موقفه ﷺ من المنافقين
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
9 ـ موقفه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من المنافقين
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيُّها الإخوة الكرام: لم تُبتَلَ الأمَّةُ في مَاضِيها وحَاضِرِها ولا في مُستَقبَلِها بأخطَرَ من النِّفاقِ والمنافقينَ، فَهُم أعظَمُ ضَرَراً، وأكثرُ خَطَراً، وأدومُ مُصيبةً على المؤمنينَ، لأنَّهُم من جِلدَتِهِم، ويَتَكَلَّمونَ بألسِنَتِهِم، ويَعرِفونَ شِعاراتِهِم، ويَتَظاهَرونَ بإسلامِهِم، ومع ذلكَ لا يَفتُرونَ ولا يَيأسونَ من الكَيدِ للمسلمينَ، وهُمُ الوسيلةُ والمِعوَلُ الهدَّامُ في أيدي أعداءِ هذهِ الأمَّةِ.
أيُّها الإخوة الكرام: النِّفاقُ على قِسمَينِ: نِفاقٌ اعتِقادِيٌّ، وصاحِبُهُ يُبطِنُ الكُفرَ ويُظهِرُ الإسلامَ، ومَآلُهُ يومَ القيامةِ في الدَّركِ الأسفلِ من النَّارِ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾.
ونِفاقٌ سُلوكِيٌّ يَصدُرُ من الإنسانِ المؤمنِ أحياناً، بحيثُ يكونُ ظاهِرُهُ ظاهِرَ المنافقينَ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، ولكن في باطِنِهِ مُؤمنٌ، فهذا أمرُهُ إلى الله تعالى، إن شاءَ عفا عنهُ، وإن شاءَ عَذَّبَهُ، قال تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: تعالُوا لِنَتَعرَّفَ على رحمَةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ومَوقِفِهِ من المنافقينَ الذين أبطَنوا الكُفرَ وأظهَروا الإسلامَ، ولننظُرْ بعدَ ذلكَ إلى سُلوكِنا ولنعرِفَ بعدَ ذلكَ الفارِقَ الكبيرَ بينَنا وبينَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
صُوَرٌ من إيذاءِ المنافقينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِننظُرْ أولاً إلى بعضِ صُوَرِ الإيذاءِ التي صَدَرَت من المنافقينَ تُجاهَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أولاً: منافقٌ يقولُ: اِعدِل يا محمَّد:
روى الإمام البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ، قَالَ: «وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ الله فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: «مَعَاذَ الله أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ».
ويقولُ الإمامُ النَّووي رحمَهُ اللهُ تعالى في شرحِ هذا الحديثِ: رُوِيَ بِفَتْحِ التَّاء فِي «خِبْتَ وَخَسِرْتَ» وَبِضَمِّهِمَا فِيهِمَا، وَمَعْنَى الضَّمِّ ظَاهِرٌ، وَتَقْدِيرُ الْفَتْح: خِبْتَ أَنْتَ أَيّهَا التَّابِع إِذَا كُنْتُ لَا أَعْدِلُ لِكَوْنِك تَابِعاً وَمُقْتَدِياً بِمَنْ لَا يَعْدِل، وَالْفَتْح أَشْهَرُ. وَاللهُ أَعْلَم. اهـ.
ثانياً: قولُ رأسِ المنافقينَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ:
جاء في سيرةِ ابنِ هشام: وَرَدَتْ وَارِدَةُ النَّاسِ وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يُقَالُ لَهُ: جَهْجَاهُ بْنُ مَسْعُودٍ، يَقُودُ فَرَسَهُ، فَازْدَحَمَ جَهْجَاهُ وَسِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ ابْنِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا، فَصَرَخَ الْجُهَنِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَصَرَخَ جَهْجَاهُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، فَغَضِبَ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وقال: قَد ثَاورونَا في بِلادِنا، والله ما عِزُّنا وجَلابِيبُ قُرَيشٍ هذهِ، والله ما نَحنُ والمهاجرونَ إلا كما قالَ الْأَوّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، أَمَا والله لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. ورواه البيهقي.
ثالثاً: قولُ رأسِ النِّفاقِ: لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ الله:
روى الإمام البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ بْنَ سَلُولَ يَقُولُ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَقَالَ أَيْضاً: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِ الله بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾. فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ صَدَّقَكَ».
رابعاً: اتِّهامُ رأسِ النِّفاقِ للسَّيِّدَةِ المُبَرَّأَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: وكانَ أعظَمُ إيذاءٍ من المنافقينَ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ما افتَراهُ رأسُ النِّفاقِ على السَّيِّدَةِ المُبَرَّأَةِ الصِّدِّيقَةِ بِنتِ الصِّدِّيقِ حَبيبَةِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وزوجِهِ الطَّاهِرَةِ البتولِ رَضِيَ اللهُ عَنها وعن والِدَيها.
رحمَتُهُ وشَفَقَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالمنافقينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: إذا عَرَفنا هذا فَيَجِبُ علينا أن نَتَعَرَّفَ على سِيرَةِ المبعوثِ رحمةً للعالمين، الدَّاعي إلى الله عزَّ وجلَّ، كيفَ كانَ مَوقِفُهُ منهُم الممزوجُ بالرَّحمةِ؟ سائِلينَ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُكرِمَنا بالتَّخَلُّقِ بأخلاقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أولاً: سَتَرَهُم وما فَضَحَهُم:
فقد عامَلَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على حَسبِ ظاهِرِهِم، مع عِلمِهِ بِنِفاقِهِم، وسَتَرَ عليهِم ولم يفضَحْهُم، وما أطلَعَ أصحابَهُ الكِرامَ رَضِيَ اللهُ عَنهم عليهِم إلا لِرَجلٍ واحِدٍ اسمُهُ حُذَيفةُ بنُ اليمانِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وما ذاكَ إلا لِحِكَمٍ، منها:
1ـ لقد تَخَلَّقَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بأخلاقِ الرَّحمنِ، فاللهُ تعالى سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّترَ على عِبادِهِ، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه النسائي وأبو داوود عَنْ يَعْلَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ». فَسَتَرَ عليهِمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومن المعلومِ أنَّ العبدَ السِّتِّيرَ على خلقِ الله تعالى لا يُلامُ، ولكن من فَضَحَ العِبادَ قد يُلامُ.
2ـ بالسَّترِ عليهِم يفتَحُ لهُم بابَ العَودةِ بدونِ إحراجٍ، لأنَّ العبدَ إذا فُضِحَ بالنِّفاقِ قد تكونُ عَودَتُهُ فيها حَرَجٌ بسببِ فَضيحَتِهِ.
3ـ تعليمٌ للأمَّةِ كُلِّها بأنَّ القَضِيَّةَ قَضِيَّةُ مَنهَجٍ وليسَت قَضِيَّةَ أفرادٍ يَتِمُّ القَضاءُ عليهِم ثمَّ ينتهي الأمرُ، فالمسألَةُ أعمَقُ من ذلكَ بكثيرٍ، ومن صَبَرَ ظَفَرَ، جاء في تفسير الطَّبريِّ عن عاصم بن عمر بن قتادة رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أنَّ عبدَ الله بنَ عبدِ الله بنِ أُبَيٍّ أَتَى رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ الله، إنَّه بَلَغَني أنَّكَ تُريدُ قَتْلَ عبدِ الله بنِ أُبَيٍّ فيما بَلَغَكَ عنهُ، فإنْ كُنتَ فاعلاً فَمُرني به، فأنا أحمِلُ إليكَ رأسَهُ، فوالله لقد عَلِمَتِ الخزرجُ ما كانَ فيها رَجُلٌ أبرَّ بِوالِدِهِ مِنِّي، وإنِّي أخشى أنْ تأمُرَ به غيري فَيَقتُلَهُ، فلا تَدعني نفسي أنْ أنظُرَ إلى قاتِلِ عبدِ الله بنِ أُبَيٍّ يَمشي في النَّاسِ فَأقتُلَهُ، فأقتُلَ مُؤمِناً بكافِرٍ، فأدخُلَ النَّارَ.
فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ نَرْفُقْ بِهِ وَنُحِسنْ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا».
وجَعَلَ بعدَ ذلكَ اليومَ إذا أحدَثَ الحدَثَ كانَ قَومُهُ هُمُ الذينَ يُعاتِبُونَهُ، ويأخُذونَهُ ويُعَنِّفونَهُ ويَتَوَعَّدونَهُ.
فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ حِينَ بَلَغَهُ ذلكَ عنهُم مِن شَأنِهِم: «كَيْفَ تَرَى يا عُمَرُ؟ أما واللهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ لأرْعَدَتْ لَهُ آنُفٌ، لَوْ أَمَرْتَهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتَهُ».
فَسَتْرُ المنافقِ وعَدَمُ فَضيحَتِهِ ـ فضلاً على عَدَمِ قَتْلِهِ ـ فيه مَصلَحَةٌ كبيرةٌ للأمَّةِ، ودَفْعٌ للفِتنةِ التي قد تُؤَدِّي إلى سَفْكِ الدِّماءِ، والقاعِدَةُ تقولُ: دَرْءُ المَفاسِدِ مُقَدَّمٌ على جَلْبِ المَصالِحِ.
ثانياً: لو عَلِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّ اللهَ تعالى يَغفِرُ لهُم لاستَغفَرَ لهُم:
لو عَلِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّ اللهَ تعالى يَغفِرُ للمنافقين إنْ زادَ على السَّبعينَ لاستَغفَرَ لهُم، روى الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا؟ أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ» فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: «إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» وفي رواية أخرى قال: «وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ».
ثالثاً: صلاةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على رأسِ المنافقينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد بَلَغَت شَفَقَةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ورحمَتُهُ حُدوداً تفوقُ الخَيالَ. جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ وَصَلِّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ، فَقَالَ: «آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ» فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ اللهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ: «أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ» قَالَ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾.
رابعاً: نَفْثُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من رِيقِهِ الشَّريفِ على ابنِ أُبَيٍّ بنِ سَلولَ:
أيُّها الإخوة الكرام: والأكثرُ من هذا أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَفَثَ على ابنِ أُبَيٍّ ابنِ سَلولَ من رِيقِهِ الشَّريفِ بعدَ مَوتِهِ، كما روى الإمام البخاري عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. وفي رواية أيضاً للإمام البخاري عن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، ـ فاللهُ أَعْلَمُ ـ وَكَانَ كَسَا عَبَّاساً قَمِيصاً، قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ أَبُو هَارُونَ يَحْيَى: وَكَانَ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ الله: يَا رَسُولَ الله، أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ، قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَ عَبْدَ الله قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ.
خاتمةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسن الخاتمة ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الرَّاحِمونَ يَرحَمهُمُ الرَّحمنُ، اِرحَموا أهلَ المعاصي، وإيَّاكُم من إظهارِ الشَّماتَةِ في حَقِّهِم، واعلَموا أنَّ المؤمنَ بينَ مَخافَتَينِ، روى البيهقي عن الحَسَنِ البَصرِيِّ قال: طَلَبتُ خُطَبَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الجُمُعةِ فأعيَتني، فَلِزمتُ رجُلاً من أصحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَألتُهُ عن ذلكَ فقال: كانَ يقولُ في خُطبَتِهِ يومَ الجُمُعةِ ـ من جملة ما قال ـ: فإنَّ المؤمِنُ بينَ مَخَافَتَينِ، بينَ أجَلٍ قد مَضَى لا يَدري كيفَ صَنَعَ اللهُ فيهِ، وبينَ أجَلٍ قد بَقِيَ لا يَدري كيفَ اللهُ بِصانِعٍ فيهِ.
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا عُمَرُ رضيَ الله عنهُ المُبشَّرُ بالجنَّةِ كانَ كُلَّمَا سَمِعَ ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ قال: قَسَمٌ ورَبِّ الكَعبَةِ حَقٌّ، وكان راكباً على حِمارِهِ فَنَزَلَ عَن حِمَارِهِ واستَنَدَ إلى حَائِطٍ فَمَكَثَ مَليَّاً، ثُمَّ رَجِعَ إلى مَنزِلِهِ فَمَكَثَ شَهرَاً يَعودُهُ النَّاسُ لا يَدرُونَ مَا مَرَضُهُ.
وجاء في شرحِ زاد المستنقع: كان سيِّدُنا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَقُولُ لِحُذَيْفَةَ رضيَ الله عنهُ: أَنْشُدُكَ اللهَ، هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ ـ يَعْنِي فِي الْمُنَافِقِينَ ـ فَيَقُولُ: لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَداً.
أيُّها الإخوة الكرام: مُروا بالمعروفِ وانهَوا عن المنكرِ، ولتَكُنِ الرَّحمةُ في قُلوبِكُم على المُخالِفِ، وسَلوا اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ، واعلَموا بأنَّ الرَّحيمَ من الخلقِ لا يُلامُ على رحمَتِهِ، ولكنَّ الفَظَّ الغَليظَ سوفَ يُلامُ على فَظاظَتِهِ وغَلاظَتِهِ.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
9 ـ موقفه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من المنافقين
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيُّها الإخوة الكرام: لم تُبتَلَ الأمَّةُ في مَاضِيها وحَاضِرِها ولا في مُستَقبَلِها بأخطَرَ من النِّفاقِ والمنافقينَ، فَهُم أعظَمُ ضَرَراً، وأكثرُ خَطَراً، وأدومُ مُصيبةً على المؤمنينَ، لأنَّهُم من جِلدَتِهِم، ويَتَكَلَّمونَ بألسِنَتِهِم، ويَعرِفونَ شِعاراتِهِم، ويَتَظاهَرونَ بإسلامِهِم، ومع ذلكَ لا يَفتُرونَ ولا يَيأسونَ من الكَيدِ للمسلمينَ، وهُمُ الوسيلةُ والمِعوَلُ الهدَّامُ في أيدي أعداءِ هذهِ الأمَّةِ.
أيُّها الإخوة الكرام: النِّفاقُ على قِسمَينِ: نِفاقٌ اعتِقادِيٌّ، وصاحِبُهُ يُبطِنُ الكُفرَ ويُظهِرُ الإسلامَ، ومَآلُهُ يومَ القيامةِ في الدَّركِ الأسفلِ من النَّارِ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾.
ونِفاقٌ سُلوكِيٌّ يَصدُرُ من الإنسانِ المؤمنِ أحياناً، بحيثُ يكونُ ظاهِرُهُ ظاهِرَ المنافقينَ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، ولكن في باطِنِهِ مُؤمنٌ، فهذا أمرُهُ إلى الله تعالى، إن شاءَ عفا عنهُ، وإن شاءَ عَذَّبَهُ، قال تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: تعالُوا لِنَتَعرَّفَ على رحمَةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ومَوقِفِهِ من المنافقينَ الذين أبطَنوا الكُفرَ وأظهَروا الإسلامَ، ولننظُرْ بعدَ ذلكَ إلى سُلوكِنا ولنعرِفَ بعدَ ذلكَ الفارِقَ الكبيرَ بينَنا وبينَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
صُوَرٌ من إيذاءِ المنافقينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِننظُرْ أولاً إلى بعضِ صُوَرِ الإيذاءِ التي صَدَرَت من المنافقينَ تُجاهَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أولاً: منافقٌ يقولُ: اِعدِل يا محمَّد:
روى الإمام البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ، قَالَ: «وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ الله فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: «مَعَاذَ الله أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ».
ويقولُ الإمامُ النَّووي رحمَهُ اللهُ تعالى في شرحِ هذا الحديثِ: رُوِيَ بِفَتْحِ التَّاء فِي «خِبْتَ وَخَسِرْتَ» وَبِضَمِّهِمَا فِيهِمَا، وَمَعْنَى الضَّمِّ ظَاهِرٌ، وَتَقْدِيرُ الْفَتْح: خِبْتَ أَنْتَ أَيّهَا التَّابِع إِذَا كُنْتُ لَا أَعْدِلُ لِكَوْنِك تَابِعاً وَمُقْتَدِياً بِمَنْ لَا يَعْدِل، وَالْفَتْح أَشْهَرُ. وَاللهُ أَعْلَم. اهـ.
ثانياً: قولُ رأسِ المنافقينَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ:
جاء في سيرةِ ابنِ هشام: وَرَدَتْ وَارِدَةُ النَّاسِ وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يُقَالُ لَهُ: جَهْجَاهُ بْنُ مَسْعُودٍ، يَقُودُ فَرَسَهُ، فَازْدَحَمَ جَهْجَاهُ وَسِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ ابْنِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا، فَصَرَخَ الْجُهَنِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَصَرَخَ جَهْجَاهُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، فَغَضِبَ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وقال: قَد ثَاورونَا في بِلادِنا، والله ما عِزُّنا وجَلابِيبُ قُرَيشٍ هذهِ، والله ما نَحنُ والمهاجرونَ إلا كما قالَ الْأَوّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، أَمَا والله لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. ورواه البيهقي.
ثالثاً: قولُ رأسِ النِّفاقِ: لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ الله:
روى الإمام البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ بْنَ سَلُولَ يَقُولُ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَقَالَ أَيْضاً: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِ الله بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾. فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ صَدَّقَكَ».
رابعاً: اتِّهامُ رأسِ النِّفاقِ للسَّيِّدَةِ المُبَرَّأَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: وكانَ أعظَمُ إيذاءٍ من المنافقينَ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ما افتَراهُ رأسُ النِّفاقِ على السَّيِّدَةِ المُبَرَّأَةِ الصِّدِّيقَةِ بِنتِ الصِّدِّيقِ حَبيبَةِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وزوجِهِ الطَّاهِرَةِ البتولِ رَضِيَ اللهُ عَنها وعن والِدَيها.
رحمَتُهُ وشَفَقَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالمنافقينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: إذا عَرَفنا هذا فَيَجِبُ علينا أن نَتَعَرَّفَ على سِيرَةِ المبعوثِ رحمةً للعالمين، الدَّاعي إلى الله عزَّ وجلَّ، كيفَ كانَ مَوقِفُهُ منهُم الممزوجُ بالرَّحمةِ؟ سائِلينَ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُكرِمَنا بالتَّخَلُّقِ بأخلاقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أولاً: سَتَرَهُم وما فَضَحَهُم:
فقد عامَلَهُم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على حَسبِ ظاهِرِهِم، مع عِلمِهِ بِنِفاقِهِم، وسَتَرَ عليهِم ولم يفضَحْهُم، وما أطلَعَ أصحابَهُ الكِرامَ رَضِيَ اللهُ عَنهم عليهِم إلا لِرَجلٍ واحِدٍ اسمُهُ حُذَيفةُ بنُ اليمانِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وما ذاكَ إلا لِحِكَمٍ، منها:
1ـ لقد تَخَلَّقَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بأخلاقِ الرَّحمنِ، فاللهُ تعالى سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّترَ على عِبادِهِ، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه النسائي وأبو داوود عَنْ يَعْلَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ». فَسَتَرَ عليهِمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومن المعلومِ أنَّ العبدَ السِّتِّيرَ على خلقِ الله تعالى لا يُلامُ، ولكن من فَضَحَ العِبادَ قد يُلامُ.
2ـ بالسَّترِ عليهِم يفتَحُ لهُم بابَ العَودةِ بدونِ إحراجٍ، لأنَّ العبدَ إذا فُضِحَ بالنِّفاقِ قد تكونُ عَودَتُهُ فيها حَرَجٌ بسببِ فَضيحَتِهِ.
3ـ تعليمٌ للأمَّةِ كُلِّها بأنَّ القَضِيَّةَ قَضِيَّةُ مَنهَجٍ وليسَت قَضِيَّةَ أفرادٍ يَتِمُّ القَضاءُ عليهِم ثمَّ ينتهي الأمرُ، فالمسألَةُ أعمَقُ من ذلكَ بكثيرٍ، ومن صَبَرَ ظَفَرَ، جاء في تفسير الطَّبريِّ عن عاصم بن عمر بن قتادة رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أنَّ عبدَ الله بنَ عبدِ الله بنِ أُبَيٍّ أَتَى رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ الله، إنَّه بَلَغَني أنَّكَ تُريدُ قَتْلَ عبدِ الله بنِ أُبَيٍّ فيما بَلَغَكَ عنهُ، فإنْ كُنتَ فاعلاً فَمُرني به، فأنا أحمِلُ إليكَ رأسَهُ، فوالله لقد عَلِمَتِ الخزرجُ ما كانَ فيها رَجُلٌ أبرَّ بِوالِدِهِ مِنِّي، وإنِّي أخشى أنْ تأمُرَ به غيري فَيَقتُلَهُ، فلا تَدعني نفسي أنْ أنظُرَ إلى قاتِلِ عبدِ الله بنِ أُبَيٍّ يَمشي في النَّاسِ فَأقتُلَهُ، فأقتُلَ مُؤمِناً بكافِرٍ، فأدخُلَ النَّارَ.
فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ نَرْفُقْ بِهِ وَنُحِسنْ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا».
وجَعَلَ بعدَ ذلكَ اليومَ إذا أحدَثَ الحدَثَ كانَ قَومُهُ هُمُ الذينَ يُعاتِبُونَهُ، ويأخُذونَهُ ويُعَنِّفونَهُ ويَتَوَعَّدونَهُ.
فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ حِينَ بَلَغَهُ ذلكَ عنهُم مِن شَأنِهِم: «كَيْفَ تَرَى يا عُمَرُ؟ أما واللهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ لأرْعَدَتْ لَهُ آنُفٌ، لَوْ أَمَرْتَهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْتَهُ».
فَسَتْرُ المنافقِ وعَدَمُ فَضيحَتِهِ ـ فضلاً على عَدَمِ قَتْلِهِ ـ فيه مَصلَحَةٌ كبيرةٌ للأمَّةِ، ودَفْعٌ للفِتنةِ التي قد تُؤَدِّي إلى سَفْكِ الدِّماءِ، والقاعِدَةُ تقولُ: دَرْءُ المَفاسِدِ مُقَدَّمٌ على جَلْبِ المَصالِحِ.
ثانياً: لو عَلِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّ اللهَ تعالى يَغفِرُ لهُم لاستَغفَرَ لهُم:
لو عَلِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّ اللهَ تعالى يَغفِرُ للمنافقين إنْ زادَ على السَّبعينَ لاستَغفَرَ لهُم، روى الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا؟ أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ» فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: «إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» وفي رواية أخرى قال: «وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ».
ثالثاً: صلاةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على رأسِ المنافقينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد بَلَغَت شَفَقَةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ورحمَتُهُ حُدوداً تفوقُ الخَيالَ. جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ وَصَلِّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ، فَقَالَ: «آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ» فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ اللهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ: «أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ» قَالَ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾.
رابعاً: نَفْثُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من رِيقِهِ الشَّريفِ على ابنِ أُبَيٍّ بنِ سَلولَ:
أيُّها الإخوة الكرام: والأكثرُ من هذا أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَفَثَ على ابنِ أُبَيٍّ ابنِ سَلولَ من رِيقِهِ الشَّريفِ بعدَ مَوتِهِ، كما روى الإمام البخاري عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. وفي رواية أيضاً للإمام البخاري عن جَابِرَ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، ـ فاللهُ أَعْلَمُ ـ وَكَانَ كَسَا عَبَّاساً قَمِيصاً، قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ أَبُو هَارُونَ يَحْيَى: وَكَانَ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ الله: يَا رَسُولَ الله، أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ، قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَ عَبْدَ الله قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ.
خاتمةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسن الخاتمة ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الرَّاحِمونَ يَرحَمهُمُ الرَّحمنُ، اِرحَموا أهلَ المعاصي، وإيَّاكُم من إظهارِ الشَّماتَةِ في حَقِّهِم، واعلَموا أنَّ المؤمنَ بينَ مَخافَتَينِ، روى البيهقي عن الحَسَنِ البَصرِيِّ قال: طَلَبتُ خُطَبَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الجُمُعةِ فأعيَتني، فَلِزمتُ رجُلاً من أصحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَألتُهُ عن ذلكَ فقال: كانَ يقولُ في خُطبَتِهِ يومَ الجُمُعةِ ـ من جملة ما قال ـ: فإنَّ المؤمِنُ بينَ مَخَافَتَينِ، بينَ أجَلٍ قد مَضَى لا يَدري كيفَ صَنَعَ اللهُ فيهِ، وبينَ أجَلٍ قد بَقِيَ لا يَدري كيفَ اللهُ بِصانِعٍ فيهِ.
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا عُمَرُ رضيَ الله عنهُ المُبشَّرُ بالجنَّةِ كانَ كُلَّمَا سَمِعَ ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ قال: قَسَمٌ ورَبِّ الكَعبَةِ حَقٌّ، وكان راكباً على حِمارِهِ فَنَزَلَ عَن حِمَارِهِ واستَنَدَ إلى حَائِطٍ فَمَكَثَ مَليَّاً، ثُمَّ رَجِعَ إلى مَنزِلِهِ فَمَكَثَ شَهرَاً يَعودُهُ النَّاسُ لا يَدرُونَ مَا مَرَضُهُ.
وجاء في شرحِ زاد المستنقع: كان سيِّدُنا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَقُولُ لِحُذَيْفَةَ رضيَ الله عنهُ: أَنْشُدُكَ اللهَ، هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ ـ يَعْنِي فِي الْمُنَافِقِينَ ـ فَيَقُولُ: لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَداً.
أيُّها الإخوة الكرام: مُروا بالمعروفِ وانهَوا عن المنكرِ، ولتَكُنِ الرَّحمةُ في قُلوبِكُم على المُخالِفِ، وسَلوا اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ، واعلَموا بأنَّ الرَّحيمَ من الخلقِ لا يُلامُ على رحمَتِهِ، ولكنَّ الفَظَّ الغَليظَ سوفَ يُلامُ على فَظاظَتِهِ وغَلاظَتِهِ.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin