مع الحبيب المصطفى: الله يتولى الدفاع عن نبيه ﷺ (5)
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
200ـ الله يتولى الدفاع عن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (5)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: من عَظَمَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنَّ اللهَ تعالى أَخَذَ العَهْدَ على جَمِيعِ الأَنبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، أَنَّهُ إذا بُعِثَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وهُم أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَيَنْصُرُنَّهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
وهذهِ رِفْعَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَينَ الأَنبِيَاءِ، وتَعْرِيفٌ وتَشْرِيفٌ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيِّنٌ لِلبَشَرِيَّةِ جَمعَاءَ، وَلِأَهْلِ الكِتَابِ على وَجْهِ الخُصُوصِ، وقَد بَيَّنَ ذلكَ مَولانَا بِقَولِهِ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾. أي: كَمَا لا يَشُكُّ الرَّجُلُ أَنَّ هذا الابْنَ من صُلْبِهِ، لِعِلْمِهِ بِحَالِهِ وحَالِ زَوجَتِهِ، كذلكَ لا يَشُكُّ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ، لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُم في التَّورَاةِ والإِنْجِيلِ.
صِفَاتُ اليَهُودِ في القُرآنِ العَظِيمِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ من الوَاجِبِ على أَهْلِ الكِتَابِ خَاصَّةً، ثمَّ على المُشْرِكِينَ عَامَّةً، أن يَعْرِفُوا عَظَمَةَ هذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وأن يُؤْمِنُوا بِهِ ويُعَزِّرُوهُ ويَنْصُرُوهُ، ولكنَّ الاسْتِكْبَارَ مَنَعَهُم من ذلكَ، فَاسْتَحَقُّوا الطَّرْدَ من رَحْمَةِ اللهِ تعالى، وخَاصَّةً أَهْلَ الكِتَابِ، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانَاً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: مَا تَرَكَ المُشْرِكُونَ ولا أَهْلُ الكِتَابِ من جَرِيمَةٍ مُنْكَرَةٍ إلا وَفَعَلُوهَا، ولا ضَلالَةٍ إلا اتَّبَعُوهَا، لقد حَاوَلَ أَهْلُ الكِتَابِ قَتْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِم أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، ولا غَرَابَةَ في ذلكَ فَهُم قَتَلَةُ الأَنبِيَاءِ، جَاءَ في الرَّوْضِ الأُنُفِ، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلَى بَنِي النُّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِك الْقَتِيلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اللَّذَيْنِ قَتَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضَّمْرِيُّ، لِلْجِوَارِ الذِي كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَقَدَ لَهُمَا، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النُّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِرٍ عَقْدٌ وَحِلْفٌ.
فَلَمَّا أَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِك الْقَتِيلَيْنِ.
قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، نُعِينُك عَلَى مَا أَحْبَبْت، مِمَّا اسْتَعَنْت بِنَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ فَقَالُوا: إنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا الرَّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ هَذِهِ ـ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَاعِدٌ ـ فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحَنَا مِنْهُ؟
فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جَحَّاشِ بْنِ كَعْبٍ، أَحَدَهُمْ فَقَالَ: أَنَا لِذَلِكَ، فَصَعَدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا قَالَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ.
فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الْخَبَرُ مِن السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، فَقَامَ وَخَرَجَ رَاجِعَاً إلَى الْمَدِينَةِ.
فَلَمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَصْحَابَهُ قَامُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَقُوا رَجُلاً مُقْبِلاً مِن الْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلاً الْمَدِينَةَ.
فَأَقْبَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ حَتَّى انْتَهَوْا إلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، بِمَا كَانَتْ الْيَهُودُ أَرَادَتْ مِن الْغَدْرِ بِهِ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ وَالسَّيْرِ إلَيْهِمْ.
وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
هذا الدِّينُ لَهُ أَعْدَاءٌ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَكْرَمَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِدِينٍ قَالَ فِيهِ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينَاً﴾. دِينٌ جَمَعَ بَينَ العَزِيمَةِ والقُوَّةِ، وبَينَ الشَّهَامَةِ والكَرَامَةِ، جَمَعَ بَينَ خَيْرَيِ الدُّنيَا والآخِرَةِ، لِذَا لا تَسْتَبْعِدُوا أن يَكُونَ لَكُم أَعْدَاءً يَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ، ويَتَحَيَّنُونَ الفُرَصَ للقَضَاءِ على هذا الدِّينِ، وخَاصَّةً من قِبَلِ اليَهُودِ، الذينَ كَانُوا ومَا زَالُوا في عَدَاوَةٍ شَدِيدَةٍ لهذا الدِّينِ، قَالَ تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾.
هؤلاءِ اليَهُودُ الذينَ صُبَّتْ عَلَيهِمُ اللَّعنَةُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾. حَاوَلُوا مِرَارَاً قَتْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولكن بَاؤُوا بالخَيْبَةِ وذلكَ لأَنَّ اللهَ تعالى حَافِظٌ نَبِيَّهُ، وكَيفَ لا يَكُونُ حَافِظَاً لَهُ، وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ»؟ رواه الإمام أحمد والترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
غَزْوَةُ خَيْبَرَ:
أيُّها الإخوة الكرام: في غَزْوَةِ خَيْبَرَ التي كَانَتْ مُقَدِّمَةً للفُتُوحَاتِ والغَنَائِمِ، في غَزْوَةِ خَيْبَرَ التي أَعْطَى فِيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الرَّايَةَ لِرَجُلٍ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، ويُحِبُّهُ اللهُ ورَسُولُهُ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدَاً رَجُلاً يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ» ـ وفي رِوَايَةٍ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ» ـ
قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ ـ يَخُوضُونُ وَيَمُوجُونَ ـ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا.
فَقَالَ: «أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟»
فَقَالُوا: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ، حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا.
فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ ـ هَينَتِكَ وَتَأنِيكَ ـ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدَاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» ـ كَرَائِمُ الإِبِلِ لِكَونِهَا عِندَهُم أعظَمَ نِعمَةٍ ـ.
عَمِلَ قَلِيلاً وأُجِرَ كَثِيرَاً:
أيُّها الإخوة الكرام: في غَزْوَةِ خَيْبَرَ عِبَرٌ عَظِيمَةٌ، من جُمْلَتِهَا أَنَّ المُعَوَّلَ عَلَيهِ الخَاتِمَةُ، روى الحاكم والبيهقي عَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَخَرَجَتْ سَرِيَّةٌ، فَأَخَذُوا إِنْسَانَاً مَعَهُ غَنَمٌ يَرْعَاهَا، فَجَاؤُوا بِهِ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا شَاءَ اللُه أن يُكَلِّمَ.
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي قد آمَنْتُ بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَكَيفَ بالغَنَمِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَهِيَ للنَّاسِ الشَّاةُ والشَّاتَانِ وَأَكْثَرُ من ذلكَ؟
قَالَ: «اُحْصُبْ وُجُوهَهَا تَرْجِعْ إلى أَهْلِهَا»
فَأَخَذَ قَبْضَةً من حَصْبَاءَ أو تُرَابٍ، فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهَا، فَخَرَجَتْ تَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَتْ كُلُّ شَاةٍ إلى أَهْلِهَا، ثمَّ تَقَدَّمَ إلى الصَّفِّ، فَأَصَابَهُ بِهِ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يُصَلِّ للهِ سَجْدَةً قَطُّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «أَدْخِلُوهٌ الخِبَاءَ» ـ يَعنِي: المَنزِلَ ـ.
فَأُدْخِلَ خِبَاءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، حَتَّى إذا فَرِغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيهِ.
ثمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: «لَقَد حَسُنَ إِسْلامُ صَاحِبِكُم، لَقَد دَخَلْتُ عَلَيهِ، وَإِنَّ عِنْدَهُ لَزَوجَتَينِ لَهُ من الحُورِ العِينِ».
لَقَد عَمِلَ قَلِيلاً وأُجْرَ كَثِيرَاً، وهذا بِفَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
مَا على هذا اتَّبَعْتُكَ:
أيُّها الإخوة الكرام: في غَزْوَةِ خَيْبَرَ عِبَرٌ عَظِيمَةٌ، من جُمْلَتِهَا نَتَعَلَّمُ كَيفَ يَكُونُ الإِخْلاصُ للهِ عزَّ وجلَّ في العَمَلِ، روى البيهقي عَنْ شَدَّادِ بن الْهَادِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَقَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ.
فَأَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ خَيْبَرَ، غَنِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ شَيْئَاً، فَقَسَمَهُ، وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا هَذَا؟
قَالَ: «قَسْمٌ قَسَمْتُهُ لَكَ»
قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى هَهُنَا ـ وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ ـ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ.
فَقَالَ: «إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ».
فَلَبِثُوا قَلِيلاً، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ يُحْمَلُ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «أَهُوَ هُوَ؟».
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: «صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ».
فَكَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَانَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ صَلاتِهِ عَلَيْهِ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرَاً فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدَاً، أَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ».
نَعَم، إِنَّهُم رِجَالُ بَاعُوا الحَيَاةَ الدُّنيَا بالآخِرَةِ.
مُحَاوَلَةُ أَثِيمَةٌ لليَهُودِ:
أيُّها الإخوة الكرام: بَعدَ قِتَالِ اليَهُودِ في خَيْبَرَ وحِصَارِهِم أَيَّامَاً، سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الصُّلْحَ، وقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، دَعْنَا نَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نُصْلِحُهَا، وَنَقُومُ عَلَيْهَا، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ.
فَأَعْطَاهُم صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ خَيْبَرَ على أَنَّ للمُسْلِمِينَ الشَّطْرَ من كُلِّ زَرْعٍ وثَمَرٍ، مَا بَدَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أن يُقِرَّهُم.
أيُّها الإخوة الكرام: بَعدَ انْتِهَاءِ الغَزْوَةِ واسْتِقْرَارِ الأُمُورِ حَاوَلَ اليَهُودُ قَتْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَن طَرِيقِ تَقْدِيمِ هَدِيَّةٍ من الطَّعَامِ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِن الْيَهُودِ».
فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟».
فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مَنْ أَبُوكُمْ؟».
قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ ـ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ مِن أجْلِ اختِبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ».
فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ ـ أي: أحسَنتَ ـ.
فَقَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟».
فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا.
قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟».
فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرَاً، ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا ـ لِأنَّ هَؤُلاءِ المَلاعِنَةَ يَزعُمُونَ أنفُسَهُم مُؤمِنِينَ فَاسِقِينَ، والمُسلِمِينَ كُفَّاراً.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «اخْسَئُوا فِيهَا، واللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدَاً».
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟».
قَالُوا: نَعَمْ.
فَقَالَ: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمَّاً؟».
فَقَالُوا: نَعَمْ.
َقَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟».
فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابَاً نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيَّاً لَمْ يَضُرَّكَ».
وفي رِوَايَةِ الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ.
فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ.
قَالَ: «مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ».
قَالَ: أَوْ قَالَ عَلَيَّ: قَالَ: قَالُوا: أَلَا نَقْتُلُهَا؟
قَالَ: «لَا».
قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ـ الَّلحمةُ المُعَلَّقَة فِي أَصلِ الحَلْقِ ـ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّ اللهَ تعالى لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وهذهِ سِيرَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تُؤَكِّدُ هذا، فَعَلَيَّ وعَلَيكُمُ الالْتِزَامَ بِهَدْيِ الحَبِيبِ الأَعْظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولْنُحَقِّقْ في أَنفُسِنَا الإِيمَانَ، ثمَّ بَعدَ ذلكَ لِنَطْمَئِنَّ لِقَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولِقَولِهِ تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
200ـ الله يتولى الدفاع عن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (5)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: من عَظَمَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنَّ اللهَ تعالى أَخَذَ العَهْدَ على جَمِيعِ الأَنبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، أَنَّهُ إذا بُعِثَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وهُم أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَيَنْصُرُنَّهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
وهذهِ رِفْعَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَينَ الأَنبِيَاءِ، وتَعْرِيفٌ وتَشْرِيفٌ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيِّنٌ لِلبَشَرِيَّةِ جَمعَاءَ، وَلِأَهْلِ الكِتَابِ على وَجْهِ الخُصُوصِ، وقَد بَيَّنَ ذلكَ مَولانَا بِقَولِهِ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾. أي: كَمَا لا يَشُكُّ الرَّجُلُ أَنَّ هذا الابْنَ من صُلْبِهِ، لِعِلْمِهِ بِحَالِهِ وحَالِ زَوجَتِهِ، كذلكَ لا يَشُكُّ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ، لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُم في التَّورَاةِ والإِنْجِيلِ.
صِفَاتُ اليَهُودِ في القُرآنِ العَظِيمِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ من الوَاجِبِ على أَهْلِ الكِتَابِ خَاصَّةً، ثمَّ على المُشْرِكِينَ عَامَّةً، أن يَعْرِفُوا عَظَمَةَ هذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وأن يُؤْمِنُوا بِهِ ويُعَزِّرُوهُ ويَنْصُرُوهُ، ولكنَّ الاسْتِكْبَارَ مَنَعَهُم من ذلكَ، فَاسْتَحَقُّوا الطَّرْدَ من رَحْمَةِ اللهِ تعالى، وخَاصَّةً أَهْلَ الكِتَابِ، قَالَ تعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانَاً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: مَا تَرَكَ المُشْرِكُونَ ولا أَهْلُ الكِتَابِ من جَرِيمَةٍ مُنْكَرَةٍ إلا وَفَعَلُوهَا، ولا ضَلالَةٍ إلا اتَّبَعُوهَا، لقد حَاوَلَ أَهْلُ الكِتَابِ قَتْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِم أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، ولا غَرَابَةَ في ذلكَ فَهُم قَتَلَةُ الأَنبِيَاءِ، جَاءَ في الرَّوْضِ الأُنُفِ، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلَى بَنِي النُّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِك الْقَتِيلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اللَّذَيْنِ قَتَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضَّمْرِيُّ، لِلْجِوَارِ الذِي كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَقَدَ لَهُمَا، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النُّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِرٍ عَقْدٌ وَحِلْفٌ.
فَلَمَّا أَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِك الْقَتِيلَيْنِ.
قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، نُعِينُك عَلَى مَا أَحْبَبْت، مِمَّا اسْتَعَنْت بِنَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ فَقَالُوا: إنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا الرَّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ هَذِهِ ـ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَاعِدٌ ـ فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحَنَا مِنْهُ؟
فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جَحَّاشِ بْنِ كَعْبٍ، أَحَدَهُمْ فَقَالَ: أَنَا لِذَلِكَ، فَصَعَدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا قَالَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ.
فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الْخَبَرُ مِن السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، فَقَامَ وَخَرَجَ رَاجِعَاً إلَى الْمَدِينَةِ.
فَلَمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَصْحَابَهُ قَامُوا فِي طَلَبِهِ، فَلَقُوا رَجُلاً مُقْبِلاً مِن الْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلاً الْمَدِينَةَ.
فَأَقْبَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ حَتَّى انْتَهَوْا إلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، بِمَا كَانَتْ الْيَهُودُ أَرَادَتْ مِن الْغَدْرِ بِهِ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ وَالسَّيْرِ إلَيْهِمْ.
وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
هذا الدِّينُ لَهُ أَعْدَاءٌ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَكْرَمَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِدِينٍ قَالَ فِيهِ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينَاً﴾. دِينٌ جَمَعَ بَينَ العَزِيمَةِ والقُوَّةِ، وبَينَ الشَّهَامَةِ والكَرَامَةِ، جَمَعَ بَينَ خَيْرَيِ الدُّنيَا والآخِرَةِ، لِذَا لا تَسْتَبْعِدُوا أن يَكُونَ لَكُم أَعْدَاءً يَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ، ويَتَحَيَّنُونَ الفُرَصَ للقَضَاءِ على هذا الدِّينِ، وخَاصَّةً من قِبَلِ اليَهُودِ، الذينَ كَانُوا ومَا زَالُوا في عَدَاوَةٍ شَدِيدَةٍ لهذا الدِّينِ، قَالَ تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾.
هؤلاءِ اليَهُودُ الذينَ صُبَّتْ عَلَيهِمُ اللَّعنَةُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾. حَاوَلُوا مِرَارَاً قَتْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولكن بَاؤُوا بالخَيْبَةِ وذلكَ لأَنَّ اللهَ تعالى حَافِظٌ نَبِيَّهُ، وكَيفَ لا يَكُونُ حَافِظَاً لَهُ، وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ»؟ رواه الإمام أحمد والترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
غَزْوَةُ خَيْبَرَ:
أيُّها الإخوة الكرام: في غَزْوَةِ خَيْبَرَ التي كَانَتْ مُقَدِّمَةً للفُتُوحَاتِ والغَنَائِمِ، في غَزْوَةِ خَيْبَرَ التي أَعْطَى فِيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الرَّايَةَ لِرَجُلٍ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، ويُحِبُّهُ اللهُ ورَسُولُهُ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدَاً رَجُلاً يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ» ـ وفي رِوَايَةٍ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ» ـ
قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ ـ يَخُوضُونُ وَيَمُوجُونَ ـ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا.
فَقَالَ: «أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟»
فَقَالُوا: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ، حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا.
فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ ـ هَينَتِكَ وَتَأنِيكَ ـ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدَاً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» ـ كَرَائِمُ الإِبِلِ لِكَونِهَا عِندَهُم أعظَمَ نِعمَةٍ ـ.
عَمِلَ قَلِيلاً وأُجِرَ كَثِيرَاً:
أيُّها الإخوة الكرام: في غَزْوَةِ خَيْبَرَ عِبَرٌ عَظِيمَةٌ، من جُمْلَتِهَا أَنَّ المُعَوَّلَ عَلَيهِ الخَاتِمَةُ، روى الحاكم والبيهقي عَن جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَخَرَجَتْ سَرِيَّةٌ، فَأَخَذُوا إِنْسَانَاً مَعَهُ غَنَمٌ يَرْعَاهَا، فَجَاؤُوا بِهِ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا شَاءَ اللُه أن يُكَلِّمَ.
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي قد آمَنْتُ بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَكَيفَ بالغَنَمِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَهِيَ للنَّاسِ الشَّاةُ والشَّاتَانِ وَأَكْثَرُ من ذلكَ؟
قَالَ: «اُحْصُبْ وُجُوهَهَا تَرْجِعْ إلى أَهْلِهَا»
فَأَخَذَ قَبْضَةً من حَصْبَاءَ أو تُرَابٍ، فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهَا، فَخَرَجَتْ تَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَتْ كُلُّ شَاةٍ إلى أَهْلِهَا، ثمَّ تَقَدَّمَ إلى الصَّفِّ، فَأَصَابَهُ بِهِ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يُصَلِّ للهِ سَجْدَةً قَطُّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «أَدْخِلُوهٌ الخِبَاءَ» ـ يَعنِي: المَنزِلَ ـ.
فَأُدْخِلَ خِبَاءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، حَتَّى إذا فَرِغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيهِ.
ثمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: «لَقَد حَسُنَ إِسْلامُ صَاحِبِكُم، لَقَد دَخَلْتُ عَلَيهِ، وَإِنَّ عِنْدَهُ لَزَوجَتَينِ لَهُ من الحُورِ العِينِ».
لَقَد عَمِلَ قَلِيلاً وأُجْرَ كَثِيرَاً، وهذا بِفَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
مَا على هذا اتَّبَعْتُكَ:
أيُّها الإخوة الكرام: في غَزْوَةِ خَيْبَرَ عِبَرٌ عَظِيمَةٌ، من جُمْلَتِهَا نَتَعَلَّمُ كَيفَ يَكُونُ الإِخْلاصُ للهِ عزَّ وجلَّ في العَمَلِ، روى البيهقي عَنْ شَدَّادِ بن الْهَادِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَقَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ.
فَأَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ خَيْبَرَ، غَنِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ شَيْئَاً، فَقَسَمَهُ، وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا هَذَا؟
قَالَ: «قَسْمٌ قَسَمْتُهُ لَكَ»
قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى هَهُنَا ـ وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ ـ بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ.
فَقَالَ: «إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ».
فَلَبِثُوا قَلِيلاً، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ يُحْمَلُ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «أَهُوَ هُوَ؟».
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: «صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ».
فَكَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَانَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ صَلاتِهِ عَلَيْهِ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرَاً فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدَاً، أَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ».
نَعَم، إِنَّهُم رِجَالُ بَاعُوا الحَيَاةَ الدُّنيَا بالآخِرَةِ.
مُحَاوَلَةُ أَثِيمَةٌ لليَهُودِ:
أيُّها الإخوة الكرام: بَعدَ قِتَالِ اليَهُودِ في خَيْبَرَ وحِصَارِهِم أَيَّامَاً، سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الصُّلْحَ، وقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، دَعْنَا نَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نُصْلِحُهَا، وَنَقُومُ عَلَيْهَا، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ.
فَأَعْطَاهُم صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ خَيْبَرَ على أَنَّ للمُسْلِمِينَ الشَّطْرَ من كُلِّ زَرْعٍ وثَمَرٍ، مَا بَدَا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أن يُقِرَّهُم.
أيُّها الإخوة الكرام: بَعدَ انْتِهَاءِ الغَزْوَةِ واسْتِقْرَارِ الأُمُورِ حَاوَلَ اليَهُودُ قَتْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عَن طَرِيقِ تَقْدِيمِ هَدِيَّةٍ من الطَّعَامِ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِن الْيَهُودِ».
فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟».
فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مَنْ أَبُوكُمْ؟».
قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ ـ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ مِن أجْلِ اختِبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ».
فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ ـ أي: أحسَنتَ ـ.
فَقَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟».
فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا.
قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟».
فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرَاً، ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا ـ لِأنَّ هَؤُلاءِ المَلاعِنَةَ يَزعُمُونَ أنفُسَهُم مُؤمِنِينَ فَاسِقِينَ، والمُسلِمِينَ كُفَّاراً.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «اخْسَئُوا فِيهَا، واللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدَاً».
ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟».
قَالُوا: نَعَمْ.
فَقَالَ: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمَّاً؟».
فَقَالُوا: نَعَمْ.
َقَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟».
فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابَاً نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيَّاً لَمْ يَضُرَّكَ».
وفي رِوَايَةِ الإمام مسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ.
فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ.
قَالَ: «مَا كَانَ اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ».
قَالَ: أَوْ قَالَ عَلَيَّ: قَالَ: قَالُوا: أَلَا نَقْتُلُهَا؟
قَالَ: «لَا».
قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ـ الَّلحمةُ المُعَلَّقَة فِي أَصلِ الحَلْقِ ـ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّ اللهَ تعالى لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وهذهِ سِيرَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تُؤَكِّدُ هذا، فَعَلَيَّ وعَلَيكُمُ الالْتِزَامَ بِهَدْيِ الحَبِيبِ الأَعْظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولْنُحَقِّقْ في أَنفُسِنَا الإِيمَانَ، ثمَّ بَعدَ ذلكَ لِنَطْمَئِنَّ لِقَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولِقَولِهِ تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin