مع الحبيب المصطفى: به صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تم البناء
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
204ـ به صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تم البناء
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَمَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هَمَّ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى على كَوَاهِلِهِ، وتَعَرَّضَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لِعَوَاصِفَ عَاتِيَةٍ من البَغْضَاءِ والافْتِرَاءِ، ومُزِّقَ شَمْلُ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، فَمَا ذَاقُوا مُنْذُ أَنْ آمَنُوا بِهِ رَاحَةَ الرُّكُونِ إلى الأَهْلِ والمَالِ.
وكَانَ آخِرَ العَهْدِ بِمَشَاقِّ الدَّعْوَةِ يَومُ الطَّائِفِ، ثمَّ دُخُولُهُ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ في جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ، وكَانَ بَعْدَ ذلكَ الفَرَجُ، وجَاءَتْ نِعْمَةُ ومِنْحَةُ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ، لِتُطَمْئِنَ قَلْبَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولِتَمَسَّ فُؤَادَهُ المُعَنَّى بِبَرْدِ الرَّاحَةِ، ولِيَتَذَوَّقَ أَنَّهُ بِعَيْنِ اللهِ تعالى ورِعَايَتِهِ مُنْذُ أَنْ قَامَ بِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وصَدَقَ فِيهِ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾.
إِكْمَالُ البِنَاءِ:
أيُّها الإخوة الكرام: جَاءَتْ حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ لِتُوَضِّحَ لَنَا أَوَاصِرَ القُرْبَى بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ جَمِيعَاً، وهذا المَعْنَى هوَ أَصْلٌ من أُصُولِ الإِيمَانِ، قَالَ تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.
فَفِي كُلِّ سَمَاءٍ كَانَ يَسْتَقْبِلُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ نَبِيٌّ من الأَنْبِيَاءِ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ: مَرْحَبَاً بالأَخِ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، بَعْدَ أَنْ صَلَّى فِيهِمْ إِمَامَاً في المَسْجِدِ الأَقْصَى، وبذلكَ ظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مُرْسَلٌ لِتَكْمِلَةِ البِنَاءِ الذي تَعَهَّدَهُ من سَبَقُوهُ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتَاً فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟
فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ».
مَوْقِفُ قُرَيْشٍ من حَادِثَةِ الإِسْرَاءِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا كَانَتْ صَبِيحَةُ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ، حَدَّثَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ النَّاسَ بِمَا حَصَلَ لَهُ، فَجَمَعُوا أَنْفُسَهُم لِيَسْمَعُوا هذهِ الأُعْجُوبَةَ، ولِيَزْدَادُوا إِنْكَارَاً لِرِسَالَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَهُم مَا كَانُوا يُصَدِّقُونَهُ أَنْ يَقَعَ الوَحْيُ على الأَرْضِ، أَفَيُصَدِّقُونَهُ في خَبَرِ السَّمَاءِ.
روى الشيخان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلَا اللهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ».
وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ».
فَلَمَّا كّذَّبَهُ النَّاسُ قَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينَاً؛ قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «نَعَمْ».
قَالَ: مَا هُوَ؟
قَالَ: «إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ».
قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟
قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ».
قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟
قَالَ: «نَعَمْ».
قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ.
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «نَعَمْ».
فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ؛ فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ، وَجَاؤُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا.
قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ».
قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟
قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ».
قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟
قَالَ: «نَعَمْ».
قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبَاً لِلْكَذِبِ زَعَمَ.
قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ، وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى الْمَسْجِدَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ؛ فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ، حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ؛ وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ».
فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللهِ لَقَدْ أَصَابَ.
عَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ نَفْسَهُ على القَبَائِلِ:
أيُّها الإخوة الكرام: بَعْدَ حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ انْطَلَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، يُنْذِرُ بالوَحْيِ كُلَّ مَن يَلْقَى، ويَخُوضُ بِدَعْوَتِهِ مَجَامِعَ النَّاسِ، ويَغْشَى مَوَاسِمَهُمْ، ويَتْبَعُ الحَجِيجَ في مَنَازِلِهِم، ويُغَبِّرُ قَدَمَيْهِ إلى أَسْوَاقِ عُكَاظَ وغَيْرِهَا دَاعِيَاً النَّاسَ إلى عِبَادَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَتَعَرَّضُ لِجَمِيعِ القَبَائِلِ، ويَسْأَلُ عَن مَنَازِلِ كُلِّ قَبِيلَةٍ، ويَعْرِضُ عَلَيهِم دَعْوَتَهُ، وكَانَ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ يَمْشِي وَرَاءَهُ ويَقُولُ: لا تُطِيعُوهُ، فَإِنَّهُ صَابِئُ كَذَّابٌ.
فَيَكُونَ جَوَابُ القَبَائِلِ التي أَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ودَعَاهَا إلى اللهِ تعالى: أُسْرَتُكَ وعَشِيرَتُكَ أَعْلَمُ بِكَ؛ ثمَّ يَرُدُّونَهُ أَقْبَحَ الرَّدِّ.
فَمَا وَجَدَ قَلْبَاً مَفْتُوحَاً، ولا صَدْرَاً مَشْرُوحَاً، بَل كَانُوا يَتَوَاصَوْنَ بالبُعْدِ عَنهُ، وإذا جَاءَ رَجُلٌ من آفَاقٍ بَعِيدَةٍ يُزَوِّدُهُ أَهْلُهُ بهذهِ الوَصِيَّةِ: اِحْذَرْ غُلامَ قُرَيْشٍ، لا يَفْتِنْكَ.
أيُّها الإخوة الكرام: مَعَ كُلِّ هذا مَا عَرَفَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في وَسَطِ هذا الجَوِّ اليَأْسَ ولا القُنُوطَ، واسْتَمَرَّ في دَعْوَتِهِ حَتَّى جَاءَ الفَرَجُ.
طَرِيقٌ عَزِيزٌ لا بُدَّ لَهُ من ثَمَنٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ الوُصُولَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لَيْسَ سَهْلاً، بَل هوَ عَزِيزٌ ومَحْفُوفٌ بالمَخَاوِفِ والأَخْطَارِ، لا يَصِلُ إِلَيهِ العَبدُ إلا إذا خَاطَرَ بِنَفْسِهِ، وجَازَفَ بِحَيَاتِهِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ غَالٍ ثَمَنُهُ غَالٍ، وإِنَّ الوُصُولَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَعْنِي الوُصُولَ إلى اللهِ تعالى، وإِنَّ الوُصُولَ إلى اللهِ تعالى يَعْنِي الوُصُولَ إلى دَارِ رَحْمَتِهِ «أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ» رواه الترمذي عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَأْخُذْ على سَبِيلِ المِثَالِ قِصَّةَ إِسْلامِ سَيِّدِنَا أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى وَرَضِيَ عَنهُ، أَخرَجَ الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي، فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِن السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي.
فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكَلَامَاً مَا هُوَ بِالشِّعْرِ.
فَقَالَ: مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ، فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ، حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ، فَاضْطَجَعَ فَرَآهُ عَلِيٌّ، فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ حَتَّى أَمْسَى، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ فَأَقَامَهُ، فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لَا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ فَعَادَ عَلِيٌّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ؟
قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدَاً وَمِيثَاقَاً لَتُرْشِدَنِّي فَعَلْتُ، فَفَعَلَ؛ فَأَخْبَرَهُ.
قَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئَاً أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ، فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي، فَفَعَلَ؛ فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي».
قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ؛ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ.
ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، وَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، قَالَ: وَيْلَكُمْ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ، فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادَ مِن الْغَدِ لِمِثْلِهَا، فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الإِيمَانُ باللهِ تعالى هوَ البَلْسَمُ لِجَمِيعِ الجُرُوحَاتِ، فَمَا دَامَ اللهُ مَوْجُودَاً، وكَانَ العَبْدُ مَعَهُ، فالعَاقِبَةُ لهذا العَبْدِ، طَالَ الزَّمَنُ أَمْ قَصُرَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وفي الآخِرَةِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
204ـ به صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تم البناء
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَمَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هَمَّ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى على كَوَاهِلِهِ، وتَعَرَّضَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لِعَوَاصِفَ عَاتِيَةٍ من البَغْضَاءِ والافْتِرَاءِ، ومُزِّقَ شَمْلُ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، فَمَا ذَاقُوا مُنْذُ أَنْ آمَنُوا بِهِ رَاحَةَ الرُّكُونِ إلى الأَهْلِ والمَالِ.
وكَانَ آخِرَ العَهْدِ بِمَشَاقِّ الدَّعْوَةِ يَومُ الطَّائِفِ، ثمَّ دُخُولُهُ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ في جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ، وكَانَ بَعْدَ ذلكَ الفَرَجُ، وجَاءَتْ نِعْمَةُ ومِنْحَةُ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ، لِتُطَمْئِنَ قَلْبَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولِتَمَسَّ فُؤَادَهُ المُعَنَّى بِبَرْدِ الرَّاحَةِ، ولِيَتَذَوَّقَ أَنَّهُ بِعَيْنِ اللهِ تعالى ورِعَايَتِهِ مُنْذُ أَنْ قَامَ بِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وصَدَقَ فِيهِ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾.
إِكْمَالُ البِنَاءِ:
أيُّها الإخوة الكرام: جَاءَتْ حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ لِتُوَضِّحَ لَنَا أَوَاصِرَ القُرْبَى بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ جَمِيعَاً، وهذا المَعْنَى هوَ أَصْلٌ من أُصُولِ الإِيمَانِ، قَالَ تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.
فَفِي كُلِّ سَمَاءٍ كَانَ يَسْتَقْبِلُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ نَبِيٌّ من الأَنْبِيَاءِ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ: مَرْحَبَاً بالأَخِ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، بَعْدَ أَنْ صَلَّى فِيهِمْ إِمَامَاً في المَسْجِدِ الأَقْصَى، وبذلكَ ظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مُرْسَلٌ لِتَكْمِلَةِ البِنَاءِ الذي تَعَهَّدَهُ من سَبَقُوهُ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتَاً فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟
فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ».
مَوْقِفُ قُرَيْشٍ من حَادِثَةِ الإِسْرَاءِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا كَانَتْ صَبِيحَةُ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ، حَدَّثَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ النَّاسَ بِمَا حَصَلَ لَهُ، فَجَمَعُوا أَنْفُسَهُم لِيَسْمَعُوا هذهِ الأُعْجُوبَةَ، ولِيَزْدَادُوا إِنْكَارَاً لِرِسَالَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَهُم مَا كَانُوا يُصَدِّقُونَهُ أَنْ يَقَعَ الوَحْيُ على الأَرْضِ، أَفَيُصَدِّقُونَهُ في خَبَرِ السَّمَاءِ.
روى الشيخان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلَا اللهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ».
وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ».
فَلَمَّا كّذَّبَهُ النَّاسُ قَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينَاً؛ قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «نَعَمْ».
قَالَ: مَا هُوَ؟
قَالَ: «إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ».
قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟
قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ».
قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟
قَالَ: «نَعَمْ».
قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ.
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «نَعَمْ».
فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ؛ فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ، وَجَاؤُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا.
قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ».
قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟
قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ».
قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟
قَالَ: «نَعَمْ».
قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبَاً لِلْكَذِبِ زَعَمَ.
قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ، وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى الْمَسْجِدَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ؛ فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ، حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ؛ وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ».
فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللهِ لَقَدْ أَصَابَ.
عَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ نَفْسَهُ على القَبَائِلِ:
أيُّها الإخوة الكرام: بَعْدَ حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ انْطَلَقَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، يُنْذِرُ بالوَحْيِ كُلَّ مَن يَلْقَى، ويَخُوضُ بِدَعْوَتِهِ مَجَامِعَ النَّاسِ، ويَغْشَى مَوَاسِمَهُمْ، ويَتْبَعُ الحَجِيجَ في مَنَازِلِهِم، ويُغَبِّرُ قَدَمَيْهِ إلى أَسْوَاقِ عُكَاظَ وغَيْرِهَا دَاعِيَاً النَّاسَ إلى عِبَادَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَتَعَرَّضُ لِجَمِيعِ القَبَائِلِ، ويَسْأَلُ عَن مَنَازِلِ كُلِّ قَبِيلَةٍ، ويَعْرِضُ عَلَيهِم دَعْوَتَهُ، وكَانَ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ يَمْشِي وَرَاءَهُ ويَقُولُ: لا تُطِيعُوهُ، فَإِنَّهُ صَابِئُ كَذَّابٌ.
فَيَكُونَ جَوَابُ القَبَائِلِ التي أَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ودَعَاهَا إلى اللهِ تعالى: أُسْرَتُكَ وعَشِيرَتُكَ أَعْلَمُ بِكَ؛ ثمَّ يَرُدُّونَهُ أَقْبَحَ الرَّدِّ.
فَمَا وَجَدَ قَلْبَاً مَفْتُوحَاً، ولا صَدْرَاً مَشْرُوحَاً، بَل كَانُوا يَتَوَاصَوْنَ بالبُعْدِ عَنهُ، وإذا جَاءَ رَجُلٌ من آفَاقٍ بَعِيدَةٍ يُزَوِّدُهُ أَهْلُهُ بهذهِ الوَصِيَّةِ: اِحْذَرْ غُلامَ قُرَيْشٍ، لا يَفْتِنْكَ.
أيُّها الإخوة الكرام: مَعَ كُلِّ هذا مَا عَرَفَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في وَسَطِ هذا الجَوِّ اليَأْسَ ولا القُنُوطَ، واسْتَمَرَّ في دَعْوَتِهِ حَتَّى جَاءَ الفَرَجُ.
طَرِيقٌ عَزِيزٌ لا بُدَّ لَهُ من ثَمَنٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ الوُصُولَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لَيْسَ سَهْلاً، بَل هوَ عَزِيزٌ ومَحْفُوفٌ بالمَخَاوِفِ والأَخْطَارِ، لا يَصِلُ إِلَيهِ العَبدُ إلا إذا خَاطَرَ بِنَفْسِهِ، وجَازَفَ بِحَيَاتِهِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ غَالٍ ثَمَنُهُ غَالٍ، وإِنَّ الوُصُولَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَعْنِي الوُصُولَ إلى اللهِ تعالى، وإِنَّ الوُصُولَ إلى اللهِ تعالى يَعْنِي الوُصُولَ إلى دَارِ رَحْمَتِهِ «أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ» رواه الترمذي عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَأْخُذْ على سَبِيلِ المِثَالِ قِصَّةَ إِسْلامِ سَيِّدِنَا أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى وَرَضِيَ عَنهُ، أَخرَجَ الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي، فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِن السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِنِي.
فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكَلَامَاً مَا هُوَ بِالشِّعْرِ.
فَقَالَ: مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ، فَتَزَوَّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ، حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ، فَاضْطَجَعَ فَرَآهُ عَلِيٌّ، فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ حَتَّى أَمْسَى، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا نَالَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ فَأَقَامَهُ، فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لَا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ فَعَادَ عَلِيٌّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَأَقَامَ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ؟
قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدَاً وَمِيثَاقَاً لَتُرْشِدَنِّي فَعَلْتُ، فَفَعَلَ؛ فَأَخْبَرَهُ.
قَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئَاً أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ، فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي، فَفَعَلَ؛ فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي».
قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ؛ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ.
ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، وَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، قَالَ: وَيْلَكُمْ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ، فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادَ مِن الْغَدِ لِمِثْلِهَا، فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الإِيمَانُ باللهِ تعالى هوَ البَلْسَمُ لِجَمِيعِ الجُرُوحَاتِ، فَمَا دَامَ اللهُ مَوْجُودَاً، وكَانَ العَبْدُ مَعَهُ، فالعَاقِبَةُ لهذا العَبْدِ، طَالَ الزَّمَنُ أَمْ قَصُرَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وفي الآخِرَةِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin