مع الحبيب المصطفى: حياة العظام لا تخلو من مشكلات
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
216ـ حياة العظام لا تخلو من مشكلات
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: أَصْحَابُ الرِّسَالاتِ رُهَنَاءُ مَا تَحَمَّلُوا من أَمَانَاتٍ ضَخْمَةٍ، فَمَغَانِمُهُم ومَغَارِمُهُم، وَحِلُّهُم وتَرْحَالُهُم، وَصَدَاقَتُهُم وَخُصُومَتُهُم، تَرْجِعُ كُلُّهَا إلى المَعَانِي التي ارْتَبَطُوا بِهَا، وحَيُوا لأَجْلِهَا.
وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ضَرَبَ من نَفْسِهِ المَثَلَ الفَذَّ الفَرِيدَ السَّامِيَ لِصَاحِبِ المَبْدَأِ السَّامِي، بِأَنْ ضَحَّى بِكُلِّ شَيْءٍ في سَبِيلِ الدِّينِ الحَنِيفِ الذي جَاءَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَثْنِيَ عَزْمَهُ، أَو يُعِيقَ مَسِيرَتَهُ، أَو يُغْرِيَهُ بِرَغْبَةٍ، أَو يَكُفَّهُ بِرَهْبَةٍ، عَرَضُوا عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِكُلِّ أَشْكَالِهَا فَأَبَى، تَوَعَّدُوهُ بِكُلِّ أَنْوَاعِ العَذَابِ فَمَا ثَنَوا عَزْمَهُ عَمَّا ارْتَبَطَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد فَنِيَتْ أَمَامَ عَيْنَيْهِ فَوَارِقُ الزَّمَانِ والمَكَانِ والأَشخَاصِ، البَعِيدُ مِنْهُ قَرِيبٌ إذا عَرَفَ الحَقَّ، والقَرِيبُ مِنْهُ بَعِيدٌ إذا أَنْكَرَ الحَقَّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في حَقِّ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ الذي عَرَفَ الحَقَّ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» رواه الحاكم.
وقَالَ تعالى في حَقِّ القَرِيبِ النَّسِيبِ الذي جَهِلَ الحَقَّ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارَاً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾.
وصَدَقَ مَن قَالَ:
لَقد رَفَعَ الإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ *** وقَد وَضَعَ الشِّركُ النَّسِيبَ أبَا لَهبٍ
بَل وَطَنُهُ إذا تَنَكَّرَ للهُدَى والحَقِّ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَالوَطَنُ الَّذِي قَبِلَ الحَقَّ مِنهُ وفِيهِ، والمُؤْمِنُونَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ آخِرَ الزَّمَانِ هُم إِخْوَانُهُ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدُوهُ وَلَمْ يُشَاهِدْهُم، روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي».
قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ؟
قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي».
دَخَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ المَدِينَةَ دُخُولَ الوَامِقِ المُعْتَزِّ:
أيُّها الإخوة الكرام: في سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى تَرَكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَحَبَّ البِلادِ إِلَيْهِ، التي عَاشَ فِيهَا ثَلاثَةً وخَمْسِينَ عَامَاً حَتَّى أَلِفَهَا وأَلِفَتْهُ، لَكِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ خَرَجَ مِنْهَا إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ لِيَرَى فِيهَا امْتِدَادَ قَلْبِهِ، وثِمَارَ غَرْسِهِ.
أيُّها الإخوة الكرام: الرِّجَالُ الذينَ تَنْبُعُ سَعَادَتُهُم من قُلُوبِهِم، ويَرْتَبِطُونَ أَمَامَ ضَمَائِرِهِم بِمَادَّتِهِم، لا يُكَرِّمُونَ بِيئَةً بِعَيْنِهَا، إلا أَنْ تَكُونَ صَدَىً لِمَا يَرَوْنَ ويَعْتَقِدُونَ، وإلا قَالُوا: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيَّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرَاً﴾.
لا شَكَّ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ دَخَلَ المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ دُخُولَ الوَامِقِ ـ المُحِبِّ ـ المُعْتَزِّ، واسْتَبْشَرَ بِمَا آتَاهُ اللهُ تعالى من فَتْحٍ، وتَوَسَّمَ من وَرَاءِ هذهِ الهِجْرَةِ بَشَائِرَ الخَيْرِ والعِزَّةِ والنَّصْرِ والفَرَجِ.
يَقُولُ سَيِّدُنَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بـِضْعَ عَـشْرَةَ حَـجَّةً *** يُــذَكِّرُ لَوْ يَـلْقَى صَـدِيـقَـاً مُـوَاتِيَا
وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِـمِ نَــفْـسَهُ *** فَـلَـمْ يَـرَ مَنْ يُـؤْوِي وَلَمْ يَـرَ دَاعِيَا
فَـلَـمَّـا أَتَــانَـا أَظْــهَـرَ اللهُ دِيـنَـهُ *** فَـأَصْبَحَ مَـسْرُورَاً بِـطَيْبَةَ رَاضِــيَا
وَأَلْفَى صِدِّيقَاً وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ النَّوَى *** وَكَــانَ لَـهُ عَـوْنَـاً مِن اللهِ بَـادِيَــا
يَـقُـصُّ لَـنَا مَـا قَـالَ نُـوحٌ لِـقَوْمِهِ *** وَمَا قَـالَ مُـوسَى إذْ أَجَابَ الْمُنَادِيَا
فَأَصْبَحَ لَا يَخْشَى مِن النَّاسِ وَاحِدَاً *** قَـرِيـبَـاً وَلَا يَخْشَى مِن النَّاسِ نَائِيَا
بَـذَلْـنَـا لَـهُ الْأَمْـوَالَ مِنْ حِلِّ مَالِنَا *** وَأَنْـفُسَـنَا عِنْـدَ الْـوَغَـى والتَّآسِيَا
وَنَـعْـلَـمُ أَنَّ اللهَ لَا شَـيْءَ غَــيْـرُهُ *** وَنَـعْـلَـمُ أَنَّ اللهَ أَفْـضَـلُ هَـادِيَــا
حَيَاةُ العِظَامِ لا تَخْلُو من مُشْكِلاتٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: حَيَاةُ الرِّجَالِ العِظَامِ لا تَخْلُو من مُشْكِلاتٍ، ولَقَد صَادَفَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إِبَّانَ هِجْرَتِهِ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ الحُمَّى، حَيْثُ كَانَتِ المَدِينَةُ مَوْبُوءَةً بِهَا، فَلَمْ تَمْضِ أَيَّامٌ حَتَّى مَرِضَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وبِلالٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.
روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟
قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ *** وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً *** بِـوَادٍ وَحَـوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَـوْمَـاً مِـيَـاهَ مَجَنَّةٍ *** وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ.
فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ».
يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ: صَوْتَهُ.
إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ: شَجَرَتَانِ طَيِّبَتَانِ تَكُونَانِ بِأَوْدِيَةِ مَكَّةَ.
مَجَنَّة: مَوْضِعٌ بِمُرِّ الظَّهْرَانِ.
شَامَةٌ وَطَفِيلُ: جَبَلَانِ من جِبَالِ مَكَّةَ؛ وقِيلَ: عَيْنَانِ.
الْجُحْفَةُ: كَانَ سَاكِنُوا الجُحْفَةِ في ذلكَ الوَقْتِ يَهُودَاً.
أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد تَضَايَقَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم من جَوِّ المَهْجَرِ الذي آوَاهُم، ثمَّ أَخَذَتْ تَسْتَيْقِظُ غَرَائِزُ الحَنِينَ في قُلُوبِهِم نَحْوَ الوَطَنِ المَفْقُودِ.
وكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُصَبِّرُ أَصْحَابَهُ على احْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، ويُطَالِبُهُم بالمَزِيدِ من الجِدِّ والتَّضْحِيَةِ والصَّبْرِ لِخِدْمَةِ هذا الدِّينِ الحَنِيفِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعَاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ شَهِيدَاً».
وروى أَيضَاً عن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا»
وَقَالَ: «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَ اللهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعَاً أَوْ شَهِيدَاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
اللَّابَتَانِ: الْحَرَّتَانِ، وَاحِدَتهُمَا لَابَةٌ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُلْبَسَةُ حِجَارَةً سَوْدَاءَ، وَلِلْمَدِينَةِ لَابَتَانِ شَرْقِيَّةٌ وَغَرْبِيَّةٌ، وَهِيَ بَيْنهُمَا.
عِضَاهُهَا: شَجَرُهَا.
وروى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِن الْبَرَكَةِ».
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاؤُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ».
قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ.
النُّفُوسُ الطَّيِّبَةُ الطَّاهِرَةُ جُبِلَتْ على حُبِّ بِلادِهَا:
أيُّها الإخوة الكرام: لا قِيمَةَ للإنسانِ فَضْلاً عن حَضَارَةٍ وتَقَدُّمٍ ورُقِيٍّ إلا بِمَوطِنٍ يَحتَضِنُ هذا الإنسانَ، وبَلَدٍ يَحتَوِيهِ، وإنَّ النُّفوسَ السَّليمَةَ الطَّيِّبَةَ الطَّاهِرَةَ جُبِلَت على حُبِّ بِلادِها، ورَحِمَ اللهُ تعالى مَن قَالَ:
حَسْبُ الغَريبِ من الدُّنيا نَدَامَتُهُ *** عَضُّ الأَنَامِلِ من شَوقٍ إلى الوَطَنِ
أيُّها الإخوة الكرام: الطُّيورُ في جَوِّ السَّماءِ تَحِنُّ إلى أَوْكَارِها، والبَهَائِمُ العَجْمَاوَاتُ تَهتَمُّ وتُحَافِظُ على زَرَائِبِها، والإِبِلُ تَحِنُّ إلى مَعَاطِنِها وتَهتَمُّ بِها، والغَنَمُ تَشتاقُ إلى مَرَابِضِهَا وتَعتَنِي بِها.
أيُّها الإخوة الكرام: حُبُّ الوَطَنِ والحَنينُ إلَيهِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ، وغَرِيزَةٌ غَرَزَهَا اللهُ تعالى في قُلُوبِ كَثِيرٍ من المَخْلُوقَاتِ، فَهِيَ تَنْجَذِبُ إلى أَوْطَانِهَا كُلَّمَا فَارَقَتْهَا أَو ابْتَعَدَتْ عَنْهَا.
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ حُبَّ الإِنْسَانِ السَّوِيِّ السَّلِيمِ لِوَطَنِهِ، وتَعَلُّقَهُ بِهِ، والحَنينَ إلَيهِ، أَمْرٌ فِطْرِيٌّ مَغْرُوزٌ في نَفْسِهِ، فَوَطَنُهُ مَهْدُ طُفُولَتِهِ، ومَدْرَجُ صِبَاهُ، وهوَ سِجِلٌّ لِذِكْرَياتِهِ، يَعِيشُ فِيهِ الإِنْسَانُ فَيَأْلَفُ تُرَابَهُ وسَمَاءَهُ، ويَأْلَفُ شَوَارِعَهُ وجُدْرَانَهُ، ويَأْكُلُ كُلَّ ذَرَّةٍ من ذَرَّاتِ وَطَنِهِ، بَلْ ويَأْلَفُ طَبِيعَةَ جَوِّهِ من شِدَّةِ حَرِّهِ أَو بُرُودَتِهِ، بَلْ يَعْشَقُ نَسِيمَ الهَوَاءِ الذي يَمُرُّ بِوَطَنِهِ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: يُؤْثَرُ عَن سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا حُبُّ الوَطَنِ لَخَرِبَ بَلَدُ السُّوءِ.
وَيَقُولُ بَعْضُهُم: بِحُبِّ الأَوْطَانِ عُمِّرَتِ البِلادُ.
وَيَقُولُ حَكِيمٌ:
يَتَرَوَّحُ العَلِيلُ بِنَسِيمِ أَرْضِهِ *** كَمَا تَتَرَوَّحُ الأَرْضُ بِبَلِّ المَطَرِ
وَجَاءَ في الحِكَمِ: حُبُّ الوَطَنِ من الإِيمَانِ.
وَنِعْمَتَانِ مَجْحُودَتَانِ: الأَمْنُ في الأَوْطَانِ، والصِّحَّةُ في الأَبْدَانِ.
وَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَا قَاسَيْتُ فِيمَا تَرَكْتُ من الدُّنْيَا أَشَدَّ عَلَيَّ من مُفَارَقَةِ الأَوْطَانِ.
يَا أَهْلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ: الطُّيورُ تَحِنُّ إلى أَوْكَارِهَا، أَفَلَا تَحِنُّونَ لهذا البَلَدِ الحَبِيبِ؟ أَفَلَا تَحِنُّونَ إلى بَلَدٍ كَانَ مَهْدَاً لِأَيَّامِ طُفُولَتِكُم؟ أَفَلَا تَحِنُّونَ إلى بَلَدٍ كَانَ مَدْرَجَ صِبَاكُم وَسِجِلَّ ذِكْرَيَاتِكُم؟ أَفَلَا تَحِنُّونَ إلى بَلَدٍ عِشْتُم على أَرْضِهِ وتَحتَ سَمَائِهِ؟ أَفَلَا تَحِنُّونَ إلى بَلَدٍ أَكَلْتُم من ثِمَارِهِ؟
يَا أَهْلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ: هَلْ مَا يَجرِي في بَلَدِنا الحَبيبِ من الوَفاءِ لَهُ؟ هَلْ هذا من الإِحْسَانِ إِلَيهِ؟ هَلْ هَكَذَا عَلَّمَكُم إِسْلَامُكُم وَنَبِيُّكُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
يَا أَهْلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ: اِتَّقوا اللهَ تعالى في بَلَدِكُم، وَاعْلَمُوا:
وَلِلأَوْطَانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ *** يَدٌّ سَلَفَت، ودَيْنٌ مُسْتَحَقُّ
اللَّهُمَّ احْفَظْ هذا البَلَدَ وَسَائِرَ بِلادِ المُسْلِمينَ من شَرِّ الأَشْرَارِ، ومن كَيْدِ الفُجَّارِ، اللَّهُمَّ مَن أَرَادَ بِهِ خَيْرَاً فَوَفِّقْهُ اللَّهُمَّ إلى كُلِّ خَيْرٍ، وإلا فَخُذْهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
216ـ حياة العظام لا تخلو من مشكلات
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: أَصْحَابُ الرِّسَالاتِ رُهَنَاءُ مَا تَحَمَّلُوا من أَمَانَاتٍ ضَخْمَةٍ، فَمَغَانِمُهُم ومَغَارِمُهُم، وَحِلُّهُم وتَرْحَالُهُم، وَصَدَاقَتُهُم وَخُصُومَتُهُم، تَرْجِعُ كُلُّهَا إلى المَعَانِي التي ارْتَبَطُوا بِهَا، وحَيُوا لأَجْلِهَا.
وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ضَرَبَ من نَفْسِهِ المَثَلَ الفَذَّ الفَرِيدَ السَّامِيَ لِصَاحِبِ المَبْدَأِ السَّامِي، بِأَنْ ضَحَّى بِكُلِّ شَيْءٍ في سَبِيلِ الدِّينِ الحَنِيفِ الذي جَاءَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَثْنِيَ عَزْمَهُ، أَو يُعِيقَ مَسِيرَتَهُ، أَو يُغْرِيَهُ بِرَغْبَةٍ، أَو يَكُفَّهُ بِرَهْبَةٍ، عَرَضُوا عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِكُلِّ أَشْكَالِهَا فَأَبَى، تَوَعَّدُوهُ بِكُلِّ أَنْوَاعِ العَذَابِ فَمَا ثَنَوا عَزْمَهُ عَمَّا ارْتَبَطَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد فَنِيَتْ أَمَامَ عَيْنَيْهِ فَوَارِقُ الزَّمَانِ والمَكَانِ والأَشخَاصِ، البَعِيدُ مِنْهُ قَرِيبٌ إذا عَرَفَ الحَقَّ، والقَرِيبُ مِنْهُ بَعِيدٌ إذا أَنْكَرَ الحَقَّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في حَقِّ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ الذي عَرَفَ الحَقَّ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» رواه الحاكم.
وقَالَ تعالى في حَقِّ القَرِيبِ النَّسِيبِ الذي جَهِلَ الحَقَّ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارَاً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾.
وصَدَقَ مَن قَالَ:
لَقد رَفَعَ الإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ *** وقَد وَضَعَ الشِّركُ النَّسِيبَ أبَا لَهبٍ
بَل وَطَنُهُ إذا تَنَكَّرَ للهُدَى والحَقِّ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَالوَطَنُ الَّذِي قَبِلَ الحَقَّ مِنهُ وفِيهِ، والمُؤْمِنُونَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ آخِرَ الزَّمَانِ هُم إِخْوَانُهُ وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدُوهُ وَلَمْ يُشَاهِدْهُم، روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي».
قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ؟
قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي».
دَخَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ المَدِينَةَ دُخُولَ الوَامِقِ المُعْتَزِّ:
أيُّها الإخوة الكرام: في سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى تَرَكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَحَبَّ البِلادِ إِلَيْهِ، التي عَاشَ فِيهَا ثَلاثَةً وخَمْسِينَ عَامَاً حَتَّى أَلِفَهَا وأَلِفَتْهُ، لَكِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ خَرَجَ مِنْهَا إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ لِيَرَى فِيهَا امْتِدَادَ قَلْبِهِ، وثِمَارَ غَرْسِهِ.
أيُّها الإخوة الكرام: الرِّجَالُ الذينَ تَنْبُعُ سَعَادَتُهُم من قُلُوبِهِم، ويَرْتَبِطُونَ أَمَامَ ضَمَائِرِهِم بِمَادَّتِهِم، لا يُكَرِّمُونَ بِيئَةً بِعَيْنِهَا، إلا أَنْ تَكُونَ صَدَىً لِمَا يَرَوْنَ ويَعْتَقِدُونَ، وإلا قَالُوا: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيَّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرَاً﴾.
لا شَكَّ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ دَخَلَ المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ دُخُولَ الوَامِقِ ـ المُحِبِّ ـ المُعْتَزِّ، واسْتَبْشَرَ بِمَا آتَاهُ اللهُ تعالى من فَتْحٍ، وتَوَسَّمَ من وَرَاءِ هذهِ الهِجْرَةِ بَشَائِرَ الخَيْرِ والعِزَّةِ والنَّصْرِ والفَرَجِ.
يَقُولُ سَيِّدُنَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بـِضْعَ عَـشْرَةَ حَـجَّةً *** يُــذَكِّرُ لَوْ يَـلْقَى صَـدِيـقَـاً مُـوَاتِيَا
وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِـمِ نَــفْـسَهُ *** فَـلَـمْ يَـرَ مَنْ يُـؤْوِي وَلَمْ يَـرَ دَاعِيَا
فَـلَـمَّـا أَتَــانَـا أَظْــهَـرَ اللهُ دِيـنَـهُ *** فَـأَصْبَحَ مَـسْرُورَاً بِـطَيْبَةَ رَاضِــيَا
وَأَلْفَى صِدِّيقَاً وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ النَّوَى *** وَكَــانَ لَـهُ عَـوْنَـاً مِن اللهِ بَـادِيَــا
يَـقُـصُّ لَـنَا مَـا قَـالَ نُـوحٌ لِـقَوْمِهِ *** وَمَا قَـالَ مُـوسَى إذْ أَجَابَ الْمُنَادِيَا
فَأَصْبَحَ لَا يَخْشَى مِن النَّاسِ وَاحِدَاً *** قَـرِيـبَـاً وَلَا يَخْشَى مِن النَّاسِ نَائِيَا
بَـذَلْـنَـا لَـهُ الْأَمْـوَالَ مِنْ حِلِّ مَالِنَا *** وَأَنْـفُسَـنَا عِنْـدَ الْـوَغَـى والتَّآسِيَا
وَنَـعْـلَـمُ أَنَّ اللهَ لَا شَـيْءَ غَــيْـرُهُ *** وَنَـعْـلَـمُ أَنَّ اللهَ أَفْـضَـلُ هَـادِيَــا
حَيَاةُ العِظَامِ لا تَخْلُو من مُشْكِلاتٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: حَيَاةُ الرِّجَالِ العِظَامِ لا تَخْلُو من مُشْكِلاتٍ، ولَقَد صَادَفَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إِبَّانَ هِجْرَتِهِ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ الحُمَّى، حَيْثُ كَانَتِ المَدِينَةُ مَوْبُوءَةً بِهَا، فَلَمْ تَمْضِ أَيَّامٌ حَتَّى مَرِضَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وبِلالٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.
روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ، كَيْفَ تَجِدُكَ؟
قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ *** وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً *** بِـوَادٍ وَحَـوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَـوْمَـاً مِـيَـاهَ مَجَنَّةٍ *** وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ.
فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ».
يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ: صَوْتَهُ.
إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ: شَجَرَتَانِ طَيِّبَتَانِ تَكُونَانِ بِأَوْدِيَةِ مَكَّةَ.
مَجَنَّة: مَوْضِعٌ بِمُرِّ الظَّهْرَانِ.
شَامَةٌ وَطَفِيلُ: جَبَلَانِ من جِبَالِ مَكَّةَ؛ وقِيلَ: عَيْنَانِ.
الْجُحْفَةُ: كَانَ سَاكِنُوا الجُحْفَةِ في ذلكَ الوَقْتِ يَهُودَاً.
أيُّها الإخوة الكرام: لَقَد تَضَايَقَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم من جَوِّ المَهْجَرِ الذي آوَاهُم، ثمَّ أَخَذَتْ تَسْتَيْقِظُ غَرَائِزُ الحَنِينَ في قُلُوبِهِم نَحْوَ الوَطَنِ المَفْقُودِ.
وكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُصَبِّرُ أَصْحَابَهُ على احْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، ويُطَالِبُهُم بالمَزِيدِ من الجِدِّ والتَّضْحِيَةِ والصَّبْرِ لِخِدْمَةِ هذا الدِّينِ الحَنِيفِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعَاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ شَهِيدَاً».
وروى أَيضَاً عن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا»
وَقَالَ: «الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَ اللهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعَاً أَوْ شَهِيدَاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
اللَّابَتَانِ: الْحَرَّتَانِ، وَاحِدَتهُمَا لَابَةٌ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُلْبَسَةُ حِجَارَةً سَوْدَاءَ، وَلِلْمَدِينَةِ لَابَتَانِ شَرْقِيَّةٌ وَغَرْبِيَّةٌ، وَهِيَ بَيْنهُمَا.
عِضَاهُهَا: شَجَرُهَا.
وروى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِن الْبَرَكَةِ».
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاؤُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ».
قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ.
النُّفُوسُ الطَّيِّبَةُ الطَّاهِرَةُ جُبِلَتْ على حُبِّ بِلادِهَا:
أيُّها الإخوة الكرام: لا قِيمَةَ للإنسانِ فَضْلاً عن حَضَارَةٍ وتَقَدُّمٍ ورُقِيٍّ إلا بِمَوطِنٍ يَحتَضِنُ هذا الإنسانَ، وبَلَدٍ يَحتَوِيهِ، وإنَّ النُّفوسَ السَّليمَةَ الطَّيِّبَةَ الطَّاهِرَةَ جُبِلَت على حُبِّ بِلادِها، ورَحِمَ اللهُ تعالى مَن قَالَ:
حَسْبُ الغَريبِ من الدُّنيا نَدَامَتُهُ *** عَضُّ الأَنَامِلِ من شَوقٍ إلى الوَطَنِ
أيُّها الإخوة الكرام: الطُّيورُ في جَوِّ السَّماءِ تَحِنُّ إلى أَوْكَارِها، والبَهَائِمُ العَجْمَاوَاتُ تَهتَمُّ وتُحَافِظُ على زَرَائِبِها، والإِبِلُ تَحِنُّ إلى مَعَاطِنِها وتَهتَمُّ بِها، والغَنَمُ تَشتاقُ إلى مَرَابِضِهَا وتَعتَنِي بِها.
أيُّها الإخوة الكرام: حُبُّ الوَطَنِ والحَنينُ إلَيهِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ، وغَرِيزَةٌ غَرَزَهَا اللهُ تعالى في قُلُوبِ كَثِيرٍ من المَخْلُوقَاتِ، فَهِيَ تَنْجَذِبُ إلى أَوْطَانِهَا كُلَّمَا فَارَقَتْهَا أَو ابْتَعَدَتْ عَنْهَا.
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ حُبَّ الإِنْسَانِ السَّوِيِّ السَّلِيمِ لِوَطَنِهِ، وتَعَلُّقَهُ بِهِ، والحَنينَ إلَيهِ، أَمْرٌ فِطْرِيٌّ مَغْرُوزٌ في نَفْسِهِ، فَوَطَنُهُ مَهْدُ طُفُولَتِهِ، ومَدْرَجُ صِبَاهُ، وهوَ سِجِلٌّ لِذِكْرَياتِهِ، يَعِيشُ فِيهِ الإِنْسَانُ فَيَأْلَفُ تُرَابَهُ وسَمَاءَهُ، ويَأْلَفُ شَوَارِعَهُ وجُدْرَانَهُ، ويَأْكُلُ كُلَّ ذَرَّةٍ من ذَرَّاتِ وَطَنِهِ، بَلْ ويَأْلَفُ طَبِيعَةَ جَوِّهِ من شِدَّةِ حَرِّهِ أَو بُرُودَتِهِ، بَلْ يَعْشَقُ نَسِيمَ الهَوَاءِ الذي يَمُرُّ بِوَطَنِهِ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: يُؤْثَرُ عَن سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا حُبُّ الوَطَنِ لَخَرِبَ بَلَدُ السُّوءِ.
وَيَقُولُ بَعْضُهُم: بِحُبِّ الأَوْطَانِ عُمِّرَتِ البِلادُ.
وَيَقُولُ حَكِيمٌ:
يَتَرَوَّحُ العَلِيلُ بِنَسِيمِ أَرْضِهِ *** كَمَا تَتَرَوَّحُ الأَرْضُ بِبَلِّ المَطَرِ
وَجَاءَ في الحِكَمِ: حُبُّ الوَطَنِ من الإِيمَانِ.
وَنِعْمَتَانِ مَجْحُودَتَانِ: الأَمْنُ في الأَوْطَانِ، والصِّحَّةُ في الأَبْدَانِ.
وَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَا قَاسَيْتُ فِيمَا تَرَكْتُ من الدُّنْيَا أَشَدَّ عَلَيَّ من مُفَارَقَةِ الأَوْطَانِ.
يَا أَهْلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ: الطُّيورُ تَحِنُّ إلى أَوْكَارِهَا، أَفَلَا تَحِنُّونَ لهذا البَلَدِ الحَبِيبِ؟ أَفَلَا تَحِنُّونَ إلى بَلَدٍ كَانَ مَهْدَاً لِأَيَّامِ طُفُولَتِكُم؟ أَفَلَا تَحِنُّونَ إلى بَلَدٍ كَانَ مَدْرَجَ صِبَاكُم وَسِجِلَّ ذِكْرَيَاتِكُم؟ أَفَلَا تَحِنُّونَ إلى بَلَدٍ عِشْتُم على أَرْضِهِ وتَحتَ سَمَائِهِ؟ أَفَلَا تَحِنُّونَ إلى بَلَدٍ أَكَلْتُم من ثِمَارِهِ؟
يَا أَهْلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ: هَلْ مَا يَجرِي في بَلَدِنا الحَبيبِ من الوَفاءِ لَهُ؟ هَلْ هذا من الإِحْسَانِ إِلَيهِ؟ هَلْ هَكَذَا عَلَّمَكُم إِسْلَامُكُم وَنَبِيُّكُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
يَا أَهْلَ هذا البَلَدِ الحَبِيبِ: اِتَّقوا اللهَ تعالى في بَلَدِكُم، وَاعْلَمُوا:
وَلِلأَوْطَانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ *** يَدٌّ سَلَفَت، ودَيْنٌ مُسْتَحَقُّ
اللَّهُمَّ احْفَظْ هذا البَلَدَ وَسَائِرَ بِلادِ المُسْلِمينَ من شَرِّ الأَشْرَارِ، ومن كَيْدِ الفُجَّارِ، اللَّهُمَّ مَن أَرَادَ بِهِ خَيْرَاً فَوَفِّقْهُ اللَّهُمَّ إلى كُلِّ خَيْرٍ، وإلا فَخُذْهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 20:03 من طرف Admin
» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
أمس في 20:02 من طرف Admin
» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
أمس في 19:42 من طرف Admin
» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
أمس في 19:39 من طرف Admin
» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
أمس في 19:37 من طرف Admin
» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
أمس في 19:34 من طرف Admin
» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
أمس في 19:31 من طرف Admin
» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:28 من طرف Admin
» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:26 من طرف Admin
» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
أمس في 19:24 من طرف Admin
» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
أمس في 19:21 من طرف Admin
» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
أمس في 19:19 من طرف Admin
» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
أمس في 19:17 من طرف Admin
» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
أمس في 19:14 من طرف Admin
» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
أمس في 19:12 من طرف Admin