02 - فص حكمة نفثية في كلمة شيثية الجزء التاسع
أما ترى قوله تعالى :" يُريدُ اللهُ بكُمُ الْيسْر ولا يُريدُ بكُمُ الْعسْر" [البقرة: 58 ] . ورد في الخبر الصحيح : "دين الله يسر"
وأي يسر، ثم من المشي على مقتضى الطبيعة الصرفة بلا تحجير، فإذا عاد الأمر إلى الإطلاق كما بدأ أولا عادت العادة عبادة، كما أن اليوم العبادة عادة، فإن الدين عادة،(فعليهم تقوم الساعة): أي على أهل الإطلاق المذكور تقوم الساعة.
قال الله تعالى :"إنّ السّاعة آتيةٌ أكادُ أخْفِيها" [ طه: 15]، لولا أن الإخفاء جاء لغة بمعنى: الإظهار، لما أظهرنا لهذه المسألة عينا، و لكن لما أظهرها تعالى بالكناية تارة، و بالإشارة مرة، وبالعبارة تارة أخرى اقتداء به، و اقتفاء بهدي نبيه، و الله المستعان.
واعلم أنه ذكر الشيخ رضي الله عنه في وصل تاسع عشر من خزائن الجود:
وقال تعالى: إنّ اللّه لا يغِّيـرُ ما بقوْم حتّى يغِّيـرُوا ما بأنْـفُسِهِمْ وإذا أراد اللّهُ بقوْم سُوْءاً فلا مردّ لهُ وما لهُمْ مِنْ دُونهِ مِنْ والٍ [ الرعد: 11] .
إن عيسى عليه السلام ختم الولاية العامة آخر متعلم، وآخر أستاذ لمن أخذ عنه، ويموت هو وأصحابه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في نفس واحد بريح طيبة، تأخذهم من تحت آباطهم يجدون لها لذة كلذة الوسنان الذي أجهده السير.
وأتاه النوم في السحر، فيجدون للموت حلاوة ولذة لا يقدّر قدرها رعاع، كغثاء السيل أشباه البهائم، فعليهم تقوم الساعة.انتهى كلامه رضي الله عنه.
فالجمع بين ما في الفتوحات و بين ما نحن فيه من الفصوص هو أن يكون هلاك الطائفتين في زمان واحد مع اختلاف الأمكنة، هذا في الصين و ذاك في ديار العرب لأن هبوب ذلك آخر الآيات المؤذنة بقيام الساعة، فافهم .
ثم نرجع إلى بيان ما نحن بصدد بيانه و نقول :
اعلم أن الله تعالى خلق العالم على قسمين: آفاقيا، و أنفسيا.
و جعل جميع ما خلق في الآفاق له نظير في الأنفس، بل جعل الأنفس نسخة منتخبة مختصرة جامعة لجميع ما في الآفاق، مع أمر لم يكن فيه، و دفن فيها.
وهو الأمانة المشار إليها في القرآن، فالأنفس خزائن لها، ثم أمرنا بالتفكّر لوجدان ذلك في أنفسنا، و بشّرنا بأنه يرينا آياته في الآفاق، و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .
فمن جملة ما خلق من النظائر خلق في الآفاق قيامة و ساعة و أشراطها.
كذلك في الأنفس خلق ذلك كله، و ذكرها في القرآن بلسان الإشارة .
و ورد في الأحاديث كذلك، فأريد أن أذكر بعضها لتكون على بصيرة فيما نريد أن نبيه من إشارات الحاتمي الخاتمي في هذا المتن، و نختم به الأمر إن شاء الله .
فاعلم أيدك الله و إيانا بروح منه أن القيمة في الآفاق هي القيامة التي يجمع الله الأولين و الآخرين فيها، فما تقوم هذه القيامة إلا بين يدي أشر أطماع، يموت الخلق طرا أجمعون ومن في السماوات والأرض جميعا، والتنبيه عليه في الكتاب قوله تعالى :" كُل نفْسٍ ذائقةُ الموْتِ" [ آل عمران: 185] .
وذلك بفناء كل أهل كل دورة واحدة لا يتصف بالنهاية، فنحن فرضنا فيه البدء والنهاية والعود و الرجوع بالفرض. انتهى كلامه .
فافهم الإشارة إن كنت فهيما، فالعالم دوري و أحكامه دورية، و إلى هذا أشار صلى الله عليه و سلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات و الأرض".
فيلتحق أهل كل دورة مفروضة بعضه بعضا في موطن من المواطن، سمّاه الشارع بيوم القيامة، وهو اليوم الموعود، وفيه جمع شاهد و مشهود، وإنما ذهبنا بالقول بالدورة واستشهدنا بالحديث الشريف لأنه قد أخبرنا سبحانه عن نفسه الكريمة على لسان أكمل التراجم علما، وأوسعهم وجودا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: "كُلّ يوْم هُو في شأنٍ" [ الرحمن : 29]، فنكر اليوم و الشأن ليشمل و يعم .
فهذه أيام الله لا تزال هذه الأيام دائما، فلا يزال الخلاف دائما، و قد أثبت دوام هذه الأيام، فقال تعالى: "خالدِين فيها ما دامتِ السّماواتُ والْأرضُ"[ هود: 107]، و خلودهم لا يزال فريق في الجنة، وفريق في السعير لا يزال لأنهم خالدون فيها، فأيام الله لا يزال .
وورد في الحديث الصحيح: "ليس شي ء من الإنسان إلا يبلي إلا عظما واحدا، وهو عجب الذنب ومنه يرّكّب الخلق يوم القيامة". رواه أبو هريرة رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع .
فإذا جاز في ممكن من الممكنات بقاؤه، فيمكن أن يكون له إفراد كثيرة بهذا الحكم، فافهم و لا تجادل فإنّ مطل الغنى ظلم، قال تعالى:" كُل شيْءٍ هالكٌ إلّا وجْههُ "[ القصص: 88]، و كل شيء موجود نشاهده حسيا، و نعلمه عقلا، و ليس بهالك، فكل شي ء بوجهه و وجه الشيء حقيقته، فما في الوجود إلا الله، و إن تنوعت الصور.
و ذلك أحكام التجلي لا المتجلي فإنه ورد في الحديث إنه يتنوع فيعرف و ينكر لأنه كل يوم هو في شأن، فنكر للعموم و الشمول.
فذلك قال له الحكم : ( و إليه ترجعون ): أي من يعتقد أنّ كل شي ء جعلناه هالكا، و ما عرف ما قصدناه من الآية إذا رآه ما يهلك منه، و يرى بقاء عينه بالهلاك، فهو وجهي، فعلم أن الأشياء ليست غير وجهي، فإنها لا تهلك، فردها إلىّ حكما .
قال الشيخ رضي الله عنه في الفصل الرابع من خزائن الجود من الفتوحات:
"إنّ هذا المعنى الذي ذكرناه آنفا معنى لطيف، يخفي على من لم يستظهر القرآن، و قد رميتك على الطريق لتعلم ما الأمر عليه ". انتهى كلامه .
ورد في الحديث الصحيح :" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة حتى يأتي أمر الله" الحديث .
و في رواية : " لن تزال طائفة من أمتي " الحديث .
و ورد في الحديث أيضا :
"لن تخلو الأرض من ثلاثين مثل إبراهيم الخليل عليه السلام، بهم تغاثون، و بهم ترزقون، و بهم تمطرون" ذكره ابن حبان في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله عنه .
و ورد في الخبر :
" لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة" رواه مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع .
و ذهب ابن بطال: إنه ليس المراد أنّ الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شي ء لأنه ثبت أنّ الإسلام يبقى إلى يوم القيامة، ذكره السخاوي في كتاب القناعة .
و قال رضي الله عنه: إنّ الدين باق إلى يوم القيامة، و لم ينسخ و القطب قيومه، و لا يصحّ هذا الاسم: أي القطب إلا أن يكون ذا جسم طبيعي و روح، و يكون موجودا في
هذه الدار الدنيا بجسده و حقيقته، فهو الذي يحفظ به هذا النوع الإنساني، و هو موجود في هذا النوع في هذه الدار بجسده و روحه، يتغذّى و هو مجلي الحق من آدم إلى يوم القيامة .
ثم قال رضي الله عنه فيها: إن هذه المسألة كلية فاعرف قدرها، إنك لست تراها في كلام أحد، و لو لا ما ألقي عندي فيإظهارها ما أظهرتها لسرّ يعلمه الله، و لا يعرف ما ذكرناه إلا نوّابهم خاصة لا غيرهم من الأولياء، فكونوا لها قابلين مؤمنين، و لا تحرموا التصديق بها، فتحرموا خيرها، و تجمعوا بين الحرمانين. انتهى كلامه رضي الله عنه .
فالقائل ببقاء العالم كافر بقوله تعالى: "كُل شيْءٍ هالكٌ إلّا وجْههُ" [ القصص: 88]، و جاهل بالحديث الشريف : "كان الله و لا شيء معه" و زاهل بملحقه، و هو الآن كما كان، و غافل عن تجدّد الأمثال .
و القائل بفناء العالم جاحد قوله سبحانه: "و يبقى وجْهُ ربِّك ذو الجلالِ والِإكْراِم" [ الرحمن: 27] لأنه وجه كل شيء كما أنّ كل شيء وجهه فهو وجه العالم في الوجود، و العالم وجهه في الظهور عند الرؤية و الشهود.
فالكل بحمد الله وجوه حسنة، و ما ثم في الوجود إلا الله، فله دوام الحمد و الثناء في الآخرة و الأولى، فافهم ذلك بالذوق الحال، فإنّ فهمه بالنظر و الخيال محال .
و قد علمت من الأحاديث أنّ القيامة الكبرى لها أشراط كخروج الدجّال، و يأجوج و مأجوج و أمثالها، و أمّا القيامة الصغرى فانتقال العبد من حياة الدنيا إلى حياة البرزخ في الجسد الممثل، فهو انتقال و مرور من حال إلى حال بالجذبة الإلهية و العناية الرحمانية، يحكم تربية الحكيم العليم سواء كان سالكا مجذوبا، أو مجذوبا سالكا و بلا سلوك .
فإنّ الجذبة: هي العناية، فلهذا جذبة من جذبات الرحمن توازن عمل الثقلين لأنّ العمل للجذبة، و الجذبة ليست له، و هي بهتة الكشف، و فجأته الشهود، فإذا جاءت الساعة بغتة أفنى وجود السالك عن نظر شهوده في المشهود فجأة، فيرى جبال وجوده تمرّ مرّ السحاب التي كان يحسبها جامدة، فإذا فني و مات موتة معروفة عند أهلها، فقامت قيامته التي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه و سلم بقوله : "من مات قامت قيامته"
فانكشف الغطاء و انحدّ البصر، و رأى المؤثر في الأثر، وأدرك بعيون البشر، و ربح من أمن، و خسر من كفر .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه: و من كان من أهل الرؤية التي تقع لكل واصل .
أما ترى إشارة قوله صلى الله عليه و سلم: » إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا « رواه أبو إمامة رضي الله عنه في جمع الجوامع .
و ذكر فيه أيضا حديثا آخر وهو هذا :"قال: يا موسى لن تراني إنه لن يراني حيّ إلا مات، و لا يابس إلا تذهب، و لا رطب إلا تفرق، إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم و لا تبلى أجسادهم ". رواه الحكيم عن ابن عباس رضي الله عنهما في جمع الجوامع .
و قد وقعت له صلى الله عليه وسلم: "رأى ربه بعين رأسه". رواه ابن عباس رضي الله عنهما .
و شهد له الحق بذلك حيث قال تعالى: "ما كذب الفُؤادُ ما رأى" [ النجم :11]، و قال: "ولقدْ رآهُ نزْلةً أخْرى" [ النجم: 13] .
فإن كان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم مقولة: (حتى تموتوا) هو: الموت الطبيعيّ الاضطراري فلم يصح، (لن ترون) بالتأكيد و بتأييد التأكيد، و هو صلى الله عليه و سلم صادق في قوله: (رأى) قبل الموت الطبيعي الاضطراري في دار الدنيا عند الموت الاختياري الكمالي، بل ثبت
بالدليل إمكان الرؤية لكل أحد بل قطع بالرؤية أهل الكشف، و الرؤية في دار الدنيا بالموتة الأولى، فإن الرؤية في الدنيا رحمة عاجلة لأهل العناية بل ما أنكرها إلا شرذمة قليلون كالحكماء، و من تبعهم من المعتزلة، و الذين لا بغيابهم و بكلامهم، فعرفنا أنّ الموت في الحديث هو الموت الكمالي الاختياري، و قد وقع، و ورد في الخبر :" موتوا قبل أن تموتوا "
و ورد أيضا :" من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى ابن أبي قحافة«
و قال تعالى بشارة لحبيبه و نبيه، و إدخال السرور في خلاصة خواص أمته:" إنّك ميِّتٌ وإنّـهُمْ ميِّتون" [ الزمر: 30] .
فهذه الميتة الأولية، و الصعقة الأولى يا من مسّ الصعقة الأولى، ويدخل في حكم استثناء الآية حيث قال سبحانه: "فصعِق منْ في السّماواتِ ومنْ فِي الْأ رضِ إلّا منْ شاء اللّهُ" [ الزمر: 68] .
وإلى هذا أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: » أرى موسى واقفا ولا أدري هل صعق في الدنيا، ولم يصعق في الآخرة «
وهو قوله تعالى: و خرّ مُوسى صعِقاً [ الأعراف: 143]، فبهذا الاعتبار يكون موسى ممن دخل في حكم هذا الاستثناء، و هكذا شهداء هذه الأمة فإنهم كأنبياء بني إسرائيل .
ورد في الحديث أنه صلى الله عليه و سلم قال : " سألت جبريل عن هذه الآية: من الذي لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: هم شهداء الله "
. رواه أبو هريرة رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع . و بين صلى الله عليه و سلم معنى الشهد في حديث أخر حيث قال صلى الله عليه و سلم: "شهداء الله أمناء لله على خلقه قتلوا أو ماتوا ".رواه أحمد من رجال الصحابة رضي الله عنهم، ذكره في جمع الجوامع .
فهمت من هذا أن الشهداء ليس على معناه المعروف خاصة، بل يشمل الذين صعقوا و ماتوا موتتهم الاختيارية، فشهدوا الحق و رأوه بعين رأسهم، و حفظوا هذا السرّ عن نظر العوام .
كما ورد في الحديث : "سترون ربكم عيانا". عن جرير رضي الله عنه ذكره في جمع الجوامع .
فإذا عرفت هذا المذكور، فنرجع و نقول في بيان المتن: إنه قال رضي الله عنه: فعليهم تقوم الساعة: أي على الذين لا يقيدهم العقل، ولا يتقيدون بالشرع المقيد وهم أهل إطلاق صرف من أرباب الحيرة و الهيمان .
ورد في الحديث :" إن الله خلق الإنس ثلاثة أصناف:
صنف كالبهائم، قال الله تعالى: لهُمْ قُـلوبٌ لا يفْقهُون بها ولهُمْ أعْينٌ لايـبْصِرُون بها ولهُمْ آذانٌ لايسْمعون بها أولئك كالْأنعاِم بلْ هُمْ أضل [ الأعراف: 179] .
الحديث رواه أبو الشيخ في العظمة عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع . فعلى الذين كالبهائم تقوم الساعة فافهم.
فجاءتهم بغتة الكشف فجاءتهم حيرة و بهتة، وأذهلهم ذلك الوارد عن أنفسهم، ثم أبقى الله هذا الحال، والوارد مشهودا لهم في دار الدنيا، وجعل لها حكم دار الدنيا كحكم دار الآخرة، كما للعموم في دار الآخرة، فماتوا وانتقلوا من حال إلى حال حياة الدنيا إلى حياة الآخرة، و تبدّل عليهم الأحكام بتبدّل الدار، و السماوات مطويات بيد الملك القهّار، والحق يقول في آخر الأمر عند ظهور غلبة الأحدية على الكثرة في القيامتين الكبرى والصغرى، الحاصلة للسالكين عند التحقّق بالوصول عقيبة انتهاء السير و حال الانسلاخ .
قال تعالى: "لمنِ المُلْكُ اليوْم للّهِ الواحِدِ القهارِ" [ غافر: 16].
تلْك الدّ ارُ الْآخِرُة نجْعلها للّذِين لايريدُون علوًّا في الْأرضِ ولا فساداً والعاقبةُ للْمُتّقِين [القصص: 8]، فهم بقيامهم عن أنفسهم لا يعرفون للعلو طعما .
قال رضي الله عنه: لمّا بدّلت الصفة من دار الدنيا فصارت بهذا التبديل آخرة مع بقاء العين، و من لا علم له بهذا في ظلمة الحيرة. انتهى كلامه رضي الله عنه .
أما ترى إشارة الحديث الشريف: " قد مات كسرى فلا كسرى بعده "الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع .
فما زال الملك ولا المليك ولكن ارتفع الاسم باسم آخر مع وجود الملك والمليك، فافهم .
قال تعالى: "يسْئلونك عنِ السّاعةِ أيّان مُرْساها فيم أنت مِنْ ذكْراها .إلى ربِّك مُنْتهاها" [ النازعات: 42: 44] .
فافهم إشارة الآية فإنه منتهى كل شيء، قال تعالى:" قدْ أحاط بكُل شيْءٍ عِلْماً" [ الطلاق: 12]، فقد أحاط بكل شيء وجودا لأن علمه عين وجوده وذاته، تقوم تلك
الساعة يوم تبدّل الأرض غير الأرض، والسماوات، وبرزوا بأنفسهم ظاهرين على الله تعالى بأحكام الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم بأسره، و بشّر البشير بهذه البشارة على سبيل الإشارة .
و قال صلى الله عليه و سلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" الحديث وهو الظهور على الحق تعالى بحكم الطبيعة.
و بروز الأصل على صورة الفرع بلا فصل، فرجعوا إلى البداية على حكم الطبيعة، و رجحت إليهم العادة عبادة فأضاعوا الصّلات، و اتبعوا الشهوات.
و لم يلقوا غيا لأنهم على بصيرة فيه، فليسوا ممن اتبع هواه بغير علم، و ذلك أمر ذوقي، و علوم الأذواق لا تقال و لا تحكى، فلا يعرفها إلا من عرفها و ذاقها،و ليس في الإمكان أن يبلغها من ذاقها إلى من لم يذقها، فلا يقبل التعريف و التوصيف بل حكم تظهر لأهلها لا يجليها لوقتها إلا هو، يتجلى لهم بصور الأشياء و معانيها و هو عينها، فكيف البيان عنها؟ فلا يعلم ذلك إلا الله لا يوصّ لها شرع بأخبار و تعريف .
وذلك قوله تعالى: "إنّما عِلْمُها عِنْد اللّهِ" [ الأعراف: 187]، و قد أعلم الله بالتعريف لبعض الناس، وهو من ارتضى من رسول بأن هذا علم لا يقبل التعريف ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر هكذا، فلهذا يسألون .
و ورد في الخبر :
"إن جماعة سألوه عن الساعة، فقال صلى الله عليه وسلم: علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو و لكن سأخبركم بمشاريطها، وما يكون بين يديها: إن بين يديها فتنة و هرجا، قالوا: يا رسول الله الفتنة قد عرفناها، فالهرج ما هو؟
قال: هو بلسان الحبشة: القتل، ويلقي بين الناس التناكر، فلا يكاد أحد يعرف أحدا " رواه أحمد بن حنبل، و ضياء المقدسي في المختارة عن حذيفة رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع .
فأمر الساعة ذوق يشبه بالعلم بالذات، و العلم بها محال بغيره كذلك هنا، فإذا قامت القيامة الصغرى، و جاءتهم الآية الكبرى التي ثقلت في السماوات العلا، فأتاهم أمر الله بغتة، و أفناهم عن أنفسهم، و ظهر حكم الصعق فيهم، و أزال عنهم التدبير، و أقامهم بأحكام التقدير فإذن انكشف لهم حقيقة الأمر، و عاينوا الأمر على ما هو عليه الأمر في نفس الأمر .
قال رضي الله عنه :
إذا جاء أمر الله فالأمر الأمر ...... و ذلك توحيد إلى من له الأمر
ورد في الخبر: "أما ترى أنها ما تقوم على مؤمن ". ذكره السخاوي .
و في لفظ:" لا تقوم الساعة و في وجه الأرض من يقول: الله الله "
قال رضي الله عنه في الفصل الرابع في فلك المنازل من الفتوحات:
في بيان الحديث الشريف: (لا تقوم الساعة على من يقول الله الله ): فإن الله تعالى أمسك صورة السماء و الأرض أن تزولا و تقعا لأجل هذا الإنسان المؤمن الموحّد الذي مجيره الله، و إن هذا هو الذكر الأكبر: أي الذي أكبر من لا إله إلا الله، فصاحب هذا الذكر هو الإمام الذي يقبض آخرا، و تقوم الساعة و تنشق السماء، و تتبدّل الأرض غير الأرض .انتهى كلامه .
فإذا عرفت أن أمر الساعة ذوقي لا يقبل التعريف فاذكّر بمشاريطها، و ما يكون بين يديها إن بين يديها فتنة لم يكن مثلها فتنة .
ورد في الحديث أنه قال صلى الله عليه و سلم في أثناء الخطبة:
أيها الناس: إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجّال إنه يقول: أنا ربكم الحديث «، و هكذا الأمر في الأنفس، فإذا ادّعى السالك قبل الفناء مدع كذّاب.
كما قال الشيخ ابن الفارض يخاطب نفسه :
وها أنت حيا ..... إن تكن صادقا
ورد في الحديث:" الشقيّ من أدركته الساعة حيا لم يمت" رواه الديلمي عن ابن عمر رضي الله عنهما، ذكره في جمع الجوامع
لأنه إلى الآن ما بلغ رشده، و لا نال مبلغ الرجال، و شرطه الموت و فناء الفناء .
و قال التلمساني قدّس سره أيضا من هذا الذوق :
نحن قوم متنا وذلك شرط في بقائها فلييئس الأحياء فهو إن ادّعى قبله فكذّاب دجّال، أما ترى إشارة ذلك في تتمة الحديث و هي : " لن تروا ربكم حتى تموتوا "
و في آخر الحديث يشير صلى الله عليه و سلم إلى علة ذلك إنه أعور العين اليسرى، و بيان ذلك أن السالك قد يكون صاحب إيمان يسمّى في الاصطلاح ذا العقل وذلك محجوب أكمه.
وإذا فتح له قد يفتح له عين واحدة تسمّى ذا العين، و هو الذي يرى الحق في الخلق، فهو مفتون ولا تصحّ دعواه، بل دعواه تكون مكرا واستدراجا، وكذبا و زورا وخداجا، كدجال و غيره من الفراعنة و الدجاجلة .
أما ترى أنه قال صلى الله عليه و سلم: "إنه أعور"
و العورة هي: الميل، و منها بيوتنا عورة: أي مائلة عن الاستقامة، و منها الأعور لأنه مال نظره إلى جهة واحدة، فهذان القسمان و لو كانا صاحبا جمع و بعين واحدة.
فإن الأول يرى الحق و لا يرى نفسه.
والثاني يرى نفسه ولا يرى الحق، فالفرق بينهما شتان، وهما مسيحان.
ولكن الأول مسيح الرحمن.
والثاني مسيح الشيطان.
و بالموت يحصل الكمال، و هو الجمع بين المشهدين فيسمّى ذا العينين .
قال تعالى: "فبصرك اليوْم حدِيدٌ" [ ق: 22]، يرى بالحق الجمع بعين الفرق، و يرى الفرق بعين الجمع، و لا يمنعه شهود أحدهما عن الآخر.
فهو فان عن النفس، و باق بالعين، فهو ذو العينين الذي هداه الله النجدين .
قال رضي الله عنه في الفتوحات:
إن أعظم الفتن التي أفتن الله بها الإنسان تعريفه إياه بأنه خلقه على الصورة ليرى هل تقف مع عبوديته و سواد وجهه، أو يزهو الأجل مكانه و مكانته؟
إنه تعالى ما أظهر الصورة على الكمال:
أي بخرق حجاب سر الجمعية العامة الكبريائية، حتى يشاهد ألوهية الحق سبحانه دون ألوهيته، فإن الصورة الكاملة الإلهية لا يلحقها ذم بكل وجه، وهذا لا يكون إلا عند فناء الفناء، ويبقى وجه ربك، فهو المتكلم و المؤثر على لسان عبده و بعبده.
و هو فان عن نفسه و ذاته، كما أخبر عنه صلى الله عليه و سلم عن هذا المقام بقرب الفرائض عندهم، و هذا أول قدم في الشريعة.
فإن الشارع أول ما أتى به: (لا إله إلا الله )، فلا يجيبه إلا من خرق ذلك الحجاب، و من نقص عن هذا المقام الكمالي فلحق بفرعون و دجال، و كان في حقه مكرا إلهيا من حيث لا يشعر، فافهم .
و أمّا اعتبار نزول عيسى عليه السلام في الأنفس هو ظهور الروح الأعظم، و ظهور أحكامه عند قرب الساعة للسالك.
فبينما يكون السالك في هرج و مرج في أمواج الفتن، كالحال كرؤية الألوهية لنفسه، و إظهار خوارق العادات والتأثير في الأرض والسماوات، إنها فتنة عمياء صماء لأن آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الجاه.
فإذا بعث الله الروح روح وراحة، فبشهوده حسم الخصومات و خصم الشهوات، و ترفع الشحناء و التباغض، و تنطفئ نيران غلبة النفس وشهواتها باستيلاء النفس الروح عليها، و اندراجها و اندماجها فيه، فإنه لها برد و سلام .
و أشار في الحديث مثل هذا، فإنه ورد في الحديث الطويل :" إذا نزل عيسى عليه السلام فأمّهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء" .
اعتبار ذلك في الأنفس أنه شهود و فناء، فتنقلب النفس و أحكامها، و تذوب في العلم فتعرف نفسها، فإذا عرفت نفسها فتنقلب سفساف أخلاقها كراما، فهو مقرّر لا ناسخ.
بل يلحق السفاف بالمحامد بتعين المصارف، و تبين مصادرها ومواردها، كما قيل: غاضت ثم فاضت، فلا هي هي ولا هي غيرها .
أما ترى إشارة الحديث: (إنه يذوب )، و لم يقل: يعدم أو يهلك لأن الذوبان من عالم الفساد ترك صورة وخلعها، ولبس صورة أخرى كان لصوره ملح تركها، و تلبس بصورة الماء و العين باقية ما انعدمت، و هكذا الأمر هنا.
و لم يقل: إن أحكام البشرية تزول بل ما زال البشر عن بشريته، و إن فنيت عن شهوده فعين وجوده باقية، بل الحد يصحبه .
أما ترى إشارة قوله تعالى: " قلْ إنّما أنا بشرٌ مِثْـلكُمْ" [ الكهف: 110]، فإن البشرية لم تزل ولا تزول أبدا .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه: إنما قلنا البشرية في الفناء لا تزول لأني سمعت بعض الشيوخ يقول: هذا حظ البشرية، فإذا زال عن بشريته كان حكمه حكما آخر، و الأمر ليس كذلك، فلما تحقق ما ذكرناه رجع عن هذا الاعتقاد.
وقال: ما كنت أظن أن الأمر هكذا، فإنه تكلم في شرح آية: "و ما كان لبشرٍ أنْ يكلمهُ اللّهُ إلّا وحْياً أوْمِنْ وراءِ حِجابٍ أوْ يُـرْسِل رسُوًلًا فيوحِي بإذْنهِ ما يشاءُ إنّهُ على حكِيمٌ" [ الشورى: 51]، وغلط فيه.
ذكر رضي الله عنه هذه المسألة في الباب الموفي خمسين وثلاثمائة من الفتوحات:
فبهذه الطائفة هم الأبدال حقّا لأنهم بدّلوا أسفاف الأخلاق بأخلاق الخلاق، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات .
أما ترى قوله تعالى :" يُريدُ اللهُ بكُمُ الْيسْر ولا يُريدُ بكُمُ الْعسْر" [البقرة: 58 ] . ورد في الخبر الصحيح : "دين الله يسر"
وأي يسر، ثم من المشي على مقتضى الطبيعة الصرفة بلا تحجير، فإذا عاد الأمر إلى الإطلاق كما بدأ أولا عادت العادة عبادة، كما أن اليوم العبادة عادة، فإن الدين عادة،(فعليهم تقوم الساعة): أي على أهل الإطلاق المذكور تقوم الساعة.
قال الله تعالى :"إنّ السّاعة آتيةٌ أكادُ أخْفِيها" [ طه: 15]، لولا أن الإخفاء جاء لغة بمعنى: الإظهار، لما أظهرنا لهذه المسألة عينا، و لكن لما أظهرها تعالى بالكناية تارة، و بالإشارة مرة، وبالعبارة تارة أخرى اقتداء به، و اقتفاء بهدي نبيه، و الله المستعان.
واعلم أنه ذكر الشيخ رضي الله عنه في وصل تاسع عشر من خزائن الجود:
وقال تعالى: إنّ اللّه لا يغِّيـرُ ما بقوْم حتّى يغِّيـرُوا ما بأنْـفُسِهِمْ وإذا أراد اللّهُ بقوْم سُوْءاً فلا مردّ لهُ وما لهُمْ مِنْ دُونهِ مِنْ والٍ [ الرعد: 11] .
إن عيسى عليه السلام ختم الولاية العامة آخر متعلم، وآخر أستاذ لمن أخذ عنه، ويموت هو وأصحابه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في نفس واحد بريح طيبة، تأخذهم من تحت آباطهم يجدون لها لذة كلذة الوسنان الذي أجهده السير.
وأتاه النوم في السحر، فيجدون للموت حلاوة ولذة لا يقدّر قدرها رعاع، كغثاء السيل أشباه البهائم، فعليهم تقوم الساعة.انتهى كلامه رضي الله عنه.
فالجمع بين ما في الفتوحات و بين ما نحن فيه من الفصوص هو أن يكون هلاك الطائفتين في زمان واحد مع اختلاف الأمكنة، هذا في الصين و ذاك في ديار العرب لأن هبوب ذلك آخر الآيات المؤذنة بقيام الساعة، فافهم .
ثم نرجع إلى بيان ما نحن بصدد بيانه و نقول :
اعلم أن الله تعالى خلق العالم على قسمين: آفاقيا، و أنفسيا.
و جعل جميع ما خلق في الآفاق له نظير في الأنفس، بل جعل الأنفس نسخة منتخبة مختصرة جامعة لجميع ما في الآفاق، مع أمر لم يكن فيه، و دفن فيها.
وهو الأمانة المشار إليها في القرآن، فالأنفس خزائن لها، ثم أمرنا بالتفكّر لوجدان ذلك في أنفسنا، و بشّرنا بأنه يرينا آياته في الآفاق، و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .
فمن جملة ما خلق من النظائر خلق في الآفاق قيامة و ساعة و أشراطها.
كذلك في الأنفس خلق ذلك كله، و ذكرها في القرآن بلسان الإشارة .
و ورد في الأحاديث كذلك، فأريد أن أذكر بعضها لتكون على بصيرة فيما نريد أن نبيه من إشارات الحاتمي الخاتمي في هذا المتن، و نختم به الأمر إن شاء الله .
فاعلم أيدك الله و إيانا بروح منه أن القيمة في الآفاق هي القيامة التي يجمع الله الأولين و الآخرين فيها، فما تقوم هذه القيامة إلا بين يدي أشر أطماع، يموت الخلق طرا أجمعون ومن في السماوات والأرض جميعا، والتنبيه عليه في الكتاب قوله تعالى :" كُل نفْسٍ ذائقةُ الموْتِ" [ آل عمران: 185] .
وذلك بفناء كل أهل كل دورة واحدة لا يتصف بالنهاية، فنحن فرضنا فيه البدء والنهاية والعود و الرجوع بالفرض. انتهى كلامه .
فافهم الإشارة إن كنت فهيما، فالعالم دوري و أحكامه دورية، و إلى هذا أشار صلى الله عليه و سلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات و الأرض".
فيلتحق أهل كل دورة مفروضة بعضه بعضا في موطن من المواطن، سمّاه الشارع بيوم القيامة، وهو اليوم الموعود، وفيه جمع شاهد و مشهود، وإنما ذهبنا بالقول بالدورة واستشهدنا بالحديث الشريف لأنه قد أخبرنا سبحانه عن نفسه الكريمة على لسان أكمل التراجم علما، وأوسعهم وجودا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: "كُلّ يوْم هُو في شأنٍ" [ الرحمن : 29]، فنكر اليوم و الشأن ليشمل و يعم .
فهذه أيام الله لا تزال هذه الأيام دائما، فلا يزال الخلاف دائما، و قد أثبت دوام هذه الأيام، فقال تعالى: "خالدِين فيها ما دامتِ السّماواتُ والْأرضُ"[ هود: 107]، و خلودهم لا يزال فريق في الجنة، وفريق في السعير لا يزال لأنهم خالدون فيها، فأيام الله لا يزال .
وورد في الحديث الصحيح: "ليس شي ء من الإنسان إلا يبلي إلا عظما واحدا، وهو عجب الذنب ومنه يرّكّب الخلق يوم القيامة". رواه أبو هريرة رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع .
فإذا جاز في ممكن من الممكنات بقاؤه، فيمكن أن يكون له إفراد كثيرة بهذا الحكم، فافهم و لا تجادل فإنّ مطل الغنى ظلم، قال تعالى:" كُل شيْءٍ هالكٌ إلّا وجْههُ "[ القصص: 88]، و كل شيء موجود نشاهده حسيا، و نعلمه عقلا، و ليس بهالك، فكل شي ء بوجهه و وجه الشيء حقيقته، فما في الوجود إلا الله، و إن تنوعت الصور.
و ذلك أحكام التجلي لا المتجلي فإنه ورد في الحديث إنه يتنوع فيعرف و ينكر لأنه كل يوم هو في شأن، فنكر للعموم و الشمول.
فذلك قال له الحكم : ( و إليه ترجعون ): أي من يعتقد أنّ كل شي ء جعلناه هالكا، و ما عرف ما قصدناه من الآية إذا رآه ما يهلك منه، و يرى بقاء عينه بالهلاك، فهو وجهي، فعلم أن الأشياء ليست غير وجهي، فإنها لا تهلك، فردها إلىّ حكما .
قال الشيخ رضي الله عنه في الفصل الرابع من خزائن الجود من الفتوحات:
"إنّ هذا المعنى الذي ذكرناه آنفا معنى لطيف، يخفي على من لم يستظهر القرآن، و قد رميتك على الطريق لتعلم ما الأمر عليه ". انتهى كلامه .
ورد في الحديث الصحيح :" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة حتى يأتي أمر الله" الحديث .
و في رواية : " لن تزال طائفة من أمتي " الحديث .
و ورد في الحديث أيضا :
"لن تخلو الأرض من ثلاثين مثل إبراهيم الخليل عليه السلام، بهم تغاثون، و بهم ترزقون، و بهم تمطرون" ذكره ابن حبان في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله عنه .
و ورد في الخبر :
" لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة" رواه مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع .
و ذهب ابن بطال: إنه ليس المراد أنّ الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شي ء لأنه ثبت أنّ الإسلام يبقى إلى يوم القيامة، ذكره السخاوي في كتاب القناعة .
و قال رضي الله عنه: إنّ الدين باق إلى يوم القيامة، و لم ينسخ و القطب قيومه، و لا يصحّ هذا الاسم: أي القطب إلا أن يكون ذا جسم طبيعي و روح، و يكون موجودا في
هذه الدار الدنيا بجسده و حقيقته، فهو الذي يحفظ به هذا النوع الإنساني، و هو موجود في هذا النوع في هذه الدار بجسده و روحه، يتغذّى و هو مجلي الحق من آدم إلى يوم القيامة .
ثم قال رضي الله عنه فيها: إن هذه المسألة كلية فاعرف قدرها، إنك لست تراها في كلام أحد، و لو لا ما ألقي عندي فيإظهارها ما أظهرتها لسرّ يعلمه الله، و لا يعرف ما ذكرناه إلا نوّابهم خاصة لا غيرهم من الأولياء، فكونوا لها قابلين مؤمنين، و لا تحرموا التصديق بها، فتحرموا خيرها، و تجمعوا بين الحرمانين. انتهى كلامه رضي الله عنه .
فالقائل ببقاء العالم كافر بقوله تعالى: "كُل شيْءٍ هالكٌ إلّا وجْههُ" [ القصص: 88]، و جاهل بالحديث الشريف : "كان الله و لا شيء معه" و زاهل بملحقه، و هو الآن كما كان، و غافل عن تجدّد الأمثال .
و القائل بفناء العالم جاحد قوله سبحانه: "و يبقى وجْهُ ربِّك ذو الجلالِ والِإكْراِم" [ الرحمن: 27] لأنه وجه كل شيء كما أنّ كل شيء وجهه فهو وجه العالم في الوجود، و العالم وجهه في الظهور عند الرؤية و الشهود.
فالكل بحمد الله وجوه حسنة، و ما ثم في الوجود إلا الله، فله دوام الحمد و الثناء في الآخرة و الأولى، فافهم ذلك بالذوق الحال، فإنّ فهمه بالنظر و الخيال محال .
و قد علمت من الأحاديث أنّ القيامة الكبرى لها أشراط كخروج الدجّال، و يأجوج و مأجوج و أمثالها، و أمّا القيامة الصغرى فانتقال العبد من حياة الدنيا إلى حياة البرزخ في الجسد الممثل، فهو انتقال و مرور من حال إلى حال بالجذبة الإلهية و العناية الرحمانية، يحكم تربية الحكيم العليم سواء كان سالكا مجذوبا، أو مجذوبا سالكا و بلا سلوك .
فإنّ الجذبة: هي العناية، فلهذا جذبة من جذبات الرحمن توازن عمل الثقلين لأنّ العمل للجذبة، و الجذبة ليست له، و هي بهتة الكشف، و فجأته الشهود، فإذا جاءت الساعة بغتة أفنى وجود السالك عن نظر شهوده في المشهود فجأة، فيرى جبال وجوده تمرّ مرّ السحاب التي كان يحسبها جامدة، فإذا فني و مات موتة معروفة عند أهلها، فقامت قيامته التي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه و سلم بقوله : "من مات قامت قيامته"
فانكشف الغطاء و انحدّ البصر، و رأى المؤثر في الأثر، وأدرك بعيون البشر، و ربح من أمن، و خسر من كفر .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه: و من كان من أهل الرؤية التي تقع لكل واصل .
أما ترى إشارة قوله صلى الله عليه و سلم: » إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا « رواه أبو إمامة رضي الله عنه في جمع الجوامع .
و ذكر فيه أيضا حديثا آخر وهو هذا :"قال: يا موسى لن تراني إنه لن يراني حيّ إلا مات، و لا يابس إلا تذهب، و لا رطب إلا تفرق، إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم و لا تبلى أجسادهم ". رواه الحكيم عن ابن عباس رضي الله عنهما في جمع الجوامع .
و قد وقعت له صلى الله عليه وسلم: "رأى ربه بعين رأسه". رواه ابن عباس رضي الله عنهما .
و شهد له الحق بذلك حيث قال تعالى: "ما كذب الفُؤادُ ما رأى" [ النجم :11]، و قال: "ولقدْ رآهُ نزْلةً أخْرى" [ النجم: 13] .
فإن كان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم مقولة: (حتى تموتوا) هو: الموت الطبيعيّ الاضطراري فلم يصح، (لن ترون) بالتأكيد و بتأييد التأكيد، و هو صلى الله عليه و سلم صادق في قوله: (رأى) قبل الموت الطبيعي الاضطراري في دار الدنيا عند الموت الاختياري الكمالي، بل ثبت
بالدليل إمكان الرؤية لكل أحد بل قطع بالرؤية أهل الكشف، و الرؤية في دار الدنيا بالموتة الأولى، فإن الرؤية في الدنيا رحمة عاجلة لأهل العناية بل ما أنكرها إلا شرذمة قليلون كالحكماء، و من تبعهم من المعتزلة، و الذين لا بغيابهم و بكلامهم، فعرفنا أنّ الموت في الحديث هو الموت الكمالي الاختياري، و قد وقع، و ورد في الخبر :" موتوا قبل أن تموتوا "
و ورد أيضا :" من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى ابن أبي قحافة«
و قال تعالى بشارة لحبيبه و نبيه، و إدخال السرور في خلاصة خواص أمته:" إنّك ميِّتٌ وإنّـهُمْ ميِّتون" [ الزمر: 30] .
فهذه الميتة الأولية، و الصعقة الأولى يا من مسّ الصعقة الأولى، ويدخل في حكم استثناء الآية حيث قال سبحانه: "فصعِق منْ في السّماواتِ ومنْ فِي الْأ رضِ إلّا منْ شاء اللّهُ" [ الزمر: 68] .
وإلى هذا أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: » أرى موسى واقفا ولا أدري هل صعق في الدنيا، ولم يصعق في الآخرة «
وهو قوله تعالى: و خرّ مُوسى صعِقاً [ الأعراف: 143]، فبهذا الاعتبار يكون موسى ممن دخل في حكم هذا الاستثناء، و هكذا شهداء هذه الأمة فإنهم كأنبياء بني إسرائيل .
ورد في الحديث أنه صلى الله عليه و سلم قال : " سألت جبريل عن هذه الآية: من الذي لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: هم شهداء الله "
. رواه أبو هريرة رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع . و بين صلى الله عليه و سلم معنى الشهد في حديث أخر حيث قال صلى الله عليه و سلم: "شهداء الله أمناء لله على خلقه قتلوا أو ماتوا ".رواه أحمد من رجال الصحابة رضي الله عنهم، ذكره في جمع الجوامع .
فهمت من هذا أن الشهداء ليس على معناه المعروف خاصة، بل يشمل الذين صعقوا و ماتوا موتتهم الاختيارية، فشهدوا الحق و رأوه بعين رأسهم، و حفظوا هذا السرّ عن نظر العوام .
كما ورد في الحديث : "سترون ربكم عيانا". عن جرير رضي الله عنه ذكره في جمع الجوامع .
فإذا عرفت هذا المذكور، فنرجع و نقول في بيان المتن: إنه قال رضي الله عنه: فعليهم تقوم الساعة: أي على الذين لا يقيدهم العقل، ولا يتقيدون بالشرع المقيد وهم أهل إطلاق صرف من أرباب الحيرة و الهيمان .
ورد في الحديث :" إن الله خلق الإنس ثلاثة أصناف:
صنف كالبهائم، قال الله تعالى: لهُمْ قُـلوبٌ لا يفْقهُون بها ولهُمْ أعْينٌ لايـبْصِرُون بها ولهُمْ آذانٌ لايسْمعون بها أولئك كالْأنعاِم بلْ هُمْ أضل [ الأعراف: 179] .
الحديث رواه أبو الشيخ في العظمة عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع . فعلى الذين كالبهائم تقوم الساعة فافهم.
فجاءتهم بغتة الكشف فجاءتهم حيرة و بهتة، وأذهلهم ذلك الوارد عن أنفسهم، ثم أبقى الله هذا الحال، والوارد مشهودا لهم في دار الدنيا، وجعل لها حكم دار الدنيا كحكم دار الآخرة، كما للعموم في دار الآخرة، فماتوا وانتقلوا من حال إلى حال حياة الدنيا إلى حياة الآخرة، و تبدّل عليهم الأحكام بتبدّل الدار، و السماوات مطويات بيد الملك القهّار، والحق يقول في آخر الأمر عند ظهور غلبة الأحدية على الكثرة في القيامتين الكبرى والصغرى، الحاصلة للسالكين عند التحقّق بالوصول عقيبة انتهاء السير و حال الانسلاخ .
قال تعالى: "لمنِ المُلْكُ اليوْم للّهِ الواحِدِ القهارِ" [ غافر: 16].
تلْك الدّ ارُ الْآخِرُة نجْعلها للّذِين لايريدُون علوًّا في الْأرضِ ولا فساداً والعاقبةُ للْمُتّقِين [القصص: 8]، فهم بقيامهم عن أنفسهم لا يعرفون للعلو طعما .
قال رضي الله عنه: لمّا بدّلت الصفة من دار الدنيا فصارت بهذا التبديل آخرة مع بقاء العين، و من لا علم له بهذا في ظلمة الحيرة. انتهى كلامه رضي الله عنه .
أما ترى إشارة الحديث الشريف: " قد مات كسرى فلا كسرى بعده "الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع .
فما زال الملك ولا المليك ولكن ارتفع الاسم باسم آخر مع وجود الملك والمليك، فافهم .
قال تعالى: "يسْئلونك عنِ السّاعةِ أيّان مُرْساها فيم أنت مِنْ ذكْراها .إلى ربِّك مُنْتهاها" [ النازعات: 42: 44] .
فافهم إشارة الآية فإنه منتهى كل شيء، قال تعالى:" قدْ أحاط بكُل شيْءٍ عِلْماً" [ الطلاق: 12]، فقد أحاط بكل شيء وجودا لأن علمه عين وجوده وذاته، تقوم تلك
الساعة يوم تبدّل الأرض غير الأرض، والسماوات، وبرزوا بأنفسهم ظاهرين على الله تعالى بأحكام الطبيعة الكلية التي حصرت قوابل العالم بأسره، و بشّر البشير بهذه البشارة على سبيل الإشارة .
و قال صلى الله عليه و سلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" الحديث وهو الظهور على الحق تعالى بحكم الطبيعة.
و بروز الأصل على صورة الفرع بلا فصل، فرجعوا إلى البداية على حكم الطبيعة، و رجحت إليهم العادة عبادة فأضاعوا الصّلات، و اتبعوا الشهوات.
و لم يلقوا غيا لأنهم على بصيرة فيه، فليسوا ممن اتبع هواه بغير علم، و ذلك أمر ذوقي، و علوم الأذواق لا تقال و لا تحكى، فلا يعرفها إلا من عرفها و ذاقها،و ليس في الإمكان أن يبلغها من ذاقها إلى من لم يذقها، فلا يقبل التعريف و التوصيف بل حكم تظهر لأهلها لا يجليها لوقتها إلا هو، يتجلى لهم بصور الأشياء و معانيها و هو عينها، فكيف البيان عنها؟ فلا يعلم ذلك إلا الله لا يوصّ لها شرع بأخبار و تعريف .
وذلك قوله تعالى: "إنّما عِلْمُها عِنْد اللّهِ" [ الأعراف: 187]، و قد أعلم الله بالتعريف لبعض الناس، وهو من ارتضى من رسول بأن هذا علم لا يقبل التعريف ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر هكذا، فلهذا يسألون .
و ورد في الخبر :
"إن جماعة سألوه عن الساعة، فقال صلى الله عليه وسلم: علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو و لكن سأخبركم بمشاريطها، وما يكون بين يديها: إن بين يديها فتنة و هرجا، قالوا: يا رسول الله الفتنة قد عرفناها، فالهرج ما هو؟
قال: هو بلسان الحبشة: القتل، ويلقي بين الناس التناكر، فلا يكاد أحد يعرف أحدا " رواه أحمد بن حنبل، و ضياء المقدسي في المختارة عن حذيفة رضي الله عنه، ذكره في جمع الجوامع .
فأمر الساعة ذوق يشبه بالعلم بالذات، و العلم بها محال بغيره كذلك هنا، فإذا قامت القيامة الصغرى، و جاءتهم الآية الكبرى التي ثقلت في السماوات العلا، فأتاهم أمر الله بغتة، و أفناهم عن أنفسهم، و ظهر حكم الصعق فيهم، و أزال عنهم التدبير، و أقامهم بأحكام التقدير فإذن انكشف لهم حقيقة الأمر، و عاينوا الأمر على ما هو عليه الأمر في نفس الأمر .
قال رضي الله عنه :
إذا جاء أمر الله فالأمر الأمر ...... و ذلك توحيد إلى من له الأمر
ورد في الخبر: "أما ترى أنها ما تقوم على مؤمن ". ذكره السخاوي .
و في لفظ:" لا تقوم الساعة و في وجه الأرض من يقول: الله الله "
قال رضي الله عنه في الفصل الرابع في فلك المنازل من الفتوحات:
في بيان الحديث الشريف: (لا تقوم الساعة على من يقول الله الله ): فإن الله تعالى أمسك صورة السماء و الأرض أن تزولا و تقعا لأجل هذا الإنسان المؤمن الموحّد الذي مجيره الله، و إن هذا هو الذكر الأكبر: أي الذي أكبر من لا إله إلا الله، فصاحب هذا الذكر هو الإمام الذي يقبض آخرا، و تقوم الساعة و تنشق السماء، و تتبدّل الأرض غير الأرض .انتهى كلامه .
فإذا عرفت أن أمر الساعة ذوقي لا يقبل التعريف فاذكّر بمشاريطها، و ما يكون بين يديها إن بين يديها فتنة لم يكن مثلها فتنة .
ورد في الحديث أنه قال صلى الله عليه و سلم في أثناء الخطبة:
أيها الناس: إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجّال إنه يقول: أنا ربكم الحديث «، و هكذا الأمر في الأنفس، فإذا ادّعى السالك قبل الفناء مدع كذّاب.
كما قال الشيخ ابن الفارض يخاطب نفسه :
وها أنت حيا ..... إن تكن صادقا
ورد في الحديث:" الشقيّ من أدركته الساعة حيا لم يمت" رواه الديلمي عن ابن عمر رضي الله عنهما، ذكره في جمع الجوامع
لأنه إلى الآن ما بلغ رشده، و لا نال مبلغ الرجال، و شرطه الموت و فناء الفناء .
و قال التلمساني قدّس سره أيضا من هذا الذوق :
نحن قوم متنا وذلك شرط في بقائها فلييئس الأحياء فهو إن ادّعى قبله فكذّاب دجّال، أما ترى إشارة ذلك في تتمة الحديث و هي : " لن تروا ربكم حتى تموتوا "
و في آخر الحديث يشير صلى الله عليه و سلم إلى علة ذلك إنه أعور العين اليسرى، و بيان ذلك أن السالك قد يكون صاحب إيمان يسمّى في الاصطلاح ذا العقل وذلك محجوب أكمه.
وإذا فتح له قد يفتح له عين واحدة تسمّى ذا العين، و هو الذي يرى الحق في الخلق، فهو مفتون ولا تصحّ دعواه، بل دعواه تكون مكرا واستدراجا، وكذبا و زورا وخداجا، كدجال و غيره من الفراعنة و الدجاجلة .
أما ترى أنه قال صلى الله عليه و سلم: "إنه أعور"
و العورة هي: الميل، و منها بيوتنا عورة: أي مائلة عن الاستقامة، و منها الأعور لأنه مال نظره إلى جهة واحدة، فهذان القسمان و لو كانا صاحبا جمع و بعين واحدة.
فإن الأول يرى الحق و لا يرى نفسه.
والثاني يرى نفسه ولا يرى الحق، فالفرق بينهما شتان، وهما مسيحان.
ولكن الأول مسيح الرحمن.
والثاني مسيح الشيطان.
و بالموت يحصل الكمال، و هو الجمع بين المشهدين فيسمّى ذا العينين .
قال تعالى: "فبصرك اليوْم حدِيدٌ" [ ق: 22]، يرى بالحق الجمع بعين الفرق، و يرى الفرق بعين الجمع، و لا يمنعه شهود أحدهما عن الآخر.
فهو فان عن النفس، و باق بالعين، فهو ذو العينين الذي هداه الله النجدين .
قال رضي الله عنه في الفتوحات:
إن أعظم الفتن التي أفتن الله بها الإنسان تعريفه إياه بأنه خلقه على الصورة ليرى هل تقف مع عبوديته و سواد وجهه، أو يزهو الأجل مكانه و مكانته؟
إنه تعالى ما أظهر الصورة على الكمال:
أي بخرق حجاب سر الجمعية العامة الكبريائية، حتى يشاهد ألوهية الحق سبحانه دون ألوهيته، فإن الصورة الكاملة الإلهية لا يلحقها ذم بكل وجه، وهذا لا يكون إلا عند فناء الفناء، ويبقى وجه ربك، فهو المتكلم و المؤثر على لسان عبده و بعبده.
و هو فان عن نفسه و ذاته، كما أخبر عنه صلى الله عليه و سلم عن هذا المقام بقرب الفرائض عندهم، و هذا أول قدم في الشريعة.
فإن الشارع أول ما أتى به: (لا إله إلا الله )، فلا يجيبه إلا من خرق ذلك الحجاب، و من نقص عن هذا المقام الكمالي فلحق بفرعون و دجال، و كان في حقه مكرا إلهيا من حيث لا يشعر، فافهم .
و أمّا اعتبار نزول عيسى عليه السلام في الأنفس هو ظهور الروح الأعظم، و ظهور أحكامه عند قرب الساعة للسالك.
فبينما يكون السالك في هرج و مرج في أمواج الفتن، كالحال كرؤية الألوهية لنفسه، و إظهار خوارق العادات والتأثير في الأرض والسماوات، إنها فتنة عمياء صماء لأن آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الجاه.
فإذا بعث الله الروح روح وراحة، فبشهوده حسم الخصومات و خصم الشهوات، و ترفع الشحناء و التباغض، و تنطفئ نيران غلبة النفس وشهواتها باستيلاء النفس الروح عليها، و اندراجها و اندماجها فيه، فإنه لها برد و سلام .
و أشار في الحديث مثل هذا، فإنه ورد في الحديث الطويل :" إذا نزل عيسى عليه السلام فأمّهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء" .
اعتبار ذلك في الأنفس أنه شهود و فناء، فتنقلب النفس و أحكامها، و تذوب في العلم فتعرف نفسها، فإذا عرفت نفسها فتنقلب سفساف أخلاقها كراما، فهو مقرّر لا ناسخ.
بل يلحق السفاف بالمحامد بتعين المصارف، و تبين مصادرها ومواردها، كما قيل: غاضت ثم فاضت، فلا هي هي ولا هي غيرها .
أما ترى إشارة الحديث: (إنه يذوب )، و لم يقل: يعدم أو يهلك لأن الذوبان من عالم الفساد ترك صورة وخلعها، ولبس صورة أخرى كان لصوره ملح تركها، و تلبس بصورة الماء و العين باقية ما انعدمت، و هكذا الأمر هنا.
و لم يقل: إن أحكام البشرية تزول بل ما زال البشر عن بشريته، و إن فنيت عن شهوده فعين وجوده باقية، بل الحد يصحبه .
أما ترى إشارة قوله تعالى: " قلْ إنّما أنا بشرٌ مِثْـلكُمْ" [ الكهف: 110]، فإن البشرية لم تزل ولا تزول أبدا .
قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه: إنما قلنا البشرية في الفناء لا تزول لأني سمعت بعض الشيوخ يقول: هذا حظ البشرية، فإذا زال عن بشريته كان حكمه حكما آخر، و الأمر ليس كذلك، فلما تحقق ما ذكرناه رجع عن هذا الاعتقاد.
وقال: ما كنت أظن أن الأمر هكذا، فإنه تكلم في شرح آية: "و ما كان لبشرٍ أنْ يكلمهُ اللّهُ إلّا وحْياً أوْمِنْ وراءِ حِجابٍ أوْ يُـرْسِل رسُوًلًا فيوحِي بإذْنهِ ما يشاءُ إنّهُ على حكِيمٌ" [ الشورى: 51]، وغلط فيه.
ذكر رضي الله عنه هذه المسألة في الباب الموفي خمسين وثلاثمائة من الفتوحات:
فبهذه الطائفة هم الأبدال حقّا لأنهم بدّلوا أسفاف الأخلاق بأخلاق الخلاق، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات .
أمس في 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
أمس في 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
أمس في 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
أمس في 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin
» كتاب: روح الأرواح ـ ابن الجوزي
19/10/2024, 10:51 من طرف Admin
» كتاب: هدية المهديين ـ العالم يوسف اخي چلبي
19/10/2024, 09:54 من طرف Admin
» كتاب: نخبة اللآلي لشرح بدء الأمالي ـ محمد بن سليمان الحلبي الريحاوي
19/10/2024, 09:50 من طرف Admin
» كتاب: الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية - عبد الغني النابلسي ـ ج1
19/10/2024, 09:18 من طرف Admin
» كتاب: البريقة شرح الطريقة ـ لمحمد الخادمي ـ ج2
19/10/2024, 08:56 من طرف Admin
» كتاب: البريقة شرح الطريقة ـ لمحمد الخادمي ـ ج1
19/10/2024, 08:55 من طرف Admin