أنف عنك ما سواه
أنف عن نفسك ما سواه لترتقي . فما دخل الحضرة إلا القلب النقي . فإذا ظفرت بالنقاوة . ذقت لذكر ربك حلاوة . إذا بقلبك حلت . لحلاوة غير العبادة عنك جلت فإذا جلت عنك الأغيار أزيلت عن قلبك الأستار ز وهبطت عليه أنواع الأسرار ز عند كل نفس وحركة وقول وفعل . وحياك ابن الفارض رحمه الله بقوله
ولاح سر خفي يدريه من كان مثلي
فللشمس ضوء قبل الإشراق . وللتجلي سر قبل التلاق . فأكثر من قول لا إله إلا الله . لتعرف النفي والإثبات ز وتبدل منك الصفات بالصفات . فصفات نفسك حجاب قدسك . فمزقها بـ(لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما سمعه علم الله) لتكسى من صفات محمد رسول الله r
واعلم يا أخانا في الله ، نظر الله إلينا أجمعين بألطاف أهل ولايته ، أن هذا الذكر ثقيل على النفس لنفاسته وسرعة هدايته ، ويحصل به أمران عظيمان عليهما مدار الإصلاح ، وهما عنوان الخير والفلاح :
الأول : تمزيق الصفات النفسية . وهو أثر قولك لا إله إلا الله
والثاني : اتصافك بالصفات المحمدية . وهو أثر قولك محمد رسول الله r ؛ لأنه باب الله تعالى الموصل إلى حضرة الحب والقرب . قال سيدي أبيض الوجه البكري رضي الله تعالى عنه :
وأنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل
والإتيان من هذا الباب يكون بأمرين :
الأول : حبه r كما ينبغي
الثاني : متابعته r في الأقوال والأفعال
وكأني بك إذا أكثرت من هذا الذكر ستفتح لك أبواب ما خطرت لك ببال ، ولطالما بحثت عن ورد غير هذا طالباً ما حدثتك به نفسك ، ولقد دللناك على كنز لو فطنت له ، ولكنك لازلت تنظر إلى الجيفة على غير ما هي عليه ، ولو كشف ران قلبك لأبصرت ما أبصره العارفون ، ولوليت عنها إلى ما ابصرته بصيرتك ، وعلقت به سريرتك ، وعندي في أورادي ما يكل عنه تعبير لسانك ن وتفكير جنانك ، فإلى متى وبيننا المباينة ؟ أما آن لك أن تكون من أهل المعاينة ! فما دخلت لنا قلباً ولا خطرت لنا بخاطر ، ولقد فررنا منها حينما فر إليها غيرنا ، وكان فرارنا إلى الله (ففروا إلى الله)
واعلم أن أرض طريقنا هذا لا يسقى إلا بماء الدين الخالص (ألا لله الدين الخاص) ولا يثمر شجره إلا الكلمة الطيبة التي تصل إلى السماء (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء)
فما عبدناه سبحانه للدنيا التي هي كهشيم تذروه الرياح ، ولكن لنفحات تتنزل في المساء والصباح ، وابتغاء وجهه الكريم ، والتلذذ بقربه وحبه ومناجاته والتذلل بين يديه ، والإقبال عليه ، وشهوده شهوداً خارجاً عن المعقولات والمحسوسات والفكريات والنظريات ، فكيف اشتغلت بذكره وعبادته وما شغلك ؟.
ويقول ابن الفارض رحمه الله تعالى :
فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
يعني الحضرة الإلهية ، والتجليات الربانية ، في مقام كشف الحجاب وإزالة الأسباب . وغيبة وحضور . وفرح وحبور وصفاء ونور . في مقام الفناء لدار الغرور . وصرف القلب عن الجنات والقصور . إلى ما هو أجل وأعلى (سبح اسم ربك الأعلى) (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) وأي حسرة اشد من حسرة من فاته الإيمان . وغره الشيطان . وحرم من الطاعات واحتضن المخالفات . وحرم من لذة العبادة . وجعلها عنده كعادة وحرم من التخلي ز ومنع من التحلي . ولم يكن من أهل التجلي ؟! فإلى متى يا أخانا وأنت في سكرتك . مكبلاً بغفلتك . غرتك من طردناها ز وشغلتك من سلوناها ؟!
قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : " النفس إن لم تشغلها شغلتك " يعني إن لم يتشغلها بأوامر الله شغلتك بأوامرها وهكذا الحال . رحم الله الرجال . كيف عرفوا فأثمرت معارفهم ؟ وكيف فروا فسلمت نجائبهم ؟ وكيف كشفوا عن خفيات الأمور . لما استنارت منهم الأنفس والصدور ؟
أيها المريد نهض نفسك بنفسك
وابك على يومك وأمسك
فإلى متى يا عبد الله وأنت تسمعنا سماع المستريب فيما يسمع ؟! وعندك سيوف تلمع . لو حركتها لكانت لكل القواطع عنك تقطع . كم من ليال قد نمتها فما عادت عليك إلا بما عادت ؟ وكم من أيام فيما ليس يعنيك قد أضعتها ؟ وفي ظنك أنك أضعت الليالي والأيام
ولكنك أضعت عمرك الذي كلما مر منه يوم فليس يعود إلى يوم القيامة واراك تبكي على فلان إذا قيل مات وانقضى عمره ، ولا تبكي على عمرك وهو في كل يوم ينقص ولا يزيد ، وأخشى أن تلحق بنا مفلس الحال ، مكبل البال ، منغمساً في الاوحال ، فنهض نفسك بنفسك ، وابك على يومك وأمسك
أيها المريد ماذا تريد
من هذه الدنيا
فواعجباه منك ثم واعجباه ! ماذا تريد من جيفة يؤذيك ريحها ويثقلك أكلها . ويطغيك قربها . ويعاديك أهلها ، إن أقبلت عليها شغلتك . وأن أعرضت عنها خدمتك . وإن أهنتها أكرمتك . وإن أكرمتها أهانتك ، قولها يضحك أهلها وفعلها يبكيهم ؟!
لما كانت نعمه عليك كثيرة ، وحياتك في الدنيا زائلة وأعوامك في القبر كثيرة ، ويوم الحساب يوم طويل ، والحياة في الآخرة لا نهاية لها كان الأمر منه سبحانه موافقاً لحالك تمام الموافقة ، لأنه أمرك سبحانه بالإكثار من ذكره لا بالذكر وحده ، وحقيق أيها الإنسان إنك لفي حاجة شديدة إلى الإكثار من ذكر ربك ؛ ليكون الإكثار مدافعاً عنك أمام النقم الكثيرة والذنوب الكبيرة ، والأعوام الطويلة ، فلا تترك سلاحك وأمامك الهيجاء ، فإن مكائد الشيطان لك كثيرة ، فأعد له عدة أهل الفلاح ، وإلا يقال لك : كساع إلى الهيجاء بغير سلاح
وقد وعد الله سبحانه الذاكرين الله تعالى كثيراً والذاكرات بالمغفرة والأجر العظيم ، فبشرى ثم طوبى للذاكرين المكثرين ، تلذذوا بذكر حبيبهم وعندهم هو عين النعيم
وقد وعد سبحانه الذاكرين له بطمأنينة القلب في الدنيا والآخرة أيضاً ، والقلب يطمئن بذكر الله تعالى لأن الذاكر يذكره خالقه سبحانه ، فإذا ذكر القلب الخالق سبحانه ذكره الله تعالى (فاذكروني أذكركم) وإذا ذكر الرب عبده إطمأن القلب بذكر الله عبده ؛ لأنه أكبر من ذكرك لربك (ولذكر الله أكبر) لأنه به تحصل الطمأنينة للقلب ، وكأنه يشاهد ما وراء الغيب ، أناس قلوبهم مشغولة بالأرزاق ، وهو قلبه مشغول بالخلاق ، وهم يعملون للدنيا كأنهم يخلدون ، وهو يعمل للآخرة عمل من قيل لهم غدا ترحلون
اطمأن قلبه إلى زوال الدنيا فنظر إليها وكأنها أمامه زائلة ، واطمأن إلى الجنة ونعيمها فكأنها أمامه حاضرة ماثلة ، إذا فزعت القلوب إلى بعيد ، فزع إلى من هو أقرب إليه من حبل الوريد ، وإذا خاف الناس من عاجز بالقضاء مقهور ، خاف هو ممن بيده تصاريف الأمور ، فلا المزعجات تذهب الطمأنينة إذا استقرت ، ولا الدنيا تدخل قلبه إذا أقبلت أو تولت
متوكل على خالقه ومولاه ، واثق بما عنده عما عند سواه ، إذا بكى غيره على فإن تراه يبكي من خشية الله ، وإذا اشتاق غيره إلى الأغيار شاقه ذكر الله ، نهاره كليلة وليله كنهاره ، يزيل عن سبل سعادته ما حفت به من مكاره ، فلا تصطاده النار بمصائد الشهوات ، ولا تخدعه النفس بما لها من رغبات
وكيف لا يكون كذلك وقد ذكره الحق سبحانه فأخذ في الأسباب فدخل حضرة الأحباب ، والأحباب لا يحبون ما يكره حبيبهم بل يكرهونه ، والأحباب يحبون ما يحب حبيبهم بل ويوقرونه
ولما كانوا كذلك سمواً أحباباً ، وشربوا من شراب الحب أكوابا ، ذكرهم شعارهم ، وحبهم دثارهم ، جذبتهم يد العناية فهم المجذوبون واحتضنتهم الهداية فهم المهديون ، كم سهروا من ليل وكم ركبوا للجهاد من خيل ، عباد بالليل وفرسان بالنهار ، فطناء أذكياء لا يخدعهم خداع ولا تعطلهم عن جهادهم أوجاع ، لا يبالي أحدهم أشبع أم جاع ؟ أضاءوا الكون بأنوارهم ، ونفعوا الخلق بأسفارهم ، وكانوا لله في أسفارهم ، وعمرو الدنيا بأذكارهم ، لهم بالنهار جولات ، وبالليل حضرات ، رحم الله بهم عباده وهدى بهم ، وجعل الإخلاص في قلوبهم ، ذكر الله تعالى شعارهم ، والحياء دثارهم ، والتوحيد عقيدتهم ، والجهاد بغيتهم ، والإسلام دعوتهم ، والقرآن إمامهم ، والنبي r حبيبهم وقدوتهم
حديث شريف
وبالإجازة المباركة والسند المتصل إلى الحافظ المحدث الشريف السيد أحمد بن إدريس إلى الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله r : " حبب إلى من دنياكم ثلاث : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة "
قال العالم الصوفي الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندري المالكي رحمه الله : قرة العين بالشهود على قدر المعرفة بالمشهود ، والنبي r لم تقر عينه إلا بالله تعالى ولذلك قال في الصلاة ولم يقل بالصلاة
الشيخ صالح الجعفري رضي الله تعالى عنه : الصلاة حبيبة الأرواح ، وفيها مناجاة حبيبها وتنزلات فيوضات المناجاة والتجليات ، وهي عرس الأرواح ، ومهبط الريحان والراح ، وحق للعيون أن تقر بها ، لأن فيها القرب من ربها
فعليك يا أخانا بالإقبال عليها فرضا ونفلا ، لتنال بها ما ناله المصلون الذين خشعوا لربهم في صلواتهم ، فنالوا من ربهم فلاح المفلحين ، وإنابة المخبتين ، أفق يا عبد الله من غفلتك ، وقدم في حياتك لآخرتك
حكم من فضل الله تعالى
قد من الله تعالى بها على بإلهام منه
· ظلمت فأظلمت فهل لك أن تعمل بمنار ربك حتى يستنير قلبك ؟
· وعدلت عن الحق فاعوج سبيلك . فهل لك أن تعدل حتى يعتدل مسيرك ؟
· ظللت تحت ظلال جهلك . وأخلدت إلى أرض نفسك وما استظلك بظل سيفك . حتى تخلد بأرض أكلها دائم وظلها
· ألفت راحتك . وما مددت لفقير راحتك . فلو استوت سفينتك على جودي صفا سريرتك . لوقف إحدى الوقفتين . ورجوت إحدى الحسنيين . مع الذين عرفهم ربهم فعرفوه من " ألست " فدعاهم إلى عرفات فتعارفوا بمن عرفوهم يوم أن كانوا جنوداً مجندة
· والذين وقفوا أمام عدوهم . فاستوى عندهم سيل دماء عدوهم مع سيل دمائهم إذ بالأول معزة دينهم . وبالثاني جنة ربهم
· فلا تمل فتمل إذ الملل من الخلل
· فتخل لتخلو وتتحلى فما تحلى غير خال . ثبت في ميدان التجلي مع الرجال
· فلما تجلى للقلوب الخالية عن غيره تزاحمت على حبه للعاشقين له مطامع لو أظهرها لأنكرها . ومن أجل ذلك نكروها فجلسوا على كراسي مراسي النهايات (إلى ربك منتهاها)(كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) غذاؤكم ودواؤكم وشفاؤكم (الله نزل أحسن الحديث كتابا)
· فإذا لأن قلبك بذكر ربك فلا ريب أن يلين لك الحديد الذي هو جوارك . إن جوارحك كبستان فيه من كل الثمرات . وقرآن ربك هو عينه بما أفاد ونهى وأمر . فمن لا قرآن عنده لا حديقة له ولا ثمر فالجنة الثانية بالجنة الأولى "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا . قالوا يا رسول الله ... وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر " . (وللآخرة خير لك من الأولى)
· جنة الخلد خير من جنة الدنيا ، لأنك تنال فيها شيئين عظيمين :
الأول : (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)
الثاني : " أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا" (ورضوان من الله أكبر)
· فإذا قمت من نومك . فقد أقامك الذي قوم قوامك . فهو الذي أحياك بعد موتك وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ من منامه يقول : " الحمد لله الذي أحياني بعد مماتي وإليه النشور "
· فهيئ نفسك لمن بيده أنفاسك . وذكره إن استطعت عند كل نفس . وخاطر وهاجس إذا هجس . فأنفاسك حراسك إذا فطنت لذلك . لأنها من آثار قدرة مالك الممالك
· فمن العبث نسيانك لجليسك . ووحشتك من أنيسك كم جالسك وأنت تذكر . وكم آنسك وأنت لا تشعر . وربما كان ذلك بواسطة وبلا
· كما خلقك مستقراً ومعرضاً للبلى فالروح مستقر وما سواه فان ، وكحركاتك وسكناتك والزمان . فما بقي ذكرك البقاء . وما فنى ذكرك الفناء
· فهل وصلت حتى تتصل ؟ أم تريد أن تمد رجلك قبل الوصول ، ويدك قبل الدخول ، بل غبت وما غاب ، وتواريت بالحجاب ، وأردت الدخول من غير باب ، فكم سمعت كلامه (حتى يسمع كلام الله) ، وكم ذكرتك أيامه : (وذكرهم بأيام الله) ، فأين حل كلام منك ، وماذا نقلت أيامه عنك
يا طويل الأمل هل تستطيع أن تطيل الأجل ، حتى تصلح العمل ؟ إذا عجزت عن تطويل أجلك ، فكن قادراً على تقصير أملك ، وجاهد نفسك وقل لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا تتكاسل وتتقاعد وتقول : الأمر لله
· نعم الأمر لله ، أمرك فما امتثلت ، ونهاك فما انتهيت ، فاحكم على نفسك ببصيرتك ، ولا تعتذر بجدل قولك ، (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)
· بل أنت تشهد على نفسك بما وصفها ربك . (وإنه على ذلك لشهيد) فواعجباه أتريد شاهدا بعد نفسك ؟ أم أنت مطمئن إلى ما بعد قبرك
· لقد رجوت وما عملت . وأعرضت وما خفت (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) فمن أين لك هذا الرجاء وأنت قد غفلت عن وحي تنزل من السماء لو رفعت راسك إليه لرفعك ؟ ولكنك أخلدت إلى الشيطان فوضعك . (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض)
· ما أنت إلا كالسيف في قرابة ، أما آن لك أن تظهر هذا السيف ليظهر لك نوره . وينجلي عن قلبك ديجوره فالقراب جسمك الكثيف . الذي حجب صفاء روحك اللطيف
فلولا الغمد يمسكه لسالا
· وأسمعك من بديع إلهامه مقالاً . فأخرج روحك بآيات ربك إلى نور ربك (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) وأضئ أرض جسمك بالعمل بكتاب ربك (وأشرقت الأرض بنور ربها)
أنف عن نفسك ما سواه لترتقي . فما دخل الحضرة إلا القلب النقي . فإذا ظفرت بالنقاوة . ذقت لذكر ربك حلاوة . إذا بقلبك حلت . لحلاوة غير العبادة عنك جلت فإذا جلت عنك الأغيار أزيلت عن قلبك الأستار ز وهبطت عليه أنواع الأسرار ز عند كل نفس وحركة وقول وفعل . وحياك ابن الفارض رحمه الله بقوله
ولاح سر خفي يدريه من كان مثلي
فللشمس ضوء قبل الإشراق . وللتجلي سر قبل التلاق . فأكثر من قول لا إله إلا الله . لتعرف النفي والإثبات ز وتبدل منك الصفات بالصفات . فصفات نفسك حجاب قدسك . فمزقها بـ(لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما سمعه علم الله) لتكسى من صفات محمد رسول الله r
واعلم يا أخانا في الله ، نظر الله إلينا أجمعين بألطاف أهل ولايته ، أن هذا الذكر ثقيل على النفس لنفاسته وسرعة هدايته ، ويحصل به أمران عظيمان عليهما مدار الإصلاح ، وهما عنوان الخير والفلاح :
الأول : تمزيق الصفات النفسية . وهو أثر قولك لا إله إلا الله
والثاني : اتصافك بالصفات المحمدية . وهو أثر قولك محمد رسول الله r ؛ لأنه باب الله تعالى الموصل إلى حضرة الحب والقرب . قال سيدي أبيض الوجه البكري رضي الله تعالى عنه :
وأنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل
والإتيان من هذا الباب يكون بأمرين :
الأول : حبه r كما ينبغي
الثاني : متابعته r في الأقوال والأفعال
وكأني بك إذا أكثرت من هذا الذكر ستفتح لك أبواب ما خطرت لك ببال ، ولطالما بحثت عن ورد غير هذا طالباً ما حدثتك به نفسك ، ولقد دللناك على كنز لو فطنت له ، ولكنك لازلت تنظر إلى الجيفة على غير ما هي عليه ، ولو كشف ران قلبك لأبصرت ما أبصره العارفون ، ولوليت عنها إلى ما ابصرته بصيرتك ، وعلقت به سريرتك ، وعندي في أورادي ما يكل عنه تعبير لسانك ن وتفكير جنانك ، فإلى متى وبيننا المباينة ؟ أما آن لك أن تكون من أهل المعاينة ! فما دخلت لنا قلباً ولا خطرت لنا بخاطر ، ولقد فررنا منها حينما فر إليها غيرنا ، وكان فرارنا إلى الله (ففروا إلى الله)
واعلم أن أرض طريقنا هذا لا يسقى إلا بماء الدين الخالص (ألا لله الدين الخاص) ولا يثمر شجره إلا الكلمة الطيبة التي تصل إلى السماء (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء)
فما عبدناه سبحانه للدنيا التي هي كهشيم تذروه الرياح ، ولكن لنفحات تتنزل في المساء والصباح ، وابتغاء وجهه الكريم ، والتلذذ بقربه وحبه ومناجاته والتذلل بين يديه ، والإقبال عليه ، وشهوده شهوداً خارجاً عن المعقولات والمحسوسات والفكريات والنظريات ، فكيف اشتغلت بذكره وعبادته وما شغلك ؟.
ويقول ابن الفارض رحمه الله تعالى :
فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
يعني الحضرة الإلهية ، والتجليات الربانية ، في مقام كشف الحجاب وإزالة الأسباب . وغيبة وحضور . وفرح وحبور وصفاء ونور . في مقام الفناء لدار الغرور . وصرف القلب عن الجنات والقصور . إلى ما هو أجل وأعلى (سبح اسم ربك الأعلى) (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) وأي حسرة اشد من حسرة من فاته الإيمان . وغره الشيطان . وحرم من الطاعات واحتضن المخالفات . وحرم من لذة العبادة . وجعلها عنده كعادة وحرم من التخلي ز ومنع من التحلي . ولم يكن من أهل التجلي ؟! فإلى متى يا أخانا وأنت في سكرتك . مكبلاً بغفلتك . غرتك من طردناها ز وشغلتك من سلوناها ؟!
قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : " النفس إن لم تشغلها شغلتك " يعني إن لم يتشغلها بأوامر الله شغلتك بأوامرها وهكذا الحال . رحم الله الرجال . كيف عرفوا فأثمرت معارفهم ؟ وكيف فروا فسلمت نجائبهم ؟ وكيف كشفوا عن خفيات الأمور . لما استنارت منهم الأنفس والصدور ؟
أيها المريد نهض نفسك بنفسك
وابك على يومك وأمسك
فإلى متى يا عبد الله وأنت تسمعنا سماع المستريب فيما يسمع ؟! وعندك سيوف تلمع . لو حركتها لكانت لكل القواطع عنك تقطع . كم من ليال قد نمتها فما عادت عليك إلا بما عادت ؟ وكم من أيام فيما ليس يعنيك قد أضعتها ؟ وفي ظنك أنك أضعت الليالي والأيام
ولكنك أضعت عمرك الذي كلما مر منه يوم فليس يعود إلى يوم القيامة واراك تبكي على فلان إذا قيل مات وانقضى عمره ، ولا تبكي على عمرك وهو في كل يوم ينقص ولا يزيد ، وأخشى أن تلحق بنا مفلس الحال ، مكبل البال ، منغمساً في الاوحال ، فنهض نفسك بنفسك ، وابك على يومك وأمسك
أيها المريد ماذا تريد
من هذه الدنيا
فواعجباه منك ثم واعجباه ! ماذا تريد من جيفة يؤذيك ريحها ويثقلك أكلها . ويطغيك قربها . ويعاديك أهلها ، إن أقبلت عليها شغلتك . وأن أعرضت عنها خدمتك . وإن أهنتها أكرمتك . وإن أكرمتها أهانتك ، قولها يضحك أهلها وفعلها يبكيهم ؟!
لما كانت نعمه عليك كثيرة ، وحياتك في الدنيا زائلة وأعوامك في القبر كثيرة ، ويوم الحساب يوم طويل ، والحياة في الآخرة لا نهاية لها كان الأمر منه سبحانه موافقاً لحالك تمام الموافقة ، لأنه أمرك سبحانه بالإكثار من ذكره لا بالذكر وحده ، وحقيق أيها الإنسان إنك لفي حاجة شديدة إلى الإكثار من ذكر ربك ؛ ليكون الإكثار مدافعاً عنك أمام النقم الكثيرة والذنوب الكبيرة ، والأعوام الطويلة ، فلا تترك سلاحك وأمامك الهيجاء ، فإن مكائد الشيطان لك كثيرة ، فأعد له عدة أهل الفلاح ، وإلا يقال لك : كساع إلى الهيجاء بغير سلاح
وقد وعد الله سبحانه الذاكرين الله تعالى كثيراً والذاكرات بالمغفرة والأجر العظيم ، فبشرى ثم طوبى للذاكرين المكثرين ، تلذذوا بذكر حبيبهم وعندهم هو عين النعيم
وقد وعد سبحانه الذاكرين له بطمأنينة القلب في الدنيا والآخرة أيضاً ، والقلب يطمئن بذكر الله تعالى لأن الذاكر يذكره خالقه سبحانه ، فإذا ذكر القلب الخالق سبحانه ذكره الله تعالى (فاذكروني أذكركم) وإذا ذكر الرب عبده إطمأن القلب بذكر الله عبده ؛ لأنه أكبر من ذكرك لربك (ولذكر الله أكبر) لأنه به تحصل الطمأنينة للقلب ، وكأنه يشاهد ما وراء الغيب ، أناس قلوبهم مشغولة بالأرزاق ، وهو قلبه مشغول بالخلاق ، وهم يعملون للدنيا كأنهم يخلدون ، وهو يعمل للآخرة عمل من قيل لهم غدا ترحلون
اطمأن قلبه إلى زوال الدنيا فنظر إليها وكأنها أمامه زائلة ، واطمأن إلى الجنة ونعيمها فكأنها أمامه حاضرة ماثلة ، إذا فزعت القلوب إلى بعيد ، فزع إلى من هو أقرب إليه من حبل الوريد ، وإذا خاف الناس من عاجز بالقضاء مقهور ، خاف هو ممن بيده تصاريف الأمور ، فلا المزعجات تذهب الطمأنينة إذا استقرت ، ولا الدنيا تدخل قلبه إذا أقبلت أو تولت
متوكل على خالقه ومولاه ، واثق بما عنده عما عند سواه ، إذا بكى غيره على فإن تراه يبكي من خشية الله ، وإذا اشتاق غيره إلى الأغيار شاقه ذكر الله ، نهاره كليلة وليله كنهاره ، يزيل عن سبل سعادته ما حفت به من مكاره ، فلا تصطاده النار بمصائد الشهوات ، ولا تخدعه النفس بما لها من رغبات
وكيف لا يكون كذلك وقد ذكره الحق سبحانه فأخذ في الأسباب فدخل حضرة الأحباب ، والأحباب لا يحبون ما يكره حبيبهم بل يكرهونه ، والأحباب يحبون ما يحب حبيبهم بل ويوقرونه
ولما كانوا كذلك سمواً أحباباً ، وشربوا من شراب الحب أكوابا ، ذكرهم شعارهم ، وحبهم دثارهم ، جذبتهم يد العناية فهم المجذوبون واحتضنتهم الهداية فهم المهديون ، كم سهروا من ليل وكم ركبوا للجهاد من خيل ، عباد بالليل وفرسان بالنهار ، فطناء أذكياء لا يخدعهم خداع ولا تعطلهم عن جهادهم أوجاع ، لا يبالي أحدهم أشبع أم جاع ؟ أضاءوا الكون بأنوارهم ، ونفعوا الخلق بأسفارهم ، وكانوا لله في أسفارهم ، وعمرو الدنيا بأذكارهم ، لهم بالنهار جولات ، وبالليل حضرات ، رحم الله بهم عباده وهدى بهم ، وجعل الإخلاص في قلوبهم ، ذكر الله تعالى شعارهم ، والحياء دثارهم ، والتوحيد عقيدتهم ، والجهاد بغيتهم ، والإسلام دعوتهم ، والقرآن إمامهم ، والنبي r حبيبهم وقدوتهم
حديث شريف
وبالإجازة المباركة والسند المتصل إلى الحافظ المحدث الشريف السيد أحمد بن إدريس إلى الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله r : " حبب إلى من دنياكم ثلاث : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة "
قال العالم الصوفي الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندري المالكي رحمه الله : قرة العين بالشهود على قدر المعرفة بالمشهود ، والنبي r لم تقر عينه إلا بالله تعالى ولذلك قال في الصلاة ولم يقل بالصلاة
الشيخ صالح الجعفري رضي الله تعالى عنه : الصلاة حبيبة الأرواح ، وفيها مناجاة حبيبها وتنزلات فيوضات المناجاة والتجليات ، وهي عرس الأرواح ، ومهبط الريحان والراح ، وحق للعيون أن تقر بها ، لأن فيها القرب من ربها
فعليك يا أخانا بالإقبال عليها فرضا ونفلا ، لتنال بها ما ناله المصلون الذين خشعوا لربهم في صلواتهم ، فنالوا من ربهم فلاح المفلحين ، وإنابة المخبتين ، أفق يا عبد الله من غفلتك ، وقدم في حياتك لآخرتك
حكم من فضل الله تعالى
قد من الله تعالى بها على بإلهام منه
· ظلمت فأظلمت فهل لك أن تعمل بمنار ربك حتى يستنير قلبك ؟
· وعدلت عن الحق فاعوج سبيلك . فهل لك أن تعدل حتى يعتدل مسيرك ؟
· ظللت تحت ظلال جهلك . وأخلدت إلى أرض نفسك وما استظلك بظل سيفك . حتى تخلد بأرض أكلها دائم وظلها
· ألفت راحتك . وما مددت لفقير راحتك . فلو استوت سفينتك على جودي صفا سريرتك . لوقف إحدى الوقفتين . ورجوت إحدى الحسنيين . مع الذين عرفهم ربهم فعرفوه من " ألست " فدعاهم إلى عرفات فتعارفوا بمن عرفوهم يوم أن كانوا جنوداً مجندة
· والذين وقفوا أمام عدوهم . فاستوى عندهم سيل دماء عدوهم مع سيل دمائهم إذ بالأول معزة دينهم . وبالثاني جنة ربهم
· فلا تمل فتمل إذ الملل من الخلل
· فتخل لتخلو وتتحلى فما تحلى غير خال . ثبت في ميدان التجلي مع الرجال
· فلما تجلى للقلوب الخالية عن غيره تزاحمت على حبه للعاشقين له مطامع لو أظهرها لأنكرها . ومن أجل ذلك نكروها فجلسوا على كراسي مراسي النهايات (إلى ربك منتهاها)(كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) غذاؤكم ودواؤكم وشفاؤكم (الله نزل أحسن الحديث كتابا)
· فإذا لأن قلبك بذكر ربك فلا ريب أن يلين لك الحديد الذي هو جوارك . إن جوارحك كبستان فيه من كل الثمرات . وقرآن ربك هو عينه بما أفاد ونهى وأمر . فمن لا قرآن عنده لا حديقة له ولا ثمر فالجنة الثانية بالجنة الأولى "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا . قالوا يا رسول الله ... وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر " . (وللآخرة خير لك من الأولى)
· جنة الخلد خير من جنة الدنيا ، لأنك تنال فيها شيئين عظيمين :
الأول : (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)
الثاني : " أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا" (ورضوان من الله أكبر)
· فإذا قمت من نومك . فقد أقامك الذي قوم قوامك . فهو الذي أحياك بعد موتك وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ من منامه يقول : " الحمد لله الذي أحياني بعد مماتي وإليه النشور "
· فهيئ نفسك لمن بيده أنفاسك . وذكره إن استطعت عند كل نفس . وخاطر وهاجس إذا هجس . فأنفاسك حراسك إذا فطنت لذلك . لأنها من آثار قدرة مالك الممالك
· فمن العبث نسيانك لجليسك . ووحشتك من أنيسك كم جالسك وأنت تذكر . وكم آنسك وأنت لا تشعر . وربما كان ذلك بواسطة وبلا
· كما خلقك مستقراً ومعرضاً للبلى فالروح مستقر وما سواه فان ، وكحركاتك وسكناتك والزمان . فما بقي ذكرك البقاء . وما فنى ذكرك الفناء
· فهل وصلت حتى تتصل ؟ أم تريد أن تمد رجلك قبل الوصول ، ويدك قبل الدخول ، بل غبت وما غاب ، وتواريت بالحجاب ، وأردت الدخول من غير باب ، فكم سمعت كلامه (حتى يسمع كلام الله) ، وكم ذكرتك أيامه : (وذكرهم بأيام الله) ، فأين حل كلام منك ، وماذا نقلت أيامه عنك
يا طويل الأمل هل تستطيع أن تطيل الأجل ، حتى تصلح العمل ؟ إذا عجزت عن تطويل أجلك ، فكن قادراً على تقصير أملك ، وجاهد نفسك وقل لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا تتكاسل وتتقاعد وتقول : الأمر لله
· نعم الأمر لله ، أمرك فما امتثلت ، ونهاك فما انتهيت ، فاحكم على نفسك ببصيرتك ، ولا تعتذر بجدل قولك ، (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)
· بل أنت تشهد على نفسك بما وصفها ربك . (وإنه على ذلك لشهيد) فواعجباه أتريد شاهدا بعد نفسك ؟ أم أنت مطمئن إلى ما بعد قبرك
· لقد رجوت وما عملت . وأعرضت وما خفت (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) فمن أين لك هذا الرجاء وأنت قد غفلت عن وحي تنزل من السماء لو رفعت راسك إليه لرفعك ؟ ولكنك أخلدت إلى الشيطان فوضعك . (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض)
· ما أنت إلا كالسيف في قرابة ، أما آن لك أن تظهر هذا السيف ليظهر لك نوره . وينجلي عن قلبك ديجوره فالقراب جسمك الكثيف . الذي حجب صفاء روحك اللطيف
فلولا الغمد يمسكه لسالا
· وأسمعك من بديع إلهامه مقالاً . فأخرج روحك بآيات ربك إلى نور ربك (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) وأضئ أرض جسمك بالعمل بكتاب ربك (وأشرقت الأرض بنور ربها)
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin