأجهزة تعين البصر القاصر.
قال حذيفة: فحدثني عن بعض ما دل عليه النظر الأعمق.
قال علي: منها أن الجمل يحافظ على مياهه بقدر الإمكان، لأنه في صحراء قليلة المياه، فلذلك لا تراه يتنفس من فمه، ولا يلهث أبداً مهما اشتد الحر أو استبد به العطش، وهو بذلك يتجنب تبخر الماء من هذا السبيل.
وهو لا يفرز إلا مقدار ضئيلاً من العرق عند الضرورة القصوى بفضل قدرة جسمه على التكيف مع المعيشة في ظروف الصحراء التي تتغير فيها درجة الحارة بين الليل والنهار، ويستطيع جهاز ضبط الحرارة في جسم الجمل أن يجعل مدى تفاوت الحرارة نحو سبع درجات كاملة دون ضرر، أي بين 34م و41 م ، ولا يضطر الجمل إلى العرق إلا إذا تجاوزت حرارة جسمه 41م ويكون هذا في فترة قصيرة من النهار، أما في المساء فإن الجمل يتخلص من الحرارة التي اختزنها عن طريق الإشعاع إلى هواء الليل البارد دون أن يفقد قطرة ماء، وهذه الآلية وحدها توفر للجمل خمسة ألتار كاملة من الماء.
ولا يفوتنا أن نقارن بين هذه الخاصة التي يمتاز بها الجمل وبين نظيرتها عند جسم الإنسان الذي ثبت درجة حرارة جسمه العادية عند حوالي 37 م ، وإذا انخفضت أو ارتفعت يكون هذا نذير مرض ينبغي أن يتدارك بالعلاج السريع، وربما توفي الإنسان إذا وصلت حرارة جسمه إلى القيمتين اللتين تتراوح بينهما درجة حرارة جسم الجمل ( 34م و41 م )
و هناك أمر آخر يستحق الذكر، وهو أن الجسم يكتسب الحرارة من الوسط المحيط به بقدر الفرق بين درجة حرارته ودرجة ذلك الوسط، ولو لم يكن جهاز ضبط حرارة جسم الجمل ذكياً ومرنا بقدرة الخالق اللطيف لكان الفرق بين درجة حرارة الجمل ودرجة حرارة هجير الظهيرة فرقاً كبيراً يجعل الجمل إلى 41م في نهار الصحراء الحارق يصبح هذا الفرق ضئيلاً وتقل تبعاً لذلك كمية الحرارة التي يمتصها الجسم، وهذا يعني ان الجمل الظمآن يكون أقدر على تحمل القيظ من الجمل الريان ، فسبحان الله العليم بخلقه.
ويضيف علماء الأحياء ووظائف الأعضاء سببا جديداً يفسر قدرة الإبل على تحمل الجوع والعطش عن طريق إنتاج الماء الذي يحتاجه من الشحوم الموجودة في سنامه بطريقة كيماوية يعجز الإنسان عن مضاهاتها.
فمن المعروف أن الشحم والمواد الكربوهيدراتية لا ينتج عن احتراقها في الجسم سوى الماء وغاز ثاني أسيد الكربون الذي يتخلص منه الجسم في عملية التنفس، بالإضافة إلى تولد كمية كبيرة من الطاقة اللازمة لواصلة النشاط الحيوي.
ومعظم الدهن الذي يختزنه الجمل في سنامه يلجأ إليه الجمل حين يشح الغذاء أو ينعدم ، فيحرقه شيئاً فشياً ويذوى معه السنام يوماً بعد يوم حتى يميل على جنبه ، ثم يصبح كيساً متهدلاً خاوياً من الجلد إذا طال الجوع والعطش بالجمل المسافر المنهك.
و من حكمة خلق الله في الإبل أن جعل احتياطي الدهون في الإبل كبيراً للغاية يفوق أي حيوان آخر ويكفي دليل على ذلك أن نقارن بين الجمل والخروف المشهور بإليته الضخمة المملوءة بالشحم، فعلى حين نجد الخروف يختزن زهاء 11كجم من الدهن في إليته، نجد أن الجمل يختزن ما يفوق ذلك المقدار بأكثر من عشرة أضعاف ( أي نحو 120 كجم) ، وهي كمية كبيرة بلا شك يستفيد منها الجمل بتمثيلها وتحويلها إلى ماء وطاقة وثاني أكسيد الكربون.
ولهذا يستطيع الجمل أن يقضي حوالي شهر ونصف بدون ماء يشربه، ولكن آثار العطش الشديد تصيبه بالهزال وتفقده الكثير من وزنه، وبالرغم من هذا فإنه يمضي في حياته صلدا لا تخور قواه إلى أن يجد الماء العذب أو المالح فيعب ( تعزى قدرة الجمل الخارقة على تجرع محاليل الأملاح المركزة إلى استعداد خاص في كليته لإخراج تلك الأملاح في بول شديد التركيز بعد أن تستعيد معظم ما فيه من ماء لترده إلى الدم )فيعب منه عبا حتى يطفئ ظمأه.
و ثمة ميزة أخرى للإبل تهيئه لهذه المهام الصعبة، فإن الجمل الظمآن يستطيع أن يطفئ ظمأه من أي نوع وجد من الماء، حتى وإن كان ماء البحر أو ماء في مستنقع شديد الملوحة أو المرارة، وذلك بفضل استعداد خاص في كليتيه لإخراج تلك الأملاح في بول شديد التركيز بعد أن تستعيدا معظم ما فيه من ماء لترده على الدم.
والأعجب من هذا كله أن الجمل إذا وضع في ظروف بالغة القسوة من هجير الصحراء اللافح فإنه سوف يستهلك ماء كثيراً في صورة عرق وبول وبخار ماء ، مع هواء الزفير حتى يفقد نحو ربع وزنه دون ضجر أو شكوى، والعجيب في هذا أن معظم هذا الماء الذي فقده استمده من أنسجة جسمه، ولم يستنفذ من ماء دمه إلا الجزء الأقل، وبذلك يستمر الدم سائلاً جارياً موزعاً للحرارة ومبددا لها من سطح جسمه.
قال حذيفة: فكل هذا من الخصائص التي وفرت لهذا الحيوان ليكون مركبا صالحا في الصحراء القاحلة.
قال علي: هذا بعض ما تمكن العلم من معرفته.. وهناك الكثير مما لا يزال في طي الغيب.
قال حذيفة: لقد ميز الله الإبل بخلاف سائر الأنعام بأنها تستعمل في الركوب والتغذية.
قال علي: أجل.. وهذا من المزايا العظيمة.. ألم أقل لك: إنها حيوان الظروف الصعبة الشديدة.. ولولاها لما تمكن الإنسان في القديم من اختراق الصحراء.
قال حذيفة: فحدثني عن الجمل المغذي، كما حدثتني عن الجمل المركوب.
قال علي: لقد شرف الله تعالى الجمل، فجعلها من شعائر الله، فقال:﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الحج:36) ، ولا شك أنك تعلم القيمة الغذائية للحم الجمل.
ولذلك سأحدثك عن ألبانها.. لأنها مصدر ثري من مصادر الغذاء..
لقد عرفت البشرية الدور المتميز الذي يمكن أن تقوم به الإبل في مشاكل الأمن الغذائي للبشر، ففي عامي 1984 و1985، حين أصيبت أفريقيا بالجفاف هلكت ـ أو كادت تهلك ـ في كينيا القبائل التي كانت تعيش على الأبقار التي كفت عن إفراز اللبن، ثم مات معظمها، بينما نجت القبائل التي كانت تعيش على الإبل، لأن النوق استمرت في الجود بألبانها في موسم الجفاف.
وقد اهتم العلماء بالأبحاث المتعلقة بألبان الإبل في الربع الأخير من القرن العشرين فأجريت مئات الأبحاث على أنواع الجمال، وكمية الألبان التي تدرها في اليوم وفترة إدرارها للألبان بعد الولادة، ومكونات لبن الإبل. وبعد دراسات مستفيضة خلص العلماء إلى أن لبن الإبل يعتبر عنصراً أساسياً في تحسين غذاء الإنسان كما ونوعًا.
وتدل الإحصائيات على أن الناقة تحلب لمدة عام كامل في المتوسط بمعدل مرتين يومياً، ويبلغ متوسط الإنتاج اليومي لها من 5 ـ 10 كجم من اللبن، بينما يبلغ متوسط الإنتاج السنوي لها حوالي 230 ـ 260 كجم[14].
قال حذيفة: فما هي مكونات لبن الإبل التي أهلته لهذا الدور الخطير؟
قال علي: يتدرج لبن الإبل في مكوناته بناء على مرحلة الإدرار وعمر الناقة وعدد أولادها وكمية ونوع الطعام الذي تتغذى عليه، وكذلك على كمية الماء المتوفر للشرب.
ويعتبر لبن الإبل عالي القلوية ولكن سرعان ما يصير حمضيا إذا ترك فترة من الزمن إذا يتراوح PH من 6.5 إلى6.7 بالمائة، ويتحول للحمضية بسرعة حيث يزداد حمض اللاكتيك من 0.03 بعد ساعتين إلي 14بالمائة بعد 6 ساعات، ويتراوح الماء في لبن الإبل من 84 إلى90بالمائة من مكوناته، وتتراوح الدهون في اللبن في المتوسط حوالي 5.4 ، والبروتين حوالي 3 بالمائة، ونسبة سكر اللاكتوز حوالي 3.4 والمعادن حوالي 0.7بالمائة مثل الحديد والكالسيوم والفوسفور والمنجنيز والبوتاسيوم والماغنيسيوم.
وهناك اختلافات كبيرة في هذه المركبات بين الأنواع المختلفة من الإبل، وتعتمد على الطعام والشراب المتوفر لها، ونسبة الدهون إلي المواد الصلبة في لبن الإبل أقل منها في لبن الجاموس حيث تبلغ في لبن الإبل 31.6بالمائة بينما في الجاموس 40.9بالمائة كما أن الدهون في لبن الإبل توجد على هيئة حبيبات دقيقة متحدة مع البروتين لذلك يصعب فصلها في لبن الإبل بالطرق المعتادة في الألبان الأخرى.
والأحماض الدهنية الموجودة في لبن الإبل قصيرة السلسلة، وهي أقل منها في الألبان الأخرى، كما أن لبن الإبل يحتوي على تركيز اكبر للأحماض الدهنية المتطايرة خصوصاً حمض اللينوليك والأحماض الدهنية المتعددة غير المتشيعة، والتي تعتبر حيوية في غذاء الإنسان خصوصا مرضى القلب،. كما أن نسبة الكليستيرول في لبن الإبل منخفضة مقارنة بلبن البقر بحوالي 40بالمائة.
وتصل نسبة بروتين الكازين في بروتين لبن الإبل الكلي إلى 70بالمائة مما يجعل لبن الإبل سهل الهضم.
ويحتوي لبن الإبل على فيتامين ج بمعدل ثلاثة أضعاف وجوده في لبن البقر، ويزداد إذا تغذت الإبل على أعشاب وغذاء غني بهذا الفيتامين.
كما أن فيتامين ب 1، 2 موجود بكمية كافية في اللبن أعلي من لبن الغنم كما يوجد فيه فيتامين أ (A) والكاروتين بنسب كافية.
قال حذيفة: هذا تركيبه، فما استعمالاته الصحية، فقد وردت الأحاديث في التداوي بألبان الإبل[15]؟
قال علي: هناك اكتشافات مثيرة جدا فيما يتعلق بالتركيبة الكيماوية لحليب الناقة الذي يشبه حليب الأم أكثر مما يشبه حليب البقرة.
فقد اكتشف أن حليب الناقة يحتوي على كمية قليلة من اللاكتوز سكر الحليب والدهن المشبع، إضافة إلى احتوائه على كمية كبيرة من فيتامين ج ، الكالسيوم والحديد، مما يجعله ملائما للأطفال الذين لا يرضعون.
كما تبين أن حليب الناقة غني ببروتينات جهاز المناعة، وهو ملائم لمن لا يتمكن جهازه الهضمي من هضم سكر الحليب.
ويحتوي هذا الحليب على مواد قاتلة للجراثيم، ولذلك يلائم من يعانون من الجروح، ومن يعانون من أمراض التهاب الأمعاء، كما يوصى به لمن يعانون من مرض الربو، ولمن يتلقون علاجا كيماويا لتخفيف حدة العوارض الجانبية مثل التقيؤ، كما يوصى به للمرضى الذين يعانون من أمراض تتعلق بجهاز المناعة مثل أمراض المناعة الذاتية حين يبدأ الجسم بمهاجمة نفسه.
وقد أوضحت الدراسات العديدة التي قام بها بعض الباحثين (1994 و2000) أن لبن الإبل يمتاز بميزات مناعية فريدة ، حيث أنه يحتوي على تركيزات مرتفعة للغاية من بعض المركبات المثبطة لفعل بعض البكتريا الممرضة وبعض الفيروسات.
وفي الهند يستخدم لبن الإبل كعلاج للاستسقاء واليرقان ومتاعب الطحال والسل والربو والأنيميا والبواسير وفي علاج مرض الكبد الوبائي المزمن وتحسين وظائف الكبد وقد تحسنت وظائف الكبد في المرضى المصابين بإلتهاب الكبد بعد أن عولجوا بلبن الإبل.
كما ثبت أن حليب الإبل يخفض مستوي الجلوكوز، وبالتالي يمكن أن يكون له دور في علاج السكري(1، 2)، ومن المدهش أنه قد وجد في لبن الإبل مستويات عالية من الأنسولين وبروتينات شبيه بالأنسولين، وإذا شرب اللبن فإن هذه المركبات تنفذ من خلال المعدة إلي الدم من غير أن تتحطم، بينما يحطم الحمض المعوي الأنسولين العادي، وهذا قد أعطى الأمل لتصنيع أنسولين يتناوله الإنسان بالفم، وتعكف شركات الدواء اليوم على تصنيعه وتسويقه في القريب العاجل.
وقد وجد في دراسة حديثة أن مرضى النوع الأول من السكري قد استفادوا حينما تناولوا كوباً من حليب الإبل وانخفض لديهم مستوي السكر في الدم وخفضوا كمية الأنسولين المقررة لهم.
وفي أحدث دراسة[16] وجد أن عائلة الجمال وخصوصا الجمال العربية ذات السنام الواحد تتميز عن غيرها من بقية الثدييات في أنها تملك في دمائها وأنسجتها أجســـاما مضادة صغيرة تتركب من سلاسل قصيرة من الأحماض الأمينية.
ولا توجد هذه الأجسام المضادة إلا في الإبل العربية ، زيادة على وجود الأجسام المضادة الأخرى الموجودة في الإنسان وبقية الحيوانات الثديية فيها أيضا.
وحجم هذه الأجسام المضادة هو عشر حجم المضادات العادية وأكثر رشاقة من الناحية الكيميائية وقادرة على أن تلتحم بأهدافها وتدمرها بنفس قدرة الأضداد العادية، وتمر بسهولة عبر الأغشية الخلوية وتصل لكل خلايا الجسم.
وتمتاز هذه الأجسام النانوية بأنها أكثر ثباتا في مقاومة درجة الحرارة ولتغير الأس الأيدروجيني تغيرا متطرفاً، وتحتفظ بفاعليتها اثناء مرورها بالمعدة والأمعاء بعكس الأجسام المضادة العادية التي تتلف بالتغيرات الحرارية وبإنزيمات الجهاز الهضمي، مما يعزز من آفاق ظهور حبات دواء تحتوي أجساما نانوية لعلاج مرض الأمعاء الالتهابي وسرطان القولون والروماتويد وربما مرضى الزهايمر أيضاً.
وقد تركزت الأبحاث العلمية على هذه الأجسام المضادة منذ حوالي 2001م في علاج الأورام على حيوانات التجارب وعن الإنسان، وأثبتت فاعليتها في القضاء على الأورام السرطانية حيث تلتصق بكفاءة عالية بجدار الخلية السرطانية وتدمرها، وقد نجحت بعض الشركات المهتمة بأبحاث التكنولوجيا الحيوية الخاصة في بريطانيا وأمريكا في إنتاج دواء على هيئة أقراص مكون من مضادات شبيهة بالموجودة في الإبل لعلاج السرطان والأمراض المزمنة العديدة والالتهابات البكتيرية والفيروسية.
وطورت بعض الشركات هذه الأجسام النانوية لتحقق ستة عشر هدفاً علاجياً تغطي معظم الأمراض المهمة التي يعاني منها الإنسان، وأولها السرطان، يليها بعض الأمراض الالتهابية، وأمراض القلب والأوعية الدموية.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin