ثامنا ـ الغذاء
في اليوم الثامن.. كان موضوع المحاضرات يتناول الغذاء في القرآن الكريم.
وقد تناولت المحاضرات الملقاة أنواع الأطعمة الواردة في القرآن الكريم، وما يرتبط بالأغذية من أحكام شرعية.. وكان أكثر الكلام فيها فقهيا.. كما كان أكثر المستدعين لها فقهاء.. وفقهاء امتلأوا بفقه التراث من غير أن يلموا بالواقع.. ومن غير أن يعرفوا ما حصل للغذاء من أنواع الفساد.
وقد ألقى صاحبي عالم التغذية محاضرته.. وقد حاول أن يعبر فيها عن تصوراته للغذاء السليم..
وصاحبي هذا يمزج بين مدارس مختلفة في التغذية، فهو من ناحية يميل إلى مدرسة الماكروبيوتيك في انتقادها الشديد للتغذية الحديثة.. وللسموم التي أفرزتها.
وهو من ناحية أخرى لا يرى كثيرا مما تراه من الغلو في بعض الأمور التي تتطلبها الصحة..
لقد كان من مدرسة خاصة.. تمزج بين مدارس مختلفة.
في ذلك اليوم طلب مني علي ـ عبر صديقه حذيفة ـ أن يستضيفنا في مطعم لا يبعد كثيرا عن الفندق الذي نقيم فيه.
كان اسم المطعم (مطعم البركة).. كان اسما جميلا وافق هوى كبيرا في نفس صاحبي عالم الغذاء.. فقد كان يؤمن بما يسمى بالبركة، وكان يشنع على أهل عصرنا غلوهم في الجانب المادي، وإهمالهم للجانب الروحي الذي أودعه الله في الأشياء.
في مدخل المطعم وجدنا لافتة مكتوبا عليها قوله r:( هلم إلى الغذاء المبارك )[1]
بقي صاحبي عالم الغذاء ينظر إليها، ويتأملها، ثم قال لي: لا شك أن قائل هذه الكلمة حكيم لا يضاهى في حكمته.
قلت: لم؟
قال: لاختياره كلمة البركة بدل غيرها.. فلم يقل لذيذا، ولا صحيا، ولا غيرها من الكلمات.
قلت: وما الفرق بين هذه الكلمات، وكلمة البركة؟
قال: كلمة البركة تعني ذلك، وتعني غيره.. إنها تعني أشياء كثيرة، تنتفع بها الروح والجسد.
سكت قليلا، ثم قال: لست أدري هل أصحاب هذا المطعم أدركوا ما كتبوا أم لم يدركوه.. ولكنهم عرفوا ماذا يختارون.
دخلنا المطعم، وجلسنا على طاولة من طاولاته.. كانت في غاية النظافة والجمال.
دعونا النادل فجاءنا.. ولم يكن إلا عليا .. ابتسمت لرؤيته على تلك الصورة، فلم يعرني أي اهتمام، بل راح يتوجه بالحديث إلى الجماعة، وخاصة عالم الغذاء من بينهم.
قال علي: مرحبا بكم في مطعم البركة.. وهلم إلى الغذاء المبارك.
قال عالم الغذاء: لقد قرأت هذه الحكمة في المدخل.. ولست أدري من الذي قالها، ولا ما الذي يقصد بها؟
قال علي: لقد قالها نبينا r.. وهو يقصد بذلك نظرية كاملة في التغذية تتوافق مع طبيعة الإنسان جسدا ونفسا وروحا وعقلا.
قال عالم الغذاء: ما كنت أظن محمدا يهتم بهذا الجانب.. أهو رسول هداية؟ أم رسول غذاء؟
ضحكت الجماعة، فقال: هو الرسول الهادي.. والهادي هو الذي لا يترك محل هداية إلا هداك إليه، ولا محل غواية إلا نهاك عنه..
قال عالم الغذاء: فما علاقة الغذاء بالهداية..
قال علي: علاقة عظيمة.. أليس الغذاء هو الذي يتحول إلى لحم ودم يتكون منه الإنسان؟
قال عالم الغذاء: بلى.. كثير من الغذاء يتمثل في الجسم، وبعضه يتحول إلى طاقة يستفيد منها الإنسان في أداء وظائفه الظاهرة والباطنة.
قال علي: فالجسم إذن جزء من الإنسان.
قال عالم الغذاء: بل بعضنا يعتبره الإنسان.
قال علي: فإذا كان كذلك.. وبهذه الأهمية، فكيف لا يهتم به من جاء للهداية الشاملة، والرحمة التامة.. أيترك الخلق أسارى نفوسهم تطلب منهم ما تشتهي مما يضرهم، وقد ترغب بهم عما ينفعهم؟
قال عالم الغذاء: ولكن هذا قد يكون موكولا للطبيعة.. فالطبيعة هي التي تقرر ما تأكل وما تدع.
قال علي: ولكن الطبيعة قد ينحرف بها الهوى.. فتسقط في أودية الإدمان.
قال عالم الغذاء: فأنت ترى الحديث عن الغذاء من ضروريات الهداية.
قال علي: أجل.. هو جزء من الهداية.. ولهذا كان من رسالة محمد أنه علمنا ما نأكل، وما لا نأكل، وكيف نأكل، ولم نأكل.
ارتاح عالم الغذاء كثيرا إلى كلام علي، فقال له: أرى أن لكلامك شأنا.. فاجلس بيننا، وهلم نتحدث عن تفاصيل ما أجملته.
قال علي: فلتبدأوا بالغذاء أولا.. أم أنكم تريدون أن تتغذوا بالكلمات؟
قال عالم الغذاء: إن الكلام الطيب أحلى من كل غذاء.
قال علي: سنحاول الجمع بينهما.. فنسمع الكلام الطيب، ونأكل الغذاء المبارك.. فأنتم ضيوف عندي.. ولا ينبغي للمضيف أن يطعم ضيوفه كلاما.
قال ذلك، ثم انصرف ليأتينا بطعام كثير جمع صنوفا من الأطعمة التي وردت بها النصوص المقدسة، وكان من بينها اللحم.
1 ـ الغذاء الخبيث
نظر عالم الغذاء إلى الصحن الذي وضع فيه اللحم، وقال: لحم أي حيوان هذا؟
قال علي: هذا لحم الظأن..
أراد أن يسخر عالم الغذاء من علي، وقال: ولم لم تأتنا بلحم الخنزير؟
قال علي: لاشك أنك تعلم حرمته.. فهو من الأغذية التي نهينا عن أكلها.. ولولا أنها ممحوقة البركة لما نهينا عن أكلها.
لقد ورد النهي عن أكل الخنزير صريحا في القرآن الكريم وفي مواضع منه إلى جنب سائر الأطعمة المحرمة، قال تعالى:﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (البقرة:173)، وقال تعالى:﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (المائدة:3)، وقال تعالى:﴿ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (الأنعام:145)، وقال تعالى:﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (النحل:115)
قال عالم الغذاء: أكل هذه الآيات في القرآن تتحدث عن الغذاء؟
قال علي: أجل.. فهي تتحدث عن أحكام مرتبطة بالغذاء.. فالغذاء المبارك يخلو من مثل الوجبات المذكورة فيها.
إن الغذاء المبارك لا يمكن أن يضم لحم خنزير، ولا لحم ميتة، ولا دما مسفوحا، ولا منخنقة، ولا موقوذة، ولا متردية، ولا ما أكل السبع..
بالإضافة إلى هذا حرم النبي r بعض أنواع الأطعمة كذوات الناب من السباع، وذوات المخلب من الطيور.. وغيرها.
قال عالم الغذاء: أصدقك القول.. إن كل ما ذكرته من الأغذية المحرمة هو من الأغذية التي حرمتها على نفسي قبل أن تذكر أنت تحريمها.. بل إني أحاضر المحاضرات الطوال في إثبات تحريمها.
قال علي: فكيف اهتديت إلى ذلك؟
قال عالم الغذاء: لقد هداني العلم بوسائله الكثيرة، وهدتني التجارب الطويلة التي مرت بها البشرية..
قال علي: لقد كفانا الله إذن أن نكون فئران تجارب، فنهانا عما يضرنا من غير أن يصيبنا ما يضرنا.
قال عالم الغذاء: أجل.. وقد نصحكم دينكم ونبيكم.
قال علي: فحدثني عما توصل إليه العلم في هذا الميدان، لأضم إلى العبودية الحكمة.
الخنزير:
قال عالم الغذاء: فلنبدأ بالخنزير.. فإني أرى القرآن قد وصفه في كل الآيات التي قرأتها بجانب الأغذية المحرمة.
قال علي: أجل.. وقد لقد أكد القرآن الكريم تحريم الخنزير في أربعة مواضع من باب التأكيد على تشديد تحريمه.
قال عالم الغذاء: وما ذلك إلا للمخاطر الكثيرة التي يحويها هذا اللحم القاتل.. وسأذكر لك منها ما تعلم صدق ما جاء به كتابك[2].
أولا.. لحم الخنزير يحتوي على كمية كبيرة من الدهون، ويمتاز باندحال الدهن ضمن الخلايا العضلية للحمه علاوة على تواجدها خارج الخلايا في الأنسجة الضامة بكثافة عالية، في حين أن لحوم الأنعام التي منها الضأن، تكون الدهون فيها مفصولة عن النسيج العضلي، ولا تتوضع خلاياه، وإنما تتوضع خارج الخلايا وفي الأنسجة الضامة.
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الإنسان عندما يتناول دهون الحيوانات آكلة العشب، فإن دهونها تستحلب في أمعائه وتمتص، وتتحول في جسمه، بخلاف دهون الخنزير، فإن استحلابها عسير في أمعائه، وإن جزيئات الغليسرين الثلاثية لدهن الخنزير تمتص هي دون أي تحول وتترسب في أنسجة الإنسان كدهون حيوانية أو خنزيرية.
والكلوسترول[3] الناجم عن تحلل لحم الخنزير في البدن يظهر في الدم على شكل كولسترول جزئي كبير الذرة يؤدي بالكثير إلى ارتفاع الضغط الدموي وإلى تصلب الشرايين، وهما من العوامل الخطرة التي تمهد لاحتشاء العضلة القلبية.. بل قد وجد أن الكولسترول المتواجد في خلايا السرطان الجوالة يشابه الكولسترول المتشكل عند تناول لحم الخنزير..
والدهون التي يحتوي عليها لحم الخنزير أكبر من الدهن الوجود في جميع أنواع اللحوم المختلفة مما يجعل لحمه عسير الهضم.. فمن المعروف علميا أن اللحوم التي يأكلها الإنسان تتوقف سهولة هضمها في المعدة على كميات الدهنيات التي تحويها وعلى نوع هذه الدهون، فكلما زادت كمية الدهنيات كان اللحم أصعب في الهضم وقد جاء في الموسوعة الأمريكية أن كل مائة رطل من لحم الخنزير تحتوي على خمسين رطلا من الدهن.. أي بنسبة 50 بالمائة في حين أن الدهن في الضأن يمثل نحو17 بالمائة فقط وفي العجول لا يزيد على 5 بالمائة، كما ثبت بالتحليل أن دهن الخنزير يحتوي على نسبة كبيرة من الأحماض الدهنية المعقدة.. وأن نسبة الكولسترول في دهن الخنزير 60 بالمائة، ومعنى ذلك بحساب بسيط أن نسبة الكولسترول في لحم الخنزير أكثر من عشرة أضعاف ما في البقر..
ولهذه الحقيقة دلالة خطيرة لأن هذه الدهنيات تزيد مادة الكولسترول في دم الإنسان، وهذه المادة عندما تزيد عن المعدل الطبيعي تترسب في الشرايين وخصوصا شرايين القلب.. وبالتالي تسبب تصلب الشرايين وارتفاع الضغط وهي السبب الرئيسي في معظم حالات الذبحة القلبية المنتشرة في أو روبا حيث ظهر من الإحصاءات التي نشرت بصدد مرض الذبحة القلبية وتصلب الشرايين أن نسبة الإصابة بهذين المرضين في أوروبا تعادل خمسة أضعاف النسبة في العالم الإسلامي، وذلك بجانب تأثير التوتر العصبي الذي لا ينكره العلم الحديث.
بالإضافة إلى هذا، فلحم الخنزير غني بالمركبات الحاوية على نسب عالية من الكبريت، وكلها تؤثر على قابلية امتصاص الأنسجة الضامة للماء كالإسفنج، مكتسبة شكلاً كيسياً واسعاً، وهذا يؤدي إلى تراكم المواد المخاطية في الأوتار والأربطة والغضاريف بين الفقرات، وإلى تنكس في العظام.
والأنسجة الحاوية على الكبريت تتخرب بالتعفن منتجة روائح كريهة فواحة لانطلاق غاز كبريت الهدروجين.. وقد لوحظ أن الآنية الحاوية على لحم الخنزير، على الرغم من أنها محكمة السد إلا أنه يتعين إخراجها من الغرفة بعد عدة أيام نظراً للروائح الكريهة النتنة وغير المحتملة الناجمة عنها.
وبالمقارنة فإن لحوماً أخرى مختلفة خضعت لنفس التجربة، فكان لحم البقر أبطأ تعفنا من لحم الخنزير، ولم تنطلق منه تلك الروائح النتنة.
بالإضافة إلى هذا، فإن لحم الخنزير يحتوي على نسبة عالية من هرمونات النمو التي لها تأثير أكيد للتأهب للإصابة بخامة النهايات علاوة على تأثيره في زيادة نموالبطن وزيادة معدل النمو وخاصة نمو الأنسجة المهيئة للنمو والتطور السرطاني.. وحسب دراسات roffo فإن تلك الوجبة الدسمة الحاوية على لحم الخنزير تعتبر الأساس في التحول السرطاني للخلايا لاحتوائها على هرمون النمو علاوة على أثرها في رفع كولسترول الدم.
ليس هذا فقط.. بل الخنزير مرتع خصب لأكثر من 450 مرضاً وبائياً، وهو يقوم بدور الوسيط لنقل 57 منها إلى الإنسان، عدا عن الأمراض التي يسببها أكل لحمه من عسرة هضم وتصلب للشرايين وسواها.
والخنزير يختص بمفرده بنقل 27 مرضاً وبائياً إلى الإنسان وتشاركه بعض الحيوانات الأخرى في بقية الأمراض لكنه يبقى المخزن والمصدر الرئيسي لهذه الأمراض: منها الكلب الكاذب، وداء وايل، والحمى اليابانية، والحمى المتوهجة، والحميرة الخنزيرية، والالتهاب السحائي، وجائحات الكريب، وأنفلونزا الخنزير، وغيرها.
التفت عالم الغذاء إلى علي، وقال: أرأيت ما تضمنه هذا النهي الذي ورد في القرآن من المصالح الصجية؟
الميتة:
قال علي: أجل.. وبورك فيك.. فحدثني عن الميتة، فقد ورد تحريمها بجانب تحريم الخنزير.. وقد بين الله تعالى أن الميتة محرمة مهما كان نوعها سواء كانت منخنقة[4] أو موقوذة[5] أو متردية[6] أو نطيحة[7]، أو ما أكل السبع[8]، قال تعالى:) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ((المائدة: من الآية3)
قال عالم الغذاء: صدق قرآنكم في هذا أيضا، فقد أثبت العلماء مدى الخبث الذي تحمله الميتة:
فالجراثيم تنفذ إلى الميتة من الأمعاء والجلد والفتحات الطبيعية، لكن الأمعاء هي المنفذ الأكثر نفوذا، فهي مفعمة بالجراثيم، لكنها أثناء الحياة تكون عرضة للبلعمة ولفعل الخمائر التي تحلها.. أما بعد موت الحيوان فإنها تنمو وتحل خمائرها الأنسجة وتدخل جدر المعي، ومنها تنفذ إلى الأوعية الدموية واللمفاوية.
أما الفم والأنف والعينين والشرج فتصل إليها الجراثيم عن طريق الهواء أو الحشرات والتي تضع بويضاتها عليها.
أما الجلد فلا تدخل الجراثيم عبره إلا إذا كان متهتكاً كما في المتردية والنطيحة وما شابهها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن احتباس دم الميتة، كما ينقص من طيب اللحم ويفسد مذاقه، فإنه يساعد على انتشار الجراثيم وتكاثرها فيه.
وكلما طالت المدة بعد هلاك الحيوان كان التعرض للضرر أشد، لأن تبدل لحمها وفسادها وتفسخها يكون أعظم، إذ أنه بعد 3ـ4 ساعات من الموت يحدث ما يسمى بالمصل الجيفي.. أو التيبس الرمي.. حيث تتصلب العضلات لتتكون أحماض فيها كحمض الفسفور واللبن والفورميك، ثم تعود القلوية للعضلات، فيزول التيبس وذلك بتأثير التعفنات الناتجة عن التكاثر الجرثومي العفني التي تغزو الجثة بكاملها.
وينشأ عن تفسخ وتحلل جثمان الميتة مركبات سامة ذات روائح كريهة، كما أن الغازات الناتجة عن التفسخ تؤدي إلى انتفاخ الجثة خلال بضع ساعات، وهي أسرع في الحيوانات آكلة العشب من إبل وضأن وبقر وغيرها، كما تعطي بعض الجراثيم أثناء تكاثرها مواد ملونة تعطي اللحم منظراً غير طبيعي ولوناً إلى الأخضر أو السواد وقوامه ألين من اللحم العادي.
ويدخل في هذا الباب ما قد تصاب به البهائم من أمراض جرثومية تمنع تناول لحمها ولوكانت مذكاة.. ويكون الضرر في هذه الحالة شديدا، فيما لومات الحيوان بذلك المرض نتيجة لانتشار الجراثيم في جثته عن طريق الدم المحتبس وتكاثرها بشدة وزيادة مفرزاتها السمية.
ومن هذه الأمراض السل، ولهذا توصي كتب الطب بإحراق جثة الحيوان المصاب بالسل الرئوي وسل الباريتوان وكذا إذ وجدت الجراثيم في عشلات الحيوان أو عقده اللمفاوية.
ومنها الجمرة الخبيثة، والحيوان الذي أصيب بها يحذر من مسه، بل يؤمر بحرقه ودفنه حتى لا تنتشر جراثيمه وتنتقل العدوى إلى الحيوان وإلى البشر.
الدم:
قال علي: فحدثني عن سر تحريم الدم.
قال عالم الغذاء: إن إحدى وظائف الدم الهامة هي نقل نواتج استقلاب الغذاء في الخلايا من فضلات وسموم ليصار إلى الخارج طرحاً، وأهم هذه المواد هي البولة وحمض البول والكرياتنين وغاز الفحم، كما يحمل الدم بعض السموم التي ينقلها من الأمعاء إلى الكبد ليصار إلى تعديلها.
وعند تناول كمية كبيرة من الدم، فإن هذه المركبات تمتص ويرتفع مقدارها في الجسم، إضافة إلى المركبات التي يمكن أن تنتج عن هضم الدم نفسه مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة البولة في الدم، والتي يمكن أن تؤدي إلى اعتلال دماغي ينتهي بالسبات.
وهذه الحالة تشبه مرضياً ما يحدث في حالة النزف الهضمي العلوي ويلجأ عادة ـ هنا ـ إلى امتصاص الدم المتراكم في المعدة والأمعاء لتخليص البدن منه ووقايته من حدوث الإصابة الدماغية.
وهكذا فإن الدم يحتوي على فضلات سامة مستقذرة، ولو أخذ من حيوان سليم، علاوة على احتوائه على عوامل مرضية وجرثومية فيما لوأخذ من حيوان مريض بالأصل.
بالإضافة إلى هذا، فالدم وسط صالح لنمو الجراثيم وتكاثرها، إذ أنه من المتفق عليه طبياً أن الدم أصلح الأوساط لنمو شتى أنواع الجراثيم وتكاثرها، فهو أطيب غذاء لهذه الكائنات وأفضل تربة لنموها، ولهذا تستعمله المخابر لتحضير المزرعة الجرثومية.
ومع ذلك كله، فالدم لا يصلح غذاء للإنسان، لأن ما يحتويه من بروتينات قابلة للهضم كالألبومين والغلوبولين والفبرينوجين مقدار ضئيل ( 8غ / 100 مل )، ومثل ذلك الدسم، في حين يحتوي الدم على نسبة كبيرة من خضاب الدم ( الهيموغلوبين ) وهي بروتينات معقدة عسرة الهضم جداً، لا تحتملها المعدة غالبا.
ثم إن الدم إذا تخثر، فإن هضمه يصبح أشد عسرة، وذلك لتحول الفيبرينوجين إلى مادة الليفين الذي يؤلف شبكة تحضر ضمنها الكريات الحمر والفيبرين من أسوأ البروتينات وأعسرها هضماً.
وهكذا فإن علماء الصحة لم يعتبروا الدم بشكل من الأشكال في تعداد الأغذية الصالحة للبشر.
الجوارح:
قال علي: فحدثني عن سر تحريم الجوارح[9]، فقد ورد في الحديث النهي عنها، قال r:( حرم على أمتي كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع[10] )[11]
قال عالم الغذاء: لقد أثبت علم التغذية الحديثة أن الشعوب تكتسب بعض صفات الحيوانات التي تأكلها لاحتواء لحومها على سميات ومفرزات داخلية تسري في الدماء وتنتقل إلى معدة البشر، فتؤثر في أخلاقهم..
فقد تبين أن الحيوان المفترس عندما يهم باقتناص فريسته تفرز في جسمه هرمونات ومواد تساعده على القتال واقتناص الفريسة..
وقد تبين أن هذه الإفرازات تخرج في جسم الحيوان حتى وهو حبيس في قفص عندما تقدم له قطعة لحم لكي يأكلها.
وإن كنت في شك مما أقول فما عليك إلا أن تزور حديقة الحيوانات مرة، وتلقى نظرة على النمر في حركاته العصبية الهائجة أثناء تقطيعة قطعة اللحم ومضغها، فترى صورة الغضب والاكفهرار المرسومة على وجهه، ثم ارجع ببصرك إلى الفيل وراقب حالته الوديعة عندما يأكل وهو يلعب مع الأطفال والزائرين، وانظر إلى الأسد وقارن بطشه وشراسته بالجمل ووداعته.
بل قد لوحظ على الشعوب آكلات لحوم الجوارح أنها تصاب بنوع من الشراسة والميل إلى العنف ولو بدون سبب إلا الرغبة في سفك الدماء..
وقد تأكدت الدراسات والبحوث من هذه الظاهرة على القبائل المتخلفة التي تستمرئ أكل مثل تلك اللحوم إلى حد أن بعضها يصاب بالضراوة، فيأكل لحوم البشر، كما انتهت تلك الدراسات والبحوث أيضا إلى ظاهرة أخرى في هذه القبائل وهي إصابتها بنوع من الفوضى الجنسية وانعدام الغيرة على الجنس الآخر فضلا عن عدم احترام نظام الأسرة ومسألة العرض والشرف.. وهي حالة أقرب إلى حياة تلك الحيوانات المفترسة حيث إن الذكر يهجم على الذكر الآخر من القطيع ويقتله لكي يحظى بإناثه إلى أن يأتي ذكر آخر أكثر شبابا وحيوية وقوة، فيقتل الذكر المغتصب السابق وهكذا..
ابتسم، وقال: ولعل أكل الخنزير أحد أسباب انعدام الغيرة الجنسية بين الأوربيين وظهور الكثير من حالات ظواهر الشذوذ الجنسي مثل تبادل الزوجات والزواج الجماعي.
بالإضافة إلى هذا، فإن وباء السارس الذي أجتاح الصين وجنوب شرق آسيا كا ناتجا عن أكل لحم الجوارح والكلاب.
وقد ذكر علماء من الصين أن الفيروس المسبب للالتهاب الرئوي اللانمطي (سارس) قد يكون انتقل إلى البشر من حيوانات كسنور (قطط) الزباد وكلاب الراكون.
وقد ألجأ الخوف من انتشار السارس عن طريق الحيوانات الأليفة السلطات في بكين والمدن الأخرى إلى أن تأمر بجمع القطط والكلاب الضالة والحيوانات الأخرى وتقتلها.. كما دفع ذلك أصحاب الحيوانات الأليفة إلى التخلي عن حيواناتهم.
الخمر:
قال علي: بالإضافة إلى هذا، فقد ورد تحريم الخمر في القرآن الكريم، وفي آيات منه:
فالله تعالى يصفها بأنها رجس من عمل الشيطان، قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (المائدة:90)
ويبين علة صنع الشيطان لها بقوله تعالى:) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ((المائدة:91)
بل إن العلماء والصالحين ـ نتيجة هذا التشديد في تحريمها ـ اشتدوا في التحذير منها حتى في الحالات التي يتوهم أنها للعلاج، وقد قال أحدهم للإمام جعفر الصادق t: إن بي وجعا وأنا أشرب النبيذ ووصفه لي الطبيب فقال له: ما يمنعك س الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي؟ قال: لا يوافقني. قال: فما يمنعك من العسل الذي قال الله فيه شفاء للناس؟ قال: لا أجده، قال فما يمنعك من اللبن الذي نبت منه لحمك واشتد عظمك؟ قال: لا يوافقني. قال: تريد أن آمرك بشرب الخمر لا والله لا آمرك.
وسئل t عن الدواء يعجن بالخمر. فقال:( ما أحببت أن أنظر إليه ولا أشمه فكيف أتداوى به؟)
قال عالم الغذاء: صدق قرآنكم في هذا.. ونصحكم نصيحة بالغة.. وللأسف، فإننا ـ مع كوننا في العصر الذي يسمونه عصر العلم وتطبيقات العلم ـ ومع ذلك، فإن البشرية لا زالت ـ مع إدراكها مخاطر الخمر ـ تدمن عليها، بل تعشقها، وقد قال السيناتور الأمريكي وليم فولبرايت، وهو يتحدث عن مشكلة الخمر:( لقد وصلنا إلى القمر ولكن أقدامنا مازالت منغمسة في الوحل، إنها مشكلة حقيقية عندما نعلم أن الولايات المتحدة فيها أكثر من 11 مليون مدمن خمر وأكثر من 44 مليون شارب خمر)
وقد نقلت مجلة لانست البريطانية مقالاً بعنوان ( الشوق إلى الخمر ) جاء فيه:( إن أكثر من 200 ألف شخص يموتون سنويا في بريطانيا بسبب الخمر)
وينقل البروفسور شاكيت أن 93 بالمائة من سكان الولايات المتحدة يشربون الخمر، وأن 40 بالمائة من الرجال يعانون من أمراض عابرة بسببه و5 بالمائة من النساء و10 بالمائة من الرجال يعانون من أمراض مزمنة.
قال علي: أإلى هذه الدرجة وصلت مضار الخمر؟
قال عالم الغذاء: بل لا يمكن أن تتصور مضاره.. إن شارب الخمر لا يشرب ـ في الحقيقة ـ خمرا، وإنما يشرب سما، يقول الدكتور أو بري لويس:( إن الكحول هو السم الوحيد المرخص بتداوله على نطاق واسع في العالم كله، ويجده تحت يده كل من يريد أن يهرب من مشاكله.. ولهذا يتناوله بكثرة كل مضطربي الشخصية ويؤدي هو إلى اضطراب الشخصية ومرضها (Psycho-pathic Anomaly) إن جرعة واحدة من الكحول قد تسبب التسمم وتؤدي إما إلى الهيجان أو الخمود وقد تؤدي إلى الغيبوبة. أما شاربو الخمر المزمنون ( ch Alcoholics) فيتعرضون للتحلل الأخلاقي الكامل مع الجنون)[12]
ليس ذلك فقط، بل إن مجرد استنشاق أبخرة الخمر يؤدي إلى الإصابة بالتهاب القصبات والرئة، وإلى إصابة بطانة الأنف مما يؤدي إلى ضعف حاسة الشم.
قال علي: لقد ذكرتني بقوله تعالى في اختياره للفظ الدالة على تحريم الخمر، فقد قال: ﴿ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ (المائدة: من الآية90)، وهذا اللفظ يعني النهي عن الاقتراب منه مطلقاً، وهوأعم من النهي عن شربه.
قال عالم الغذاء: لا تتوقف المخاطر على ما ذكرناه[13]، فهذا السم يختلف تأثيره كلمـا تغير مسـتواه في الدم، فعندما يبلغ مســتواه من 20ـ 99ملغ بالمائة يسبب تغير المزاج وإلى عدم توازن العضلات واضطراب الحس، وفي مستوى من 100ـ 299 ملغ بالمائة يظهر الغثيان وازدواج الرؤية واضطراب شديد في التوازن. وفي مستوى من 300 ـ 399 ملغ بالمائة تهبط حرارة البدن ويضطرب الكلام ويفقد الذاكرة. وفي مستوى 400 ـ 700 ملغ بالمائة يدخل الشاب في سبات عميق يصحبه قصور في التنفس، وقد ينتهي بالموت.
ورغم أن كل أعضاء الجسم تتأثر من الخمر، فإن الجملة العصبية هي أكثرها تأثراً حيث يثبط المناطق الدماغية التي تقوم بالأعمال الأكثر تعقيداً، ويفقد قشر الدماغ قدرته على تحليل الأمور، كما يؤثر على مراكز التنفس الدماغية حيث أن الإكثار منه يمكن أن يثبط التنفس تماماً إلى الموت.
وتأثيره لا يتوقف على الجهاز العصبي، بل إنه يمتد حتى إلى الأجنة في بطون أمهاتهم، فالغول بعد أن يمتص من الأمعاء ليصل الدم يمكن أن يعبر الحاجز الدماغي ويدخل إلى الجنين عبر المشيمة، وأن يصل إلى كافة الأنسجة. لكنه يتوضع بشكل خاص في الأنسجة الشحمية.
وكلما كانت الأعضاء أكثر تعقيداً وتخصصاً في وظائفها كانت أكثر عرضة لتأثيرات الغول السمية، فلا عجب حين نرى أن الدماغ والكبد والغدد الصماء من أوائل الأعضاء تأثراً بالخمر حيث يحدث الغول فيها اضطرابات خطيرة.
وفي الجهاز الهضمي يؤدي مرور الخمر في الفم إلى التهاب وتشقق اللسان، كما يضطرب الذوق نتيجة ضمور الحليمات الذوقية، ويجف اللسان، وقد يظهر سيلان لعابي مقرف، ومع الإدمان تشكل طلاوة بيضاء على اللسان تعتبر مرحلة سابقة لتطور سرطان اللسان.
والخمر يوسع الأوعية الدموية الوريدية للغشاء المخاطي للمري مما يؤهب لتقرحه ولحدوث نزوف خطيرة تؤدي لأن يقيء المدمن دماً غزيراً، كما تبين أن 90 بالمائة من المصابين بسرطان المريء هم مدمنو خمر.
وفي المعدة يحتقن الغشاء المخاطي فيها ويزيد إفراز حمض كلور الماء والببسين مما يؤهب لإصابتها بتقرحات ثم النزوف، وعند المدمن تصاب المعدة بالتهاب ضموري مزمن يؤهب لإصابة صاحبها بسرطان المعدة الذي يندر جداً أن يصيب شخصاً لا يشرب الخمر.
وتضطرب الحركة الحيوية للأمعاء عند شاربي الخمر المتعدين وتحدث التهابات معوية مزمنة وإسهالات متكررة عند المدمنين، وتتولد عندهم غازات كريهة، ويحدث عسر في الامتصاص المعوي.
والغول سم شديد للخلية الكبدية، وتنشغل الكبد من أجل التخلص من الغول عن وظائفها الحيوية، ويحصل فيها تطورات خطيرة نتيجة الإدمان. ففي فرنسا وحدها يموت سنوياً أكثر من 22 ألف شخص بسبب تشمع الكبد الغولي، وفي ألمانيا يموت حوالي 16 ألف. كما أن الغول يحترق ضمن الكبد ليطلق كل 1غ منه 7 حريرات تؤدي بالمدمن إلى عزوفه عن الطعام دون أن تعطيه هي أي فائدة مما يعرضه لنقص الوارد الغذائي.
ويشكو المصاب من ألم في منطقة الكبد ونقص في الشهية وتراجع في الوزن مع غثيان وإقياء، ثم يصاب بالجبن أو باليرقان.. وقد يختلط بالتهاب الدماغ الغولي ويصاب بالسبات أو النزف في المريء، وكلاهما يمكن أن يكون مميتاً.
وللخمر تأثيراتها الخطيرة على القلب، حيث يصاب مدمن الخمر بعدد من الاضطابات الخطيرة والمميتة التي تصيب القلب، منها اعتلال العضلة القلبية الغولي: حيث يسترخي القلب ويصاب الإنسان بضيق في النفس وإعياء عام ويضطرب نظم القلب وتضخم الكبد مع انتفاخ في القدمين، والمريض ينتهي بالموت إذا لم يرتدع الشارب عن الخمر.. وقد يزيد الضغط الدموي نتيجة الإدمان.. وقد يؤدي إلى داء الشرايين الإكليلية، فالغول يؤدي إلى تصلب وتضيق في شرايين القلب تتظاهر بذبحة صدرية.. وقد يؤدي إلى اضطراب نظم القلب.
وللخمر تأثيراتها الخطيرة على الجهاز العصبي، حيث تعتبر الخلايا العصبية أكثر عرضة لتأثيرات الغول السمية، وللغول تأثيرات فورية على الدماغ، بعضها عابر، وبعضها غير قابل للتراجع.. حيث يؤكد د. براتر وزملاؤه أن تناول كأس واحد أو كأسين من الخمر قد تسبب تموتاً في بعض خلايا الدماغ، والسحايا قد تصاب عند المدمن عندها يشكوالمصاب من الصداع والتهيج العصبي، وقد تنتهي بالغيبوبة الكاملة، كما أن الأعصاب كلها معرضة للإصابة بما يسمى ( باعتلال الأعصاب الغولي العديد أو المفرد )
أما الأذيات الدماغية فيمكن أن تتجلى بداء الصرع المتأخر الذي يتظاهر عند بعض المدمنين بنوبات من الإغماء والتشنج والتقلص الشديد.
قال علي: لقد ذكرت إدمان قومك للخمر.
قال عالم الغذاء: أجل.. وللأسف.. لقد حاولت كل القوانين أن تحد من ذلك، فلم تزدنا أقوامنا إلا غراما بالخمر.
قال علي: فلم لم تقرأوا عليها من نصوص كتابكم المقدس ما يقيهم مخاطر الخمر.
ابتسم ابتسامة عريضة، ونظر إلي، وقال: لعل كتابنا المقدس هو سبب من أسباب انتشار الخمر والدعاية لها.
تظاهر علي بالاستغراب، فقال عالم الغذاء: لقد ذكرتني برجل من بني قومي تاب من الخمر، وصمم على تركها، وأراد أن يتدين ليقضي على ذلك الإدمان، فلما فتح الكتاب المقدس وقعت عينه على هذا النص:( كُلُوا أَيُّهَا الأَصْحَابُ. اشْرَبُوا وَاسْكَرُوا أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ )(نشيد الإنشاد 5: 1)، فأسرع إلى الخمر، كالولهان، ومات بين يديها.
ليس هذا النص وحده الذي يشجع فيه الكتاب المقدس على شرب الخمر..
الخمر في الكتاب المقدس مقدسة كالكتاب المقدس.. وتستطيع لذلك أن تطلق على الحانة لقب الحانة المقدسة..
لقد كان أولى معجزات المسيح على الإطلاق هي تحويل الماء إلى خمر.. اسمع:( قال يسوع: املأوا الاجران ماء. فملاوها الى فوق. ثم قال لهم: استقوا وقدموا الى رئيس المتكأ. فقدموا, فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرا ولم يعلم من أين هي. لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا علموا. دعا رئيس المتكأ العريس, وقال له: كل انسان انما يضع الخمر الجيدة اولا, ومتى سكروا فحينئذ الدون. أما أنت فأبقيت الخمر الجيدة الى الان )( يوحنا 7:2 )
ومنذ أن جرت تلك المعجزة, والخمر لم تزل تتدفق كالمياه بين قومنا.
جاء بعده بولس الرسول.. لينصحنا وينصح الأجيال الكثيرة هذه النصيحة الغالية عبر أحد رعاياه المتحولين حديثا الى المسيحية, والمدعو تيموثاس, قائلا:( لاتكن فيما بعد شراب ماء، بل استعمل خمرا قليلا من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة )( ثيموثاوس: 23:5 )
لقد كانت هذه النصوص المقدسة هي السر في إدمان قومنا للخمور بأنواعها المختلفة، لقد ذكر القس دميلو في تعليقه على رسالة بولس هذا، فقال:( إنها تعلمنا أنه من الصواب تعاطي المسكرات من الخمر، ولقد تعلم الآلاف من النصارى إدمان الخمور، بعد أن رشفوا ما يسمونه دم المسيح أثناء المشاركة في شعائر الكنيسة )
اسمع العلة التي يعلل بها الكتاب المقدس إباحة الخمر:( اعطوا مسكرا لهالك وخمرا لمريئ النفس يشرب وينسى فقره ولايذكر تعبه )(الامثال6:31)
سكت قليلا، ثم قال: لست أدري كيف لم ينص الكتاب المقدس على تحريم الخمر، مع أنه مملوء بالجرائم الكبيرة التي سببها الخمر.. فلوط زنى بابنتيه عندما سكر وغاب عنه العقل [14].. ونوح تعرّى وفعل فيه ابنه مافعل وهو سكران..
لست أدري لم بالغ الكتاب المقدس في ذكر النجاسات وكيفية التطهير منها، ولم يذكر هذا الرجس الأخطر الذي يقضي على الجسد والنفس والعقل والفرد والمجتمع والأمة.
النجس:
قال علي: بالإضافة إلى هذا، فقد حرم شرعنا كل نجس أو متنجس من الطعام والشراب، حيوانا كان أو غيره:
فقد نهي r عن الجلالة، وهي ما يأكل القاذورات من الحيوانات، فعن ابن عمر قال:( نهى رسول الله r عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يذكيها الناس حتى تعلف أربعين ليلة )
بل ورد النهي عن ركوبها، فعن ابن عمر قال:( نهى رسول الله r عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها )، وقد علل ذلك بأنها ربما عرقت، فتلوث بعرقها.
ويدخل في هذا النهي الحيوانات التي تعتلف بما تأباه طبيعتها من السموم التي تفنن أهل هذا العصر في استصناعها.
قال عالم الغذاء: لو أن البشرية طبقت ما أمر به إسلامكم في هذا الجانب لوقيت المخاطر الكثيرة التي جلبها شرهها إلى المال.
لقد رأيت الفلاحين في بلادي، وفي غيرها من البلاد يستعملون طرقا عديدة في تسمين المواشي لكي يخففوا من تكاليف علفها.. ومن ذلك استعمالهم النفايات المختلفة في غذاء المواشي والدواجن دون مراعاة للأضرار التي قد تنجم عن ذلك.
ومن أمثلة ذلك استخدام فضلات الدجاج كعلف للمواشي بالرغم من كل المخاطر التي ينطوي عليها هذا الابتكار الجديد على صحة المستهلكين.
ففضلات الدجاج غالباً ما تتضمن نوعين من أنواع البكتيريا يتسببان في إصابة الإنسان ببعض الأمراض، كما يتسببان في وجود طفيليات في معدة الإنسان، ويساعدان أيضا على تجمع الرواسب التي تخلفها الأدوية البيطرية، فضلاً عن وجود ترسبات معادن تحتوي على نسبة عالية من المواد السامة مثل الزرنيخ والرصاص والكادمسيوم والزئبق.
وتنتقل مثل هذه البكتيريا إلى المواشي بكل سهولة، كما أنه من الممكن أن تنتقل إلى جسم الإنسان عند تناوله لحوما ملوثة بروث المواشي أثناء ذبحها في المسالخ.
ومن ناحية أخرى، فقد أفاد مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها في ولاية أتلانتا بأنه توجد في الولايات المتحدة فقط 80 مليون حالة مرضية ناجمة عن تناول المواد الغذائية، و9000 حالة وفاة ناجمة أيضا عن تناول بعض الأصناف من الأغذية، و4 ملايين حالة مرضية ناجمة عن الإصابة ببكتيريا سالمونيلا حيث انتهت ما بين 500 ـ 1000 حالة من هذه الحالات إلى وفاة المريض، كما تتسبب البكتيريا من النوع المنطوي في إصابة ما بين 4 ـ 6 ملايين شخص بالتهابات حادة في المعدة ويقتل 100 منهم سنويا.
أما البكتيريا من نوع إي كولاي والذي تم اكتشافه في بعض اللحوم الملوثة، فإنها تودي بحياة 250 شخصاً سنويا فضلا عن أنها تتسبب في إصابة ما لا يقل عن 20 ألف شخص في أمريكا سنويا بأمراض خطيرة، وهناك 17 مريضاً على الأقل ثبت أن مرضهم ناجم عن تناولهم لحوما ملوثة من إنتاج شركة واحدة.
قال علي: أكل هذه الإحصائيات نتائج شركة واحدة؟
قال عالم الأغذية: أجل.. وليس ذلك فقط، بل قد دأب مربو المواشي على استخدام مخلفات المحاصيل الزراعية وقشارة الخضراوات وعلائق الحبوب والمواد الداخلة في صناعة الخبز والخمر في تسمين المواشي.
وذلك بالإضافة إلى استخدام حوالي 40 مليار رطل سنويا من مخلفات المسالخ مثل الدماء والعظام والأمعاء بالإضافة إلى ملايين القطط والكلاب السقيمة التي يوصي الأطباء البيطريون بأن يكون مآلها القتل الرحيم أو التي يُسلمها لهم القائمون على ملاجئ الحيوانات، حيث تحوَّل لحوم هذه الحيوانات إلى علف مما يعتري سلوكيات المواشي والخنازير التي سرعان ما تتحول من حيوانات آكلة للأعشاب إلى حيوانات آكلة للحوم.
قال علي: لم ينه الشرع عن ذلك فقط.. بل نهي r أن تلقى في الأرض النجاسات ونحوها، لتكون سمادا للأرض، وقد روي عن بعضهم قال:( كنا نكري أرض رسول الله r ونشترط على من يكريها ألا يلقي فيها العذرة )
وعن ابن عمر أنه كان يكري أرضه ويشترط ألا تدمن بالعذرة، ويروى أن رجل كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر معاتبا:( أنت الذي تطعم الناس ما يخرج ما منهم)، ومن هذا الباب حرم الشرع كل الكيميائيات الضارة التي تفسد الزرع، وتحوله إلى سموم قاتلة.
قال عالم الغذاء: للأسف.. لقد صبحت الكيماويات جزءاً ضرورياً لا يمكن الاستغناء عنه من الحياة البشرية.. فهي بحسب تصورهم المحدود تدعم التنمية، وتقي كثيراً من الأمراض، وتزيد الإنتاجية الزراعية، وتعود بفوائد جمة على المجتمع.
قال علي: ولكن الكثير من هذه المنافع حقيقة واقعة، وهي من فضل الله على عباده.
قال عالم الأغذية: أجل ولكن ضررها ـ الذي سببه سوء تعامل البشرية معها ـ أكثر من نفعها، فالإنسان قد يتعرض لها مباشرة، أثناء تصنيعها أو نقلها أو توزيعها أو تداولها أو استعمالها أو التخلص منها، وهذا قد يحدث آثاراً ضارة في صحته.
بل إن التخلص العشوائي من هذه الكيماويات وفضلاتها يمكن أن يدنس الهواء والماء والتربة، ويؤدي إلى تلوث الغذاء، مما يحدث آثاراً ضارة غير مباشرة.
بل يقدر أن حوالي سبعين ألف مادة كيماوية تدخل في التعامل اليومي، منها ثمانية وأربعون ألفاً بكميات ذات شأن من الوجهة التجارية.
زيادة على أن جل هذه المواد المستعملة سوف تلوث الهواء والماء والغذاء والتربة بعد استعمالها ورميها كفضلات.. ويضاف في كل عام ما بين سبعمئة وألف مادة كيماوية جديدة إلى التجارة.
وقد أصبحت تجارة الكيماويات تجارة عالمية، وعمت الدول المتقدمة والنامية على السواء.. وفي الوقت نفسه ليست كل الدول تملك وسائل لإجراء دراسات على هذه الكيماويات من الوجهتين السمومية والبائية.
ويزداد الوضع سوءاً في البلدان النامية، لجهل كثير من متخذي القرار فيها بالعواقب الصحية لهذه لكيماويات التى لا تستعمل ولا يتخلص منها.. بل يضاف إلى ذلك أنه لا ينطر إليها- عن قصد أو غير قصد- من قبل الصناعات المحلية على أنها مخاطر.
ويزيد الأمر سوءاً حالات التسمم الحاد بهذه المواد، والتي تؤدي إلى الوفاة في كثير من البلدان.. وتقدر نسبة االحوادث العالمية الناتجة عن التسمم بمبيدات الحشرات وحدها بمليون حالة كل سنة، والعدد في ازدياد.
ويزيد الأمر سوءًا أكثر من ذلك كله، تلك الحوادث التي تحدث على نطاق واسع، كانطلاق المتيل إيزوسيانات في بهوبال بالهند، واستعمال الحبوب الملوثة بمبيدات الحشرات في العراق وباكستان، واستعمال زيت الطبخ الملوث في أسبانيا، واستعمال طعام ملوث بقلوانيات البيروليدين في أفغانستان، وما أشبه ذلك.
قال علي: صدق الله العظيم، فقد قال:) وَلَوبَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ((الشورى:27).. لقد بسط الله بعض فضله على أهل هذا العصر بما فتح لهم من خزائن العلم من خزائن الأرزاق، فراحوا يقتلون أنفسهم، ويقتلون الأرض معهم.
قال عالم الأغذية: صدقت، فالمشكلة لا تكمن في استغلال خيرات السماء وبركات الأرض، فتلك لازمة من لوازم العمران، ولكنها تكمن في الإسراف والطغيان والبغي بغير الحق، وكلها تؤدي إلى الإخلال بالموازين إخلالاً يفسد هذه البيئة ويجعلها غير صالحة لحياة الناس.
في اليوم الثامن.. كان موضوع المحاضرات يتناول الغذاء في القرآن الكريم.
وقد تناولت المحاضرات الملقاة أنواع الأطعمة الواردة في القرآن الكريم، وما يرتبط بالأغذية من أحكام شرعية.. وكان أكثر الكلام فيها فقهيا.. كما كان أكثر المستدعين لها فقهاء.. وفقهاء امتلأوا بفقه التراث من غير أن يلموا بالواقع.. ومن غير أن يعرفوا ما حصل للغذاء من أنواع الفساد.
وقد ألقى صاحبي عالم التغذية محاضرته.. وقد حاول أن يعبر فيها عن تصوراته للغذاء السليم..
وصاحبي هذا يمزج بين مدارس مختلفة في التغذية، فهو من ناحية يميل إلى مدرسة الماكروبيوتيك في انتقادها الشديد للتغذية الحديثة.. وللسموم التي أفرزتها.
وهو من ناحية أخرى لا يرى كثيرا مما تراه من الغلو في بعض الأمور التي تتطلبها الصحة..
لقد كان من مدرسة خاصة.. تمزج بين مدارس مختلفة.
في ذلك اليوم طلب مني علي ـ عبر صديقه حذيفة ـ أن يستضيفنا في مطعم لا يبعد كثيرا عن الفندق الذي نقيم فيه.
كان اسم المطعم (مطعم البركة).. كان اسما جميلا وافق هوى كبيرا في نفس صاحبي عالم الغذاء.. فقد كان يؤمن بما يسمى بالبركة، وكان يشنع على أهل عصرنا غلوهم في الجانب المادي، وإهمالهم للجانب الروحي الذي أودعه الله في الأشياء.
في مدخل المطعم وجدنا لافتة مكتوبا عليها قوله r:( هلم إلى الغذاء المبارك )[1]
بقي صاحبي عالم الغذاء ينظر إليها، ويتأملها، ثم قال لي: لا شك أن قائل هذه الكلمة حكيم لا يضاهى في حكمته.
قلت: لم؟
قال: لاختياره كلمة البركة بدل غيرها.. فلم يقل لذيذا، ولا صحيا، ولا غيرها من الكلمات.
قلت: وما الفرق بين هذه الكلمات، وكلمة البركة؟
قال: كلمة البركة تعني ذلك، وتعني غيره.. إنها تعني أشياء كثيرة، تنتفع بها الروح والجسد.
سكت قليلا، ثم قال: لست أدري هل أصحاب هذا المطعم أدركوا ما كتبوا أم لم يدركوه.. ولكنهم عرفوا ماذا يختارون.
دخلنا المطعم، وجلسنا على طاولة من طاولاته.. كانت في غاية النظافة والجمال.
دعونا النادل فجاءنا.. ولم يكن إلا عليا .. ابتسمت لرؤيته على تلك الصورة، فلم يعرني أي اهتمام، بل راح يتوجه بالحديث إلى الجماعة، وخاصة عالم الغذاء من بينهم.
قال علي: مرحبا بكم في مطعم البركة.. وهلم إلى الغذاء المبارك.
قال عالم الغذاء: لقد قرأت هذه الحكمة في المدخل.. ولست أدري من الذي قالها، ولا ما الذي يقصد بها؟
قال علي: لقد قالها نبينا r.. وهو يقصد بذلك نظرية كاملة في التغذية تتوافق مع طبيعة الإنسان جسدا ونفسا وروحا وعقلا.
قال عالم الغذاء: ما كنت أظن محمدا يهتم بهذا الجانب.. أهو رسول هداية؟ أم رسول غذاء؟
ضحكت الجماعة، فقال: هو الرسول الهادي.. والهادي هو الذي لا يترك محل هداية إلا هداك إليه، ولا محل غواية إلا نهاك عنه..
قال عالم الغذاء: فما علاقة الغذاء بالهداية..
قال علي: علاقة عظيمة.. أليس الغذاء هو الذي يتحول إلى لحم ودم يتكون منه الإنسان؟
قال عالم الغذاء: بلى.. كثير من الغذاء يتمثل في الجسم، وبعضه يتحول إلى طاقة يستفيد منها الإنسان في أداء وظائفه الظاهرة والباطنة.
قال علي: فالجسم إذن جزء من الإنسان.
قال عالم الغذاء: بل بعضنا يعتبره الإنسان.
قال علي: فإذا كان كذلك.. وبهذه الأهمية، فكيف لا يهتم به من جاء للهداية الشاملة، والرحمة التامة.. أيترك الخلق أسارى نفوسهم تطلب منهم ما تشتهي مما يضرهم، وقد ترغب بهم عما ينفعهم؟
قال عالم الغذاء: ولكن هذا قد يكون موكولا للطبيعة.. فالطبيعة هي التي تقرر ما تأكل وما تدع.
قال علي: ولكن الطبيعة قد ينحرف بها الهوى.. فتسقط في أودية الإدمان.
قال عالم الغذاء: فأنت ترى الحديث عن الغذاء من ضروريات الهداية.
قال علي: أجل.. هو جزء من الهداية.. ولهذا كان من رسالة محمد أنه علمنا ما نأكل، وما لا نأكل، وكيف نأكل، ولم نأكل.
ارتاح عالم الغذاء كثيرا إلى كلام علي، فقال له: أرى أن لكلامك شأنا.. فاجلس بيننا، وهلم نتحدث عن تفاصيل ما أجملته.
قال علي: فلتبدأوا بالغذاء أولا.. أم أنكم تريدون أن تتغذوا بالكلمات؟
قال عالم الغذاء: إن الكلام الطيب أحلى من كل غذاء.
قال علي: سنحاول الجمع بينهما.. فنسمع الكلام الطيب، ونأكل الغذاء المبارك.. فأنتم ضيوف عندي.. ولا ينبغي للمضيف أن يطعم ضيوفه كلاما.
قال ذلك، ثم انصرف ليأتينا بطعام كثير جمع صنوفا من الأطعمة التي وردت بها النصوص المقدسة، وكان من بينها اللحم.
1 ـ الغذاء الخبيث
نظر عالم الغذاء إلى الصحن الذي وضع فيه اللحم، وقال: لحم أي حيوان هذا؟
قال علي: هذا لحم الظأن..
أراد أن يسخر عالم الغذاء من علي، وقال: ولم لم تأتنا بلحم الخنزير؟
قال علي: لاشك أنك تعلم حرمته.. فهو من الأغذية التي نهينا عن أكلها.. ولولا أنها ممحوقة البركة لما نهينا عن أكلها.
لقد ورد النهي عن أكل الخنزير صريحا في القرآن الكريم وفي مواضع منه إلى جنب سائر الأطعمة المحرمة، قال تعالى:﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (البقرة:173)، وقال تعالى:﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (المائدة:3)، وقال تعالى:﴿ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (الأنعام:145)، وقال تعالى:﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (النحل:115)
قال عالم الغذاء: أكل هذه الآيات في القرآن تتحدث عن الغذاء؟
قال علي: أجل.. فهي تتحدث عن أحكام مرتبطة بالغذاء.. فالغذاء المبارك يخلو من مثل الوجبات المذكورة فيها.
إن الغذاء المبارك لا يمكن أن يضم لحم خنزير، ولا لحم ميتة، ولا دما مسفوحا، ولا منخنقة، ولا موقوذة، ولا متردية، ولا ما أكل السبع..
بالإضافة إلى هذا حرم النبي r بعض أنواع الأطعمة كذوات الناب من السباع، وذوات المخلب من الطيور.. وغيرها.
قال عالم الغذاء: أصدقك القول.. إن كل ما ذكرته من الأغذية المحرمة هو من الأغذية التي حرمتها على نفسي قبل أن تذكر أنت تحريمها.. بل إني أحاضر المحاضرات الطوال في إثبات تحريمها.
قال علي: فكيف اهتديت إلى ذلك؟
قال عالم الغذاء: لقد هداني العلم بوسائله الكثيرة، وهدتني التجارب الطويلة التي مرت بها البشرية..
قال علي: لقد كفانا الله إذن أن نكون فئران تجارب، فنهانا عما يضرنا من غير أن يصيبنا ما يضرنا.
قال عالم الغذاء: أجل.. وقد نصحكم دينكم ونبيكم.
قال علي: فحدثني عما توصل إليه العلم في هذا الميدان، لأضم إلى العبودية الحكمة.
الخنزير:
قال عالم الغذاء: فلنبدأ بالخنزير.. فإني أرى القرآن قد وصفه في كل الآيات التي قرأتها بجانب الأغذية المحرمة.
قال علي: أجل.. وقد لقد أكد القرآن الكريم تحريم الخنزير في أربعة مواضع من باب التأكيد على تشديد تحريمه.
قال عالم الغذاء: وما ذلك إلا للمخاطر الكثيرة التي يحويها هذا اللحم القاتل.. وسأذكر لك منها ما تعلم صدق ما جاء به كتابك[2].
أولا.. لحم الخنزير يحتوي على كمية كبيرة من الدهون، ويمتاز باندحال الدهن ضمن الخلايا العضلية للحمه علاوة على تواجدها خارج الخلايا في الأنسجة الضامة بكثافة عالية، في حين أن لحوم الأنعام التي منها الضأن، تكون الدهون فيها مفصولة عن النسيج العضلي، ولا تتوضع خلاياه، وإنما تتوضع خارج الخلايا وفي الأنسجة الضامة.
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الإنسان عندما يتناول دهون الحيوانات آكلة العشب، فإن دهونها تستحلب في أمعائه وتمتص، وتتحول في جسمه، بخلاف دهون الخنزير، فإن استحلابها عسير في أمعائه، وإن جزيئات الغليسرين الثلاثية لدهن الخنزير تمتص هي دون أي تحول وتترسب في أنسجة الإنسان كدهون حيوانية أو خنزيرية.
والكلوسترول[3] الناجم عن تحلل لحم الخنزير في البدن يظهر في الدم على شكل كولسترول جزئي كبير الذرة يؤدي بالكثير إلى ارتفاع الضغط الدموي وإلى تصلب الشرايين، وهما من العوامل الخطرة التي تمهد لاحتشاء العضلة القلبية.. بل قد وجد أن الكولسترول المتواجد في خلايا السرطان الجوالة يشابه الكولسترول المتشكل عند تناول لحم الخنزير..
والدهون التي يحتوي عليها لحم الخنزير أكبر من الدهن الوجود في جميع أنواع اللحوم المختلفة مما يجعل لحمه عسير الهضم.. فمن المعروف علميا أن اللحوم التي يأكلها الإنسان تتوقف سهولة هضمها في المعدة على كميات الدهنيات التي تحويها وعلى نوع هذه الدهون، فكلما زادت كمية الدهنيات كان اللحم أصعب في الهضم وقد جاء في الموسوعة الأمريكية أن كل مائة رطل من لحم الخنزير تحتوي على خمسين رطلا من الدهن.. أي بنسبة 50 بالمائة في حين أن الدهن في الضأن يمثل نحو17 بالمائة فقط وفي العجول لا يزيد على 5 بالمائة، كما ثبت بالتحليل أن دهن الخنزير يحتوي على نسبة كبيرة من الأحماض الدهنية المعقدة.. وأن نسبة الكولسترول في دهن الخنزير 60 بالمائة، ومعنى ذلك بحساب بسيط أن نسبة الكولسترول في لحم الخنزير أكثر من عشرة أضعاف ما في البقر..
ولهذه الحقيقة دلالة خطيرة لأن هذه الدهنيات تزيد مادة الكولسترول في دم الإنسان، وهذه المادة عندما تزيد عن المعدل الطبيعي تترسب في الشرايين وخصوصا شرايين القلب.. وبالتالي تسبب تصلب الشرايين وارتفاع الضغط وهي السبب الرئيسي في معظم حالات الذبحة القلبية المنتشرة في أو روبا حيث ظهر من الإحصاءات التي نشرت بصدد مرض الذبحة القلبية وتصلب الشرايين أن نسبة الإصابة بهذين المرضين في أوروبا تعادل خمسة أضعاف النسبة في العالم الإسلامي، وذلك بجانب تأثير التوتر العصبي الذي لا ينكره العلم الحديث.
بالإضافة إلى هذا، فلحم الخنزير غني بالمركبات الحاوية على نسب عالية من الكبريت، وكلها تؤثر على قابلية امتصاص الأنسجة الضامة للماء كالإسفنج، مكتسبة شكلاً كيسياً واسعاً، وهذا يؤدي إلى تراكم المواد المخاطية في الأوتار والأربطة والغضاريف بين الفقرات، وإلى تنكس في العظام.
والأنسجة الحاوية على الكبريت تتخرب بالتعفن منتجة روائح كريهة فواحة لانطلاق غاز كبريت الهدروجين.. وقد لوحظ أن الآنية الحاوية على لحم الخنزير، على الرغم من أنها محكمة السد إلا أنه يتعين إخراجها من الغرفة بعد عدة أيام نظراً للروائح الكريهة النتنة وغير المحتملة الناجمة عنها.
وبالمقارنة فإن لحوماً أخرى مختلفة خضعت لنفس التجربة، فكان لحم البقر أبطأ تعفنا من لحم الخنزير، ولم تنطلق منه تلك الروائح النتنة.
بالإضافة إلى هذا، فإن لحم الخنزير يحتوي على نسبة عالية من هرمونات النمو التي لها تأثير أكيد للتأهب للإصابة بخامة النهايات علاوة على تأثيره في زيادة نموالبطن وزيادة معدل النمو وخاصة نمو الأنسجة المهيئة للنمو والتطور السرطاني.. وحسب دراسات roffo فإن تلك الوجبة الدسمة الحاوية على لحم الخنزير تعتبر الأساس في التحول السرطاني للخلايا لاحتوائها على هرمون النمو علاوة على أثرها في رفع كولسترول الدم.
ليس هذا فقط.. بل الخنزير مرتع خصب لأكثر من 450 مرضاً وبائياً، وهو يقوم بدور الوسيط لنقل 57 منها إلى الإنسان، عدا عن الأمراض التي يسببها أكل لحمه من عسرة هضم وتصلب للشرايين وسواها.
والخنزير يختص بمفرده بنقل 27 مرضاً وبائياً إلى الإنسان وتشاركه بعض الحيوانات الأخرى في بقية الأمراض لكنه يبقى المخزن والمصدر الرئيسي لهذه الأمراض: منها الكلب الكاذب، وداء وايل، والحمى اليابانية، والحمى المتوهجة، والحميرة الخنزيرية، والالتهاب السحائي، وجائحات الكريب، وأنفلونزا الخنزير، وغيرها.
التفت عالم الغذاء إلى علي، وقال: أرأيت ما تضمنه هذا النهي الذي ورد في القرآن من المصالح الصجية؟
الميتة:
قال علي: أجل.. وبورك فيك.. فحدثني عن الميتة، فقد ورد تحريمها بجانب تحريم الخنزير.. وقد بين الله تعالى أن الميتة محرمة مهما كان نوعها سواء كانت منخنقة[4] أو موقوذة[5] أو متردية[6] أو نطيحة[7]، أو ما أكل السبع[8]، قال تعالى:) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ((المائدة: من الآية3)
قال عالم الغذاء: صدق قرآنكم في هذا أيضا، فقد أثبت العلماء مدى الخبث الذي تحمله الميتة:
فالجراثيم تنفذ إلى الميتة من الأمعاء والجلد والفتحات الطبيعية، لكن الأمعاء هي المنفذ الأكثر نفوذا، فهي مفعمة بالجراثيم، لكنها أثناء الحياة تكون عرضة للبلعمة ولفعل الخمائر التي تحلها.. أما بعد موت الحيوان فإنها تنمو وتحل خمائرها الأنسجة وتدخل جدر المعي، ومنها تنفذ إلى الأوعية الدموية واللمفاوية.
أما الفم والأنف والعينين والشرج فتصل إليها الجراثيم عن طريق الهواء أو الحشرات والتي تضع بويضاتها عليها.
أما الجلد فلا تدخل الجراثيم عبره إلا إذا كان متهتكاً كما في المتردية والنطيحة وما شابهها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن احتباس دم الميتة، كما ينقص من طيب اللحم ويفسد مذاقه، فإنه يساعد على انتشار الجراثيم وتكاثرها فيه.
وكلما طالت المدة بعد هلاك الحيوان كان التعرض للضرر أشد، لأن تبدل لحمها وفسادها وتفسخها يكون أعظم، إذ أنه بعد 3ـ4 ساعات من الموت يحدث ما يسمى بالمصل الجيفي.. أو التيبس الرمي.. حيث تتصلب العضلات لتتكون أحماض فيها كحمض الفسفور واللبن والفورميك، ثم تعود القلوية للعضلات، فيزول التيبس وذلك بتأثير التعفنات الناتجة عن التكاثر الجرثومي العفني التي تغزو الجثة بكاملها.
وينشأ عن تفسخ وتحلل جثمان الميتة مركبات سامة ذات روائح كريهة، كما أن الغازات الناتجة عن التفسخ تؤدي إلى انتفاخ الجثة خلال بضع ساعات، وهي أسرع في الحيوانات آكلة العشب من إبل وضأن وبقر وغيرها، كما تعطي بعض الجراثيم أثناء تكاثرها مواد ملونة تعطي اللحم منظراً غير طبيعي ولوناً إلى الأخضر أو السواد وقوامه ألين من اللحم العادي.
ويدخل في هذا الباب ما قد تصاب به البهائم من أمراض جرثومية تمنع تناول لحمها ولوكانت مذكاة.. ويكون الضرر في هذه الحالة شديدا، فيما لومات الحيوان بذلك المرض نتيجة لانتشار الجراثيم في جثته عن طريق الدم المحتبس وتكاثرها بشدة وزيادة مفرزاتها السمية.
ومن هذه الأمراض السل، ولهذا توصي كتب الطب بإحراق جثة الحيوان المصاب بالسل الرئوي وسل الباريتوان وكذا إذ وجدت الجراثيم في عشلات الحيوان أو عقده اللمفاوية.
ومنها الجمرة الخبيثة، والحيوان الذي أصيب بها يحذر من مسه، بل يؤمر بحرقه ودفنه حتى لا تنتشر جراثيمه وتنتقل العدوى إلى الحيوان وإلى البشر.
الدم:
قال علي: فحدثني عن سر تحريم الدم.
قال عالم الغذاء: إن إحدى وظائف الدم الهامة هي نقل نواتج استقلاب الغذاء في الخلايا من فضلات وسموم ليصار إلى الخارج طرحاً، وأهم هذه المواد هي البولة وحمض البول والكرياتنين وغاز الفحم، كما يحمل الدم بعض السموم التي ينقلها من الأمعاء إلى الكبد ليصار إلى تعديلها.
وعند تناول كمية كبيرة من الدم، فإن هذه المركبات تمتص ويرتفع مقدارها في الجسم، إضافة إلى المركبات التي يمكن أن تنتج عن هضم الدم نفسه مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة البولة في الدم، والتي يمكن أن تؤدي إلى اعتلال دماغي ينتهي بالسبات.
وهذه الحالة تشبه مرضياً ما يحدث في حالة النزف الهضمي العلوي ويلجأ عادة ـ هنا ـ إلى امتصاص الدم المتراكم في المعدة والأمعاء لتخليص البدن منه ووقايته من حدوث الإصابة الدماغية.
وهكذا فإن الدم يحتوي على فضلات سامة مستقذرة، ولو أخذ من حيوان سليم، علاوة على احتوائه على عوامل مرضية وجرثومية فيما لوأخذ من حيوان مريض بالأصل.
بالإضافة إلى هذا، فالدم وسط صالح لنمو الجراثيم وتكاثرها، إذ أنه من المتفق عليه طبياً أن الدم أصلح الأوساط لنمو شتى أنواع الجراثيم وتكاثرها، فهو أطيب غذاء لهذه الكائنات وأفضل تربة لنموها، ولهذا تستعمله المخابر لتحضير المزرعة الجرثومية.
ومع ذلك كله، فالدم لا يصلح غذاء للإنسان، لأن ما يحتويه من بروتينات قابلة للهضم كالألبومين والغلوبولين والفبرينوجين مقدار ضئيل ( 8غ / 100 مل )، ومثل ذلك الدسم، في حين يحتوي الدم على نسبة كبيرة من خضاب الدم ( الهيموغلوبين ) وهي بروتينات معقدة عسرة الهضم جداً، لا تحتملها المعدة غالبا.
ثم إن الدم إذا تخثر، فإن هضمه يصبح أشد عسرة، وذلك لتحول الفيبرينوجين إلى مادة الليفين الذي يؤلف شبكة تحضر ضمنها الكريات الحمر والفيبرين من أسوأ البروتينات وأعسرها هضماً.
وهكذا فإن علماء الصحة لم يعتبروا الدم بشكل من الأشكال في تعداد الأغذية الصالحة للبشر.
الجوارح:
قال علي: فحدثني عن سر تحريم الجوارح[9]، فقد ورد في الحديث النهي عنها، قال r:( حرم على أمتي كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع[10] )[11]
قال عالم الغذاء: لقد أثبت علم التغذية الحديثة أن الشعوب تكتسب بعض صفات الحيوانات التي تأكلها لاحتواء لحومها على سميات ومفرزات داخلية تسري في الدماء وتنتقل إلى معدة البشر، فتؤثر في أخلاقهم..
فقد تبين أن الحيوان المفترس عندما يهم باقتناص فريسته تفرز في جسمه هرمونات ومواد تساعده على القتال واقتناص الفريسة..
وقد تبين أن هذه الإفرازات تخرج في جسم الحيوان حتى وهو حبيس في قفص عندما تقدم له قطعة لحم لكي يأكلها.
وإن كنت في شك مما أقول فما عليك إلا أن تزور حديقة الحيوانات مرة، وتلقى نظرة على النمر في حركاته العصبية الهائجة أثناء تقطيعة قطعة اللحم ومضغها، فترى صورة الغضب والاكفهرار المرسومة على وجهه، ثم ارجع ببصرك إلى الفيل وراقب حالته الوديعة عندما يأكل وهو يلعب مع الأطفال والزائرين، وانظر إلى الأسد وقارن بطشه وشراسته بالجمل ووداعته.
بل قد لوحظ على الشعوب آكلات لحوم الجوارح أنها تصاب بنوع من الشراسة والميل إلى العنف ولو بدون سبب إلا الرغبة في سفك الدماء..
وقد تأكدت الدراسات والبحوث من هذه الظاهرة على القبائل المتخلفة التي تستمرئ أكل مثل تلك اللحوم إلى حد أن بعضها يصاب بالضراوة، فيأكل لحوم البشر، كما انتهت تلك الدراسات والبحوث أيضا إلى ظاهرة أخرى في هذه القبائل وهي إصابتها بنوع من الفوضى الجنسية وانعدام الغيرة على الجنس الآخر فضلا عن عدم احترام نظام الأسرة ومسألة العرض والشرف.. وهي حالة أقرب إلى حياة تلك الحيوانات المفترسة حيث إن الذكر يهجم على الذكر الآخر من القطيع ويقتله لكي يحظى بإناثه إلى أن يأتي ذكر آخر أكثر شبابا وحيوية وقوة، فيقتل الذكر المغتصب السابق وهكذا..
ابتسم، وقال: ولعل أكل الخنزير أحد أسباب انعدام الغيرة الجنسية بين الأوربيين وظهور الكثير من حالات ظواهر الشذوذ الجنسي مثل تبادل الزوجات والزواج الجماعي.
بالإضافة إلى هذا، فإن وباء السارس الذي أجتاح الصين وجنوب شرق آسيا كا ناتجا عن أكل لحم الجوارح والكلاب.
وقد ذكر علماء من الصين أن الفيروس المسبب للالتهاب الرئوي اللانمطي (سارس) قد يكون انتقل إلى البشر من حيوانات كسنور (قطط) الزباد وكلاب الراكون.
وقد ألجأ الخوف من انتشار السارس عن طريق الحيوانات الأليفة السلطات في بكين والمدن الأخرى إلى أن تأمر بجمع القطط والكلاب الضالة والحيوانات الأخرى وتقتلها.. كما دفع ذلك أصحاب الحيوانات الأليفة إلى التخلي عن حيواناتهم.
الخمر:
قال علي: بالإضافة إلى هذا، فقد ورد تحريم الخمر في القرآن الكريم، وفي آيات منه:
فالله تعالى يصفها بأنها رجس من عمل الشيطان، قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( (المائدة:90)
ويبين علة صنع الشيطان لها بقوله تعالى:) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ((المائدة:91)
بل إن العلماء والصالحين ـ نتيجة هذا التشديد في تحريمها ـ اشتدوا في التحذير منها حتى في الحالات التي يتوهم أنها للعلاج، وقد قال أحدهم للإمام جعفر الصادق t: إن بي وجعا وأنا أشرب النبيذ ووصفه لي الطبيب فقال له: ما يمنعك س الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي؟ قال: لا يوافقني. قال: فما يمنعك من العسل الذي قال الله فيه شفاء للناس؟ قال: لا أجده، قال فما يمنعك من اللبن الذي نبت منه لحمك واشتد عظمك؟ قال: لا يوافقني. قال: تريد أن آمرك بشرب الخمر لا والله لا آمرك.
وسئل t عن الدواء يعجن بالخمر. فقال:( ما أحببت أن أنظر إليه ولا أشمه فكيف أتداوى به؟)
قال عالم الغذاء: صدق قرآنكم في هذا.. ونصحكم نصيحة بالغة.. وللأسف، فإننا ـ مع كوننا في العصر الذي يسمونه عصر العلم وتطبيقات العلم ـ ومع ذلك، فإن البشرية لا زالت ـ مع إدراكها مخاطر الخمر ـ تدمن عليها، بل تعشقها، وقد قال السيناتور الأمريكي وليم فولبرايت، وهو يتحدث عن مشكلة الخمر:( لقد وصلنا إلى القمر ولكن أقدامنا مازالت منغمسة في الوحل، إنها مشكلة حقيقية عندما نعلم أن الولايات المتحدة فيها أكثر من 11 مليون مدمن خمر وأكثر من 44 مليون شارب خمر)
وقد نقلت مجلة لانست البريطانية مقالاً بعنوان ( الشوق إلى الخمر ) جاء فيه:( إن أكثر من 200 ألف شخص يموتون سنويا في بريطانيا بسبب الخمر)
وينقل البروفسور شاكيت أن 93 بالمائة من سكان الولايات المتحدة يشربون الخمر، وأن 40 بالمائة من الرجال يعانون من أمراض عابرة بسببه و5 بالمائة من النساء و10 بالمائة من الرجال يعانون من أمراض مزمنة.
قال علي: أإلى هذه الدرجة وصلت مضار الخمر؟
قال عالم الغذاء: بل لا يمكن أن تتصور مضاره.. إن شارب الخمر لا يشرب ـ في الحقيقة ـ خمرا، وإنما يشرب سما، يقول الدكتور أو بري لويس:( إن الكحول هو السم الوحيد المرخص بتداوله على نطاق واسع في العالم كله، ويجده تحت يده كل من يريد أن يهرب من مشاكله.. ولهذا يتناوله بكثرة كل مضطربي الشخصية ويؤدي هو إلى اضطراب الشخصية ومرضها (Psycho-pathic Anomaly) إن جرعة واحدة من الكحول قد تسبب التسمم وتؤدي إما إلى الهيجان أو الخمود وقد تؤدي إلى الغيبوبة. أما شاربو الخمر المزمنون ( ch Alcoholics) فيتعرضون للتحلل الأخلاقي الكامل مع الجنون)[12]
ليس ذلك فقط، بل إن مجرد استنشاق أبخرة الخمر يؤدي إلى الإصابة بالتهاب القصبات والرئة، وإلى إصابة بطانة الأنف مما يؤدي إلى ضعف حاسة الشم.
قال علي: لقد ذكرتني بقوله تعالى في اختياره للفظ الدالة على تحريم الخمر، فقد قال: ﴿ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ (المائدة: من الآية90)، وهذا اللفظ يعني النهي عن الاقتراب منه مطلقاً، وهوأعم من النهي عن شربه.
قال عالم الغذاء: لا تتوقف المخاطر على ما ذكرناه[13]، فهذا السم يختلف تأثيره كلمـا تغير مسـتواه في الدم، فعندما يبلغ مســتواه من 20ـ 99ملغ بالمائة يسبب تغير المزاج وإلى عدم توازن العضلات واضطراب الحس، وفي مستوى من 100ـ 299 ملغ بالمائة يظهر الغثيان وازدواج الرؤية واضطراب شديد في التوازن. وفي مستوى من 300 ـ 399 ملغ بالمائة تهبط حرارة البدن ويضطرب الكلام ويفقد الذاكرة. وفي مستوى 400 ـ 700 ملغ بالمائة يدخل الشاب في سبات عميق يصحبه قصور في التنفس، وقد ينتهي بالموت.
ورغم أن كل أعضاء الجسم تتأثر من الخمر، فإن الجملة العصبية هي أكثرها تأثراً حيث يثبط المناطق الدماغية التي تقوم بالأعمال الأكثر تعقيداً، ويفقد قشر الدماغ قدرته على تحليل الأمور، كما يؤثر على مراكز التنفس الدماغية حيث أن الإكثار منه يمكن أن يثبط التنفس تماماً إلى الموت.
وتأثيره لا يتوقف على الجهاز العصبي، بل إنه يمتد حتى إلى الأجنة في بطون أمهاتهم، فالغول بعد أن يمتص من الأمعاء ليصل الدم يمكن أن يعبر الحاجز الدماغي ويدخل إلى الجنين عبر المشيمة، وأن يصل إلى كافة الأنسجة. لكنه يتوضع بشكل خاص في الأنسجة الشحمية.
وكلما كانت الأعضاء أكثر تعقيداً وتخصصاً في وظائفها كانت أكثر عرضة لتأثيرات الغول السمية، فلا عجب حين نرى أن الدماغ والكبد والغدد الصماء من أوائل الأعضاء تأثراً بالخمر حيث يحدث الغول فيها اضطرابات خطيرة.
وفي الجهاز الهضمي يؤدي مرور الخمر في الفم إلى التهاب وتشقق اللسان، كما يضطرب الذوق نتيجة ضمور الحليمات الذوقية، ويجف اللسان، وقد يظهر سيلان لعابي مقرف، ومع الإدمان تشكل طلاوة بيضاء على اللسان تعتبر مرحلة سابقة لتطور سرطان اللسان.
والخمر يوسع الأوعية الدموية الوريدية للغشاء المخاطي للمري مما يؤهب لتقرحه ولحدوث نزوف خطيرة تؤدي لأن يقيء المدمن دماً غزيراً، كما تبين أن 90 بالمائة من المصابين بسرطان المريء هم مدمنو خمر.
وفي المعدة يحتقن الغشاء المخاطي فيها ويزيد إفراز حمض كلور الماء والببسين مما يؤهب لإصابتها بتقرحات ثم النزوف، وعند المدمن تصاب المعدة بالتهاب ضموري مزمن يؤهب لإصابة صاحبها بسرطان المعدة الذي يندر جداً أن يصيب شخصاً لا يشرب الخمر.
وتضطرب الحركة الحيوية للأمعاء عند شاربي الخمر المتعدين وتحدث التهابات معوية مزمنة وإسهالات متكررة عند المدمنين، وتتولد عندهم غازات كريهة، ويحدث عسر في الامتصاص المعوي.
والغول سم شديد للخلية الكبدية، وتنشغل الكبد من أجل التخلص من الغول عن وظائفها الحيوية، ويحصل فيها تطورات خطيرة نتيجة الإدمان. ففي فرنسا وحدها يموت سنوياً أكثر من 22 ألف شخص بسبب تشمع الكبد الغولي، وفي ألمانيا يموت حوالي 16 ألف. كما أن الغول يحترق ضمن الكبد ليطلق كل 1غ منه 7 حريرات تؤدي بالمدمن إلى عزوفه عن الطعام دون أن تعطيه هي أي فائدة مما يعرضه لنقص الوارد الغذائي.
ويشكو المصاب من ألم في منطقة الكبد ونقص في الشهية وتراجع في الوزن مع غثيان وإقياء، ثم يصاب بالجبن أو باليرقان.. وقد يختلط بالتهاب الدماغ الغولي ويصاب بالسبات أو النزف في المريء، وكلاهما يمكن أن يكون مميتاً.
وللخمر تأثيراتها الخطيرة على القلب، حيث يصاب مدمن الخمر بعدد من الاضطابات الخطيرة والمميتة التي تصيب القلب، منها اعتلال العضلة القلبية الغولي: حيث يسترخي القلب ويصاب الإنسان بضيق في النفس وإعياء عام ويضطرب نظم القلب وتضخم الكبد مع انتفاخ في القدمين، والمريض ينتهي بالموت إذا لم يرتدع الشارب عن الخمر.. وقد يزيد الضغط الدموي نتيجة الإدمان.. وقد يؤدي إلى داء الشرايين الإكليلية، فالغول يؤدي إلى تصلب وتضيق في شرايين القلب تتظاهر بذبحة صدرية.. وقد يؤدي إلى اضطراب نظم القلب.
وللخمر تأثيراتها الخطيرة على الجهاز العصبي، حيث تعتبر الخلايا العصبية أكثر عرضة لتأثيرات الغول السمية، وللغول تأثيرات فورية على الدماغ، بعضها عابر، وبعضها غير قابل للتراجع.. حيث يؤكد د. براتر وزملاؤه أن تناول كأس واحد أو كأسين من الخمر قد تسبب تموتاً في بعض خلايا الدماغ، والسحايا قد تصاب عند المدمن عندها يشكوالمصاب من الصداع والتهيج العصبي، وقد تنتهي بالغيبوبة الكاملة، كما أن الأعصاب كلها معرضة للإصابة بما يسمى ( باعتلال الأعصاب الغولي العديد أو المفرد )
أما الأذيات الدماغية فيمكن أن تتجلى بداء الصرع المتأخر الذي يتظاهر عند بعض المدمنين بنوبات من الإغماء والتشنج والتقلص الشديد.
قال علي: لقد ذكرت إدمان قومك للخمر.
قال عالم الغذاء: أجل.. وللأسف.. لقد حاولت كل القوانين أن تحد من ذلك، فلم تزدنا أقوامنا إلا غراما بالخمر.
قال علي: فلم لم تقرأوا عليها من نصوص كتابكم المقدس ما يقيهم مخاطر الخمر.
ابتسم ابتسامة عريضة، ونظر إلي، وقال: لعل كتابنا المقدس هو سبب من أسباب انتشار الخمر والدعاية لها.
تظاهر علي بالاستغراب، فقال عالم الغذاء: لقد ذكرتني برجل من بني قومي تاب من الخمر، وصمم على تركها، وأراد أن يتدين ليقضي على ذلك الإدمان، فلما فتح الكتاب المقدس وقعت عينه على هذا النص:( كُلُوا أَيُّهَا الأَصْحَابُ. اشْرَبُوا وَاسْكَرُوا أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ )(نشيد الإنشاد 5: 1)، فأسرع إلى الخمر، كالولهان، ومات بين يديها.
ليس هذا النص وحده الذي يشجع فيه الكتاب المقدس على شرب الخمر..
الخمر في الكتاب المقدس مقدسة كالكتاب المقدس.. وتستطيع لذلك أن تطلق على الحانة لقب الحانة المقدسة..
لقد كان أولى معجزات المسيح على الإطلاق هي تحويل الماء إلى خمر.. اسمع:( قال يسوع: املأوا الاجران ماء. فملاوها الى فوق. ثم قال لهم: استقوا وقدموا الى رئيس المتكأ. فقدموا, فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرا ولم يعلم من أين هي. لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا علموا. دعا رئيس المتكأ العريس, وقال له: كل انسان انما يضع الخمر الجيدة اولا, ومتى سكروا فحينئذ الدون. أما أنت فأبقيت الخمر الجيدة الى الان )( يوحنا 7:2 )
ومنذ أن جرت تلك المعجزة, والخمر لم تزل تتدفق كالمياه بين قومنا.
جاء بعده بولس الرسول.. لينصحنا وينصح الأجيال الكثيرة هذه النصيحة الغالية عبر أحد رعاياه المتحولين حديثا الى المسيحية, والمدعو تيموثاس, قائلا:( لاتكن فيما بعد شراب ماء، بل استعمل خمرا قليلا من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة )( ثيموثاوس: 23:5 )
لقد كانت هذه النصوص المقدسة هي السر في إدمان قومنا للخمور بأنواعها المختلفة، لقد ذكر القس دميلو في تعليقه على رسالة بولس هذا، فقال:( إنها تعلمنا أنه من الصواب تعاطي المسكرات من الخمر، ولقد تعلم الآلاف من النصارى إدمان الخمور، بعد أن رشفوا ما يسمونه دم المسيح أثناء المشاركة في شعائر الكنيسة )
اسمع العلة التي يعلل بها الكتاب المقدس إباحة الخمر:( اعطوا مسكرا لهالك وخمرا لمريئ النفس يشرب وينسى فقره ولايذكر تعبه )(الامثال6:31)
سكت قليلا، ثم قال: لست أدري كيف لم ينص الكتاب المقدس على تحريم الخمر، مع أنه مملوء بالجرائم الكبيرة التي سببها الخمر.. فلوط زنى بابنتيه عندما سكر وغاب عنه العقل [14].. ونوح تعرّى وفعل فيه ابنه مافعل وهو سكران..
لست أدري لم بالغ الكتاب المقدس في ذكر النجاسات وكيفية التطهير منها، ولم يذكر هذا الرجس الأخطر الذي يقضي على الجسد والنفس والعقل والفرد والمجتمع والأمة.
النجس:
قال علي: بالإضافة إلى هذا، فقد حرم شرعنا كل نجس أو متنجس من الطعام والشراب، حيوانا كان أو غيره:
فقد نهي r عن الجلالة، وهي ما يأكل القاذورات من الحيوانات، فعن ابن عمر قال:( نهى رسول الله r عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يذكيها الناس حتى تعلف أربعين ليلة )
بل ورد النهي عن ركوبها، فعن ابن عمر قال:( نهى رسول الله r عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها )، وقد علل ذلك بأنها ربما عرقت، فتلوث بعرقها.
ويدخل في هذا النهي الحيوانات التي تعتلف بما تأباه طبيعتها من السموم التي تفنن أهل هذا العصر في استصناعها.
قال عالم الغذاء: لو أن البشرية طبقت ما أمر به إسلامكم في هذا الجانب لوقيت المخاطر الكثيرة التي جلبها شرهها إلى المال.
لقد رأيت الفلاحين في بلادي، وفي غيرها من البلاد يستعملون طرقا عديدة في تسمين المواشي لكي يخففوا من تكاليف علفها.. ومن ذلك استعمالهم النفايات المختلفة في غذاء المواشي والدواجن دون مراعاة للأضرار التي قد تنجم عن ذلك.
ومن أمثلة ذلك استخدام فضلات الدجاج كعلف للمواشي بالرغم من كل المخاطر التي ينطوي عليها هذا الابتكار الجديد على صحة المستهلكين.
ففضلات الدجاج غالباً ما تتضمن نوعين من أنواع البكتيريا يتسببان في إصابة الإنسان ببعض الأمراض، كما يتسببان في وجود طفيليات في معدة الإنسان، ويساعدان أيضا على تجمع الرواسب التي تخلفها الأدوية البيطرية، فضلاً عن وجود ترسبات معادن تحتوي على نسبة عالية من المواد السامة مثل الزرنيخ والرصاص والكادمسيوم والزئبق.
وتنتقل مثل هذه البكتيريا إلى المواشي بكل سهولة، كما أنه من الممكن أن تنتقل إلى جسم الإنسان عند تناوله لحوما ملوثة بروث المواشي أثناء ذبحها في المسالخ.
ومن ناحية أخرى، فقد أفاد مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها في ولاية أتلانتا بأنه توجد في الولايات المتحدة فقط 80 مليون حالة مرضية ناجمة عن تناول المواد الغذائية، و9000 حالة وفاة ناجمة أيضا عن تناول بعض الأصناف من الأغذية، و4 ملايين حالة مرضية ناجمة عن الإصابة ببكتيريا سالمونيلا حيث انتهت ما بين 500 ـ 1000 حالة من هذه الحالات إلى وفاة المريض، كما تتسبب البكتيريا من النوع المنطوي في إصابة ما بين 4 ـ 6 ملايين شخص بالتهابات حادة في المعدة ويقتل 100 منهم سنويا.
أما البكتيريا من نوع إي كولاي والذي تم اكتشافه في بعض اللحوم الملوثة، فإنها تودي بحياة 250 شخصاً سنويا فضلا عن أنها تتسبب في إصابة ما لا يقل عن 20 ألف شخص في أمريكا سنويا بأمراض خطيرة، وهناك 17 مريضاً على الأقل ثبت أن مرضهم ناجم عن تناولهم لحوما ملوثة من إنتاج شركة واحدة.
قال علي: أكل هذه الإحصائيات نتائج شركة واحدة؟
قال عالم الأغذية: أجل.. وليس ذلك فقط، بل قد دأب مربو المواشي على استخدام مخلفات المحاصيل الزراعية وقشارة الخضراوات وعلائق الحبوب والمواد الداخلة في صناعة الخبز والخمر في تسمين المواشي.
وذلك بالإضافة إلى استخدام حوالي 40 مليار رطل سنويا من مخلفات المسالخ مثل الدماء والعظام والأمعاء بالإضافة إلى ملايين القطط والكلاب السقيمة التي يوصي الأطباء البيطريون بأن يكون مآلها القتل الرحيم أو التي يُسلمها لهم القائمون على ملاجئ الحيوانات، حيث تحوَّل لحوم هذه الحيوانات إلى علف مما يعتري سلوكيات المواشي والخنازير التي سرعان ما تتحول من حيوانات آكلة للأعشاب إلى حيوانات آكلة للحوم.
قال علي: لم ينه الشرع عن ذلك فقط.. بل نهي r أن تلقى في الأرض النجاسات ونحوها، لتكون سمادا للأرض، وقد روي عن بعضهم قال:( كنا نكري أرض رسول الله r ونشترط على من يكريها ألا يلقي فيها العذرة )
وعن ابن عمر أنه كان يكري أرضه ويشترط ألا تدمن بالعذرة، ويروى أن رجل كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر معاتبا:( أنت الذي تطعم الناس ما يخرج ما منهم)، ومن هذا الباب حرم الشرع كل الكيميائيات الضارة التي تفسد الزرع، وتحوله إلى سموم قاتلة.
قال عالم الغذاء: للأسف.. لقد صبحت الكيماويات جزءاً ضرورياً لا يمكن الاستغناء عنه من الحياة البشرية.. فهي بحسب تصورهم المحدود تدعم التنمية، وتقي كثيراً من الأمراض، وتزيد الإنتاجية الزراعية، وتعود بفوائد جمة على المجتمع.
قال علي: ولكن الكثير من هذه المنافع حقيقة واقعة، وهي من فضل الله على عباده.
قال عالم الأغذية: أجل ولكن ضررها ـ الذي سببه سوء تعامل البشرية معها ـ أكثر من نفعها، فالإنسان قد يتعرض لها مباشرة، أثناء تصنيعها أو نقلها أو توزيعها أو تداولها أو استعمالها أو التخلص منها، وهذا قد يحدث آثاراً ضارة في صحته.
بل إن التخلص العشوائي من هذه الكيماويات وفضلاتها يمكن أن يدنس الهواء والماء والتربة، ويؤدي إلى تلوث الغذاء، مما يحدث آثاراً ضارة غير مباشرة.
بل يقدر أن حوالي سبعين ألف مادة كيماوية تدخل في التعامل اليومي، منها ثمانية وأربعون ألفاً بكميات ذات شأن من الوجهة التجارية.
زيادة على أن جل هذه المواد المستعملة سوف تلوث الهواء والماء والغذاء والتربة بعد استعمالها ورميها كفضلات.. ويضاف في كل عام ما بين سبعمئة وألف مادة كيماوية جديدة إلى التجارة.
وقد أصبحت تجارة الكيماويات تجارة عالمية، وعمت الدول المتقدمة والنامية على السواء.. وفي الوقت نفسه ليست كل الدول تملك وسائل لإجراء دراسات على هذه الكيماويات من الوجهتين السمومية والبائية.
ويزداد الوضع سوءاً في البلدان النامية، لجهل كثير من متخذي القرار فيها بالعواقب الصحية لهذه لكيماويات التى لا تستعمل ولا يتخلص منها.. بل يضاف إلى ذلك أنه لا ينطر إليها- عن قصد أو غير قصد- من قبل الصناعات المحلية على أنها مخاطر.
ويزيد الأمر سوءاً حالات التسمم الحاد بهذه المواد، والتي تؤدي إلى الوفاة في كثير من البلدان.. وتقدر نسبة االحوادث العالمية الناتجة عن التسمم بمبيدات الحشرات وحدها بمليون حالة كل سنة، والعدد في ازدياد.
ويزيد الأمر سوءًا أكثر من ذلك كله، تلك الحوادث التي تحدث على نطاق واسع، كانطلاق المتيل إيزوسيانات في بهوبال بالهند، واستعمال الحبوب الملوثة بمبيدات الحشرات في العراق وباكستان، واستعمال زيت الطبخ الملوث في أسبانيا، واستعمال طعام ملوث بقلوانيات البيروليدين في أفغانستان، وما أشبه ذلك.
قال علي: صدق الله العظيم، فقد قال:) وَلَوبَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ((الشورى:27).. لقد بسط الله بعض فضله على أهل هذا العصر بما فتح لهم من خزائن العلم من خزائن الأرزاق، فراحوا يقتلون أنفسهم، ويقتلون الأرض معهم.
قال عالم الأغذية: صدقت، فالمشكلة لا تكمن في استغلال خيرات السماء وبركات الأرض، فتلك لازمة من لوازم العمران، ولكنها تكمن في الإسراف والطغيان والبغي بغير الحق، وكلها تؤدي إلى الإخلال بالموازين إخلالاً يفسد هذه البيئة ويجعلها غير صالحة لحياة الناس.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin