مع الحبيب المصطفى:ربط على القلوب بصبر صادق في ذات الله تعالى
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
266ـ ربط على القلوب بصبر صادق في ذات الله تعالى
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ تعالى على نِعْمَةِ الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ الذي نَعِيشُ في كَنَفِهِ، وَنَحْيَا في ظِلِّ سَمَاحَتِهِ، وَنَتَقَلَّبُ في كَمَالِهِ؟
لَوْ عَرَفْنَا كَيْفَ بَدَأَ هَذَا الدِّينُ، وَكَيْفَ وَصَلَ إِلَيْنَا، لَوَضَعْنَا رُؤُوسَنَا في التُّرَابِ حَيَاءً مِنَ اللهِ تعالى لِشِدَّةِ تَفْرِيطِنَا وَتَقْصِيرِنَا في حَقِّ هَذَا الدِّينِ الذي رَضِيَهُ لَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينَاً﴾.
لَقَدْ بَدَأَ هَذَا الدِّينُ غَرِيبَاً، وَكَانَ المُسْلِمُ غَرِيبَاً في مُجْتَمَعِهِ، حَيْثُ كَانَتِ الأُمُّ تَتَبَرَّأُ مِنَ ابْنِهَا، وَالأَخُ يَنْفِرُ مِنْ أَخِيهِ، وَالأَبُ يَصُبُّ العَذَابَ على ابْنِهِ، وَالمُجْتَمَعُ مُعْلِنٌ العَدَاءَ على كُلِّ مُسْلِمٍ بِالسُّخْرِيَةِ وَالاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعْذِيبِ، وَلَكِنْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَالأَعَاصِيرِ شِدَّةً على النَّفْسِ، إلا أَنَّ الإِسْلَامَ كَانَ أَرْسَى في قُلُوبِ الصَّحَابَةِ مِنَ الجِبَالِ الشَّامِخَاتِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَأَسِّينَ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي ضَرَبَ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ في الصَّبْرِ وَالمُصَابَرَةِ على تَبْليغِ دَعْوَتِهِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حِينَ يَكُونُ للبَاطِلِ صَوْلَةٌ وَجَوْلَةٌ، فَإِنَّهُ يُفْرِغُ فِيهَا غَيْظَهُ المُتَرَبِّعَ في فُؤَادِهِ نَيْلَاً مِنْ أَهْلِ الحَقِّ سَبَّاً وَشَتْمَاً، وَضَرْبَاً وَتَعْذِيبَاً، وَكُلَّ مَا يَرَاهُ مُتَاحَاً بَيْنَ يَدَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقَارِعَ الحُجَّةَ بِالحُجَّةِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْدُمَ بَصِيرَةً يُهْتَدَى بهَا؛ وَلَكِنَّهُ يَعِيشُ لبَاطِلِهِ حَتَّى يَمُوتَ مِنْ أَجْلِهِ.
مَا لَاقَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا تَأَمَّلَ كُلُّ مَنْ يُؤْذَى في سَبِيلِ اللهِ، ذَلِكَ الأَذَى الذي تَعَرَّضَ لَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُدْرِكُ أَنَّهُ مَا بَلَغَ مِعْشَارَ مَا بَلَغَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الفَضْلِ وَالكَرَامَةِ، وَأَنَّهُ أَيْضَاً لَمْ يَبْلُغْ مِعْشَارَ مَا بَلَغَهُ مِنَ الأَذَى.
أولاً: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا المُرَائِي؟:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا المُرَائِي؟ أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ (الجَزُورُ: البَعِيرُ ذَكَرَاً كَانَ أَو أُنْثَى) فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلَاهَا (السَّلَا: الجِلْدُ الرَّقِيقُ الذي يَخْرُجُ فِيهِ الوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَلْفُوفَاً فِيهِ وَهُوَ وِعَاءُ الجَنِينِ) فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ، حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؛
فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؛ وَثَبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدَاً؛ فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ؛ فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ ـ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ (صَغِيرَةٌ حَدِيثَةُ السِنِّ) ـ فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَثَبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَاجِدَاً حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ.
فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الصَّلاَةَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ».
ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعُمَارَةَ بْنِ الوَلِيدِ».
قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى القَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ؛ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ القَلِيبِ لَعْنَةً».
وفي رِوَايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الأَوْسَطِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْـمَسْجِدِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَشَيْبَةُ وَعُقْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ؛ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَأْتِي جَزُورَ بَنِي فُلَانٍ، فَيَأْتِينَا بِفَرْثِهَا، فَيُلْقِيَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ؟
فَانْطَلَقَ أَشْقَاهُمْ، وأَسْفَهُهُمْ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَتَى بِهِ، فَأَلْقَاهُ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لَمْ يَهْتَمَّ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَأَنَا قَائِمٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ، لَيْسَ عِنْدِي عَشِيرَةٌ تَمْنَعُنِي، إِذْ سَمِعَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَأَقْبَلَتْ حَتَّى أَلْقَتْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهَا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ قُرَيْشَاً تَسُبُّهُمْ، فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا شَيْئَاً؛ وَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ يَرْفَعُهُ عِنْدَ تَمَامِ سُجُودِهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بعُقْبَةَ، وَعُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَشَيْبَةَ».
وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْـمَسْجِدِ، فَلَقِيَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَوْطٌ بِخِنْصَرَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ وَجْهَهُ، فَأَخَذَهُ، فَقَالَ: تَعَالَ، مَا لَكَ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَلِّ عَنِّي».
فَقَالَ: عَلِمَ اللهُ، لَا أُخَلِّي عَنْكَ أَوْ تُخْبِرَنِي مَا شَأْنُكَ، وَلَقَدْ أَصَابَكَ سَوْءٌ.
فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَلٍّ عَنْهُ أَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ فَطُرِحَ عَلَيَّ فَرْثٌ».
فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: هَلُمَّ إِلَى الْـمَسْجِدِ، فَأَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ فَأَدْخَلَهُ الْـمَسْجِدَ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَ بِمُحَمَّدٍ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ الْفَرْثُ؟
فَقَالَ: نَعَمْ؛ فَرَفَعَ السَّوْطَ، فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ، فَتَأَخَّرَتِ الرِّجَالُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ. (أَيْ ثَارُوا).
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكُمْ هِيَ لَهُ، إِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ أَنْ يُلْقِيَ بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ وَيَنْجُوَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ.
ثانياً: «يَا بُنَيَّةُ خَمِّرِي عَلَيْكِ نَحْرَكِ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَامِدِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ؟
قَالَ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى صَابِئٍ لَهُمْ.
قَالَ: فَنَزَلْنَا فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَهُمْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ وَيُؤْذُونَهُ، حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ وَانْصَدَعَ عَنْهُ النَّاسُ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ قَدْ بَدَا نَحْرُهَا تَحْمِلُ قَدَحَاً وَمِنْدِيلَاً، فَتَنَاوَلَهُ مِنْهَا وَشَرِبَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ، خَمِّرِي عَلَيْكِ نَحْرَكِ، وَلَا تَخَافِي عَلَى أَبِيكِ».
قُلْنَا: مَنْ هَذِهِ؟
قَالُوا: زَيْنَبُ بِنْتُهُ.
وفي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ مُنِيبِ بْنِ مُدْرِكِ بْنِ مُنِيبٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: «قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا».
فَمِنْهُمْ مَنْ تَفَلَ فِي وَجْهِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَثَا عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَبَّهُ، حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، فَأَقْبَلَتْ جَارِيَةٌ بِعُسٍّ مِنْ مَاءٍ (بِقَدَحٍ كَبِيرٍ) فَغَسَلَ وَجْهَهُ أَوْ يَدَيْهِ وَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ، لَا تَخْشَي عَلَى أَبِيكِ عَيْلَةً وَلَا ذِلَّةً».
فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟
قَالُوا: زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ.
ثالثاً: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْـمَلَائِكَةُ»:
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟
قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ.
قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لَيَطَأُ عَلَى رَقَبَتِهِ.
قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ (أَيْ: أَتَى بَغْتَةً) إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ (أَيْ: يَرْجِعُ وَرَاءَهُ القَهْقَرَى) وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ.
قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟
فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقَاً مِنْ نَارٍ وَهَوْلَاً وَأَجْنِحَةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْـمَلَائِكَةُ عُضْوَاً عُضْوَاً».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيْفَ يَكُونُ الصَّبْرُ في سَبِيلِ خِدْمَةِ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ يَربِطُ على قُلُوبِهِمْ بِصَبْرٍ صَادِقٍ في ذَاتِ اللهِ تعالى، وَيَقِينٍ يَمْلَأُ القُلُوبَ وَيفْتَحُ أَمَامَهَا أُفُقَ العَاقِبَةِ الطَّيِّبَةِ وَالمَآلِ الحَسَنِ.
لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ الأُمَّةَ أَنَّهُ مَهْمَا طَالَ الأَذَى وَامْتَدَّتْ لَيَالِيهِ، فَلَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُ المُبْطِلِينَ، وَلَنْ يَعُودَ عَلَيْهِمْ إلا غُصَصَاً تُمَزِّقُ حُلُوقَهُمْ، وَحَمِيمَاً يُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِالصَّبْرِ وَالمُصَابَرَةِ مَعَ التَّقْوَى يَنَالُ العَبْدُ المُؤْمِنُ أَطْيَبَ ثَمَرَةٍ وَأَزْكَاهَا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وَمِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئَاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾. أَيُّ كَيْدٍ؟ إِنَّهُ الكَيْدُ الذي تَزْولُ مِنْهُ الجِبَالُ، قَالَ تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾.
وَيَنَالُ أَطْيَبَ ثَمَرَةٍ وَأَزْكَاهَا في الآخِرَةِ، فَغَمْسَةٌ في الجَنَّةِ تُنْسِي كُلَّ بُؤْسٍ طَالَ وَامْتَدَّ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَاللهِ لَقَدْ فَرَّطْنَا في حَقِّ هَذَا الدِّينِ العَظِيمِ أَيَّمَا تَفْرِيطٍ، لِأَنَّنَا مَا عَرفْنَا حَقَّاً كَيْفَ وَصَلَ إِلَيْنَا؟ لِنَشْكُرِ اللهَ تعالى على نِعْمَةِ الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ، وَذَلِكَ بِالمُحَافَظَةِ على الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، لِأَنَّ في ذَلِكَ سِرَّ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
266ـ ربط على القلوب بصبر صادق في ذات الله تعالى
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ تعالى على نِعْمَةِ الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ الذي نَعِيشُ في كَنَفِهِ، وَنَحْيَا في ظِلِّ سَمَاحَتِهِ، وَنَتَقَلَّبُ في كَمَالِهِ؟
لَوْ عَرَفْنَا كَيْفَ بَدَأَ هَذَا الدِّينُ، وَكَيْفَ وَصَلَ إِلَيْنَا، لَوَضَعْنَا رُؤُوسَنَا في التُّرَابِ حَيَاءً مِنَ اللهِ تعالى لِشِدَّةِ تَفْرِيطِنَا وَتَقْصِيرِنَا في حَقِّ هَذَا الدِّينِ الذي رَضِيَهُ لَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينَاً﴾.
لَقَدْ بَدَأَ هَذَا الدِّينُ غَرِيبَاً، وَكَانَ المُسْلِمُ غَرِيبَاً في مُجْتَمَعِهِ، حَيْثُ كَانَتِ الأُمُّ تَتَبَرَّأُ مِنَ ابْنِهَا، وَالأَخُ يَنْفِرُ مِنْ أَخِيهِ، وَالأَبُ يَصُبُّ العَذَابَ على ابْنِهِ، وَالمُجْتَمَعُ مُعْلِنٌ العَدَاءَ على كُلِّ مُسْلِمٍ بِالسُّخْرِيَةِ وَالاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعْذِيبِ، وَلَكِنْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَالأَعَاصِيرِ شِدَّةً على النَّفْسِ، إلا أَنَّ الإِسْلَامَ كَانَ أَرْسَى في قُلُوبِ الصَّحَابَةِ مِنَ الجِبَالِ الشَّامِخَاتِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَأَسِّينَ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي ضَرَبَ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ في الصَّبْرِ وَالمُصَابَرَةِ على تَبْليغِ دَعْوَتِهِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حِينَ يَكُونُ للبَاطِلِ صَوْلَةٌ وَجَوْلَةٌ، فَإِنَّهُ يُفْرِغُ فِيهَا غَيْظَهُ المُتَرَبِّعَ في فُؤَادِهِ نَيْلَاً مِنْ أَهْلِ الحَقِّ سَبَّاً وَشَتْمَاً، وَضَرْبَاً وَتَعْذِيبَاً، وَكُلَّ مَا يَرَاهُ مُتَاحَاً بَيْنَ يَدَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقَارِعَ الحُجَّةَ بِالحُجَّةِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْدُمَ بَصِيرَةً يُهْتَدَى بهَا؛ وَلَكِنَّهُ يَعِيشُ لبَاطِلِهِ حَتَّى يَمُوتَ مِنْ أَجْلِهِ.
مَا لَاقَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا تَأَمَّلَ كُلُّ مَنْ يُؤْذَى في سَبِيلِ اللهِ، ذَلِكَ الأَذَى الذي تَعَرَّضَ لَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُدْرِكُ أَنَّهُ مَا بَلَغَ مِعْشَارَ مَا بَلَغَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الفَضْلِ وَالكَرَامَةِ، وَأَنَّهُ أَيْضَاً لَمْ يَبْلُغْ مِعْشَارَ مَا بَلَغَهُ مِنَ الأَذَى.
أولاً: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا المُرَائِي؟:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا المُرَائِي؟ أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ (الجَزُورُ: البَعِيرُ ذَكَرَاً كَانَ أَو أُنْثَى) فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلَاهَا (السَّلَا: الجِلْدُ الرَّقِيقُ الذي يَخْرُجُ فِيهِ الوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَلْفُوفَاً فِيهِ وَهُوَ وِعَاءُ الجَنِينِ) فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ، حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؛
فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؛ وَثَبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدَاً؛ فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ؛ فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ ـ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ (صَغِيرَةٌ حَدِيثَةُ السِنِّ) ـ فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَثَبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَاجِدَاً حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ.
فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الصَّلاَةَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ».
ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعُمَارَةَ بْنِ الوَلِيدِ».
قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى القَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ؛ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ القَلِيبِ لَعْنَةً».
وفي رِوَايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الأَوْسَطِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْـمَسْجِدِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَشَيْبَةُ وَعُقْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ؛ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَأْتِي جَزُورَ بَنِي فُلَانٍ، فَيَأْتِينَا بِفَرْثِهَا، فَيُلْقِيَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ؟
فَانْطَلَقَ أَشْقَاهُمْ، وأَسْفَهُهُمْ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَتَى بِهِ، فَأَلْقَاهُ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لَمْ يَهْتَمَّ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَأَنَا قَائِمٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ، لَيْسَ عِنْدِي عَشِيرَةٌ تَمْنَعُنِي، إِذْ سَمِعَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَأَقْبَلَتْ حَتَّى أَلْقَتْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهَا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ قُرَيْشَاً تَسُبُّهُمْ، فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا شَيْئَاً؛ وَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ يَرْفَعُهُ عِنْدَ تَمَامِ سُجُودِهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بعُقْبَةَ، وَعُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَشَيْبَةَ».
وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْـمَسْجِدِ، فَلَقِيَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَوْطٌ بِخِنْصَرَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ وَجْهَهُ، فَأَخَذَهُ، فَقَالَ: تَعَالَ، مَا لَكَ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَلِّ عَنِّي».
فَقَالَ: عَلِمَ اللهُ، لَا أُخَلِّي عَنْكَ أَوْ تُخْبِرَنِي مَا شَأْنُكَ، وَلَقَدْ أَصَابَكَ سَوْءٌ.
فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَلٍّ عَنْهُ أَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ فَطُرِحَ عَلَيَّ فَرْثٌ».
فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: هَلُمَّ إِلَى الْـمَسْجِدِ، فَأَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ فَأَدْخَلَهُ الْـمَسْجِدَ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَ بِمُحَمَّدٍ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ الْفَرْثُ؟
فَقَالَ: نَعَمْ؛ فَرَفَعَ السَّوْطَ، فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ، فَتَأَخَّرَتِ الرِّجَالُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ. (أَيْ ثَارُوا).
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكُمْ هِيَ لَهُ، إِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ أَنْ يُلْقِيَ بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ وَيَنْجُوَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ.
ثانياً: «يَا بُنَيَّةُ خَمِّرِي عَلَيْكِ نَحْرَكِ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَامِدِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: مَا هَذِهِ الْجَمَاعَةُ؟
قَالَ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى صَابِئٍ لَهُمْ.
قَالَ: فَنَزَلْنَا فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَهُمْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ وَيُؤْذُونَهُ، حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ وَانْصَدَعَ عَنْهُ النَّاسُ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ قَدْ بَدَا نَحْرُهَا تَحْمِلُ قَدَحَاً وَمِنْدِيلَاً، فَتَنَاوَلَهُ مِنْهَا وَشَرِبَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ، خَمِّرِي عَلَيْكِ نَحْرَكِ، وَلَا تَخَافِي عَلَى أَبِيكِ».
قُلْنَا: مَنْ هَذِهِ؟
قَالُوا: زَيْنَبُ بِنْتُهُ.
وفي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ مُنِيبِ بْنِ مُدْرِكِ بْنِ مُنِيبٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: «قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا».
فَمِنْهُمْ مَنْ تَفَلَ فِي وَجْهِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَثَا عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَبَّهُ، حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، فَأَقْبَلَتْ جَارِيَةٌ بِعُسٍّ مِنْ مَاءٍ (بِقَدَحٍ كَبِيرٍ) فَغَسَلَ وَجْهَهُ أَوْ يَدَيْهِ وَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ، لَا تَخْشَي عَلَى أَبِيكِ عَيْلَةً وَلَا ذِلَّةً».
فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟
قَالُوا: زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ.
ثالثاً: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْـمَلَائِكَةُ»:
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟
قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ.
قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لَيَطَأُ عَلَى رَقَبَتِهِ.
قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ (أَيْ: أَتَى بَغْتَةً) إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ (أَيْ: يَرْجِعُ وَرَاءَهُ القَهْقَرَى) وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ.
قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟
فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقَاً مِنْ نَارٍ وَهَوْلَاً وَأَجْنِحَةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْـمَلَائِكَةُ عُضْوَاً عُضْوَاً».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيْفَ يَكُونُ الصَّبْرُ في سَبِيلِ خِدْمَةِ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ يَربِطُ على قُلُوبِهِمْ بِصَبْرٍ صَادِقٍ في ذَاتِ اللهِ تعالى، وَيَقِينٍ يَمْلَأُ القُلُوبَ وَيفْتَحُ أَمَامَهَا أُفُقَ العَاقِبَةِ الطَّيِّبَةِ وَالمَآلِ الحَسَنِ.
لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ الأُمَّةَ أَنَّهُ مَهْمَا طَالَ الأَذَى وَامْتَدَّتْ لَيَالِيهِ، فَلَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُ المُبْطِلِينَ، وَلَنْ يَعُودَ عَلَيْهِمْ إلا غُصَصَاً تُمَزِّقُ حُلُوقَهُمْ، وَحَمِيمَاً يُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بِالصَّبْرِ وَالمُصَابَرَةِ مَعَ التَّقْوَى يَنَالُ العَبْدُ المُؤْمِنُ أَطْيَبَ ثَمَرَةٍ وَأَزْكَاهَا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وَمِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئَاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾. أَيُّ كَيْدٍ؟ إِنَّهُ الكَيْدُ الذي تَزْولُ مِنْهُ الجِبَالُ، قَالَ تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾.
وَيَنَالُ أَطْيَبَ ثَمَرَةٍ وَأَزْكَاهَا في الآخِرَةِ، فَغَمْسَةٌ في الجَنَّةِ تُنْسِي كُلَّ بُؤْسٍ طَالَ وَامْتَدَّ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَاللهِ لَقَدْ فَرَّطْنَا في حَقِّ هَذَا الدِّينِ العَظِيمِ أَيَّمَا تَفْرِيطٍ، لِأَنَّنَا مَا عَرفْنَا حَقَّاً كَيْفَ وَصَلَ إِلَيْنَا؟ لِنَشْكُرِ اللهَ تعالى على نِعْمَةِ الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ، وَذَلِكَ بِالمُحَافَظَةِ على الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، لِأَنَّ في ذَلِكَ سِرَّ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin