مع الحبيب المصطفى: أعظم الخلق عند الله جاها ما سلم من الأذى
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
201ـ أعظم الخلق عند الله جاها ما سلم من الأذى
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ الأَمْرَ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيَ عن المُنْكَرِ، سِمَةٌ من سِمَاتِ هذهِ الأًُمَّةِ، وبِهِ نَالَتِ الخَيْرِيَّةَ، قَالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.
والكَثِيرُ من النَّاسِ لا يَشُكُّونَ في فَرْضِيَّةِ هذا الأَمْرِ، ولَكِنَّهُم يَتَقَاعَسُونَ عن ذلكَ، إِمَّا تَهَاوُنَاً وتَفْرِيطَاً، وإِمَّا اعْتِمَادَاً على غَيْرِهِم وتَسْوِيفَاً، وإِمَّا جُبْنَاً يُلْقِيهِ الشَّيطَانُ في قُلُوبِهِم وتَخْوِيفَاً، واللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وإِمَّا يَأْسَاً من الإِصْلاحِ وقُنُوطَاً.
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّهُ لَشَرَفٌ عَظِيمٌ لِمَن يَقُومُ مَقَامَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في التَّبْلِيغِ، ولِمَنْ يَأْمُرُ بالمَعْرُوفِ، ويَنْهَى عَن المُنْكَرِ، فَلَقَد وَصَفَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِقَولِهِ: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.
أَعْظَمُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ جَاهَاً مَا سَلِمَ من الأَذَى:
أيُّها الإخوة الكرام: هذا الحَبِيبُ الأَعْظَمُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَعْظَمُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ جَاهَاً، قَامَ بالأَمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ، ولَكِنَّهُ مَا سَلِمَ من الأَذَى القَوْلِيِّ والفِعْلِيِّ، فَصَبَرَ على الإِيذَاءِ أَيَّمَا صَبْرٍ.
لقد أُوذِيَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بالقَوْلِ، كَمَا أَخْبَرَنَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ، فَقَالَ مُخْبِرَاً عن إِيذَاءِ المُشْرِكِينَ لَهُ: ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: بَل كَانُوا إذا رَأَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ اتَّخَذُوهُ هُزُوَاً، وقَالُوا سَاخِرِينَ بِهِ: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾. ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾. ﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُورَاً﴾. ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾. لقد آذَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِكُلِّ أَلْقَابِ السُّوءِ والسُّخْرِيَةِ والاسْتِهْزَاءِ.
الإِيذَاءُ الفِعْلِيُّ:
أيُّها الإخوة الكرام: لَمْ يَقْتَصِرِ المُشْرِكُونَ على الإِيذَاءِ القَوْلِيِّ فَقَط، بَل آذَوْهُ بالأذَى الفِعْلِيِّ.
جَاءَ في سِيرَةِ ابنِ هِشَامٍ، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ النَّفَرُ الّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَبَا لَهَبٍ، وَالْحَكَمَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَدِيَّ بْنَ حَمْرَاءَ الثّقَفِيَّ، وَابْنَ الْأَصْدَاءِ الْهُذَلِيَّ، وَكَانُوا جِيرَانَهُ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَطْرَحُ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ رَحِمَ الشَّاةِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَطْرَحُهَا فِي بُرْمَتِهِ إذَا نُصِبَتْ لَهُ حَتَّى اتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ حِجْرَاً يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْهُمْ إذَا صَلَّى، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إذَا طَرَحُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَذَى، يَخْرُجُ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَلَى الْعُودِ فَيَقِفُ بِهِ عَلَى بَابِهِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَيَّ جِوَارٍ هَذَا.
بَل وَضَعُوا سَلَى الجَزُورِ على رَأْسِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وهوَ سَاجِدٌ، وأَخَذَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَخَذَ بِمِنْكَبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولَوَى ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقَاً شَدِيدَاً، ونَثَرُوا على رَأْسِهِ الشَّرِيفِ التُّرَابَ.
خُرُوجُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى الطَّائِفِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا رَأَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ صَلْدَةٌ قَاسِيَةٌ لا تَقْبَلُ بِذْرَةَ التَّوْحِيدِ، وغَيرَ قَابِلَةٍ لأَخْذِ هذا الخَيْرِ العَظِيمِ، واشْتَدَّ أَذَى قُرَيشٍ عَلَيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، خَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى الطَّائِفِ يَلْتَمِسُ النُّصْرَةَ من ثَقِيفٍ وأن يَدْخُلُوا في الإِسْلامِ، وكَانَ لَهُ أَمَلٌ في أَهْلِ الطَّائِفِ، ولا غَرَابَةَ في ذلكَ، فَإِنَّهُ رَضَعَ في بَنِي سَعْدٍ، وهُم بِمَقْرُبَةٍ من الطَّائِفِ، وفِيهِم مَرَاضِعُهُ وحَوَاضِنُهُ.
لماذا اخْتَارَ الطَّائِفَ؟
أيُّها الإخوة الكرام: لقد اخْتَارَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الطَّائِفَ، لأَنَّهَا المَرْكَزُ الثَّانِي للقُوَّةِ والسِّيَادَةِ في الحِجَازِ بَعدَ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، ولأَنَّ أَخْوَالَهُ من بَنِي ثَقِيفٍ.
وكَانَتْ ثَقِيفٌ مُنْفَرِدَةً بالسِّيَادَةِ في الطَّائِفِ، وهيَ من أَعْظَمِ القَبَائِلِ العَرَبِيَّةِ، وكَانَ يُضْرَبُ بِقُوَّتِهَا وثَرْوَتِهَا المَثَلُ، وكَانَتْ بَيْنَهَا وبَيْنَ قُرَيشٍ مُنَافَسَةٌ في مَجَالِ الدِّينِ ورِئَاسَةِ الأَوْثَانِ، وكَانَتْ تَنْظُرُ إلى وَثَنِهَا اللَّاتِ كَمُنَافِسٍ لِهُبَلَ، بَل للكَعْبَةِ، فَأَقَامَتْ حَوَلَهُ حَرَمَاً، وأَحَاطَتْهُ بِنَفْسِ مَظَاهِرِ التَّقْدِيسِ وشَعَائِرِ الدِّينِ التي كَانَتْ مُخْتَصَّةً بالكَعْبَةِ، وكَانَتْ مُؤَيِّدَةً لِجَيْشِ أَبْرَهَةَ الحَبَشِيِّ في هَدْمِ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ أَخْبَارَ تَكْذِيبِ قُرَيشٍ لَهُ، وتَصَدِّيَهُم لَهُ بالأَذَى قَد بَلَغَتِ الطَّائِفَ، ولَكِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَجَشَّمَ هذهِ الرِّحْلَةَ حِرْصَاً على تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وانْتِشَارِ الدَّعْوَةِ، وذلكَ يَدُلُّ على عُلُوِّ هِمَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وشِدَّةِ تَوَكُّلِهِ على اللهِ تعالى، وأَمَلِهِ في الفِطْرَةِ البَشَرِيَّةِ السَّلِيمَةِ.
في الطَّائِفِ:
أيُّها الإخوة الكرام: اِنْطَلَقَ الحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ على قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ، لا يَرْكَبُ رَاحِلَةً لأَنَّهُ لا يَمْتَلِكُهَا إذْ ذَاكَ، اِنْطَلَقَ إلى الطَّائِفِ وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مُتْعَبٌ مُتَأَلِّمٌ، قَد امْتَلأَ قَلْبُهُ حُزْنَاً وأَسَىً على قَوْمِهِ، وعلى فَقْدِ عَمِّهِ وزَوْجَتِهِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.
لقد انْطَلَقَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وهوَ لا يُرِيدُ مَالاً ولا جَاهَاً ولا وَجَاهَةً، إِنَّمَا يُرِيدُ للنَّاسِ خَيْرَيِ الدُّنيَا والآخِرَةِ، ولَكِنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ فَعَلُوا في المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُ ومَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ.
أيُّها الإخوة الكرام: جَاءَ في كِتَابِ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ: فَلَمَّا انْتَهَى إلى الطَّائِفِ عَمَدَ ـ يَعنِي جَاءَ ـ ثَلاثَةُ إِخْوَةٍ من رُؤَسَاءِ ثَقِيفٍ، وَهُم عَبدُ ياليل وَمَسْعُودٌ وَحَبِيبٌ أَبْنَاءُ عَمْرِو بنِ عُمَيرٍ الثَّقَفِيِّ، فَجَلَسَ إِلَيهِم وَدَعَاهُم إلى اللهِ، وإلى نُصْرَةِ الإِسْلامِ، فَقَالَ أَحَدُهُم: هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الكَعْبَةِ ـ أي: يُمَزِّقُهَا ـ إِنْ كَانَ اللهُ أَرْسَلَكَ.
وَقَالَ الآخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللهُ أَحَدَاً غَيْرَكَ.
وَقَالَ الثَّالِثُ: واللهِ لا أُكَلِّمُكَ أَبَدَاً، إِنْ كُنْتَ رَسُولاً لَأَنتَ أَعْظَمُ خَطَرَاً من أَنْ أَرُدَّ عَلَيكَ الكَلامَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ على اللهِ مَا يَنْبَغِي أَنْ أُكَلِّمَكَ.
فَقَامَ عَنْهُم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَقَالَ لَهُم: «إِذْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي».
وَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بَيْنَ أَهْلِ الطَّائِفِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، لا يَدَعُ أَحَدَاً من أَشْرَافِهِم إلا جَاءَهُ وَكَلَّمَهُ، فَقَالُوا: اُخْرُجْ من بِلَادِنَا؛ وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُم.
فَلَمَّا أَرَادَ الخُرُوجَ تَبِعَهُ سُفَهَاؤُهُم وَعَبِيدُهُم يَسُبُّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيهِ النَّاسُ، فَوَقَفُوا لَهُ سِمَاطَيْن ـ أي: صَفَّينِ ـ وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بالحِجَارَةِ، وَبِكَلِمَاتٍ من السَّفَهِ، وَرَجَمُوا عَرَاقِيبَهُ، حَتَّى اخْتَضَبَ نَعْلَاهُ بالدِّمَاءِ.
وَكَانَ زَيْدُ بن حَارِثَةَ يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَصَابَهُ شِجَاجٌ في رَأْسِهِ، ولَمْ يَزَلْ بِهِ السُّفَهَاءُ كَذَلكَ حَتَّى أَلْجَأُوهُ إلى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ على ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ من الطَّائِفِ.
فَلَمَّا الْتَجَأَ إِلَيهِ رَجَعُوا عَنهُ، وَأَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى حُبْلَةٍ من عِنَبٍ فَجَلَسَ تَحتَ ظِلِّهَا إلى جِدَارٍ.
فَلَمَّا جَلَسَ إِلَيهِ وَاطْمَأَنَّ، دَعَا بالدُّعَاءِ المَشْهُورِ الذي يَدُلُّ على امْتِلاءِ قَلْبِهِ كَآبَةً وَحُزْنَاً مِمَّا لَقِي من الشِّدَّةِ، وَأَسَفَاً على أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ أَحَدٌ، قَالَ:
«اللَّهُمَّ إِلَيكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي على النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فلا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتُكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الذي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيهِ أَمْرُ الدُّنيَا والآخِرَةِ من أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَو يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بِكَ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ هذا الصَّبْرَ العَظِيمَ على هذا الأَذَى الشَّدِيدِ الذي لَقِيَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لَأَكْبَرُ عِبْرَةٍ يَعْتَبِرُهَا المُؤْمِنُونَ الآمِرُونَ بالمَعْرُوفِ، والنَّاهُونَ عَن المُنْكَرِ، لِيَصْبِرُوا على مَا أَصَابَهُم، ويَحْتَسِبُوا الأَجْرَ من اللهِ تعالى، ويَعْلَمُوا أَنَّ للجَنَّةِ ثَمَنَاً، قَالَ تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أن يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّ ويَرْضَاهُ، وأن يَجْعَلَنَا آمِرِينَ بالمَعْرُوفِ، نَاهِينَ عَن المُنْكَرِ، وأن يَلْطُفَ بِنَا فِيمَا جَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
201ـ أعظم الخلق عند الله جاها ما سلم من الأذى
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ الأَمْرَ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيَ عن المُنْكَرِ، سِمَةٌ من سِمَاتِ هذهِ الأًُمَّةِ، وبِهِ نَالَتِ الخَيْرِيَّةَ، قَالَ تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.
والكَثِيرُ من النَّاسِ لا يَشُكُّونَ في فَرْضِيَّةِ هذا الأَمْرِ، ولَكِنَّهُم يَتَقَاعَسُونَ عن ذلكَ، إِمَّا تَهَاوُنَاً وتَفْرِيطَاً، وإِمَّا اعْتِمَادَاً على غَيْرِهِم وتَسْوِيفَاً، وإِمَّا جُبْنَاً يُلْقِيهِ الشَّيطَانُ في قُلُوبِهِم وتَخْوِيفَاً، واللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وإِمَّا يَأْسَاً من الإِصْلاحِ وقُنُوطَاً.
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّهُ لَشَرَفٌ عَظِيمٌ لِمَن يَقُومُ مَقَامَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في التَّبْلِيغِ، ولِمَنْ يَأْمُرُ بالمَعْرُوفِ، ويَنْهَى عَن المُنْكَرِ، فَلَقَد وَصَفَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِقَولِهِ: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.
أَعْظَمُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ جَاهَاً مَا سَلِمَ من الأَذَى:
أيُّها الإخوة الكرام: هذا الحَبِيبُ الأَعْظَمُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَعْظَمُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ جَاهَاً، قَامَ بالأَمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ، ولَكِنَّهُ مَا سَلِمَ من الأَذَى القَوْلِيِّ والفِعْلِيِّ، فَصَبَرَ على الإِيذَاءِ أَيَّمَا صَبْرٍ.
لقد أُوذِيَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بالقَوْلِ، كَمَا أَخْبَرَنَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ، فَقَالَ مُخْبِرَاً عن إِيذَاءِ المُشْرِكِينَ لَهُ: ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: بَل كَانُوا إذا رَأَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ اتَّخَذُوهُ هُزُوَاً، وقَالُوا سَاخِرِينَ بِهِ: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾. ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾. ﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُورَاً﴾. ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾. لقد آذَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِكُلِّ أَلْقَابِ السُّوءِ والسُّخْرِيَةِ والاسْتِهْزَاءِ.
الإِيذَاءُ الفِعْلِيُّ:
أيُّها الإخوة الكرام: لَمْ يَقْتَصِرِ المُشْرِكُونَ على الإِيذَاءِ القَوْلِيِّ فَقَط، بَل آذَوْهُ بالأذَى الفِعْلِيِّ.
جَاءَ في سِيرَةِ ابنِ هِشَامٍ، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ النَّفَرُ الّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَبَا لَهَبٍ، وَالْحَكَمَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَدِيَّ بْنَ حَمْرَاءَ الثّقَفِيَّ، وَابْنَ الْأَصْدَاءِ الْهُذَلِيَّ، وَكَانُوا جِيرَانَهُ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَطْرَحُ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ رَحِمَ الشَّاةِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَطْرَحُهَا فِي بُرْمَتِهِ إذَا نُصِبَتْ لَهُ حَتَّى اتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ حِجْرَاً يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْهُمْ إذَا صَلَّى، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إذَا طَرَحُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَذَى، يَخْرُجُ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَلَى الْعُودِ فَيَقِفُ بِهِ عَلَى بَابِهِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَيَّ جِوَارٍ هَذَا.
بَل وَضَعُوا سَلَى الجَزُورِ على رَأْسِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وهوَ سَاجِدٌ، وأَخَذَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَخَذَ بِمِنْكَبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولَوَى ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقَاً شَدِيدَاً، ونَثَرُوا على رَأْسِهِ الشَّرِيفِ التُّرَابَ.
خُرُوجُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى الطَّائِفِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا رَأَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ صَلْدَةٌ قَاسِيَةٌ لا تَقْبَلُ بِذْرَةَ التَّوْحِيدِ، وغَيرَ قَابِلَةٍ لأَخْذِ هذا الخَيْرِ العَظِيمِ، واشْتَدَّ أَذَى قُرَيشٍ عَلَيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، خَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى الطَّائِفِ يَلْتَمِسُ النُّصْرَةَ من ثَقِيفٍ وأن يَدْخُلُوا في الإِسْلامِ، وكَانَ لَهُ أَمَلٌ في أَهْلِ الطَّائِفِ، ولا غَرَابَةَ في ذلكَ، فَإِنَّهُ رَضَعَ في بَنِي سَعْدٍ، وهُم بِمَقْرُبَةٍ من الطَّائِفِ، وفِيهِم مَرَاضِعُهُ وحَوَاضِنُهُ.
لماذا اخْتَارَ الطَّائِفَ؟
أيُّها الإخوة الكرام: لقد اخْتَارَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الطَّائِفَ، لأَنَّهَا المَرْكَزُ الثَّانِي للقُوَّةِ والسِّيَادَةِ في الحِجَازِ بَعدَ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، ولأَنَّ أَخْوَالَهُ من بَنِي ثَقِيفٍ.
وكَانَتْ ثَقِيفٌ مُنْفَرِدَةً بالسِّيَادَةِ في الطَّائِفِ، وهيَ من أَعْظَمِ القَبَائِلِ العَرَبِيَّةِ، وكَانَ يُضْرَبُ بِقُوَّتِهَا وثَرْوَتِهَا المَثَلُ، وكَانَتْ بَيْنَهَا وبَيْنَ قُرَيشٍ مُنَافَسَةٌ في مَجَالِ الدِّينِ ورِئَاسَةِ الأَوْثَانِ، وكَانَتْ تَنْظُرُ إلى وَثَنِهَا اللَّاتِ كَمُنَافِسٍ لِهُبَلَ، بَل للكَعْبَةِ، فَأَقَامَتْ حَوَلَهُ حَرَمَاً، وأَحَاطَتْهُ بِنَفْسِ مَظَاهِرِ التَّقْدِيسِ وشَعَائِرِ الدِّينِ التي كَانَتْ مُخْتَصَّةً بالكَعْبَةِ، وكَانَتْ مُؤَيِّدَةً لِجَيْشِ أَبْرَهَةَ الحَبَشِيِّ في هَدْمِ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ أَخْبَارَ تَكْذِيبِ قُرَيشٍ لَهُ، وتَصَدِّيَهُم لَهُ بالأَذَى قَد بَلَغَتِ الطَّائِفَ، ولَكِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَجَشَّمَ هذهِ الرِّحْلَةَ حِرْصَاً على تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وانْتِشَارِ الدَّعْوَةِ، وذلكَ يَدُلُّ على عُلُوِّ هِمَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وشِدَّةِ تَوَكُّلِهِ على اللهِ تعالى، وأَمَلِهِ في الفِطْرَةِ البَشَرِيَّةِ السَّلِيمَةِ.
في الطَّائِفِ:
أيُّها الإخوة الكرام: اِنْطَلَقَ الحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ على قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ، لا يَرْكَبُ رَاحِلَةً لأَنَّهُ لا يَمْتَلِكُهَا إذْ ذَاكَ، اِنْطَلَقَ إلى الطَّائِفِ وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مُتْعَبٌ مُتَأَلِّمٌ، قَد امْتَلأَ قَلْبُهُ حُزْنَاً وأَسَىً على قَوْمِهِ، وعلى فَقْدِ عَمِّهِ وزَوْجَتِهِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.
لقد انْطَلَقَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وهوَ لا يُرِيدُ مَالاً ولا جَاهَاً ولا وَجَاهَةً، إِنَّمَا يُرِيدُ للنَّاسِ خَيْرَيِ الدُّنيَا والآخِرَةِ، ولَكِنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ فَعَلُوا في المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُ ومَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ.
أيُّها الإخوة الكرام: جَاءَ في كِتَابِ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ: فَلَمَّا انْتَهَى إلى الطَّائِفِ عَمَدَ ـ يَعنِي جَاءَ ـ ثَلاثَةُ إِخْوَةٍ من رُؤَسَاءِ ثَقِيفٍ، وَهُم عَبدُ ياليل وَمَسْعُودٌ وَحَبِيبٌ أَبْنَاءُ عَمْرِو بنِ عُمَيرٍ الثَّقَفِيِّ، فَجَلَسَ إِلَيهِم وَدَعَاهُم إلى اللهِ، وإلى نُصْرَةِ الإِسْلامِ، فَقَالَ أَحَدُهُم: هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الكَعْبَةِ ـ أي: يُمَزِّقُهَا ـ إِنْ كَانَ اللهُ أَرْسَلَكَ.
وَقَالَ الآخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللهُ أَحَدَاً غَيْرَكَ.
وَقَالَ الثَّالِثُ: واللهِ لا أُكَلِّمُكَ أَبَدَاً، إِنْ كُنْتَ رَسُولاً لَأَنتَ أَعْظَمُ خَطَرَاً من أَنْ أَرُدَّ عَلَيكَ الكَلامَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ على اللهِ مَا يَنْبَغِي أَنْ أُكَلِّمَكَ.
فَقَامَ عَنْهُم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وَقَالَ لَهُم: «إِذْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي».
وَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بَيْنَ أَهْلِ الطَّائِفِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، لا يَدَعُ أَحَدَاً من أَشْرَافِهِم إلا جَاءَهُ وَكَلَّمَهُ، فَقَالُوا: اُخْرُجْ من بِلَادِنَا؛ وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُم.
فَلَمَّا أَرَادَ الخُرُوجَ تَبِعَهُ سُفَهَاؤُهُم وَعَبِيدُهُم يَسُبُّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيهِ النَّاسُ، فَوَقَفُوا لَهُ سِمَاطَيْن ـ أي: صَفَّينِ ـ وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بالحِجَارَةِ، وَبِكَلِمَاتٍ من السَّفَهِ، وَرَجَمُوا عَرَاقِيبَهُ، حَتَّى اخْتَضَبَ نَعْلَاهُ بالدِّمَاءِ.
وَكَانَ زَيْدُ بن حَارِثَةَ يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَصَابَهُ شِجَاجٌ في رَأْسِهِ، ولَمْ يَزَلْ بِهِ السُّفَهَاءُ كَذَلكَ حَتَّى أَلْجَأُوهُ إلى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ على ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ من الطَّائِفِ.
فَلَمَّا الْتَجَأَ إِلَيهِ رَجَعُوا عَنهُ، وَأَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى حُبْلَةٍ من عِنَبٍ فَجَلَسَ تَحتَ ظِلِّهَا إلى جِدَارٍ.
فَلَمَّا جَلَسَ إِلَيهِ وَاطْمَأَنَّ، دَعَا بالدُّعَاءِ المَشْهُورِ الذي يَدُلُّ على امْتِلاءِ قَلْبِهِ كَآبَةً وَحُزْنَاً مِمَّا لَقِي من الشِّدَّةِ، وَأَسَفَاً على أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ أَحَدٌ، قَالَ:
«اللَّهُمَّ إِلَيكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي على النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فلا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتُكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الذي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيهِ أَمْرُ الدُّنيَا والآخِرَةِ من أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَو يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بِكَ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ هذا الصَّبْرَ العَظِيمَ على هذا الأَذَى الشَّدِيدِ الذي لَقِيَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لَأَكْبَرُ عِبْرَةٍ يَعْتَبِرُهَا المُؤْمِنُونَ الآمِرُونَ بالمَعْرُوفِ، والنَّاهُونَ عَن المُنْكَرِ، لِيَصْبِرُوا على مَا أَصَابَهُم، ويَحْتَسِبُوا الأَجْرَ من اللهِ تعالى، ويَعْلَمُوا أَنَّ للجَنَّةِ ثَمَنَاً، قَالَ تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أن يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّ ويَرْضَاهُ، وأن يَجْعَلَنَا آمِرِينَ بالمَعْرُوفِ، نَاهِينَ عَن المُنْكَرِ، وأن يَلْطُفَ بِنَا فِيمَا جَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 19:59 من طرف Admin
» كتاب: إيثار الحق على الخلق ـ للإمام عز الدين محمد بن إبراهيم بن الوزير الحسنى
أمس في 19:56 من طرف Admin
» كتاب: الذين رأوا رسول الله في المنام وكلّموه ـ حبيب الكل
أمس في 19:51 من طرف Admin
» كتاب: طيب العنبر فى جمال النبي الأنور ـ الدكتور عبدالرحمن الكوثر
أمس في 19:47 من طرف Admin
» كتاب: روضة الأزهار فى محبة الصحابة للنبي المختار ـ الدكتور عبدالرحمن الكوثر
أمس في 19:42 من طرف Admin
» كتاب: دلائل المحبين فى التوسل بالأنبياء والصالحين ـ الشيخ فتحي سعيد عمر الحُجيري
أمس في 19:39 من طرف Admin
» كتاب: ريحانة الارواح في مولد خير الملاح لسيدي الشيخ علي أمين سيالة
أمس في 19:37 من طرف Admin
» كتاب: قواعد العقائد فى التوحيد ـ حجة الإسلام الإمام الغزالي
أمس في 19:35 من طرف Admin
» كتاب: سر الاسرار باضافة التوسل ـ الشيخ أحمد الطيب ابن البشير
أمس في 19:33 من طرف Admin
» كتاب: خطوتان للحقيقة ـ الأستاذ محمد مرتاض ــ سفيان بلحساين
أمس في 19:27 من طرف Admin
» كتاب: محمد صلى الله عليه وسلم مشكاة الأنوار ـ الشيخ عبدالله صلاح الدين القوصي
أمس في 19:25 من طرف Admin
» كتاب: النسمات القدوسية شرح المقدمات السنوسية الدكتور النعمان الشاوي
أمس في 19:23 من طرف Admin
» كتاب: المتمم بأمر المعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ الشيخ ناصر الدين عبداللطيف ناصر الدين الخطيب
أمس في 19:20 من طرف Admin
» كتاب: الجواهر المكنونة فى العلوم المصونة ـ الشيخ عبدالحفيظ الخنقي
أمس في 19:16 من طرف Admin
» كتاب: الرسالة القدسية في أسرار النقطة الحسية ـ ابن شهاب الهمداني
أمس في 19:09 من طرف Admin