مع الحبيب المصطفى: علاج لغل القلوب
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
166ـ وقفة مع خطبة حجة الوداع (5)
علاج لغل القلوب
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى يَنظُرُ إلى العِبَادِ من خِلالِ قُلُوبِهِم، فإذا كَانَ قَلبُ العَبدِ تَقِيَّاً نَقِيَّاً بَرِيئَاً من الغِشِّ والضَّغِينَةِ والحِقْدِ والحَسَدِ، وسَلِيمَاً من العِوَجِ والغِلِّ، أَقبَلَ عَلَيهِ بِرَحمَتِهِ، وبَارَكَ فِيهِ، وكَانَ إِلَيهِ بِكُلِّ خَيرٍ أَسرَعَ.
أمَّا إذا كَانَ القَلبُ حَقُودَاً حَسُودَاً، مَلِيئَاً بالغِلِّ، فَهَيهَاتَ هَيهَاتَ أن يَنَالَ صَاحِبُ هذا القَلبِ خَيرَاً، فَضْلاً عن أن يَنظُرَ اللهُ تعالى إِلَيهِ نَظْرَةَ رَحمَةٍ، لأنَّ هذهِ الصِّفَاتِ التي حُشِيَ بِهَا قَلبُهُ تَشُلُّ إيمَانَهُ، وتُسقِطُ مُرُوءَتَهُ، ويَستَحِقُّ صَاحِبُ هذا القَلبِ اللَّعنَةَ والعِياذُ باللهِ تعالى.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد عَجَزَ الشَّيطَانُ أن يَجعَلَ من الرَّجُلِ المُؤمِنِ عَابِدَ وَثَنٍ، ولكِنَّهُ ما عَجَزَ عن المُبَاعَدَةِ بَينَهُ وبَينَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، فإذا أَبعَدَهُ عن رَبِّهِ عزَّ وجلَّ جَهِلَ هذا العَبدُ حُقُوقَ اللهِ تعالى أَشَدَّ مِمَّا يَجهَلُهَا عَابِدُ الوَثَنِ، روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ».
وهذا التَّحرِيشُ بَينَ المُصَلِّينَ هوَ إِفسَادٌ لِذَاتِ البَينِ، وفي ذلكَ خَطَرٌ شَدِيدٌ على دِينِهِم، روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟».
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ».
الوَاجِبُ على الأُمَّةِ أن تَتَيَقَّظَ لِبَوَادِرِ الجَفَاءِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إذا الغِلُّ والحِقْدُ تَمَكَّنَ في النُّفُوسِ تَنَافَرَ وُدُّهَا، وَرَجَعَ النَّاسُ إلى حَالٍ من القَسْوَةِ والعِنَادِ حَتَّى يَصِلُوا إلى دَرَجَةٍ يَقطَعُونَ فِيهَا ما أَمَرَ اللهُ تعالى بِهِ أن يُوصَلَ، ويُفسِدُونَ في الأَرضِ، لذلكَ كَانَ من الوَاجِبِ على الأُمَّةِ أن تَتَيَقَّظَ لِبَوَادِرِ الجَفَاءِ كَي تُلاحِقَهَا بالعِلاجِ قَبلَ أن تَستَفحِلَ، وتَتَحَوَّلَ إلى عَدَاوَةٍ فَاجِرَةٍ، لأنَّ الإسلامَ لا يُجِيزُ للمُسلِمِ أن يَستَرسِلَ في العَدَاوَةِ والمُقَاطَعَةِ والإسَاءَةِ، روى الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَاناً، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ».
فَالعَاقِلُ يُرَاجِعُ نَفسَهُ وحِسَابَاتِهِ خِلالَ هذهِ الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ، ويَفِيءُ إلى رُشْدِهِ، ثمَّ يَكُونُ لِزَامَاً عَلَيهِ أن يُوَاصِلَ إخوَانَهُ، وأن يَرجِعَ إلى سَابِقِ سِيرَتِهِ الحَسَنَةِ مَعَهُم، فإنْ كَانَ الحَقُّ عَلَيهِ أَرجَعَهُ إلى صَاحِبِهِ، امتِثَالاً لأمْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» رواه الإمام البخاري عن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وإنْ كَانَ الحَقُّ لَهُ، فقد رَغَّبَهُ الإسلامُ في التَّسَامُحِ ولِينِ المُعَامَلَةِ، وأن يَمسَحَ إِسَاءَةَ الأَمْسِ بِقَبُولِ المَعذِرَةِ إذا جَاءَهُ أَخُوهُ مُعتَذِرَاً إِلَيهِ، روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟».
قَالُوا: بَلَى، إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَإِنَّ شِرَارَكُمُ الَّذِي يَنْزِلُ وَحْدَهُ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ».
قَالَ: «أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ؟».
قَالُوا: بَلَى، إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغُضُونَهُ».
قَالَ: «أَوَ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ؟».
قَالُوا: بَلَى، إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «الَّذِينَ لا يُقِيلُونَ عَثْرَةً، وَلا يَقْبَلُونَ مَعْذِرَةً، وَلا يَغْفِرُونَ ذَنْباً».
قَالَ: «أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟».
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «مَنْ لا يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلا يُؤْمَنُ شَرُّهُ».
وروى الحاكم عن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَن أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلَاً فَلْيَقْبَلْ ذَلكَ مِنهُ مُحِقَّاً كَانَ أَو مُبطِلَاً، فَإِنْ لَم يَفعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الحَوضَ».
أيُّها الإخوة الكرام: بهذا الإرشَادِ للطَّرَفَينِ من المُسلِمِينَ حَارَبَ الإسلامُ الأَحقَادَ، والضَّغِينَةَ، والحَسَدَ، والغِلَّ.
القُلُوبُ لا تَغِلُّ على ثَلاثٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَرِيصَاً كُلَّ الحِرْصِ على سَلامَةِ قُلُوبِ الأُمَّةِ نَحْوَ بَعْضِهَا البَعْضِ، وبَيَّنَ للنَّاسِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ عِندَمَا كَانَ يُوَدِّعُ الأُمَّةَ بَعدَ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي واللهِ لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا، بِمَكَانِي هَذَا، فَرَحِمَ اللهُ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتِي الْيَوْمَ فَوَعَاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلاَ فِقْهَ لَهُ، وَلَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ».
قَالَ بَعدَ ذلكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْقُلُوبَ لاَ تَغِلُّ عَلَى ثَلاَثٍ: إِخْلاَصِ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الأَمْرِ، وَعَلَى لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ» رواه الدارمي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: من وَجَدَ في نَفسِهِ الغِلَّ تُجَاهَ الآخَرِينَ فَلْيُعَالِجْ هذا الغِلَّ بهذهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ.
أولاً: إخلاصُ العَمَلِ للهِ تعالى:
أيُّها الإخوة الكرام: من أَخلَصَ عَمَلَهُ للهِ تعالى أَذْهَبَ اللهُ تعالى الغِلَّ والخِيَانَةَ والشَّرَّ من قَلبِهِ، وهذهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا من الشَّيطَانِ، والعَبدُ لا يَتَخَلَّصُ من الشَّيطَانِ إلا بالإخلاصِ للهِ تعالى، قال تعالى حِكَايَةً عن الشَّيطَانِ: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.
وكَانَ يَقُولُ بَعْضُ الصَّالِحِينَ لِنَفسِهِ: يَا نَفْسُ أَخلِصِي تَتَخَلَّصِي. اهـ.
نَعَم يَا أيُّها الإخوة الكرام، بالإخلاصِ يَكُونُ الخَلاصُ، وكَانَ يَقُولُ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: من سَلِمَ لَهُ من عُمُرِهِ لَحْظَةٌ وَاحِدَةٌ خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللهِ تعالى نَجَا، لأنَّ المُخلِصَ يُحِبُّ الآخِرَةَ، ومن أَحَبَّ الآخِرَةَ رَخُصَت عَلَيهِ الدُّنيَا، فلا تَجِدُ في قَلبِهِ غِلَّاً ولا حِقْدَاً على أَحَدٍ من أَجْلِ الدُّنيَا.
ثانياً: مُنَاصَحَةُ أُولِي الأَمْرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: من أَسبَابِ ذَهَابِ الغِلِّ والحِقْدِ من القُلُوبِ مُنَاصَحَةُ أُولِي الأَمْرِ، لأنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، وبالنَّصِيحَةِ يَكُونُ المُجتَمَعُ مُتَعَاوِنَاً لإيصَالِ الحُقُوقِ لأصحَابِهَا، روى الإمام مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».
قُلْنَا: لِمَنْ؟
قَالَ: «للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ».
والنَّصِيحَةُ لأولِي الأَمْرِ تَكُونُ كَمَا روى الحاكم عن عِيَاضِ بنِ غَنَمٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَن كَانَت عِندَهُ نَصِيحَةٌ لِذِي سُلطَانٍ فَلَا يُكَلِّمْهُ بِهَا عَلانِيَةً، وَلْيَأْخُذْ بِيَدِهِ، وَلْيُخَلِّ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَهَا قَبِلَهَا، وإلا كَانَ قَد أَدَّى الذي عَلَيهِ والذي لَهُ».
أيُّها الإخوة الكرام: المُجَاهَرَةُ بالنَّكِيرِ على السُّلطَانِ قد تَكُونُ لَهَا عَوَاقِبُ وَخِيمَةٌ، لذلكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الحَدِيثِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ». قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عِنْدَ سُلْطَانٍ» ومَا قَالَ: على سُلطَانٍ.
وكَانَ ابنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَقُولُ: إذا أَتَيتَ الأَمِيرَ المُؤمَّرَ فلا تَأْتِهِ على رُؤُوسِ النَّاسِ. اهـ.
هذا هوَ إرشَادُ القُرآنِ العَظِيمِ في نُصْحِ أَولِيَاءِ الأُمُورِ، قال تعالى لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾.
ثالثاً: لُزُومُ جَمَاعَةِ المُسلِمِينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: من أَسبَابِ ذَهَابِ الغِلِّ والحِقْدِ والحَسَدِ بَينَ المُسلِمِينَ لُزُومُ جَمَاعَةِ المُسلِمِينَ، كَمَا أَرشَدَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في خُطبَتِهِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: «وَعَلَى لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ».
وروى الإمام أحمد عن زَكَرِيَّا بْنِ سَلَّامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ ـ ثَلَاثَ مِرَارٍ ـ».
وروى القضاعي عن النُّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الجَمَاعَةُ رَحمَةٌ، والفُرقَةُ عَذَابٌ».
أيُّها الإخوة الكرام: المَخرَجُ عِندَ حُدُوثِ الفِتَنِ والحَوَادِثِ لُزُومُ جَمَاعَةِ المُسلِمِينَ، روى الإمام أحمد عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ لَهَا الْأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا.
قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيَّاً، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».
وروى الإمام مسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَن النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: سَعَادَةُ العَبدِ في الدُّنيَا والآخِرَةِ بِسَلامَةِ قَلبِهِ، فمن كَانَ قَلبُهُ سَلِيمَاً من الحِقْدِ والغِلِّ والحَسَدِ كَانَ في الدُّنيَا مَحبُوبَاً، وفي الآخِرَةِ نَاجِيَاً، قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. ويَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ، يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» رواه الترمذي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
166ـ وقفة مع خطبة حجة الوداع (5)
علاج لغل القلوب
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى يَنظُرُ إلى العِبَادِ من خِلالِ قُلُوبِهِم، فإذا كَانَ قَلبُ العَبدِ تَقِيَّاً نَقِيَّاً بَرِيئَاً من الغِشِّ والضَّغِينَةِ والحِقْدِ والحَسَدِ، وسَلِيمَاً من العِوَجِ والغِلِّ، أَقبَلَ عَلَيهِ بِرَحمَتِهِ، وبَارَكَ فِيهِ، وكَانَ إِلَيهِ بِكُلِّ خَيرٍ أَسرَعَ.
أمَّا إذا كَانَ القَلبُ حَقُودَاً حَسُودَاً، مَلِيئَاً بالغِلِّ، فَهَيهَاتَ هَيهَاتَ أن يَنَالَ صَاحِبُ هذا القَلبِ خَيرَاً، فَضْلاً عن أن يَنظُرَ اللهُ تعالى إِلَيهِ نَظْرَةَ رَحمَةٍ، لأنَّ هذهِ الصِّفَاتِ التي حُشِيَ بِهَا قَلبُهُ تَشُلُّ إيمَانَهُ، وتُسقِطُ مُرُوءَتَهُ، ويَستَحِقُّ صَاحِبُ هذا القَلبِ اللَّعنَةَ والعِياذُ باللهِ تعالى.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد عَجَزَ الشَّيطَانُ أن يَجعَلَ من الرَّجُلِ المُؤمِنِ عَابِدَ وَثَنٍ، ولكِنَّهُ ما عَجَزَ عن المُبَاعَدَةِ بَينَهُ وبَينَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، فإذا أَبعَدَهُ عن رَبِّهِ عزَّ وجلَّ جَهِلَ هذا العَبدُ حُقُوقَ اللهِ تعالى أَشَدَّ مِمَّا يَجهَلُهَا عَابِدُ الوَثَنِ، روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ».
وهذا التَّحرِيشُ بَينَ المُصَلِّينَ هوَ إِفسَادٌ لِذَاتِ البَينِ، وفي ذلكَ خَطَرٌ شَدِيدٌ على دِينِهِم، روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟».
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ».
الوَاجِبُ على الأُمَّةِ أن تَتَيَقَّظَ لِبَوَادِرِ الجَفَاءِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إذا الغِلُّ والحِقْدُ تَمَكَّنَ في النُّفُوسِ تَنَافَرَ وُدُّهَا، وَرَجَعَ النَّاسُ إلى حَالٍ من القَسْوَةِ والعِنَادِ حَتَّى يَصِلُوا إلى دَرَجَةٍ يَقطَعُونَ فِيهَا ما أَمَرَ اللهُ تعالى بِهِ أن يُوصَلَ، ويُفسِدُونَ في الأَرضِ، لذلكَ كَانَ من الوَاجِبِ على الأُمَّةِ أن تَتَيَقَّظَ لِبَوَادِرِ الجَفَاءِ كَي تُلاحِقَهَا بالعِلاجِ قَبلَ أن تَستَفحِلَ، وتَتَحَوَّلَ إلى عَدَاوَةٍ فَاجِرَةٍ، لأنَّ الإسلامَ لا يُجِيزُ للمُسلِمِ أن يَستَرسِلَ في العَدَاوَةِ والمُقَاطَعَةِ والإسَاءَةِ، روى الشيخان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَاناً، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ».
فَالعَاقِلُ يُرَاجِعُ نَفسَهُ وحِسَابَاتِهِ خِلالَ هذهِ الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ، ويَفِيءُ إلى رُشْدِهِ، ثمَّ يَكُونُ لِزَامَاً عَلَيهِ أن يُوَاصِلَ إخوَانَهُ، وأن يَرجِعَ إلى سَابِقِ سِيرَتِهِ الحَسَنَةِ مَعَهُم، فإنْ كَانَ الحَقُّ عَلَيهِ أَرجَعَهُ إلى صَاحِبِهِ، امتِثَالاً لأمْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» رواه الإمام البخاري عن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وإنْ كَانَ الحَقُّ لَهُ، فقد رَغَّبَهُ الإسلامُ في التَّسَامُحِ ولِينِ المُعَامَلَةِ، وأن يَمسَحَ إِسَاءَةَ الأَمْسِ بِقَبُولِ المَعذِرَةِ إذا جَاءَهُ أَخُوهُ مُعتَذِرَاً إِلَيهِ، روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟».
قَالُوا: بَلَى، إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَإِنَّ شِرَارَكُمُ الَّذِي يَنْزِلُ وَحْدَهُ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ».
قَالَ: «أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ؟».
قَالُوا: بَلَى، إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغُضُونَهُ».
قَالَ: «أَوَ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ؟».
قَالُوا: بَلَى، إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «الَّذِينَ لا يُقِيلُونَ عَثْرَةً، وَلا يَقْبَلُونَ مَعْذِرَةً، وَلا يَغْفِرُونَ ذَنْباً».
قَالَ: «أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟».
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «مَنْ لا يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلا يُؤْمَنُ شَرُّهُ».
وروى الحاكم عن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَن أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلَاً فَلْيَقْبَلْ ذَلكَ مِنهُ مُحِقَّاً كَانَ أَو مُبطِلَاً، فَإِنْ لَم يَفعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الحَوضَ».
أيُّها الإخوة الكرام: بهذا الإرشَادِ للطَّرَفَينِ من المُسلِمِينَ حَارَبَ الإسلامُ الأَحقَادَ، والضَّغِينَةَ، والحَسَدَ، والغِلَّ.
القُلُوبُ لا تَغِلُّ على ثَلاثٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَرِيصَاً كُلَّ الحِرْصِ على سَلامَةِ قُلُوبِ الأُمَّةِ نَحْوَ بَعْضِهَا البَعْضِ، وبَيَّنَ للنَّاسِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ عِندَمَا كَانَ يُوَدِّعُ الأُمَّةَ بَعدَ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي واللهِ لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا، بِمَكَانِي هَذَا، فَرَحِمَ اللهُ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتِي الْيَوْمَ فَوَعَاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلاَ فِقْهَ لَهُ، وَلَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ».
قَالَ بَعدَ ذلكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْقُلُوبَ لاَ تَغِلُّ عَلَى ثَلاَثٍ: إِخْلاَصِ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الأَمْرِ، وَعَلَى لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ» رواه الدارمي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: من وَجَدَ في نَفسِهِ الغِلَّ تُجَاهَ الآخَرِينَ فَلْيُعَالِجْ هذا الغِلَّ بهذهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ.
أولاً: إخلاصُ العَمَلِ للهِ تعالى:
أيُّها الإخوة الكرام: من أَخلَصَ عَمَلَهُ للهِ تعالى أَذْهَبَ اللهُ تعالى الغِلَّ والخِيَانَةَ والشَّرَّ من قَلبِهِ، وهذهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا من الشَّيطَانِ، والعَبدُ لا يَتَخَلَّصُ من الشَّيطَانِ إلا بالإخلاصِ للهِ تعالى، قال تعالى حِكَايَةً عن الشَّيطَانِ: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.
وكَانَ يَقُولُ بَعْضُ الصَّالِحِينَ لِنَفسِهِ: يَا نَفْسُ أَخلِصِي تَتَخَلَّصِي. اهـ.
نَعَم يَا أيُّها الإخوة الكرام، بالإخلاصِ يَكُونُ الخَلاصُ، وكَانَ يَقُولُ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: من سَلِمَ لَهُ من عُمُرِهِ لَحْظَةٌ وَاحِدَةٌ خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللهِ تعالى نَجَا، لأنَّ المُخلِصَ يُحِبُّ الآخِرَةَ، ومن أَحَبَّ الآخِرَةَ رَخُصَت عَلَيهِ الدُّنيَا، فلا تَجِدُ في قَلبِهِ غِلَّاً ولا حِقْدَاً على أَحَدٍ من أَجْلِ الدُّنيَا.
ثانياً: مُنَاصَحَةُ أُولِي الأَمْرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: من أَسبَابِ ذَهَابِ الغِلِّ والحِقْدِ من القُلُوبِ مُنَاصَحَةُ أُولِي الأَمْرِ، لأنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، وبالنَّصِيحَةِ يَكُونُ المُجتَمَعُ مُتَعَاوِنَاً لإيصَالِ الحُقُوقِ لأصحَابِهَا، روى الإمام مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».
قُلْنَا: لِمَنْ؟
قَالَ: «للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ».
والنَّصِيحَةُ لأولِي الأَمْرِ تَكُونُ كَمَا روى الحاكم عن عِيَاضِ بنِ غَنَمٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَن كَانَت عِندَهُ نَصِيحَةٌ لِذِي سُلطَانٍ فَلَا يُكَلِّمْهُ بِهَا عَلانِيَةً، وَلْيَأْخُذْ بِيَدِهِ، وَلْيُخَلِّ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَهَا قَبِلَهَا، وإلا كَانَ قَد أَدَّى الذي عَلَيهِ والذي لَهُ».
أيُّها الإخوة الكرام: المُجَاهَرَةُ بالنَّكِيرِ على السُّلطَانِ قد تَكُونُ لَهَا عَوَاقِبُ وَخِيمَةٌ، لذلكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الحَدِيثِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ». قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عِنْدَ سُلْطَانٍ» ومَا قَالَ: على سُلطَانٍ.
وكَانَ ابنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَقُولُ: إذا أَتَيتَ الأَمِيرَ المُؤمَّرَ فلا تَأْتِهِ على رُؤُوسِ النَّاسِ. اهـ.
هذا هوَ إرشَادُ القُرآنِ العَظِيمِ في نُصْحِ أَولِيَاءِ الأُمُورِ، قال تعالى لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾.
ثالثاً: لُزُومُ جَمَاعَةِ المُسلِمِينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: من أَسبَابِ ذَهَابِ الغِلِّ والحِقْدِ والحَسَدِ بَينَ المُسلِمِينَ لُزُومُ جَمَاعَةِ المُسلِمِينَ، كَمَا أَرشَدَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في خُطبَتِهِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: «وَعَلَى لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ».
وروى الإمام أحمد عن زَكَرِيَّا بْنِ سَلَّامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ ـ ثَلَاثَ مِرَارٍ ـ».
وروى القضاعي عن النُّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الجَمَاعَةُ رَحمَةٌ، والفُرقَةُ عَذَابٌ».
أيُّها الإخوة الكرام: المَخرَجُ عِندَ حُدُوثِ الفِتَنِ والحَوَادِثِ لُزُومُ جَمَاعَةِ المُسلِمِينَ، روى الإمام أحمد عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ لَهَا الْأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا.
قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيَّاً، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».
وروى الإمام مسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَن النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: سَعَادَةُ العَبدِ في الدُّنيَا والآخِرَةِ بِسَلامَةِ قَلبِهِ، فمن كَانَ قَلبُهُ سَلِيمَاً من الحِقْدِ والغِلِّ والحَسَدِ كَانَ في الدُّنيَا مَحبُوبَاً، وفي الآخِرَةِ نَاجِيَاً، قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. ويَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ، يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» رواه الترمذي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin