مع الحبيب المصطفى: موقفه ﷺ من رسولي مسيلمة الكذاب
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
29ـ موقفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من رسولي مسيلمة الكذاب
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: لقد أكرَمَنا اللهُ تعالى بِتَشريعٍ سَادَت فيِهِ الأمَّةُ على جَميعِ الخَلقِ، بِتَشريعٍ يَسمو بالمُجتَمَعِ الإنسانِيِّ إلى أَرقَى المُستَوَياتِ، ومِن جُملةِ هذا التَّشريعِ الذي أكرَمَنا اللهُ تعالى به خُلُقُ العَدلِ، حيثُ يُعَدُّ مِن أَسمَى القِيَمِ الإِنسانِيَّةِ التي جَاءَ بِهَا الإِسلامُ.
العَدلُ بينَ النَّاسِ هوَ هَدَفُ الرِّسَالاتِ السَّماوِيَّةِ كُلِّها، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. يعني: بالعَدلِ.
بالعَدلِ أُنزِلَتِ الكُتُبُ، وبِهِ بُعِثَتِ الرُّسُلُ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبه قامَتِ السَّماواتُ والأَرَضِينَ، وما شَقِيَ مُجتَمَعٌ مِنَ المُجتَمَعاتِ إلا بالجَورِ والظُّلمِ، كَمَا أنَّهُ ما سَعِدَ مُجتَمَعٌ مِنَ المُجتَمَعاتِ إلا بالعَدلِ.
العَدلُ في الإسلامِ لا يَتَأثَّرُ بِحُبٍّ ولا بِبُغضٍ، ولا يُفَرِّقُ بينَ حَسَبٍ ونَسَبٍ، ولا بَينَ جَاهٍ ومَالٍ، كَمَا لا يُفَرِّقُ بينَ مسلمٍ وغَيرِ مُسلِمٍ.
عَدلُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد سَمَت أَخلَاقُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُمُوَّاً لا يُدانيهِ أحَدٌ من الخَلقِ، فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحَقٍّ سَيِّداً رَحِيماً بِكُلِّ ما تَحمِلُهُ هذهِ الكلمةُ من مَعنَى، لَقَد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِثالاً يُحتَذى به في كلِّ شَيءٍ، كانَ مِثالاً رَائِعاً لِلفَردِ ولِلجَماعةِ بِكُلِّ أَشكَالِها وصُوَرِها وأَحوَالِها، وخَاصَّةً في خُلُقِ العَدلِ.
مَوقِفُهُ من رسولَي مُسَيلِمَةَ الكَذَّابِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أرسَلَ مُسَيلِمَةُ الكَذَّابُ كِتاباً إلى سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مع رَجُلَينِ من قَومِهِ، جاء فيه: مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ الله إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله، سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، فَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَمْرِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفُ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشاً قَوْمٌ يَعْتَدُونَ.
فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولَانِ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ : «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» رواه البيهقي عن نُعَيْمٍ بنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وفي رواية الإمام أحمد عن نُعَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِلرَّسُولَيْنِ :«فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا؟».
قَالَا: نَقُولُ كَمَا قَالَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «والله لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا».
نعم، لقد طَبَّقَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قولَهُ تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون﴾.
لقد جَهَرا أَمامَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالكُفرِ، وأعلَنا أنَّهُما يُؤمِنانِ بمُسَيلَمَةَ الكَذَّابِ، ولو قَتَلَهُم سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَحَلَّ له هذا، لأنَّهُ هوَ القائِلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
هَذانِ لم يَكتَفِيا بِتَركِ الجماعةِ، ولكنَّهُما قَامَا بِفِتنَةِ النَّاسِ عن دِينِهِم، وجَاءَا لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُساوِمانِهِ على اقتِسامِ النُّبُوَّةِ، فلو قَتَلَهُما صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لم يَكُن عليهِ مِن حَرَجٍ، ولكنْ حَفِظَ دِمَاءَهُما، لأنَّهُما من الرُّسُلِ، والرُّسُلُ عُرفاً لا تُقتَلُ، والشَّرعُ الشَّريفُ جاءَ مُقِرَّاً بالعُرفِ، لذلك قال لهُما صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «والله لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا».
أمَّا مَوقِفُ مُسَيلِمَةَ من رسولِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فمَا هوَ؟
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذا هوَ رَسُولُنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأينَ الأمَّةُ مِن أَخلاقِهِ ومن سِيرَتِهِ؟ هل هيَ مُتَّبِعَةٌ أم مُبتَدِعَةٌ؟ هل تَرَكَت هَديَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وأخَذَت بِأهوائِها وشَهَواتِها وعواطِفِها غَيرِ المُنضَبِطَةِ بِضَوابِطِ الشَّريعةِ؟
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أمَّنَ رَسُولَي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ مُراعاةً للعُرفِ، أمَّا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّاب فماذا فَعَلَ عندما ظَفِرَ بأحَدِ رُسُلِ المُسلِمِين؟
لمَّا استَشرَى فَسادُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، رَأى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أن يَبعَثَ إليه بِرِسالةٍ يَزجُرُهُ فيها عن غَيِّهِ، وحَمَلَ الرِّسالةَ حبيبُ بنُ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وَصَلَ حبيبُ بنُ زَيدٍ إلى مُسَيْلِمَةَ في مَجلِسِهِ، فالتَفَتَ إليه وقال لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله؟
قال: نَعَمْ.
قال: أَفَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ الله؟
قال حبيب: إنَّ في أُذُني صَمماً عن سماعِ ما تقولُ.
فامتُقِعَ وجهُ مُسَيلِمَةَ وارتَجَفَت شَفَتاهُ حَنَقاً، وقال لِجَلَّادِهِ: اِقطَع قِطعَةً من جَسَدِهِ.
فأهوى الجلَّادُ على حبيبٍ بِسَيفِهِ، وبَتَرَ قِطعَةً من جَسَدِهِ، فَتَدَحرَجَت على الأرضِ.
ثمَّ أعادَ مُسَيلِمَةُ عليهِ السُّؤالَ نَفسَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله؟
قال: نَعَمْ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله.
قال: وتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ الله؟
قال: قُلتُ لك: إنَّ في أُذُني صَمماً عن سماعِ ما تقولُ.
فأَمَرَ بأن تُقطَعَ من جَسَدِهِ قِطعَةً أخرى، فَقُطِعَت.
ومضى مُسَيلِمَةُ يسألُ، وحبيبُ يُجيبُ، والجلَّادُ يَقطَعُ، حتَّى فاضت رُوحُ سيِّدِنا من جَسَدِهِ الطَّاهِرِ، وعلى شَفَتَيهِ الطَّاهِرَتَينِ اسمُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أََشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: العَدلُ بينَ النَّاسِ هوَ المِيزانُ الذي وَضَعَهُ اللهُ تعالى للخَلقِ، ونَصَبَهُ للحَقِّ، ولا صَلاحَ للمُجتَمَعاتِ الإنسانِيَّةِ إلا بِالعَدلِ، ولا عَدلَ إلَّا في الإِسلامِ، ولا عَدلَ إلا في اتِّباعِ هَدْيِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فهلَّا نَتَحلَّى بِصِفَةِ العَدلِ في حقِّ أنفُسِنا أَولاً، ثمَّ في حَقِّ أَهلِنا ثانياً، ثمَّ في حقِّ المؤمنينَ ثالثاً، ثمَّ في حقِّ النَّاسِ جَميعاً رابعاً.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: السَّعيدُ من اتَّبَعَ، والشَّقيُّ من حُرِمَ الاتِّباعَ، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوَّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
29ـ موقفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من رسولي مسيلمة الكذاب
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: لقد أكرَمَنا اللهُ تعالى بِتَشريعٍ سَادَت فيِهِ الأمَّةُ على جَميعِ الخَلقِ، بِتَشريعٍ يَسمو بالمُجتَمَعِ الإنسانِيِّ إلى أَرقَى المُستَوَياتِ، ومِن جُملةِ هذا التَّشريعِ الذي أكرَمَنا اللهُ تعالى به خُلُقُ العَدلِ، حيثُ يُعَدُّ مِن أَسمَى القِيَمِ الإِنسانِيَّةِ التي جَاءَ بِهَا الإِسلامُ.
العَدلُ بينَ النَّاسِ هوَ هَدَفُ الرِّسَالاتِ السَّماوِيَّةِ كُلِّها، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. يعني: بالعَدلِ.
بالعَدلِ أُنزِلَتِ الكُتُبُ، وبِهِ بُعِثَتِ الرُّسُلُ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبه قامَتِ السَّماواتُ والأَرَضِينَ، وما شَقِيَ مُجتَمَعٌ مِنَ المُجتَمَعاتِ إلا بالجَورِ والظُّلمِ، كَمَا أنَّهُ ما سَعِدَ مُجتَمَعٌ مِنَ المُجتَمَعاتِ إلا بالعَدلِ.
العَدلُ في الإسلامِ لا يَتَأثَّرُ بِحُبٍّ ولا بِبُغضٍ، ولا يُفَرِّقُ بينَ حَسَبٍ ونَسَبٍ، ولا بَينَ جَاهٍ ومَالٍ، كَمَا لا يُفَرِّقُ بينَ مسلمٍ وغَيرِ مُسلِمٍ.
عَدلُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد سَمَت أَخلَاقُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُمُوَّاً لا يُدانيهِ أحَدٌ من الخَلقِ، فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحَقٍّ سَيِّداً رَحِيماً بِكُلِّ ما تَحمِلُهُ هذهِ الكلمةُ من مَعنَى، لَقَد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِثالاً يُحتَذى به في كلِّ شَيءٍ، كانَ مِثالاً رَائِعاً لِلفَردِ ولِلجَماعةِ بِكُلِّ أَشكَالِها وصُوَرِها وأَحوَالِها، وخَاصَّةً في خُلُقِ العَدلِ.
مَوقِفُهُ من رسولَي مُسَيلِمَةَ الكَذَّابِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أرسَلَ مُسَيلِمَةُ الكَذَّابُ كِتاباً إلى سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مع رَجُلَينِ من قَومِهِ، جاء فيه: مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ الله إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله، سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، فَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَمْرِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفُ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشاً قَوْمٌ يَعْتَدُونَ.
فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولَانِ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ : «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» رواه البيهقي عن نُعَيْمٍ بنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وفي رواية الإمام أحمد عن نُعَيْمٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِلرَّسُولَيْنِ :«فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا؟».
قَالَا: نَقُولُ كَمَا قَالَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «والله لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا».
نعم، لقد طَبَّقَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قولَهُ تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون﴾.
لقد جَهَرا أَمامَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالكُفرِ، وأعلَنا أنَّهُما يُؤمِنانِ بمُسَيلَمَةَ الكَذَّابِ، ولو قَتَلَهُم سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَحَلَّ له هذا، لأنَّهُ هوَ القائِلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
هَذانِ لم يَكتَفِيا بِتَركِ الجماعةِ، ولكنَّهُما قَامَا بِفِتنَةِ النَّاسِ عن دِينِهِم، وجَاءَا لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُساوِمانِهِ على اقتِسامِ النُّبُوَّةِ، فلو قَتَلَهُما صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لم يَكُن عليهِ مِن حَرَجٍ، ولكنْ حَفِظَ دِمَاءَهُما، لأنَّهُما من الرُّسُلِ، والرُّسُلُ عُرفاً لا تُقتَلُ، والشَّرعُ الشَّريفُ جاءَ مُقِرَّاً بالعُرفِ، لذلك قال لهُما صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «والله لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا».
أمَّا مَوقِفُ مُسَيلِمَةَ من رسولِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فمَا هوَ؟
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذا هوَ رَسُولُنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأينَ الأمَّةُ مِن أَخلاقِهِ ومن سِيرَتِهِ؟ هل هيَ مُتَّبِعَةٌ أم مُبتَدِعَةٌ؟ هل تَرَكَت هَديَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وأخَذَت بِأهوائِها وشَهَواتِها وعواطِفِها غَيرِ المُنضَبِطَةِ بِضَوابِطِ الشَّريعةِ؟
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أمَّنَ رَسُولَي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ مُراعاةً للعُرفِ، أمَّا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّاب فماذا فَعَلَ عندما ظَفِرَ بأحَدِ رُسُلِ المُسلِمِين؟
لمَّا استَشرَى فَسادُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، رَأى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أن يَبعَثَ إليه بِرِسالةٍ يَزجُرُهُ فيها عن غَيِّهِ، وحَمَلَ الرِّسالةَ حبيبُ بنُ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وَصَلَ حبيبُ بنُ زَيدٍ إلى مُسَيْلِمَةَ في مَجلِسِهِ، فالتَفَتَ إليه وقال لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله؟
قال: نَعَمْ.
قال: أَفَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ الله؟
قال حبيب: إنَّ في أُذُني صَمماً عن سماعِ ما تقولُ.
فامتُقِعَ وجهُ مُسَيلِمَةَ وارتَجَفَت شَفَتاهُ حَنَقاً، وقال لِجَلَّادِهِ: اِقطَع قِطعَةً من جَسَدِهِ.
فأهوى الجلَّادُ على حبيبٍ بِسَيفِهِ، وبَتَرَ قِطعَةً من جَسَدِهِ، فَتَدَحرَجَت على الأرضِ.
ثمَّ أعادَ مُسَيلِمَةُ عليهِ السُّؤالَ نَفسَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله؟
قال: نَعَمْ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله.
قال: وتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ الله؟
قال: قُلتُ لك: إنَّ في أُذُني صَمماً عن سماعِ ما تقولُ.
فأَمَرَ بأن تُقطَعَ من جَسَدِهِ قِطعَةً أخرى، فَقُطِعَت.
ومضى مُسَيلِمَةُ يسألُ، وحبيبُ يُجيبُ، والجلَّادُ يَقطَعُ، حتَّى فاضت رُوحُ سيِّدِنا من جَسَدِهِ الطَّاهِرِ، وعلى شَفَتَيهِ الطَّاهِرَتَينِ اسمُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أََشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: العَدلُ بينَ النَّاسِ هوَ المِيزانُ الذي وَضَعَهُ اللهُ تعالى للخَلقِ، ونَصَبَهُ للحَقِّ، ولا صَلاحَ للمُجتَمَعاتِ الإنسانِيَّةِ إلا بِالعَدلِ، ولا عَدلَ إلَّا في الإِسلامِ، ولا عَدلَ إلا في اتِّباعِ هَدْيِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فهلَّا نَتَحلَّى بِصِفَةِ العَدلِ في حقِّ أنفُسِنا أَولاً، ثمَّ في حَقِّ أَهلِنا ثانياً، ثمَّ في حقِّ المؤمنينَ ثالثاً، ثمَّ في حقِّ النَّاسِ جَميعاً رابعاً.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: السَّعيدُ من اتَّبَعَ، والشَّقيُّ من حُرِمَ الاتِّباعَ، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوَّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin