سابعا ـ الإنسان
في اليوم السابع.. كان موضوع المحاضرات يتناول الإنسان في القرآن الكريم.
وخلافا للأيام السابقة، فقد لامست محاضرات هذا اليوم جوانب كثيرة قصرت فيها في الأيام السابقة.. فقد ذكرت ما تناوله القرآن الكريم من معارف عن الإنسان لم يوجد نظير لها في أي فلسفة من الفلسفات، ولا دين من الأديان.
وقد أثرت تلك المحاضرات الجادة في صاحبي الذي وجد نفسه يلقي محاضرة هزيلة عن الإنسان بجانب تلك المحاضرات التي تحدثت عن الإنسان في القرآن.. مع أن محاضرته حازت إعجاب الجميع بما امتلأت به من معلومات علمية دقيقة، وإحصائات ميدانية كثيرة.
لقد كان صاحبي في أصله طبيبا.. وكان مغرما بكتابات ألكسيس كاريل [1].. وخاصة بكتابه المشهور (الإنسان ذلك المجهول).. وكان أصحابه يدعونه لذلك ألكسيس.. وكان يحب هذه التسمية.. فلذلك كنت لا أناديه إلا بها.
في أول يوم التقيته فيه كان يحمل معه كتاب ألكسيس كاريل.. وكان يحمل معه آلامه كذلك.
قال لي: لم يزدد ألكسيس في هذا الكتاب على أن ناح على الإنسان، وجعلنا ننوح معه.
قلت له: لكنه مع ذلك حرك في أجيال كثيرة ضرورة الاهتمام بالإنسان.
قال لي: أحيانا أشعر أن الإنسان مثل ما نشتريه من الأجهزة والآلات يحتاج دفترا خاصا يشرح محتوياته، ويبين أسراره، ويحل عقده، ويعالج مشاكله.
قلت له: نعم هو كذلك.. ونحن رجال الدين نعتقد أن الله أنزل لنا في كلماته المقدسة تفاصيل الإنسان.. وتفاصيل التعامل مع أجهزة الإنسان.
ابتسم، وقال: نعم.. الدين في الأصل هو الذي يتولى هذا الجانب.. ولكني أرى الكتاب المقدس أقصر من أن يستطع التعريف بالإنسان وبمكنونات الإنسان.
قلت: لم؟
قال: أرأيت لو أنك وجدت كتابا في السوق يدعي أنه يشرح جهازا من الأجهزة الخطيرة غالية الثمن، ثم رأيت في هذا الكتاب جهلا بمبادئ بسيطة يستدعي معرفتها ذلك الجهاز.. هل كنت تثق فيه؟
قلت: لا.. بالطبع.. وإلا عرضت جهازي للعطب.
قال: فقد قرأت الكتاب المقدس قبل أن آتي إليك عشرات المرات.. وكنت كل مرة أقرؤه فيها لأبحث عن الإنسان أجد نفسي بعيدا عن الإنسان.. وبعيدا عن الله.. وبعيدا بعد ذلك عن الكتاب المقدس.
في ذلك اليوم، اتفقت مع حذيفة على أن نلتقي عليا في قمة جبل مشهور قريب من تلك المدينة كان يطل على المدينة وضواحيها جميعا.. وكأنه شاشة لمن يريد أن يرقب حركات الناس ويدرسها.
1 ـ حقيقة الإنسان
عندما وصلنا إلى تلك القمة أحسست بشفافية عميقة.. فالجبل كان عاليا، والهواء كان نقيا، والسماء كانت قريبة، وكأننا في برزخ بين السماء والأرض.
لست أدري كيف خطر على بالي أن أسأل صديقي ألكسيس عن حقيقة الإنسان على ضوء المعارف التي تعلمها.
أطلق نفسا عميقا، ثم قال: هل أحدثك بلساني، أم بلسان ألكسيس؟
قلت: كلاكما ألكسيس.. فحدثنا بأيهما شئت.
قال: سأحدثك بلسانه ، فهو أفصح من لساني.
قلت: حدثني بلسانكما جميعا.. فلا طاقة لي أن أفهم لسانه وحده[2].
قال: لا بأس.. سأجعلك ـ كما كنت تفعل مرة ـ تشاركني ذلك الهم الذي شاركت فيه ألكسيس.
لقد تعجب ألكسيس من ذلك التفاوت العجيب بين علوم الجماد وعلوم الحياة، فبينما نرى علوم الفلك والميكانيكا والطبيعة، تقوم على آراء يمكن التعبير عنها، بسداد وفصاحة، باللغة الحسابية، بل أنشأت هذه العلوم عالماً متناسقاً كتناسق آثار اليونان القديمة.
ولكن موقفها من علوم الحياة ـ والتي نتعرف من خلالها على حقيقة الإنسان ـ يختلف عن ذلك كل الاختلاف، حتى ليبدو كأن الذين يدرسون الحياة قد ضلوا فى غاب متشابك الأشجار، أو أنهم فى قلب دغل سحرى، لا تكف أشجاره التى لا عداد لها عن تغيير أماكنها وأحجامها! فهم يرزحون تحت عبء أكداس من الحقائق، التى يستطيعون أن يصفوها، ولكنهم يعجزون عن تعريفها أو تحديدها فى معادلات جبرية.
فمن الأشياء التى تراها العين فى عالم الماديات، سواء كانت ذرات أم نجوماً، صخوراً أم سحباً، صلباً أم ماء أمكن استخلاص خواص معينة هى مادة التفكير العلمى.
ولكن علم الكائنات الحية بصفة عامة ـ والإنسان بصفة خاصة ـ لم يصب مثل هذا التقدم، بل إنه لا يزال فى المرحلة الوصفية، فالإنسان كل لا يتجزأ، بل هو فى غاية التعقيد، ومن غير الميسور الحصول على عرض بسيط له، وليست هناك طريقة لفهمه فى مجموعه، أو فى أجزائه فى وقت واحد، كما لا توجد طريقة لفهم علاقاته بالعالم الخارجى.
ولكى نحلل أنفسنا فإننا مضطرون للاستعانة بفنون مختلفة، وإلى استخدام علوم عديدة، ومن الطبيعى أن تصل كل هذه العلوم إلى رأى مختلف فى غايتها المشتركة، فإنها تستخلص من الإنسان ما تمكنها وسائلها الخاصة من بلوغه فقط، وبعد أن تضاف هذه المستخلصات بعضها إلى بعض، فإنها تبقى أقل غناء من الحقيقة الصلبة.. إنها تخلف وراءها بقية عظيمة الأهمية، بحيث لا يمكن إهمالها.
قلت: ولكن العلوم التي يمكن الاستفادة منها للتعرف على الإنسان كثيرة جدا.. فهناك التشريح والكيمياء، والفسيولوجيا. وعلم النفس، وفن التعليم، والتاريخ وعلم الاجتماع، والاقتصاد.. ألم تستطع كل هذه العلوم التوصل إلى حقيقة الإنسان؟
قال: الإنسان أبعد من أن يكون الإنسان الجامد، فالإنسان الحقيقى لا يزيد أن يكون رسماً بيانياً، يتكون من رسوم بيانية أخرى أنشأتها فنون كل علم.
وهو ـ فى الوقت نفسه ـ الجثة التى شرحها البيولوجيون، والشعور الذى لاحظه علماء النفس وكبار معلمى الحياة الروحية، والشخصية التى أظهر التأمل الباطنى لكل إنسان أنها كامنة فى أعماق ذاته.
إنه عبارة عن المواد الكيماوية التى تؤلف الأنسجة وأخلاط أجسامنا.. إنه تلك الجمهرة المدهشة من الخلايا والعصارات المغذية التى درس الفسيولوجيون في علماء وظائف الأعضاء قوانينها العضوية.
إنه ذلك المركب من الأنسجة والشعور الذى يحاول علماء الصحة والمعلمون أن يقودوه إلى الدرجات العليا اثناء نموه مع الزمن.
إنه ذلك الكائن الحى العالمى الذى يجب أن يستهلك بلا انقطاع السلع التى تنتجها المصانع، حتى يمكن أن تظل الآلات ـ التى جعل لها عبداً ـ دائرة بلا توقف.
ولكنه ـ مع ذلك ـ قد يكون شاعراً، وبطلاً أو قديساً.
إنه ليس فقط ذلك المخلوق شديد التعقيد الذى تحلله فنوننا العلمية، ولكنه أيضاً تلك الميول والتكهنات، وكل ما تنشده الإنسانية من طموح.
وكل آرائنا عنه مشربة بالفلسفة العقلية، وهذه الآراء جميعاً تنهض على فيض من المعلومات غير الدقيقة بحيث يراودنا إغراء عظيم لنختار من بينها ما يرضينا ويسرنا فقط.
ومن ثم فإن فكرتنا عن الإنسان تختلف تبعاً لاحساساتنا ومعتقداتنا، فالشخص المادى والشخص الروحى يقبلان نفس التعريف الذى يطلق على بلورة من الكلوريد، ولكنهما لا يتفقان أحدهما مع الآخر فى تعريف الكائن الحى.
قلت: فأنت ترى أن البشر قصروا في البحث عن أنفسهم وفي حقيقتهم؟
قال: أنا وألكسيس وكل العقلاء الذين صعدوا قمة كقمة هذا الجبل الذي نعتليه يرون هذا.. نعم.. لقد بذل الجنس البشرى مجهوداً جباراً لكى يعرف نفسه، ولكن بالرغم من أننا نملك كنزاً من الملاحظة التى كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين فى جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسننا، إننا لا نفهم الإنسان ككل، إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا، فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح تسير فى وسطها حقيقة مجهولة.
قلت: إن هناك من يزعم بأن معارفنا عميقة عن الإنسان.. فكيف تخالفه أنت في هذا؟
قال: يمكن أن يقول هذا من يصف الأشياء بألوانها وأحجامها وأشكالها.. ولكن من يريد أن يعرف حقائق الأشياء وأسرارها وأعماقها، فسيقول ما قال ألكسيس، وقال كل العقلاء (إن جهلنا مطبق بالإنسان)
فأغلب الأسئلة التى يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشرى تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة فى دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة، فنحن لا نعرف حتى الآن الإجابة عن أسئلة كثيرة.
نحن لا نعرف كيف تتحد جزئيات المواد الكيماوية لكى تكون المركب والأعضاء المؤقتة للخلية؟
ولا نعرف كيف تقررالجينات (ناقلات الوراثة) فى نواة البيضة المقلحة، صفات الفرد المشتقة من هذه البويضة؟
ولا نعرف كيف تنتظم الخلايا فى جماعات من تلقاء نفسها، مثل الأنسجة والأعضاء؟ فهى كالنمل والنحل تعرف مقدماً الدور الذى قدر لها أن تلعبه فى حياة المجموع، وتساعد العمليات الميكانيكية الخفية على بناء جسم بسيط ومعقد فى الوقت ذاته.
ولا نعرف ما هى طبيعة تكويننا النفسانى والفسيولوجى؟ إننا نعرف أننا مركب من الأنسجة، والأعضاء، والسوائل والشعور، ولكن العلاقات بين الشعور والمخ مازالت لغزاً، إننا ما زلنا بحاجة إلى معلومات كاملة تقريباً عن فسيولوحية الخلايا العصبية.. إلى أى مدى تؤثر الإرادة فى الجسم؟ كيف يتأثر العقل بحالة الأعضاء؟ على أى وجه تستطيع الخصائص العضوية العقلية التى يرثها كل فرد أن تتغير بواسطة طريق الحياة والمواد الكيماوية الموجودة فى الطعام والمناخ، والنظم النفسية والأدبية؟
إننا ما زلنا بعيدين جداً عن معرفة ماهية العلاقات الموجودة بين الهيكل العظمى والعضلات والأعضاء، ووجوه النشاط العقلى والروحى.. وما زلنا نجهل العوامل التى تحدث التوازن العصبى، ومقاومة التعب، والكفاح ضد الأمراض.
إننا لا نعرف كيف يمكن أن يزداد الإحساس الأدبى، وقوة الحكم، والجرأة، ولا ما هى الأهمية النسبية للنشاط العقلى والأدبى والدينى.
ولا نعرف أى شكل من أشكال النشاط مسئول عن تبادل الشعور أو الخواطر؟
لا شك مطلقاً فى أن عوامل فسيولوجية وعقلية معينة هى التى تقرر السعادة أو التعاسة، النجاح أو الفشل، ولكننا لا نعرف ما هى هذه العوامل، إننا لا نستطيع أن نهب أى فرد ذلك الاستعداد لقبول السعادة بطريقة صناعية.
وحتى الآن فإننا لا نعرف أى البيئات أكثر صلاحية لإنشاء الرجل المتمدين والمتقدم.
هلا فى الإمكان كبت روح الكفاح والمجهود، وما قد نحس به من عناء بسبب تكويننا الفسيولوجى والروحى؟.
كيف نستطيع أن نحول دون تدهور الإنسان وانحطاطه فى المدينة العصرية؟
وهناك أسئلة أخرى لا عداد لها، يمكن أن تلقى فى موضوعات تعتبر فى غاية الأهمية بالنسبة لنا.. ولكنها ستظل جميعاً بلا جواب، فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإنسان، غير كاف، وأن معرفتنا بأنفسنا ما زالت بدائية فى الغالب.
قلت: ولكن لماذا كان جهلنا مطبقاً بحقيقة الإنسان؟ ولماذا كانت الحقيقة تسير فى موكب من الأشباح، بحيث لا نستطيع رؤيتها بوضوح؟ ولماذا كان الذين يدرسون الحياة كمن ضلوا طريقهم فى غاب متشابك الأشجار، أو فى قلب دغل سحرى، لا تكف أشجاره التى لا عداد لها عن تغيير أماكنها وأحجامها؟
هل كان ذلك لقصور الوسائل العلمية فى فترة من الفترات؟ أم لظروف وقتية من ظروف حياتنا الإنسانية؟ ومن ثم يكون هناك أمل كبير وفرص كثيرة لتكملة تلك الوسائل، وتغيير هذه الظروف، ثم الوصول إلى معرفة الحقيقة الإنسانية كاملة واضحة محددة؟
أم أن هناك أسباباً ثابتة فى طبيعة الحقيقة الإنسانية من جهة، وفى طبيعة تفكيرنا وعقولنا من جهة أخرى، هى التى تنشئ تعذر الوصول إلى هذه الحقيقة بمثل الوضوح والدقة المعهودين فى عالم المادة؟
قال: كل ما ذكرته صحيح.. فقد يعزى جهلنا إلى طريقة حياة أجدادنا، وفى الوقت ذاته إلى طبيعتنا المعقدة، وإلى تركيب عقلنا.
فقد كان على الإنسان أن يعيش، وهذه الضرورة طالبته بقهر العالم الخارجى، وبما أنه لم يكن له مفر من الحصول على الغذاء والمأوى، كما لم يكن له مفر من قتال الحيوانات المتوحشة وغيره من بنى الإنسان.. ولآماد طويلة لم يفز أجدادنا الأوائل بوقت فراغ، كما لم يشعروا بأى ميل إلى دراسة أنفسهم، إذ كانوا يستخدمون عقولهم فى أمور أخرى كصناعة الأسلحة والأدوات، واكتشاف النار، وتدريب الماشية والجياد، واختراع المركبات، وزراعة الحبوب.
وقبل أن يهتموا بتركيب أبدانهم وعقولهم بوقت طويل، فكروا فى الشمس والقمر والنجوم، والتيارات المائية، وتوالى الفصول الأربعة.
ولهذا تقدم علم الفلك بخطى واسعة، فى عهد كان علم الفسيولوجيا لا يزال غير معروف بتاتاً، فقد قهر جاليلو الأرض، وهى مركز المجموعة الشمسية، وذلك على أنها تابع متواضع من توابع الشمس، بينما لم تكن لدى معاصريه أية فكرة، ولو أولية، عن تركيب ووظائف العقل والكبد، والغدة الدرقية.
ونظراً لأن الجسم البشرى يؤدى وظائف بطريقة مرضية فى أحوال الحياة الطبيعية، ولا يحتاج لأى اهتمام، فقد تقدم العلم فى الاتجاه الذى وجهه إليه حب الاستطلاع البشري – أى فى اتجاه العالم الخارجي.
وثم سبب آخر للبطء الذى اتسمت به معرفتنا لأنفسنا، وذلك أن تركيب عقولنا يجعلنا نبتهج بالتفكير فى الحقائق البسيطة، إذ أننا نشعر بضرب من النفور حين نضطر إلى تولى حل مشكلة معقدة مثل تركيب الكائنات الحية والإنسان
فالعقل يتصف بعجز طبيعى عن فهم الحياة، وبالعكس فإننا نحب أن نكشف فى جميع العوالم، تلك الأشكال الهندسية الموجودة فى أعماق شعورنا.
إن دقة النسب البادية فى تماثيلنا، وإتقان آلاتنا، يعبران عن صفة أساسية لعقلنا، فالهندسة غير موجودة فى دنيانا وإنما أنشأناها نحن، إذ أن وسائل الطبيعة لا تكون أبداً بالدقة التى تتصف بها وسائل الإنسان، فنحن لا نجد فى العالم ذلك الوضوح وتلك الدقة اللتين يتصف بهما تفكيرنا.. ومن ثم فإننا نحاول أن نستخلص من تعقد الظواهر، بعض النظم البسيطة التى تربط بعض عناصرها بالأخرى علاقات معينة، تكون قابلة للوصف حسابياً. وقدرة الاستخلاص هذه التى يتمتع بها العقل البشرى مسئولة عن ذلك التقدم الرائع الذى أحرزه علماء الطبيعة والكيمياء.
وقد لقيت الدراسة الطبيعية ـ الكيماوية للكائنات الحية نجاحاً مماثلاً، فقوانين الطبيعة والكيمياء متماثلة فى عالم الكائنات الحية وعالم الجماد ـ كما خطر ببال كلود برنار منذ أمد بعيد.
وهذه الحقيقة توضح لماذا اكتشف علم وظائف الأعضاء الحديثة مثلاً، أن استمرار قلوية الدم وماء المحيط تفسرها قوانين متماثلة، وأن النشاط الذى تستهلكه العضلات المتقلصة يقدمه تخمر السكر، وأن النواحى فى الأشياء الأخرى الموجودة فى العالم المادى، تلك هى المهمة التى نجح علم الوظائف العام فى تحقيقها.
قلت: فأنت ترى أن سر التقدم البطىء فى معرفة الإنسان لنفسه إذا قورن بتفوقه الرائع فى علوم الطبيعة والفلك والكيمياء والميكانيكا يعزى إلى عدم تفرغ أسلافنا للبحث عن الإنسان، وإلى تعقد الموضوع، وإلى تركيب عقولنا.
قال: وهذه العقبات أساسية، وليس هناك أمل فى تذليلها، وسيظل التغلب عليها شاقاً يستلزم جهوداً مضنية.. إن معرفة نفوسنا لن تصل أبداً إلى تلك المرتبة من البساطة المعبرة، والتجرد، الجمال، التى بلغها علم المادة، إذ ليس من المحتمل أن تختفى العناصر التى أخرت تقدم علم الإنسان.. فعلينا أن ندرك بوضوح أن علم الإنسان هو أصعب العلوم جميعاً.
قال ذلك، ثم غاب في أحزان عميقة لا يجد ما يرفعها به.
في ذلك الحين ظهر علي في صورة عالم كبير من علماء المسلمين، لا شك أنك تعرفه.. لقد ظهر في صورة الشيخ عبد المجيد الزنداني.. ذلك العالم الذي طاف الأرض يبشر بالعودة إلى الله.. ويجعل من علم الله الذي نرى آثاره في كتابه دليلا يجذب به العقول والقلوب.
اقترب منا، وراح يقرأ بصوت خاشع قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)﴾(البقرة)
رأيت صاحبي ألكسيس يكاد يندمج فيما يسمع، التفت إلي، وقال: إن هذا الرجل يقرأ قصة آدم أبي البشر من القرآن.. أليس كذلك؟
قلت: بلى.. هو كذلك.. أنت تعرف.. فإن المسلمين يقرأون القرآن بهذه الطريقة.. ونظم القرآن يساعدهم على ذلك.
قال: أنا لم أرد طريقة الكلام.. بل أردت الكلمات.. الكلمات نفسها.
قلت: الكلمات التي قرأها تشمل قصة آدم.. وهي تشبه تقريبا ما ورد في التوراة[3].
انتفض، وقال: لا.. إنها تختلف عنها تماما.. لقد قرأت قصة آدم في التوراة.. لكني لم أشعر بالمشاعر التي أجدها الآن.. لكأن هذه الآيات تخاطبني.. بل لكأنها تجيبني عن تساؤلاتي وتساؤلات ألكسيس المحيرة..
قال ذلك، ثم تحرك نحو علي، وهو يقول: هلموا بنا إلى هذا الرجل القارئ، فإني أرى له شأنا لا يقل عن شأن من لقينا في سائر الأيام من رجال.
اقتربنا من علي، فعرفه ألكسيس بنفسه، وبجماعتنا، ثم قال: لقد سمعتك تقرأ آيات من القرآن.. آيات احترت فيها، وفي المعاني التي تحملها.. هل تراك كنت تدرك ما كنت تقرأ؟
قال علي: إن كلام الله أعمق من أن يحاط به.. ونحن ـ ما دمنا في هذه الحياة ـ نجلس بين يديه كما يجلس التلميذ بين يدي أستاذه ليتعلم كل يوم جديدا.
قال ألكسيس: فما تعلمت اليوم؟
قال علي: في قمة هذا الجبل.. وفي هذا البرزخ الذي نقف فيه بين السماء والأرض ذكرت رجلا كنت أحبه كثيرا.. ومقدرا حبي له، لا يوازيه إلا مقدار أسفي عليه.
قال ألكسيس: فمن هو هذا الرجل الذي أسرك.. وملأك حبا وأسفا.
قال علي: اسمه يشبه اسمك الذي ذكرته لي.. إنه رجل من بلادكم التي تغرب منها الشمس.. إنه ألكسيس كاريل.
تعجب ألكسيس من هذه المصادفات العجيبة، وقال: فأنت الآن بين يدي ألكسيس، فما الذي جعلك تتأسف عليه؟
قال علي: أتأسف لأني لو لاقيته، وبثثت له ما قال قرآن ربنا عن الإنسان لعدل تسمية كتابه.
قال ألكسيس: فما ترى أنه سيسميه؟
قال علي: سيسميه (الإنسان ذلك المعلوم)
قال ألكسيس: إن ما تقوله عجيب.. فالرجل لم يكن رجلا بسيطا.. لقد أتيحت من فرص التعلم ما حرم منه الكثير.. وقد كان يقول عن نفسه:( إننى مدين لفنون الحياة العصرية، لأنها مكنتنى من مشاهدة هذا المنظر العظيم، كما أتاحت لى فرصة توجيه انتباهى إلى عدة موضوعات فى وقت واحد.. إننى أعيش فى العالم الجديد والقديم أيضاً.. وأمتاز بأننى أقضى معظم وقتى فى (معهد روكفلر للبحث الطبى) كواحد من العلماء الذين جمعهم (سيمون فلكسنر) معاً فى هذا المعهد.. فهناك أفكر فى ظواهر الحياة حين يحللها الخبراء الذين لا يبارون، أمثال (ملتزر) و(جاك لويب) و(نجيوشى)، وكثيرون غيرهم )
قال علي: لقد ذكر خبراء كثيرين التقى بهم، تتلمذوا هم أيضا على خبراء آخرين.. ولكنه لم يذكر رجلا واحدا تتلمذ على القرآن الكريم.
قال ألكسيس: أرأيت لو أنه ظفر بمثل هذا التلميذ ماذا كان سيفعل؟
قال علي: لقد ذكرت لك ما الذي كان سيفعله..أول ما يفعله أن يرفع هالة الحزن التي تكسو وجهه، ليبدلها بفرح سعيد..ثم يتوجه بعدها ليلبس لباس الإنسان الذي جاء القرآن ليعلمنا علمه.
قال ألكسيس: فلنفرض أنني ألكسيس.. ولنفرض أنك تلميذ القرآن.. وهلم نتحاور لنرى كيف نخلص ألكسيس من ذلك الجهل المطبق بالإنسان.
قال علي: مع أني لا أزعم شرف التلمذة على القرآن الكريم، ومع ذلك سأقبل هذا الدور.. وسأجيبك وأجيب سميك عن كل ما يخطر على بالكم.. ولن أجيبكم من عندي.. بل سيجيبكم ربي..
قال ألكسيس: أنت واثق كثيرا من نفسك.
قال علي: بل أنا واثق كثيرا في ربي.. إن ربي يقول:﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾(الملك)
وهو يقول:﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾(النجم)
قال ألكسيس: هذه آية عظيمة.. إن الترابط بينها عجيب جدا.. فالقرآن يذكر سر مغفرة الله للخطايا لأنه يعلم تركيبة البشر الأرضية.. ويعلم استعداداتهم الوراثية التي تلقوها، وهم أجنة في بطون أمهاتهم.
قال علي: ولهذا فإن القرآن يمسح آهات كاريل بأسلوب بسيط، ولكنه غاية في العمق..
إنه يقول له: لا تلم الإنسان على جهله بالإنسان.. فإن الإنسان لن يعرف الإنسان.
قال ألكسيس: فمن يعرف الإنسان؟
قال علي: الله الذي خلقه هو الذي يعلمه.. أما الإنسان، فهو أقصر وأضعف من أن يعلم نفسه.
إن الله تعالى يخبرنا بهذا.. إنه يقول:﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الاسراء:85) ، ويقول:﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام:164)، ويقول:﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34)
بل إنه يتحدانا، فيقول:﴿ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾(النساء: من الآية11)
ويعبر عن قصور مداركنا عن معرفة ما ينفعنا وما يضرنا، فيقول:﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216)
بل إنه يعتبر الكثير من المعارف التي نتصور أنا نعرف أنفسنا من خلالها من الظنون التي لا تجلب لنا غير الوهم والجهل، فيقول:﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام:116)، ويقول:﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص:50)، ويقول:﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (لنجم:28)
ليس ذلك فقط هو خطر معارفنا عن أنفسنا التي هي عين الجهل، بل إن خطرها يتعدى إلى الكون جميعا، فالله تعالى يقول:﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون:71)
قال ألكسيس: ولكن الإنسان تقدم في علوم كثيرة.. فكيف تقدم فيها، ثم تخلف في علمه بنفسه.. أليس ذلك عجيبا؟
قال علي: لقد أجابت الآيات التي كنت أقرؤها عن ذلك.. فالله تعالى علم آدم أسماء الأشياء وخصائصها وأعطاه القدرة على تسخيرها، بل إنه سخرها له لينتفع بها.. ولا بد أن يرزقه من علمها ما يمكنه من ذلك الانتفاع.
القرآن الكريم ذكر القدرات الممنوحة للإنسان في هذا المجال، واعترف بالعلم الذي أوتيه، ولكنه اعتبره علما قاصرا محدودا.. لقد بدأ الله تعالى فذكر جهل الإنسان، قال تعالى:﴿ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:6)، ثم استدرك عليك وعلي وعلى ألكسيس وعلى تلك العقول الكثيرة الحائرة، فقال:﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7)
فنحن ـ مع ما أوتينا من علوم كثيرة في جميع المجالات ـ لم نؤت إلا علوم التسخير.
فكل علومنا من هذا النوع..
هي علوم تيسر لنا المأكل والمشرب والعافية والحياة الرخية التي توفر لنا بعض التفرغ للعمل الذي انتدبنا له.
قال ألكسيس: ولكن كيف يعطينا الله علوم الأشياء، ثم يحرمنا من العلم بأنفسنا.
قال علي: لا.. بل هو أعطانا العلم بأنفسنا، قبل أن يعطينا العلم بالأشياء.
قال ألكسيس: أراك تقع في التناقض.. فهل قرآنكم هو الذي أوقعكم في هذا التناقض؟
قال علي: لم أقع في التناقض.. لقد نفيت علم الإنسان بنفسه، وهو ما أثبته الله، ولكني لم أنف تعليم الله لنا حقيقة أنفسنا، وحقيقة وظيفتنا.. بل أعطانا الكثير من المعارف عنا.. والتي لن تتمكن عقولنا البسيطة من معرفتها.
إن مثل ذلك مثل أجير استأجر على عمل.. فهل ترى صاحب العمل يقصر في تعريف الأجير حقيقة وظيفته، ونوع أجره، ومدة عمله..
قال ألكسيس: لا.. بل سيشرح له ذلك بالتفصيل.
قال علي: فإذا صادفت العامل في عمله بعض العقبات مما يتعلق بشؤون العمل.. فهل سيستدعي صاحب العمل ليفك له تلك العقبة.. أم يفكها بنفسه وخبرته؟
قال ألكسيس: ذلك يختلف.. فإن كان لتلك العقبة علاقة بصاحب العمل طلب الاستيضاح منه، وأما إن لم تكن له علاقة بذلك اجتهد رأيه.
تكريم الإنسان:
قال علي: فهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بالخلافة.. وهذه هي حقيقة وظيفة الإنسان..
فالإنسان مخلوق متفرد عن الكثير ممن حوله.. هذا ما نص عليه القرآن الكريم في تلك الآيات التي كنت أقرؤها.. ولذلك سخر له الكون، ولذلك علم من علوم الكون ما علم، لقد قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الاسراء:7.)، وقال:﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4)
قال ألكسيس: صدق قرآنكم في هذا.. هذه حقيقة علمية.. فالإنسان كائن فذ فى هذا الكون.. إنه مخلوق غير مكرر فى جميع الخلائق التى عرفناها.
وتميز الإنسان بخصائص لا توجد فى عالم الأحياء هو الذى جعل (جوليان هكسلى) فى (الداروينيه الحديثة) يتراجع عن الكثير من (الداروينية القديمة)، التى قررها(داروين)
وهو لا يتراجع عنها إلا مضطراً أمام ضغط الحقائق الواقعية التى تحتم هذا التراجع، إذ يعترف بأن الإنسان (حيوان خاص) وأنه له (خصائص) لم تلاحظ فى أى حيوان آخر، وأن لهذه الخصائص آثاراً متفردة كذلك.
لقد قال في كتابه: (الإنسان فى العالم الحديث):( لقد تأرجح رأى الإنسان كالخطار (البندول) فيما يتعلق بمركزه بالنسبة لبقية الحيوانات، بين إعجابه الشديد أو القليل بنفسه تفصل بينه وبين الحيوانات هوة سحيقة جداً وحيناً آخر هوة صغيرة جداً.
وبظهور نظرية (داروين) بدأ الخطار (البندول) يتأرجح عكسياً، واعتبر الإنسان حيواناً مرة أخرى.. ووصل الخطار شيئاً فشيئاً إلى أقصى مدى تأرجحه، وظهر ما بدأ أنه النتائج المنطقية لفروض (داروين)، فالإنسان (حيوان) كغيره من الحيوانات، ولذلك فإن آراءه فى معنى ا لحياة الإنسانية، والمثل العليا، لا تستحق تقديراً أكثر من آراء الدودة الشريطية أو بكتريا الباشلس! والبقاء هو المقياس الوحيد للنجاح التطورى. ولذلك فكل الكائنات الحية متساوية القيمة. وليست فكرة التقدم إلا فكرة إنسانية. ومن المسلم به أن الإنسان فى الوقت الحاضر سيد المخلوقات ولكن قد تحل محله القطعة أو الفأر.
ولم تصغر الهوة هنا بين الإنسان والحيوان، نتيجة المبالغة فى إعطاء الحيوان صفات الإنسان، وإنما نتيجة التقليل من الصفات الإنسانية فى الإنسان.. ومع ذلك فقد ظهر منذ عهد قريب اتجاه جديد، سببه فى الغالب زيادة المعرفة واتساع نطاق التحليل العلمى.
إن الخطار يتأرجح ثانية: وتتسع الهوة بين الإنسان والحيوان مرة أخرى.. وبعد نظرية (داروين) لم يعد الإنسان يستطيع تجنب اعتبار نفسه حيواناً، ولكنه بدأ يرى نفسه حيواناً غريباً جداً وفى حالات كثيرة لا مثيل لها )
وهو يذكر خصائص الإنسان الفذة التي تجعله متفردا ، فيقول:( وأول خصائص الإنسان الفذة، وأعظمها وضوحاً، قدرته على التفكير التصورى.. ولقد كان لهذه الخاصية الأساسية فى الإنسان نتائج كثيرة، وكان أهمها نمو التقاليد المتزايدة.. ومن أهم النتائج تزايد التقاليد ـ أو إذا شئت من أهم مظاهر الحقيقة ـ ما يقوم به الإنسان من تحسين فيما لديه من عدد وآلات.. وإن العدد والتقاليد لهى الخواص التى هيأت للإنسان مركز السيادة بين سائر الكائنات الحية.. وهذه السيادة (البيولوجية) ـ فى القوت الحاضر ـ من خاصية أخرى من خواص الإنسان الفذة.
والإنسان لا مثيل له أيضاً كنوع مسيطر. إذ انقسمت كل الأنواع الأخرى المسيطرة على مئات وآلاف كثيرة من الأنواع المنفصلة، وتجمعت فى أجناس وفصائل عديدة، ومجموعات أكبر. أما الإنسان فقد حافظ على سيادته من غير انقسام. ولقد تم تنوع سلالات فى حدود نوع واحد.
وأخيراً فإن الإنسان لا مثيل له بين الحيوانات الراقية فى طريقة تطوره[4].
وللإنسان خاصية أخرى بيولوجية، وهى تفرد تاريخ تطوره، ونحن الآن فى مركز يسمح لنا بتعريف تفرد الإنسان فى تطوره.
وأما خاصية الإنسان الجوهرية ككائن حى مسيطر فهى(التفكير المعنوى).
ولقد كان بحثنا حتى الآن بطريقة عامة فى خصائص الإنسان من ناحية التطور والمقارنة. والآن نعود إليها، ونبحث فيها وفى نتائجها بشئ من الإسهاب.. فأولاً يجب أن يغرب عن بالنا، أن الفرق بين الإنسان والحيوان فى العقل أعظم بكثير مما نظن عادة.. وكلنا على علم بقوة الغريزة فى الحشرات.. ولكنها تبدو عاجزة عن معرفة طرق جديدة. وليست الثدييات بأفضل من ذلك.. بينما للتفكير عند الإنسان أهمية بيولوجية كبرى حتى عندما تسود تفكيره العادة والمحاولة والخطأ.
ولابد أن يكون سلوك الحيوانات عرفياً- أى أنه ثابت فى حدود ضيقة- أما الإنسان فقد أصبح فى سلوكه حراً نسبياً.. حراً فى الأخذ والعطاء على حد سواء.. ولهذه الزيادة فى المرونة نتائج أخرى سيكولوجية يتناساها رجال الفلسفة العقلية.. والإنسان أيضاً فريد فى بعضها. فقد أدت هذه المرونة مثلاً إلى كون الإنسان هو الكائن الحى الوحيد، الذى لابد له أن يتعرض للصراع النفسى.. ومع ذلك فطبقاً للآراء الحديثة توجد فى(الإنسان) أجهزة لتقليل النزاع إلى أقصى حد، وهى التى يعرفها علماء النفس بالكبت والقمع.
ومثله يقول العالم الأمريكى (أ. كريسى موريسون) فى كتابه (العلم يدعو إلى الإيمان):( إن القائلين بنظرية التطور(النشوء والارتفاء) لم يكونوا يعلمون شيئاً عن وحدات الوراثة(الجينات)..
لقد رأينا أن (الجينات) متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات فى خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية. وهى تحفظ التصميم، وسجل السلف، والخواص التى لكل شئ حى. وهى تتحكم تفصيلاً فى الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات، تماما كما تقرر الشكل والقشر والشعر والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان.
ويلاحظ أن جميع الكائنات الحية، منفصل بعضها عن بعض بهوات كثيفة لا يمكن عبورها. حتى إن الحيوانات المتقاربة ينفصل بعضها عن بعض كذلك.
والإنسان حيوان من رتبة الطليعة، وتكوينه يشبه فصائل (السيميا) (الأورانجتان والغوريلا والشمبانزى) ولكن هذا الشبه الهيكلى ليس بالضرورة برهاناً على أننا من نسل أسلاف سينمائية (من القرود) أو أن تلك القرود هى ذرية منحطة للإنسان. ولا يمكن أحد أن يزعم أن سمك القد قد تطور من سمك الحساس وإن يكن كلاهما يسكن المياه نفسها، ويأكل الطعام نفسه، ولهما عظام تكاد تكون متشابهة.
إن ارتقاء الإنسان الحيوانى إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده هو خطوة أعظم من أن تتم عن طريق التطور المادى، ودون قصد ابتداعى.
وإذا قبلت واقعية القصد، فإن الإنسان بوصفه هذا قد يكون جهازاً. ولكن ما الذى يدير هذا الجهاز؟ لأنه بدون أن يدار، لا فائدة منه. والعلم لا يعلل من يتولى إدارته. وكذلك لا يزعم أنه مادى.
لقد بلغنا من التقدم درجة تكفى لأن نوقن بأن الله قد منح الإنسان قبساً من نور، ولا يزال الإنسان فى طور طفولته من وجهة الخلق، وقد بدأ يشعر بوجود ما يسميه بـ (الروح) وهو يرقى فى بطء ليدرك هذه الهبة، ويشعر بغريزته أنها خالدة.
وإذا صح هذا التعليل- ويبدو أن المنطق الذى يسنده لا يمكن دحضه- فإن هذه الكرة الأرضية الصغيرة التى لنا، وربما غيرها كذلك، تكسب أهمية لم يحلم بها أحد من قبل. فعلى قدر ما نعلم قد تولد عن عالمنا الصغير هذا، أول جهاز مادى أضيف إليه قبس من نور الله. وهذا يرفع الإنسان من مرتبة الغريزة الحيوانية إلى درجة القدرة على التفكير، التى يمكن بها الآن أن يدرك عظمة الكون فى اشتباكاته، ويشعر شعوراً غامضاً بعظمة الله ماثلة فى خلقه.
وهو يقول:( إن أية ذرة أو جزئية لم يكن لها فكرة قط، وأى اتحاد للعناصر لم يتولد عنه رأى أبداً وأى قانون طبيعى لم يستطع بناء كاتدرائية. ولكن كائنات حية معينة قد خلقت تبعاً لحوافز معينة للحياة، وهذه الكائنات تنتظم شيئاً تطيعه جزئيات المادة بدورها. ونتيجة هذا وذاك كل ما نراه من عجائب العالم. فما هو هذا الكائن الحى؟ هل هو عبارة عن ذرات وجزئيات؟ أجل. وماذا أيضاً؟ شئ غير ملموس، أعلى كثيراً من المادة لدرجة أنه يسيطر على كل شئ. ومختلف جداً عن كل ما هو مادى مما صنع منه العالم، لدرجة أنه لا يمكن رؤيته ولا وزنه ولا قياسه. وهو ـ فيما نعلم ـ ليست له قوانين تحكمه.
إن(روح الإنسان هى سيدة مصيره) ولكنها تشعر بصلتها بالمصدر الأعلى لوجودها. وقد أوجدت للإنسان قانوناً للأخلاق لا يملكه أى حيوان آخر، ولا يحتاج إليه. فإذا سمى أحد ذلك الكيان بأنه فضلة لتكوينات المادة، لا لشئ سوى أنه لا يعرف كنهه بأنبوبة الاختبار، فهو إنما يزعم زعماً لا يقوم عليه برهان.. إنه شئ موجود، يظهر نفسه بأعماله، وبتضحياته، وبسيطرته على المادة،وبالأخص على رفع الإنسان المادى من ضعف البشر وخطئهم إلى الإنسجام مع إرادة الله.. هذه هى خلاصة القصد الربانى. وفيها تفسير للاشتياق الكامن فى نفس الإنسان، للاتصال بأشياء أعلى من نفسه. وفيها كشف عن أساس حافزه الدينى.. هذه هو الدين.
الطبيعة المزدوجة:
قال علي: لقد ذكر الله تعالى سر هذا التفرد الذي تمتع به الإنسان، فقال:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)﴾(الحجر)
فالإنسان ـ بحسب هذه الآية الكريمة، وبحسب آيات أخرى كثيرة ـ حقيقتان: تراب، وروح.. هو تراب من الأرض.. وروح من الملأ الأعلى..
وهذا هو سر جهلنا بالإنسان.. وهذا هو سر عدم إمكانية علم الإنسان بالإنسان.
قال ألكسيس: كيف ذلك؟
قال علي: أنت طبيب يأتيك المرضى كما كانوا يأتون ألكسيس.. أليس كذلك؟
قال ألكسيس: بلى..
قال علي: فهل يمكن لأنصاف المعلومات أن تؤدي إلى معلومات كاملة؟
قال ألكسيس: لم أفهم.
قال علي: إذا جاءك مريض بنصفه فقط.. بل بجزء بسيط منه.. وترك جزأه الأهم لم يأتك به.. فهل يمكن أن تعرفه، أو تعرف ما أصابه.
قال ألكسيس: فهمت قصدك.. طبعا.. ومن الناحية العلمية لا تعتبر المعلومة معلومة إلا إذا اكتملت جميع أركانها.. ولهذا ترانا في الطب نبحث في كل الأعضاء، ولو لم يكن لها صلة مباشرة بالمرض.. لاحتمال علاقتها بها.
قال علي: فانطلق من هذا لتفهم حقيقة الإنسان.
فالإنسان كائن روحي عال من الملأ الأعلى لا نعرفه.. وليس لدينا من الأدوات ما يمكننا من معرفته.
وهو في نفس الوقت كائن ترابي.. يتغير كل حين.. قد ندركه، ولكن لن ندركه إدراكا كاملا.. لأن هذا التراب عند ارتباطه بالروح صار كائنا آخر.
وهذا هو سر جهلنا بالإنسان..
وهذا هو سر حاجتنا إلى الله لنعلم علم الإنسان.
في اليوم السابع.. كان موضوع المحاضرات يتناول الإنسان في القرآن الكريم.
وخلافا للأيام السابقة، فقد لامست محاضرات هذا اليوم جوانب كثيرة قصرت فيها في الأيام السابقة.. فقد ذكرت ما تناوله القرآن الكريم من معارف عن الإنسان لم يوجد نظير لها في أي فلسفة من الفلسفات، ولا دين من الأديان.
وقد أثرت تلك المحاضرات الجادة في صاحبي الذي وجد نفسه يلقي محاضرة هزيلة عن الإنسان بجانب تلك المحاضرات التي تحدثت عن الإنسان في القرآن.. مع أن محاضرته حازت إعجاب الجميع بما امتلأت به من معلومات علمية دقيقة، وإحصائات ميدانية كثيرة.
لقد كان صاحبي في أصله طبيبا.. وكان مغرما بكتابات ألكسيس كاريل [1].. وخاصة بكتابه المشهور (الإنسان ذلك المجهول).. وكان أصحابه يدعونه لذلك ألكسيس.. وكان يحب هذه التسمية.. فلذلك كنت لا أناديه إلا بها.
في أول يوم التقيته فيه كان يحمل معه كتاب ألكسيس كاريل.. وكان يحمل معه آلامه كذلك.
قال لي: لم يزدد ألكسيس في هذا الكتاب على أن ناح على الإنسان، وجعلنا ننوح معه.
قلت له: لكنه مع ذلك حرك في أجيال كثيرة ضرورة الاهتمام بالإنسان.
قال لي: أحيانا أشعر أن الإنسان مثل ما نشتريه من الأجهزة والآلات يحتاج دفترا خاصا يشرح محتوياته، ويبين أسراره، ويحل عقده، ويعالج مشاكله.
قلت له: نعم هو كذلك.. ونحن رجال الدين نعتقد أن الله أنزل لنا في كلماته المقدسة تفاصيل الإنسان.. وتفاصيل التعامل مع أجهزة الإنسان.
ابتسم، وقال: نعم.. الدين في الأصل هو الذي يتولى هذا الجانب.. ولكني أرى الكتاب المقدس أقصر من أن يستطع التعريف بالإنسان وبمكنونات الإنسان.
قلت: لم؟
قال: أرأيت لو أنك وجدت كتابا في السوق يدعي أنه يشرح جهازا من الأجهزة الخطيرة غالية الثمن، ثم رأيت في هذا الكتاب جهلا بمبادئ بسيطة يستدعي معرفتها ذلك الجهاز.. هل كنت تثق فيه؟
قلت: لا.. بالطبع.. وإلا عرضت جهازي للعطب.
قال: فقد قرأت الكتاب المقدس قبل أن آتي إليك عشرات المرات.. وكنت كل مرة أقرؤه فيها لأبحث عن الإنسان أجد نفسي بعيدا عن الإنسان.. وبعيدا عن الله.. وبعيدا بعد ذلك عن الكتاب المقدس.
في ذلك اليوم، اتفقت مع حذيفة على أن نلتقي عليا في قمة جبل مشهور قريب من تلك المدينة كان يطل على المدينة وضواحيها جميعا.. وكأنه شاشة لمن يريد أن يرقب حركات الناس ويدرسها.
1 ـ حقيقة الإنسان
عندما وصلنا إلى تلك القمة أحسست بشفافية عميقة.. فالجبل كان عاليا، والهواء كان نقيا، والسماء كانت قريبة، وكأننا في برزخ بين السماء والأرض.
لست أدري كيف خطر على بالي أن أسأل صديقي ألكسيس عن حقيقة الإنسان على ضوء المعارف التي تعلمها.
أطلق نفسا عميقا، ثم قال: هل أحدثك بلساني، أم بلسان ألكسيس؟
قلت: كلاكما ألكسيس.. فحدثنا بأيهما شئت.
قال: سأحدثك بلسانه ، فهو أفصح من لساني.
قلت: حدثني بلسانكما جميعا.. فلا طاقة لي أن أفهم لسانه وحده[2].
قال: لا بأس.. سأجعلك ـ كما كنت تفعل مرة ـ تشاركني ذلك الهم الذي شاركت فيه ألكسيس.
لقد تعجب ألكسيس من ذلك التفاوت العجيب بين علوم الجماد وعلوم الحياة، فبينما نرى علوم الفلك والميكانيكا والطبيعة، تقوم على آراء يمكن التعبير عنها، بسداد وفصاحة، باللغة الحسابية، بل أنشأت هذه العلوم عالماً متناسقاً كتناسق آثار اليونان القديمة.
ولكن موقفها من علوم الحياة ـ والتي نتعرف من خلالها على حقيقة الإنسان ـ يختلف عن ذلك كل الاختلاف، حتى ليبدو كأن الذين يدرسون الحياة قد ضلوا فى غاب متشابك الأشجار، أو أنهم فى قلب دغل سحرى، لا تكف أشجاره التى لا عداد لها عن تغيير أماكنها وأحجامها! فهم يرزحون تحت عبء أكداس من الحقائق، التى يستطيعون أن يصفوها، ولكنهم يعجزون عن تعريفها أو تحديدها فى معادلات جبرية.
فمن الأشياء التى تراها العين فى عالم الماديات، سواء كانت ذرات أم نجوماً، صخوراً أم سحباً، صلباً أم ماء أمكن استخلاص خواص معينة هى مادة التفكير العلمى.
ولكن علم الكائنات الحية بصفة عامة ـ والإنسان بصفة خاصة ـ لم يصب مثل هذا التقدم، بل إنه لا يزال فى المرحلة الوصفية، فالإنسان كل لا يتجزأ، بل هو فى غاية التعقيد، ومن غير الميسور الحصول على عرض بسيط له، وليست هناك طريقة لفهمه فى مجموعه، أو فى أجزائه فى وقت واحد، كما لا توجد طريقة لفهم علاقاته بالعالم الخارجى.
ولكى نحلل أنفسنا فإننا مضطرون للاستعانة بفنون مختلفة، وإلى استخدام علوم عديدة، ومن الطبيعى أن تصل كل هذه العلوم إلى رأى مختلف فى غايتها المشتركة، فإنها تستخلص من الإنسان ما تمكنها وسائلها الخاصة من بلوغه فقط، وبعد أن تضاف هذه المستخلصات بعضها إلى بعض، فإنها تبقى أقل غناء من الحقيقة الصلبة.. إنها تخلف وراءها بقية عظيمة الأهمية، بحيث لا يمكن إهمالها.
قلت: ولكن العلوم التي يمكن الاستفادة منها للتعرف على الإنسان كثيرة جدا.. فهناك التشريح والكيمياء، والفسيولوجيا. وعلم النفس، وفن التعليم، والتاريخ وعلم الاجتماع، والاقتصاد.. ألم تستطع كل هذه العلوم التوصل إلى حقيقة الإنسان؟
قال: الإنسان أبعد من أن يكون الإنسان الجامد، فالإنسان الحقيقى لا يزيد أن يكون رسماً بيانياً، يتكون من رسوم بيانية أخرى أنشأتها فنون كل علم.
وهو ـ فى الوقت نفسه ـ الجثة التى شرحها البيولوجيون، والشعور الذى لاحظه علماء النفس وكبار معلمى الحياة الروحية، والشخصية التى أظهر التأمل الباطنى لكل إنسان أنها كامنة فى أعماق ذاته.
إنه عبارة عن المواد الكيماوية التى تؤلف الأنسجة وأخلاط أجسامنا.. إنه تلك الجمهرة المدهشة من الخلايا والعصارات المغذية التى درس الفسيولوجيون في علماء وظائف الأعضاء قوانينها العضوية.
إنه ذلك المركب من الأنسجة والشعور الذى يحاول علماء الصحة والمعلمون أن يقودوه إلى الدرجات العليا اثناء نموه مع الزمن.
إنه ذلك الكائن الحى العالمى الذى يجب أن يستهلك بلا انقطاع السلع التى تنتجها المصانع، حتى يمكن أن تظل الآلات ـ التى جعل لها عبداً ـ دائرة بلا توقف.
ولكنه ـ مع ذلك ـ قد يكون شاعراً، وبطلاً أو قديساً.
إنه ليس فقط ذلك المخلوق شديد التعقيد الذى تحلله فنوننا العلمية، ولكنه أيضاً تلك الميول والتكهنات، وكل ما تنشده الإنسانية من طموح.
وكل آرائنا عنه مشربة بالفلسفة العقلية، وهذه الآراء جميعاً تنهض على فيض من المعلومات غير الدقيقة بحيث يراودنا إغراء عظيم لنختار من بينها ما يرضينا ويسرنا فقط.
ومن ثم فإن فكرتنا عن الإنسان تختلف تبعاً لاحساساتنا ومعتقداتنا، فالشخص المادى والشخص الروحى يقبلان نفس التعريف الذى يطلق على بلورة من الكلوريد، ولكنهما لا يتفقان أحدهما مع الآخر فى تعريف الكائن الحى.
قلت: فأنت ترى أن البشر قصروا في البحث عن أنفسهم وفي حقيقتهم؟
قال: أنا وألكسيس وكل العقلاء الذين صعدوا قمة كقمة هذا الجبل الذي نعتليه يرون هذا.. نعم.. لقد بذل الجنس البشرى مجهوداً جباراً لكى يعرف نفسه، ولكن بالرغم من أننا نملك كنزاً من الملاحظة التى كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين فى جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسننا، إننا لا نفهم الإنسان ككل، إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا، فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح تسير فى وسطها حقيقة مجهولة.
قلت: إن هناك من يزعم بأن معارفنا عميقة عن الإنسان.. فكيف تخالفه أنت في هذا؟
قال: يمكن أن يقول هذا من يصف الأشياء بألوانها وأحجامها وأشكالها.. ولكن من يريد أن يعرف حقائق الأشياء وأسرارها وأعماقها، فسيقول ما قال ألكسيس، وقال كل العقلاء (إن جهلنا مطبق بالإنسان)
فأغلب الأسئلة التى يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشرى تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة فى دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة، فنحن لا نعرف حتى الآن الإجابة عن أسئلة كثيرة.
نحن لا نعرف كيف تتحد جزئيات المواد الكيماوية لكى تكون المركب والأعضاء المؤقتة للخلية؟
ولا نعرف كيف تقررالجينات (ناقلات الوراثة) فى نواة البيضة المقلحة، صفات الفرد المشتقة من هذه البويضة؟
ولا نعرف كيف تنتظم الخلايا فى جماعات من تلقاء نفسها، مثل الأنسجة والأعضاء؟ فهى كالنمل والنحل تعرف مقدماً الدور الذى قدر لها أن تلعبه فى حياة المجموع، وتساعد العمليات الميكانيكية الخفية على بناء جسم بسيط ومعقد فى الوقت ذاته.
ولا نعرف ما هى طبيعة تكويننا النفسانى والفسيولوجى؟ إننا نعرف أننا مركب من الأنسجة، والأعضاء، والسوائل والشعور، ولكن العلاقات بين الشعور والمخ مازالت لغزاً، إننا ما زلنا بحاجة إلى معلومات كاملة تقريباً عن فسيولوحية الخلايا العصبية.. إلى أى مدى تؤثر الإرادة فى الجسم؟ كيف يتأثر العقل بحالة الأعضاء؟ على أى وجه تستطيع الخصائص العضوية العقلية التى يرثها كل فرد أن تتغير بواسطة طريق الحياة والمواد الكيماوية الموجودة فى الطعام والمناخ، والنظم النفسية والأدبية؟
إننا ما زلنا بعيدين جداً عن معرفة ماهية العلاقات الموجودة بين الهيكل العظمى والعضلات والأعضاء، ووجوه النشاط العقلى والروحى.. وما زلنا نجهل العوامل التى تحدث التوازن العصبى، ومقاومة التعب، والكفاح ضد الأمراض.
إننا لا نعرف كيف يمكن أن يزداد الإحساس الأدبى، وقوة الحكم، والجرأة، ولا ما هى الأهمية النسبية للنشاط العقلى والأدبى والدينى.
ولا نعرف أى شكل من أشكال النشاط مسئول عن تبادل الشعور أو الخواطر؟
لا شك مطلقاً فى أن عوامل فسيولوجية وعقلية معينة هى التى تقرر السعادة أو التعاسة، النجاح أو الفشل، ولكننا لا نعرف ما هى هذه العوامل، إننا لا نستطيع أن نهب أى فرد ذلك الاستعداد لقبول السعادة بطريقة صناعية.
وحتى الآن فإننا لا نعرف أى البيئات أكثر صلاحية لإنشاء الرجل المتمدين والمتقدم.
هلا فى الإمكان كبت روح الكفاح والمجهود، وما قد نحس به من عناء بسبب تكويننا الفسيولوجى والروحى؟.
كيف نستطيع أن نحول دون تدهور الإنسان وانحطاطه فى المدينة العصرية؟
وهناك أسئلة أخرى لا عداد لها، يمكن أن تلقى فى موضوعات تعتبر فى غاية الأهمية بالنسبة لنا.. ولكنها ستظل جميعاً بلا جواب، فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإنسان، غير كاف، وأن معرفتنا بأنفسنا ما زالت بدائية فى الغالب.
قلت: ولكن لماذا كان جهلنا مطبقاً بحقيقة الإنسان؟ ولماذا كانت الحقيقة تسير فى موكب من الأشباح، بحيث لا نستطيع رؤيتها بوضوح؟ ولماذا كان الذين يدرسون الحياة كمن ضلوا طريقهم فى غاب متشابك الأشجار، أو فى قلب دغل سحرى، لا تكف أشجاره التى لا عداد لها عن تغيير أماكنها وأحجامها؟
هل كان ذلك لقصور الوسائل العلمية فى فترة من الفترات؟ أم لظروف وقتية من ظروف حياتنا الإنسانية؟ ومن ثم يكون هناك أمل كبير وفرص كثيرة لتكملة تلك الوسائل، وتغيير هذه الظروف، ثم الوصول إلى معرفة الحقيقة الإنسانية كاملة واضحة محددة؟
أم أن هناك أسباباً ثابتة فى طبيعة الحقيقة الإنسانية من جهة، وفى طبيعة تفكيرنا وعقولنا من جهة أخرى، هى التى تنشئ تعذر الوصول إلى هذه الحقيقة بمثل الوضوح والدقة المعهودين فى عالم المادة؟
قال: كل ما ذكرته صحيح.. فقد يعزى جهلنا إلى طريقة حياة أجدادنا، وفى الوقت ذاته إلى طبيعتنا المعقدة، وإلى تركيب عقلنا.
فقد كان على الإنسان أن يعيش، وهذه الضرورة طالبته بقهر العالم الخارجى، وبما أنه لم يكن له مفر من الحصول على الغذاء والمأوى، كما لم يكن له مفر من قتال الحيوانات المتوحشة وغيره من بنى الإنسان.. ولآماد طويلة لم يفز أجدادنا الأوائل بوقت فراغ، كما لم يشعروا بأى ميل إلى دراسة أنفسهم، إذ كانوا يستخدمون عقولهم فى أمور أخرى كصناعة الأسلحة والأدوات، واكتشاف النار، وتدريب الماشية والجياد، واختراع المركبات، وزراعة الحبوب.
وقبل أن يهتموا بتركيب أبدانهم وعقولهم بوقت طويل، فكروا فى الشمس والقمر والنجوم، والتيارات المائية، وتوالى الفصول الأربعة.
ولهذا تقدم علم الفلك بخطى واسعة، فى عهد كان علم الفسيولوجيا لا يزال غير معروف بتاتاً، فقد قهر جاليلو الأرض، وهى مركز المجموعة الشمسية، وذلك على أنها تابع متواضع من توابع الشمس، بينما لم تكن لدى معاصريه أية فكرة، ولو أولية، عن تركيب ووظائف العقل والكبد، والغدة الدرقية.
ونظراً لأن الجسم البشرى يؤدى وظائف بطريقة مرضية فى أحوال الحياة الطبيعية، ولا يحتاج لأى اهتمام، فقد تقدم العلم فى الاتجاه الذى وجهه إليه حب الاستطلاع البشري – أى فى اتجاه العالم الخارجي.
وثم سبب آخر للبطء الذى اتسمت به معرفتنا لأنفسنا، وذلك أن تركيب عقولنا يجعلنا نبتهج بالتفكير فى الحقائق البسيطة، إذ أننا نشعر بضرب من النفور حين نضطر إلى تولى حل مشكلة معقدة مثل تركيب الكائنات الحية والإنسان
فالعقل يتصف بعجز طبيعى عن فهم الحياة، وبالعكس فإننا نحب أن نكشف فى جميع العوالم، تلك الأشكال الهندسية الموجودة فى أعماق شعورنا.
إن دقة النسب البادية فى تماثيلنا، وإتقان آلاتنا، يعبران عن صفة أساسية لعقلنا، فالهندسة غير موجودة فى دنيانا وإنما أنشأناها نحن، إذ أن وسائل الطبيعة لا تكون أبداً بالدقة التى تتصف بها وسائل الإنسان، فنحن لا نجد فى العالم ذلك الوضوح وتلك الدقة اللتين يتصف بهما تفكيرنا.. ومن ثم فإننا نحاول أن نستخلص من تعقد الظواهر، بعض النظم البسيطة التى تربط بعض عناصرها بالأخرى علاقات معينة، تكون قابلة للوصف حسابياً. وقدرة الاستخلاص هذه التى يتمتع بها العقل البشرى مسئولة عن ذلك التقدم الرائع الذى أحرزه علماء الطبيعة والكيمياء.
وقد لقيت الدراسة الطبيعية ـ الكيماوية للكائنات الحية نجاحاً مماثلاً، فقوانين الطبيعة والكيمياء متماثلة فى عالم الكائنات الحية وعالم الجماد ـ كما خطر ببال كلود برنار منذ أمد بعيد.
وهذه الحقيقة توضح لماذا اكتشف علم وظائف الأعضاء الحديثة مثلاً، أن استمرار قلوية الدم وماء المحيط تفسرها قوانين متماثلة، وأن النشاط الذى تستهلكه العضلات المتقلصة يقدمه تخمر السكر، وأن النواحى فى الأشياء الأخرى الموجودة فى العالم المادى، تلك هى المهمة التى نجح علم الوظائف العام فى تحقيقها.
قلت: فأنت ترى أن سر التقدم البطىء فى معرفة الإنسان لنفسه إذا قورن بتفوقه الرائع فى علوم الطبيعة والفلك والكيمياء والميكانيكا يعزى إلى عدم تفرغ أسلافنا للبحث عن الإنسان، وإلى تعقد الموضوع، وإلى تركيب عقولنا.
قال: وهذه العقبات أساسية، وليس هناك أمل فى تذليلها، وسيظل التغلب عليها شاقاً يستلزم جهوداً مضنية.. إن معرفة نفوسنا لن تصل أبداً إلى تلك المرتبة من البساطة المعبرة، والتجرد، الجمال، التى بلغها علم المادة، إذ ليس من المحتمل أن تختفى العناصر التى أخرت تقدم علم الإنسان.. فعلينا أن ندرك بوضوح أن علم الإنسان هو أصعب العلوم جميعاً.
قال ذلك، ثم غاب في أحزان عميقة لا يجد ما يرفعها به.
في ذلك الحين ظهر علي في صورة عالم كبير من علماء المسلمين، لا شك أنك تعرفه.. لقد ظهر في صورة الشيخ عبد المجيد الزنداني.. ذلك العالم الذي طاف الأرض يبشر بالعودة إلى الله.. ويجعل من علم الله الذي نرى آثاره في كتابه دليلا يجذب به العقول والقلوب.
اقترب منا، وراح يقرأ بصوت خاشع قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)﴾(البقرة)
رأيت صاحبي ألكسيس يكاد يندمج فيما يسمع، التفت إلي، وقال: إن هذا الرجل يقرأ قصة آدم أبي البشر من القرآن.. أليس كذلك؟
قلت: بلى.. هو كذلك.. أنت تعرف.. فإن المسلمين يقرأون القرآن بهذه الطريقة.. ونظم القرآن يساعدهم على ذلك.
قال: أنا لم أرد طريقة الكلام.. بل أردت الكلمات.. الكلمات نفسها.
قلت: الكلمات التي قرأها تشمل قصة آدم.. وهي تشبه تقريبا ما ورد في التوراة[3].
انتفض، وقال: لا.. إنها تختلف عنها تماما.. لقد قرأت قصة آدم في التوراة.. لكني لم أشعر بالمشاعر التي أجدها الآن.. لكأن هذه الآيات تخاطبني.. بل لكأنها تجيبني عن تساؤلاتي وتساؤلات ألكسيس المحيرة..
قال ذلك، ثم تحرك نحو علي، وهو يقول: هلموا بنا إلى هذا الرجل القارئ، فإني أرى له شأنا لا يقل عن شأن من لقينا في سائر الأيام من رجال.
اقتربنا من علي، فعرفه ألكسيس بنفسه، وبجماعتنا، ثم قال: لقد سمعتك تقرأ آيات من القرآن.. آيات احترت فيها، وفي المعاني التي تحملها.. هل تراك كنت تدرك ما كنت تقرأ؟
قال علي: إن كلام الله أعمق من أن يحاط به.. ونحن ـ ما دمنا في هذه الحياة ـ نجلس بين يديه كما يجلس التلميذ بين يدي أستاذه ليتعلم كل يوم جديدا.
قال ألكسيس: فما تعلمت اليوم؟
قال علي: في قمة هذا الجبل.. وفي هذا البرزخ الذي نقف فيه بين السماء والأرض ذكرت رجلا كنت أحبه كثيرا.. ومقدرا حبي له، لا يوازيه إلا مقدار أسفي عليه.
قال ألكسيس: فمن هو هذا الرجل الذي أسرك.. وملأك حبا وأسفا.
قال علي: اسمه يشبه اسمك الذي ذكرته لي.. إنه رجل من بلادكم التي تغرب منها الشمس.. إنه ألكسيس كاريل.
تعجب ألكسيس من هذه المصادفات العجيبة، وقال: فأنت الآن بين يدي ألكسيس، فما الذي جعلك تتأسف عليه؟
قال علي: أتأسف لأني لو لاقيته، وبثثت له ما قال قرآن ربنا عن الإنسان لعدل تسمية كتابه.
قال ألكسيس: فما ترى أنه سيسميه؟
قال علي: سيسميه (الإنسان ذلك المعلوم)
قال ألكسيس: إن ما تقوله عجيب.. فالرجل لم يكن رجلا بسيطا.. لقد أتيحت من فرص التعلم ما حرم منه الكثير.. وقد كان يقول عن نفسه:( إننى مدين لفنون الحياة العصرية، لأنها مكنتنى من مشاهدة هذا المنظر العظيم، كما أتاحت لى فرصة توجيه انتباهى إلى عدة موضوعات فى وقت واحد.. إننى أعيش فى العالم الجديد والقديم أيضاً.. وأمتاز بأننى أقضى معظم وقتى فى (معهد روكفلر للبحث الطبى) كواحد من العلماء الذين جمعهم (سيمون فلكسنر) معاً فى هذا المعهد.. فهناك أفكر فى ظواهر الحياة حين يحللها الخبراء الذين لا يبارون، أمثال (ملتزر) و(جاك لويب) و(نجيوشى)، وكثيرون غيرهم )
قال علي: لقد ذكر خبراء كثيرين التقى بهم، تتلمذوا هم أيضا على خبراء آخرين.. ولكنه لم يذكر رجلا واحدا تتلمذ على القرآن الكريم.
قال ألكسيس: أرأيت لو أنه ظفر بمثل هذا التلميذ ماذا كان سيفعل؟
قال علي: لقد ذكرت لك ما الذي كان سيفعله..أول ما يفعله أن يرفع هالة الحزن التي تكسو وجهه، ليبدلها بفرح سعيد..ثم يتوجه بعدها ليلبس لباس الإنسان الذي جاء القرآن ليعلمنا علمه.
قال ألكسيس: فلنفرض أنني ألكسيس.. ولنفرض أنك تلميذ القرآن.. وهلم نتحاور لنرى كيف نخلص ألكسيس من ذلك الجهل المطبق بالإنسان.
قال علي: مع أني لا أزعم شرف التلمذة على القرآن الكريم، ومع ذلك سأقبل هذا الدور.. وسأجيبك وأجيب سميك عن كل ما يخطر على بالكم.. ولن أجيبكم من عندي.. بل سيجيبكم ربي..
قال ألكسيس: أنت واثق كثيرا من نفسك.
قال علي: بل أنا واثق كثيرا في ربي.. إن ربي يقول:﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾(الملك)
وهو يقول:﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾(النجم)
قال ألكسيس: هذه آية عظيمة.. إن الترابط بينها عجيب جدا.. فالقرآن يذكر سر مغفرة الله للخطايا لأنه يعلم تركيبة البشر الأرضية.. ويعلم استعداداتهم الوراثية التي تلقوها، وهم أجنة في بطون أمهاتهم.
قال علي: ولهذا فإن القرآن يمسح آهات كاريل بأسلوب بسيط، ولكنه غاية في العمق..
إنه يقول له: لا تلم الإنسان على جهله بالإنسان.. فإن الإنسان لن يعرف الإنسان.
قال ألكسيس: فمن يعرف الإنسان؟
قال علي: الله الذي خلقه هو الذي يعلمه.. أما الإنسان، فهو أقصر وأضعف من أن يعلم نفسه.
إن الله تعالى يخبرنا بهذا.. إنه يقول:﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الاسراء:85) ، ويقول:﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام:164)، ويقول:﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34)
بل إنه يتحدانا، فيقول:﴿ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾(النساء: من الآية11)
ويعبر عن قصور مداركنا عن معرفة ما ينفعنا وما يضرنا، فيقول:﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216)
بل إنه يعتبر الكثير من المعارف التي نتصور أنا نعرف أنفسنا من خلالها من الظنون التي لا تجلب لنا غير الوهم والجهل، فيقول:﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام:116)، ويقول:﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص:50)، ويقول:﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (لنجم:28)
ليس ذلك فقط هو خطر معارفنا عن أنفسنا التي هي عين الجهل، بل إن خطرها يتعدى إلى الكون جميعا، فالله تعالى يقول:﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون:71)
قال ألكسيس: ولكن الإنسان تقدم في علوم كثيرة.. فكيف تقدم فيها، ثم تخلف في علمه بنفسه.. أليس ذلك عجيبا؟
قال علي: لقد أجابت الآيات التي كنت أقرؤها عن ذلك.. فالله تعالى علم آدم أسماء الأشياء وخصائصها وأعطاه القدرة على تسخيرها، بل إنه سخرها له لينتفع بها.. ولا بد أن يرزقه من علمها ما يمكنه من ذلك الانتفاع.
القرآن الكريم ذكر القدرات الممنوحة للإنسان في هذا المجال، واعترف بالعلم الذي أوتيه، ولكنه اعتبره علما قاصرا محدودا.. لقد بدأ الله تعالى فذكر جهل الإنسان، قال تعالى:﴿ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:6)، ثم استدرك عليك وعلي وعلى ألكسيس وعلى تلك العقول الكثيرة الحائرة، فقال:﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7)
فنحن ـ مع ما أوتينا من علوم كثيرة في جميع المجالات ـ لم نؤت إلا علوم التسخير.
فكل علومنا من هذا النوع..
هي علوم تيسر لنا المأكل والمشرب والعافية والحياة الرخية التي توفر لنا بعض التفرغ للعمل الذي انتدبنا له.
قال ألكسيس: ولكن كيف يعطينا الله علوم الأشياء، ثم يحرمنا من العلم بأنفسنا.
قال علي: لا.. بل هو أعطانا العلم بأنفسنا، قبل أن يعطينا العلم بالأشياء.
قال ألكسيس: أراك تقع في التناقض.. فهل قرآنكم هو الذي أوقعكم في هذا التناقض؟
قال علي: لم أقع في التناقض.. لقد نفيت علم الإنسان بنفسه، وهو ما أثبته الله، ولكني لم أنف تعليم الله لنا حقيقة أنفسنا، وحقيقة وظيفتنا.. بل أعطانا الكثير من المعارف عنا.. والتي لن تتمكن عقولنا البسيطة من معرفتها.
إن مثل ذلك مثل أجير استأجر على عمل.. فهل ترى صاحب العمل يقصر في تعريف الأجير حقيقة وظيفته، ونوع أجره، ومدة عمله..
قال ألكسيس: لا.. بل سيشرح له ذلك بالتفصيل.
قال علي: فإذا صادفت العامل في عمله بعض العقبات مما يتعلق بشؤون العمل.. فهل سيستدعي صاحب العمل ليفك له تلك العقبة.. أم يفكها بنفسه وخبرته؟
قال ألكسيس: ذلك يختلف.. فإن كان لتلك العقبة علاقة بصاحب العمل طلب الاستيضاح منه، وأما إن لم تكن له علاقة بذلك اجتهد رأيه.
تكريم الإنسان:
قال علي: فهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بالخلافة.. وهذه هي حقيقة وظيفة الإنسان..
فالإنسان مخلوق متفرد عن الكثير ممن حوله.. هذا ما نص عليه القرآن الكريم في تلك الآيات التي كنت أقرؤها.. ولذلك سخر له الكون، ولذلك علم من علوم الكون ما علم، لقد قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الاسراء:7.)، وقال:﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4)
قال ألكسيس: صدق قرآنكم في هذا.. هذه حقيقة علمية.. فالإنسان كائن فذ فى هذا الكون.. إنه مخلوق غير مكرر فى جميع الخلائق التى عرفناها.
وتميز الإنسان بخصائص لا توجد فى عالم الأحياء هو الذى جعل (جوليان هكسلى) فى (الداروينيه الحديثة) يتراجع عن الكثير من (الداروينية القديمة)، التى قررها(داروين)
وهو لا يتراجع عنها إلا مضطراً أمام ضغط الحقائق الواقعية التى تحتم هذا التراجع، إذ يعترف بأن الإنسان (حيوان خاص) وأنه له (خصائص) لم تلاحظ فى أى حيوان آخر، وأن لهذه الخصائص آثاراً متفردة كذلك.
لقد قال في كتابه: (الإنسان فى العالم الحديث):( لقد تأرجح رأى الإنسان كالخطار (البندول) فيما يتعلق بمركزه بالنسبة لبقية الحيوانات، بين إعجابه الشديد أو القليل بنفسه تفصل بينه وبين الحيوانات هوة سحيقة جداً وحيناً آخر هوة صغيرة جداً.
وبظهور نظرية (داروين) بدأ الخطار (البندول) يتأرجح عكسياً، واعتبر الإنسان حيواناً مرة أخرى.. ووصل الخطار شيئاً فشيئاً إلى أقصى مدى تأرجحه، وظهر ما بدأ أنه النتائج المنطقية لفروض (داروين)، فالإنسان (حيوان) كغيره من الحيوانات، ولذلك فإن آراءه فى معنى ا لحياة الإنسانية، والمثل العليا، لا تستحق تقديراً أكثر من آراء الدودة الشريطية أو بكتريا الباشلس! والبقاء هو المقياس الوحيد للنجاح التطورى. ولذلك فكل الكائنات الحية متساوية القيمة. وليست فكرة التقدم إلا فكرة إنسانية. ومن المسلم به أن الإنسان فى الوقت الحاضر سيد المخلوقات ولكن قد تحل محله القطعة أو الفأر.
ولم تصغر الهوة هنا بين الإنسان والحيوان، نتيجة المبالغة فى إعطاء الحيوان صفات الإنسان، وإنما نتيجة التقليل من الصفات الإنسانية فى الإنسان.. ومع ذلك فقد ظهر منذ عهد قريب اتجاه جديد، سببه فى الغالب زيادة المعرفة واتساع نطاق التحليل العلمى.
إن الخطار يتأرجح ثانية: وتتسع الهوة بين الإنسان والحيوان مرة أخرى.. وبعد نظرية (داروين) لم يعد الإنسان يستطيع تجنب اعتبار نفسه حيواناً، ولكنه بدأ يرى نفسه حيواناً غريباً جداً وفى حالات كثيرة لا مثيل لها )
وهو يذكر خصائص الإنسان الفذة التي تجعله متفردا ، فيقول:( وأول خصائص الإنسان الفذة، وأعظمها وضوحاً، قدرته على التفكير التصورى.. ولقد كان لهذه الخاصية الأساسية فى الإنسان نتائج كثيرة، وكان أهمها نمو التقاليد المتزايدة.. ومن أهم النتائج تزايد التقاليد ـ أو إذا شئت من أهم مظاهر الحقيقة ـ ما يقوم به الإنسان من تحسين فيما لديه من عدد وآلات.. وإن العدد والتقاليد لهى الخواص التى هيأت للإنسان مركز السيادة بين سائر الكائنات الحية.. وهذه السيادة (البيولوجية) ـ فى القوت الحاضر ـ من خاصية أخرى من خواص الإنسان الفذة.
والإنسان لا مثيل له أيضاً كنوع مسيطر. إذ انقسمت كل الأنواع الأخرى المسيطرة على مئات وآلاف كثيرة من الأنواع المنفصلة، وتجمعت فى أجناس وفصائل عديدة، ومجموعات أكبر. أما الإنسان فقد حافظ على سيادته من غير انقسام. ولقد تم تنوع سلالات فى حدود نوع واحد.
وأخيراً فإن الإنسان لا مثيل له بين الحيوانات الراقية فى طريقة تطوره[4].
وللإنسان خاصية أخرى بيولوجية، وهى تفرد تاريخ تطوره، ونحن الآن فى مركز يسمح لنا بتعريف تفرد الإنسان فى تطوره.
وأما خاصية الإنسان الجوهرية ككائن حى مسيطر فهى(التفكير المعنوى).
ولقد كان بحثنا حتى الآن بطريقة عامة فى خصائص الإنسان من ناحية التطور والمقارنة. والآن نعود إليها، ونبحث فيها وفى نتائجها بشئ من الإسهاب.. فأولاً يجب أن يغرب عن بالنا، أن الفرق بين الإنسان والحيوان فى العقل أعظم بكثير مما نظن عادة.. وكلنا على علم بقوة الغريزة فى الحشرات.. ولكنها تبدو عاجزة عن معرفة طرق جديدة. وليست الثدييات بأفضل من ذلك.. بينما للتفكير عند الإنسان أهمية بيولوجية كبرى حتى عندما تسود تفكيره العادة والمحاولة والخطأ.
ولابد أن يكون سلوك الحيوانات عرفياً- أى أنه ثابت فى حدود ضيقة- أما الإنسان فقد أصبح فى سلوكه حراً نسبياً.. حراً فى الأخذ والعطاء على حد سواء.. ولهذه الزيادة فى المرونة نتائج أخرى سيكولوجية يتناساها رجال الفلسفة العقلية.. والإنسان أيضاً فريد فى بعضها. فقد أدت هذه المرونة مثلاً إلى كون الإنسان هو الكائن الحى الوحيد، الذى لابد له أن يتعرض للصراع النفسى.. ومع ذلك فطبقاً للآراء الحديثة توجد فى(الإنسان) أجهزة لتقليل النزاع إلى أقصى حد، وهى التى يعرفها علماء النفس بالكبت والقمع.
ومثله يقول العالم الأمريكى (أ. كريسى موريسون) فى كتابه (العلم يدعو إلى الإيمان):( إن القائلين بنظرية التطور(النشوء والارتفاء) لم يكونوا يعلمون شيئاً عن وحدات الوراثة(الجينات)..
لقد رأينا أن (الجينات) متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات فى خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية. وهى تحفظ التصميم، وسجل السلف، والخواص التى لكل شئ حى. وهى تتحكم تفصيلاً فى الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات، تماما كما تقرر الشكل والقشر والشعر والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان.
ويلاحظ أن جميع الكائنات الحية، منفصل بعضها عن بعض بهوات كثيفة لا يمكن عبورها. حتى إن الحيوانات المتقاربة ينفصل بعضها عن بعض كذلك.
والإنسان حيوان من رتبة الطليعة، وتكوينه يشبه فصائل (السيميا) (الأورانجتان والغوريلا والشمبانزى) ولكن هذا الشبه الهيكلى ليس بالضرورة برهاناً على أننا من نسل أسلاف سينمائية (من القرود) أو أن تلك القرود هى ذرية منحطة للإنسان. ولا يمكن أحد أن يزعم أن سمك القد قد تطور من سمك الحساس وإن يكن كلاهما يسكن المياه نفسها، ويأكل الطعام نفسه، ولهما عظام تكاد تكون متشابهة.
إن ارتقاء الإنسان الحيوانى إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده هو خطوة أعظم من أن تتم عن طريق التطور المادى، ودون قصد ابتداعى.
وإذا قبلت واقعية القصد، فإن الإنسان بوصفه هذا قد يكون جهازاً. ولكن ما الذى يدير هذا الجهاز؟ لأنه بدون أن يدار، لا فائدة منه. والعلم لا يعلل من يتولى إدارته. وكذلك لا يزعم أنه مادى.
لقد بلغنا من التقدم درجة تكفى لأن نوقن بأن الله قد منح الإنسان قبساً من نور، ولا يزال الإنسان فى طور طفولته من وجهة الخلق، وقد بدأ يشعر بوجود ما يسميه بـ (الروح) وهو يرقى فى بطء ليدرك هذه الهبة، ويشعر بغريزته أنها خالدة.
وإذا صح هذا التعليل- ويبدو أن المنطق الذى يسنده لا يمكن دحضه- فإن هذه الكرة الأرضية الصغيرة التى لنا، وربما غيرها كذلك، تكسب أهمية لم يحلم بها أحد من قبل. فعلى قدر ما نعلم قد تولد عن عالمنا الصغير هذا، أول جهاز مادى أضيف إليه قبس من نور الله. وهذا يرفع الإنسان من مرتبة الغريزة الحيوانية إلى درجة القدرة على التفكير، التى يمكن بها الآن أن يدرك عظمة الكون فى اشتباكاته، ويشعر شعوراً غامضاً بعظمة الله ماثلة فى خلقه.
وهو يقول:( إن أية ذرة أو جزئية لم يكن لها فكرة قط، وأى اتحاد للعناصر لم يتولد عنه رأى أبداً وأى قانون طبيعى لم يستطع بناء كاتدرائية. ولكن كائنات حية معينة قد خلقت تبعاً لحوافز معينة للحياة، وهذه الكائنات تنتظم شيئاً تطيعه جزئيات المادة بدورها. ونتيجة هذا وذاك كل ما نراه من عجائب العالم. فما هو هذا الكائن الحى؟ هل هو عبارة عن ذرات وجزئيات؟ أجل. وماذا أيضاً؟ شئ غير ملموس، أعلى كثيراً من المادة لدرجة أنه يسيطر على كل شئ. ومختلف جداً عن كل ما هو مادى مما صنع منه العالم، لدرجة أنه لا يمكن رؤيته ولا وزنه ولا قياسه. وهو ـ فيما نعلم ـ ليست له قوانين تحكمه.
إن(روح الإنسان هى سيدة مصيره) ولكنها تشعر بصلتها بالمصدر الأعلى لوجودها. وقد أوجدت للإنسان قانوناً للأخلاق لا يملكه أى حيوان آخر، ولا يحتاج إليه. فإذا سمى أحد ذلك الكيان بأنه فضلة لتكوينات المادة، لا لشئ سوى أنه لا يعرف كنهه بأنبوبة الاختبار، فهو إنما يزعم زعماً لا يقوم عليه برهان.. إنه شئ موجود، يظهر نفسه بأعماله، وبتضحياته، وبسيطرته على المادة،وبالأخص على رفع الإنسان المادى من ضعف البشر وخطئهم إلى الإنسجام مع إرادة الله.. هذه هى خلاصة القصد الربانى. وفيها تفسير للاشتياق الكامن فى نفس الإنسان، للاتصال بأشياء أعلى من نفسه. وفيها كشف عن أساس حافزه الدينى.. هذه هو الدين.
الطبيعة المزدوجة:
قال علي: لقد ذكر الله تعالى سر هذا التفرد الذي تمتع به الإنسان، فقال:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)﴾(الحجر)
فالإنسان ـ بحسب هذه الآية الكريمة، وبحسب آيات أخرى كثيرة ـ حقيقتان: تراب، وروح.. هو تراب من الأرض.. وروح من الملأ الأعلى..
وهذا هو سر جهلنا بالإنسان.. وهذا هو سر عدم إمكانية علم الإنسان بالإنسان.
قال ألكسيس: كيف ذلك؟
قال علي: أنت طبيب يأتيك المرضى كما كانوا يأتون ألكسيس.. أليس كذلك؟
قال ألكسيس: بلى..
قال علي: فهل يمكن لأنصاف المعلومات أن تؤدي إلى معلومات كاملة؟
قال ألكسيس: لم أفهم.
قال علي: إذا جاءك مريض بنصفه فقط.. بل بجزء بسيط منه.. وترك جزأه الأهم لم يأتك به.. فهل يمكن أن تعرفه، أو تعرف ما أصابه.
قال ألكسيس: فهمت قصدك.. طبعا.. ومن الناحية العلمية لا تعتبر المعلومة معلومة إلا إذا اكتملت جميع أركانها.. ولهذا ترانا في الطب نبحث في كل الأعضاء، ولو لم يكن لها صلة مباشرة بالمرض.. لاحتمال علاقتها بها.
قال علي: فانطلق من هذا لتفهم حقيقة الإنسان.
فالإنسان كائن روحي عال من الملأ الأعلى لا نعرفه.. وليس لدينا من الأدوات ما يمكننا من معرفته.
وهو في نفس الوقت كائن ترابي.. يتغير كل حين.. قد ندركه، ولكن لن ندركه إدراكا كاملا.. لأن هذا التراب عند ارتباطه بالروح صار كائنا آخر.
وهذا هو سر جهلنا بالإنسان..
وهذا هو سر حاجتنا إلى الله لنعلم علم الإنسان.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin