مع الحبيب المصطفى: الله يتولى الدفاع عن نبيه ﷺ (4)
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
199ـ الله يتولى الدفاع عن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (4)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قَد أَكرَمَ البَشَرِيَّةَ جَمعَاءَ بِنَبِيِّهِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، أَكرَمَهُم بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، بَعدَ أن كَانَتْ تَعِيشُ في الضَّلالِ المُبِينِ، وتَتَخَبَّطُ في ظُلُمَاتِ الجَهْلِ والجَاهِلِيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
لقد أَكرَمَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِنَبِيٍّ تَقِيٍّ، ورَسُولٍ نَقِيٍّ، زَكَّى رَبُّنَا عزَّ وجلَّ لِسَانَهُ، فَقَالَ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾. وزَكَّى بَصَرَهُ، فَقَالَ: ﴿مَا زَاغَ الْـبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾. وزَكَّى صَدْرَهُ الشَّرِيفَ، فَقَالَ: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾. وزَكَّى فُؤَادَهُ، فَقَالَ: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾. وزَكَّى جَلِيسَهُ فَقَالَ: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾. وزَكَّاهُ كُلَّهُ، فَقَالَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد بَشَّرَ جَمِيعُ الأَنبِيَاءِ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِبِعْثَتِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
لقد بَشَّرَ بِهِ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيهِ السَّلامُ إذْ قَالَ لِقَومِهِ، كَمَا أَخبَرَ مَولانَا عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُـبَشِّرَاً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَرسَلَهُ اللهُ تعالى رَحمَةً للعَالَمِينَ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. أَرسَلَهُ اللهُ تعالى لِيُخْرِجَ النَّاسَ من الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، قَالَ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: مَعَ كُلِّ هذا الوُضُوحِ والجَلاءِ في سِيرَةِ خَيرِ الوَرَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ومَعَ هذا البَهَاءِ الوَضَّاءِ لا يَزَالُ أَحْلاسُ النِّفَاقِ وشُذَّاذُ الآفَاقِ يُحَاوِلُونَ النَّيْلَ من الجَنَابِ المُحَمَّدِيِّ الأَطْهَرِ، يَرْمُونَ هذا الحَبِيبَ الأَعْظَمَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الذي أَرسَلَهُ اللهُ تعالى رَحمَةً للعَالَمِينَ بالقَسْوَةِ والجَفَاءِ والإرهَابِ والغِلْظَةِ والشَّنَاءَةِ والدَّمَوِيَّةِ وحُبِّ سَفْكِ الدِّمَاءِ، بِسَبَبِ سُوءِ تَصَرُّفِ بَعْضِ المُسْلِمِينَ، مَعَ أنَّ اللهَ تعالى أَصْدَقَ القَائِلِينَ يَقُولُ: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقَاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
واللهِ لَقَد عَرَفَهُ أَهْلُ الكِتَابِ، وعَرَفَهُ المُشْرِكُونَ، وعَرَفَهُ القَاصِي والدَّانِي، بِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هوَ نَبِيُّ الرَّحمَةِ، نَبِيُّ الأَخلاقِ، نَبِيُّ القِيَمِ، نَبِيُّ الإِنسَانِيَّةِ، مَا جَاءَ إلا لِسَعَادَةِ البَشَرِ في الدُّنيَا قَبلَ الآخِرَةِ.
«مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْـحَرْبِ»:
أيُّها الإخوة الكرام: كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّهُ مَا من مُسِيءٍ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وإلى شَرْعِهِ الشَّرِيفِ، إلا واللهُ مُنْتَقِمٌ مِنهُ عَاجِلاً أم آجِلاً، كَيفَ لا يَكُونُ كذلكَ، واللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابَاً مُهِينَاً﴾؟
كَيفَ لا يَكُونُ كذلكَ، وقد تَوَعَّدَ اللهُ تعالى لِمَن عَادَى أَولِيَاءَهُ بالحَرْبِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»؟ وهذا وَعِيدٌ من اللهِ عزَّ وجلَّ بالحَرْبِ لِمَن عَادَى وَلِيَّاً، فَكَيفَ بِمَن عَادَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، الذي هوَ سَيِّدُ الأَولِيَاءِ، وسَيِّدُ الأَنبِيَاءِ، وسَيِّدُ المُرسَلِينَ، وسَيِّدُ البَشَرِ أَجمَعِينَ؟ لَهُوَ حَرِيٌّ أن يَقْصِمَ اللهُ ظَهْرَهُ، ويُنْهِيَ أَمْرَهُ إلى وَبَالٍ وخَسَارَةٍ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَوَلَّى اللهُ تعالى الدِّفَاعَ عَن سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وتَوَلَّى حِفْظَهُ، وحِفْظَ شَرِيعَتِهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، مَهمَا حَاوَلَ المُسِيئُونَ تَشْوِيهَ صُورَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وتَشْوِيهَ شَرِيعَتِهِ، وتَمْزِيقَ دِينِهِ، وواللهِ مَا من أُمَّةٍ من الأُمَمِ تُحَاوِلُ تَمْزِيقَ هذا الدِّينِ، وتَشْوِيهَ صُورَةِ هذا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، إلا وسَيُمَزِّقُ اللهُ تعالى تِلكَ الأُمَّةَ، طَالَ الزَّمَنُ أم قَصُرَ.
«مَزَّقَ اللهُ مُلْكَهُ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لا تَخَافُوا على هذا الدِّينِ، ولكن خَافُوا على أَنفُسِكُم، لا تَخَافُوا على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولكن خَافُوا على أَنفُسِكُم، لأَنَّ اللهَ تعالى يُدَافِعُ عَن نَبيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وهوَ حَافِظٌ دِينَهُ على يَومِ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: تَعَرَّفُوا على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِ لِتَسْعَدُوا، وانْظُرُوا عَاقِبَةَ كُلِّ مُسِيءٍ لهذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
«لا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ كَمَا اخْتَلَفَ الْـحَوَارِيُّونَ»:
أيُّها الإخوة الكرام: عَزَمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أن يَبْعَثَ طَائِفَةً من أَصْحَابِهِ يَكْتُبُ إلى مُلُوكِ الأَعَاجِمِ يَدْعُوهُم فيهَا إلى الإِسْلامِ، وهذهِ مَهَمَّةٌ صَعْبَةٌ، لأَنَّهُم سَيَذْهَبُونَ إلى بِلادٍ نَائِيَةٍ لا عَهْدَ لَهُم بِهَا من قَبْلُ، وهُم يَجْهَلُونَ لُغَاتِ تِلكَ البِلادِ، ولا يَعْرِفُونَ شَيْئَاً عن أَمْزِجَةِ مُلُوكِهَا،فَهِيَ رِحْلَةٌ خَطِرَةٌ، الذَّاهِبُ فِيهَا مَفْقُودٌ، والعَائِدُ مِنهَا مَوْلُودٌ، لهذا جَمَعَ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ، وقَامَ فِيهِم خَطِيبَاً، فَحَمِدَ اللهَ تعالى، وأَثْنَى عَلَيهِ، وتَشَهَّدَ، ثمَّ قَالَ: كَمَا جَاءَ في كِتَابِ الرَّوْضِ الأُنفِ:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ بَعْدَ عُمْرَتِهِ التِي صُدَّ عَنْهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النّاسُ، إنّ اللهَ قَدْ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَكَافَّةً، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ كَمَا اخْتَلَفَ الْحَوَارِيُّونَ عَلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ».
فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَكَيْفَ اخْتَلَفَ الْحَوَارِيُّونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «دَعَاهُمْ إلَى الذِي دَعَوْتُكُمْ إلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ بَعَثَهُ مَبْعَثَاً قَرِيبَاً فَرَضِيَ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا مَنْ بَعَثَهُ مَبْعَثَاً بَعِيدَاً فَكَرِهَ وَجْهَهُ وَتَثَاقَلَ، فَشَكَا ذَلِكَ عِيسَى إلَى اللهِ، فَأَصْبَحَ الْـمُتَثَاقِلُونَ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَكَلّمُ بِلُغَةِ الْأُمَّةِ التِي بُعِثَ إلَيْهَا.
عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: اِنْتَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ سِتَّةً من الصَّحَابَةِ لِيَحْمِلُوا كُتُبَهُ إلى مُلُوكِ العَرَبِ والعَجَمِ، وكَانَ أَحَدَ هؤلاءِ السِّتَّةِ: عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فقد اخْتِيرَ لِحَمْلِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى كِـسْرَى مَلِكِ الفُرْسِ.
جَهَّزَ عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةَ رَاحِلَتَهُ، وَوَدَّعَ صَاحِبَتَهُ وَوَلَدَهُ، ومَضَى إلى غَايَتِهِ تَرْفَعُهُ النِّجَادُ، وتَحُطُّهُ الوِهَادُ، وَحِيدَاً فَرِيدَاً لَيسَ مَعَهُ إلا اللهُ، حَتَّى بَلَغَ دِيَارَ فَارِسَ، فَاسْتَأْذَنَ بالدُّخُولِ على مَلِكِهَا، وأَخْطَرَ الحَاشِيَةَ بالرِّسَالَةِ التي يَحْمِلُهَا لَهُ.
عِنْدَ ذلكَ أَمَرَ كِسْرَى بِإِيوَانِهِ فَزُيِّنَ، ودَعَا عُظَمَاءَ فَارِسَ لِحُضُورِ مَجْلِسِهِ فَـحَضَرُوا، ثمَّ أَذِنَ لِعَبدِ اللهِ بنِ حُذَافَةَ بالدُّخُولِ عَلَيهِ.
دَخَلَ عَبدُ اللهِ على كِـسْرَى مُشْتَمِلاً شَمْلَتَهُ الرَّقِيقَةَ، مُرْتَدِيَاً عَبَاءَتَهُ الصَّفِيقَةَ، عَلَيهِ بَسَاطَةُ الأَعْرَابِ.....
لَكِنَّهُ كَانَ عَالِيَ الهَامَةِ، مَشْدُودَ القَامَةِ، تَتَأَجَّجُ بَينَ جَوَانِحِهِ عِزَّةُ الإِسْلامِ، وتَتَوَقَّدُ في فُؤَادِهِ كِبْرِيَاءُ الإِيمَانِ.
فَمَا إِنْ رَآهُ كِسْرَى مُقْبِلاً حَتَّى أَوْمَأَ إلى أَحَدِ رِجَالِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ الكِتَابَ من يَدِهِ، فَقَالَ:
لا، إِنَّمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أنْ أَدْفَعَهُ لَكَ يَدَاً بِيَدٍ، وأَنَا لا أُخَالِفُ أَمْرَاً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
فَقَالَ كِسْرَى لِرِجَالِهِ: اُتْرُكُوهُ يَدْنُو مِنِّي، فَدَنَا من كِسْرَى حَتَّى نَاوَلَهُ الكِتَابَ بِيَدِهِ.
ثمَّ دَعَا كِسْرَى كَاتِبَاً عَرَبِيَّاً من أَهْلِ الحِيرَةِ، وأَمَرَهُ أن يَفُضَّ الكِتَابَ بَينَ يَدَيهِ، وأن يَقْرَأَهُ عَلَيهِ، فإذا فِيهِ:
«بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ، من مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، إلى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلامٌ على مَن اتَّبَعَ الهُدَى....».
فَمَا إِنْ سَمِعَ كِسْرَى من الرِّسَالَةِ هذا المِقْدَارَ حَتَّى اشْتَعَلَتْ نَارُ الغَضَبِ في صَدْرِهِ، فَاحْمَرَّ وَجْهُهُ، وانْتَفَخَتْ أَودَاجُهُ، لأنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بَدَأَ بِنَفْسِهِ... فَجَذَبَ الرِّسَالَةَ من يَدِ كَاتِبِهِ وجَعَلَ يُمَزِّقُهَا دُونَ أن يَعْلَمَ مَا فِيهَا، وهوَ يَصِيحُ: أَيَكْتُبُ لِي بهذا، وهوَ عَبْدِي؟!!...
ثمَّ أَمَرَ بِعَبدِ اللهِ بنِ حُذَافَةَ أن يُخْرَجَ من مَجْلِسِهِ، فَأُخْرِجَ.
خَرَجَ عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةَ من مَجْلِسِ كِسْرَى، وهوَ لا يَدْرِي مَا يَفْعَلُ اللهُ لَهُ... أَيُقْتَلُ أم يُتْرَكُ حُرَّاً طَلِيقَاً؟
لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ أنْ قَالَ:
واللهِ مَا أُبَالِي على أَيِّ حَالٍ أَكُونُ بَعدَ أنْ أَدَّيتُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ... وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ وانْطَلَقَ.
ولمَّا سَكَتَ عَن كِسْرَى الغَضَبُ، أَمَرَ بِأَنْ يُدْخَلَ عَلَيهِ عَبدُ اللهِ، فَلَمْ يُوجَدْ... فالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَقِفُوا لَهُ على أَثَرٍ...
فَطَلَبُوهُ في الطَّرِيقِ إلى جَزِيرَةِ العَرَبِ فَوَجَدُوهُ قَد سَبَقَ.
فَلَمَّا قَدِمَ عَبدُ اللهِ على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ من أَمْرِ كِـسْرَى وتَمْزِيقِهِ الكِتَابَ، فَمَا زَادَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ على أنْ قَالَ: «مَزَّقَ اللهُ مُلْكَهُ».
كِتَابُ كِسْرَى إلى بَاذَان:
أيُّها الإخوة الكرام: أَمَّا كِسْرَى فَقَد كَتَبَ إلى بَاذَانَ نَائِبِهِ على اليَمَنِ، أن ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي ظَهَرَ بالحِجَازِ رَجُلَينِ جَلْدَينِ من عِنْدِكَ، وَمُرْهُمَا أنْ يَأْتِيَانِي بِهِ...
فَبَعَثَ بَاذَانُ رَجُلَينِ من خِيرَةِ رِجَالِهِ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وحَمَّلَهُمَا رِسَالَةً لَهُ، يَأْمُرُهُ فِيهَا بِأَنْ يَنْصَرِفَ مَعَهُمَا إلى لِقَاءِ كِسْرَى دُونَ إِبْطَاءٍ...
وطَلَبَ إلى الرَّجُلَينِ أن يَقِفَا على خَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وأنْ يَسْتَقْصِيَا أَمْرَهُ، وأنْ يَأْتِيَاهُ بِمَا يَقِفَانِ عَلَيهِ من مَعْلُومَاتٍ.
خَرَجَ الرَّجُلانِ يُغِذَّانِ السَّيْرَ، حَتَّى بَلَغَا الطَّائِفَ، فَوَجَدَا رِجَالاً تُجَّارَاً من قُرَيشٍ، فَسَأَلاهُم عن مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَقَالُوا: هوَ في يَثْرِبَ.
ثمَّ مَضَى التُّجَّارُ إلى مَكَّةَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ، وجَعَلُوا يُهَنِّئُونَ قُرَيشَاً ويَقُولُونَ: قَرُّوا عَيْنَاً، فَإِنَّ كِسْرَى تَصَدَّى لِمُحَمَّدٍ وكَفَاكُم شَرَّهُ.
أمَّا الرَّجُلانِ فَيَمَّمَا وَجْهَيْهِمَا شَطْرَ المَدِينَةِ، حَتَّى إذا بَلغَاهَا لَقِيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ودَفَعَا إِلَيهِ رِسَالَةَ بَاذَانَ، وقَالا لَهُ: إِنَّ مَلِكَ المُلُوكَ كِـسْرَى كَتَبَ إلى مَلِكَنَا بَاذَانَ أنْ يَبْعَثَ إِلَيكَ مَن يَأْتِيهِ بِكَ... وقَد أَتَينَاكَ لِتَنْطَلِقَ مَعَنَا إِلَيهِ، فَإِنْ أَجَبْتَنَا كَلَّمْنَا كِسْرَى بِمَا يَنْفَعُكَ ويَكُفُّ أَذَاهُ عَنكَ، وإِنْ أَبَيتَ، فَهُوَ مَن قَد عَلِمْتَ سَطْوَتَهُ وبَطْشَهُ وقُدْرَتَهُ على إِهْلاكِكَ وإِهْلاكِ قَوْمِكَ.
«اِرْجِعَا إلى رِحَالِكُمَا اليَومَ وائْتِيَا غَدَاً»:
أيُّها الإخوة الكرام: اُنْظُرُوا إلى مَوقِفِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الوَاثِقِ بِرَبِّهِ، عِنْدَمَا قَالا لَهُ مَا قَالا، تَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وقَالَ لَهُمَا: «اِرْجِعَا إلى رِحَالِكُمَا اليَومَ وائْتِيَا غَدَاً».
فَلَمَّا غَدَوْا على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في اليَومِ التَّالِي، قَالا لَهُ: هَل أَعْدَدْتَ نَفْسَكَ للمُضِيِّ مَعَنَا إلى لِقَاءِ كِسْرَى؟
فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّكُمَا لَيلَةَ كَذَا وَكَذَا وَسَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ شِيرَوَيْه».
قالا: إِنَّا نَكْتُبُ بهذا عَنكَ وَبِخَبَرِ المَلِكِ.
قَالَ: «نعم، فَقُولا لَهُ: إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكَ مَا تَحتَ يَدَيكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ».
كِتَابُ شِيرَوَيْه:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد صَدَقَ الذي مَا يَنْطِقُ عن الهَوَى، ومَزَّقَ اللهُ مُلْكَ كِسْرَى، وقَتَلَهُ وَلَدُهُ كَمَا ثَبَتَ.
فَلَمْ يَلْبَثْ أن قَدِمَ على بَاذَانَ كِتَابُ شِيرَوَيْه، وفِيهِ يَقُولُ: أَنِّي قَدْ قَتَلتُ كِسْرَى، فَلَمَّا انْتَهى كِتَابُ شيرويه إِلَى بَاذَانَ أَسْلَمَ، وَأَسْلَمَتِ الأَبْنَاءُ من فَارِسَ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: عَلَيَّ وعَلَيكُم بالدُّعَاءِ للهِ عزَّ وجلَّ في أن يُهْلِكَ اللهُ تعالى كُلَّ مَن أَرَادَ السُّوءَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ولِدِينِنَا ولِبَلَدِنَا، فَدَعْوَةُ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، ولَو بَعدَ حِينٍ، ولَيسَ بَينَهَا وبَينَ اللهِ تعالى حِجَابٌ.
وعَلَيَّ وعَلَيكُم بالْتِزَامِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، فَلْنُحِلَّ مَا أَحَلَّ اللهُ تعالى، ولْنُحَرِّمْ مَا حَرَّمَ اللهُ تعالى، لَعَلَّ الهَ تعالى أن يُفَرِّجَ عَنَّا مَا نَحنُ فِيهِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
199ـ الله يتولى الدفاع عن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (4)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قَد أَكرَمَ البَشَرِيَّةَ جَمعَاءَ بِنَبِيِّهِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، أَكرَمَهُم بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، بَعدَ أن كَانَتْ تَعِيشُ في الضَّلالِ المُبِينِ، وتَتَخَبَّطُ في ظُلُمَاتِ الجَهْلِ والجَاهِلِيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
لقد أَكرَمَنَا اللهُ عزَّ وجلَّ بِنَبِيٍّ تَقِيٍّ، ورَسُولٍ نَقِيٍّ، زَكَّى رَبُّنَا عزَّ وجلَّ لِسَانَهُ، فَقَالَ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾. وزَكَّى بَصَرَهُ، فَقَالَ: ﴿مَا زَاغَ الْـبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾. وزَكَّى صَدْرَهُ الشَّرِيفَ، فَقَالَ: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾. وزَكَّى فُؤَادَهُ، فَقَالَ: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾. وزَكَّى جَلِيسَهُ فَقَالَ: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾. وزَكَّاهُ كُلَّهُ، فَقَالَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد بَشَّرَ جَمِيعُ الأَنبِيَاءِ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِبِعْثَتِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾.
لقد بَشَّرَ بِهِ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيهِ السَّلامُ إذْ قَالَ لِقَومِهِ، كَمَا أَخبَرَ مَولانَا عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُـبَشِّرَاً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَرسَلَهُ اللهُ تعالى رَحمَةً للعَالَمِينَ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. أَرسَلَهُ اللهُ تعالى لِيُخْرِجَ النَّاسَ من الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، قَالَ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: مَعَ كُلِّ هذا الوُضُوحِ والجَلاءِ في سِيرَةِ خَيرِ الوَرَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ومَعَ هذا البَهَاءِ الوَضَّاءِ لا يَزَالُ أَحْلاسُ النِّفَاقِ وشُذَّاذُ الآفَاقِ يُحَاوِلُونَ النَّيْلَ من الجَنَابِ المُحَمَّدِيِّ الأَطْهَرِ، يَرْمُونَ هذا الحَبِيبَ الأَعْظَمَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الذي أَرسَلَهُ اللهُ تعالى رَحمَةً للعَالَمِينَ بالقَسْوَةِ والجَفَاءِ والإرهَابِ والغِلْظَةِ والشَّنَاءَةِ والدَّمَوِيَّةِ وحُبِّ سَفْكِ الدِّمَاءِ، بِسَبَبِ سُوءِ تَصَرُّفِ بَعْضِ المُسْلِمِينَ، مَعَ أنَّ اللهَ تعالى أَصْدَقَ القَائِلِينَ يَقُولُ: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقَاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
واللهِ لَقَد عَرَفَهُ أَهْلُ الكِتَابِ، وعَرَفَهُ المُشْرِكُونَ، وعَرَفَهُ القَاصِي والدَّانِي، بِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هوَ نَبِيُّ الرَّحمَةِ، نَبِيُّ الأَخلاقِ، نَبِيُّ القِيَمِ، نَبِيُّ الإِنسَانِيَّةِ، مَا جَاءَ إلا لِسَعَادَةِ البَشَرِ في الدُّنيَا قَبلَ الآخِرَةِ.
«مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْـحَرْبِ»:
أيُّها الإخوة الكرام: كُونُوا على يَقِينٍ بِأَنَّهُ مَا من مُسِيءٍ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وإلى شَرْعِهِ الشَّرِيفِ، إلا واللهُ مُنْتَقِمٌ مِنهُ عَاجِلاً أم آجِلاً، كَيفَ لا يَكُونُ كذلكَ، واللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابَاً مُهِينَاً﴾؟
كَيفَ لا يَكُونُ كذلكَ، وقد تَوَعَّدَ اللهُ تعالى لِمَن عَادَى أَولِيَاءَهُ بالحَرْبِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»؟ وهذا وَعِيدٌ من اللهِ عزَّ وجلَّ بالحَرْبِ لِمَن عَادَى وَلِيَّاً، فَكَيفَ بِمَن عَادَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، الذي هوَ سَيِّدُ الأَولِيَاءِ، وسَيِّدُ الأَنبِيَاءِ، وسَيِّدُ المُرسَلِينَ، وسَيِّدُ البَشَرِ أَجمَعِينَ؟ لَهُوَ حَرِيٌّ أن يَقْصِمَ اللهُ ظَهْرَهُ، ويُنْهِيَ أَمْرَهُ إلى وَبَالٍ وخَسَارَةٍ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَوَلَّى اللهُ تعالى الدِّفَاعَ عَن سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وتَوَلَّى حِفْظَهُ، وحِفْظَ شَرِيعَتِهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، مَهمَا حَاوَلَ المُسِيئُونَ تَشْوِيهَ صُورَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وتَشْوِيهَ شَرِيعَتِهِ، وتَمْزِيقَ دِينِهِ، وواللهِ مَا من أُمَّةٍ من الأُمَمِ تُحَاوِلُ تَمْزِيقَ هذا الدِّينِ، وتَشْوِيهَ صُورَةِ هذا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، إلا وسَيُمَزِّقُ اللهُ تعالى تِلكَ الأُمَّةَ، طَالَ الزَّمَنُ أم قَصُرَ.
«مَزَّقَ اللهُ مُلْكَهُ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لا تَخَافُوا على هذا الدِّينِ، ولكن خَافُوا على أَنفُسِكُم، لا تَخَافُوا على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولكن خَافُوا على أَنفُسِكُم، لأَنَّ اللهَ تعالى يُدَافِعُ عَن نَبيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وهوَ حَافِظٌ دِينَهُ على يَومِ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: تَعَرَّفُوا على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِ لِتَسْعَدُوا، وانْظُرُوا عَاقِبَةَ كُلِّ مُسِيءٍ لهذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
«لا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ كَمَا اخْتَلَفَ الْـحَوَارِيُّونَ»:
أيُّها الإخوة الكرام: عَزَمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أن يَبْعَثَ طَائِفَةً من أَصْحَابِهِ يَكْتُبُ إلى مُلُوكِ الأَعَاجِمِ يَدْعُوهُم فيهَا إلى الإِسْلامِ، وهذهِ مَهَمَّةٌ صَعْبَةٌ، لأَنَّهُم سَيَذْهَبُونَ إلى بِلادٍ نَائِيَةٍ لا عَهْدَ لَهُم بِهَا من قَبْلُ، وهُم يَجْهَلُونَ لُغَاتِ تِلكَ البِلادِ، ولا يَعْرِفُونَ شَيْئَاً عن أَمْزِجَةِ مُلُوكِهَا،فَهِيَ رِحْلَةٌ خَطِرَةٌ، الذَّاهِبُ فِيهَا مَفْقُودٌ، والعَائِدُ مِنهَا مَوْلُودٌ، لهذا جَمَعَ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ، وقَامَ فِيهِم خَطِيبَاً، فَحَمِدَ اللهَ تعالى، وأَثْنَى عَلَيهِ، وتَشَهَّدَ، ثمَّ قَالَ: كَمَا جَاءَ في كِتَابِ الرَّوْضِ الأُنفِ:
قَالَ ابنُ إسحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ بَعْدَ عُمْرَتِهِ التِي صُدَّ عَنْهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النّاسُ، إنّ اللهَ قَدْ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَكَافَّةً، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ كَمَا اخْتَلَفَ الْحَوَارِيُّونَ عَلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ».
فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَكَيْفَ اخْتَلَفَ الْحَوَارِيُّونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «دَعَاهُمْ إلَى الذِي دَعَوْتُكُمْ إلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ بَعَثَهُ مَبْعَثَاً قَرِيبَاً فَرَضِيَ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا مَنْ بَعَثَهُ مَبْعَثَاً بَعِيدَاً فَكَرِهَ وَجْهَهُ وَتَثَاقَلَ، فَشَكَا ذَلِكَ عِيسَى إلَى اللهِ، فَأَصْبَحَ الْـمُتَثَاقِلُونَ وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَكَلّمُ بِلُغَةِ الْأُمَّةِ التِي بُعِثَ إلَيْهَا.
عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: اِنْتَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ سِتَّةً من الصَّحَابَةِ لِيَحْمِلُوا كُتُبَهُ إلى مُلُوكِ العَرَبِ والعَجَمِ، وكَانَ أَحَدَ هؤلاءِ السِّتَّةِ: عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فقد اخْتِيرَ لِحَمْلِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى كِـسْرَى مَلِكِ الفُرْسِ.
جَهَّزَ عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةَ رَاحِلَتَهُ، وَوَدَّعَ صَاحِبَتَهُ وَوَلَدَهُ، ومَضَى إلى غَايَتِهِ تَرْفَعُهُ النِّجَادُ، وتَحُطُّهُ الوِهَادُ، وَحِيدَاً فَرِيدَاً لَيسَ مَعَهُ إلا اللهُ، حَتَّى بَلَغَ دِيَارَ فَارِسَ، فَاسْتَأْذَنَ بالدُّخُولِ على مَلِكِهَا، وأَخْطَرَ الحَاشِيَةَ بالرِّسَالَةِ التي يَحْمِلُهَا لَهُ.
عِنْدَ ذلكَ أَمَرَ كِسْرَى بِإِيوَانِهِ فَزُيِّنَ، ودَعَا عُظَمَاءَ فَارِسَ لِحُضُورِ مَجْلِسِهِ فَـحَضَرُوا، ثمَّ أَذِنَ لِعَبدِ اللهِ بنِ حُذَافَةَ بالدُّخُولِ عَلَيهِ.
دَخَلَ عَبدُ اللهِ على كِـسْرَى مُشْتَمِلاً شَمْلَتَهُ الرَّقِيقَةَ، مُرْتَدِيَاً عَبَاءَتَهُ الصَّفِيقَةَ، عَلَيهِ بَسَاطَةُ الأَعْرَابِ.....
لَكِنَّهُ كَانَ عَالِيَ الهَامَةِ، مَشْدُودَ القَامَةِ، تَتَأَجَّجُ بَينَ جَوَانِحِهِ عِزَّةُ الإِسْلامِ، وتَتَوَقَّدُ في فُؤَادِهِ كِبْرِيَاءُ الإِيمَانِ.
فَمَا إِنْ رَآهُ كِسْرَى مُقْبِلاً حَتَّى أَوْمَأَ إلى أَحَدِ رِجَالِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ الكِتَابَ من يَدِهِ، فَقَالَ:
لا، إِنَّمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أنْ أَدْفَعَهُ لَكَ يَدَاً بِيَدٍ، وأَنَا لا أُخَالِفُ أَمْرَاً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
فَقَالَ كِسْرَى لِرِجَالِهِ: اُتْرُكُوهُ يَدْنُو مِنِّي، فَدَنَا من كِسْرَى حَتَّى نَاوَلَهُ الكِتَابَ بِيَدِهِ.
ثمَّ دَعَا كِسْرَى كَاتِبَاً عَرَبِيَّاً من أَهْلِ الحِيرَةِ، وأَمَرَهُ أن يَفُضَّ الكِتَابَ بَينَ يَدَيهِ، وأن يَقْرَأَهُ عَلَيهِ، فإذا فِيهِ:
«بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ، من مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، إلى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلامٌ على مَن اتَّبَعَ الهُدَى....».
فَمَا إِنْ سَمِعَ كِسْرَى من الرِّسَالَةِ هذا المِقْدَارَ حَتَّى اشْتَعَلَتْ نَارُ الغَضَبِ في صَدْرِهِ، فَاحْمَرَّ وَجْهُهُ، وانْتَفَخَتْ أَودَاجُهُ، لأنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بَدَأَ بِنَفْسِهِ... فَجَذَبَ الرِّسَالَةَ من يَدِ كَاتِبِهِ وجَعَلَ يُمَزِّقُهَا دُونَ أن يَعْلَمَ مَا فِيهَا، وهوَ يَصِيحُ: أَيَكْتُبُ لِي بهذا، وهوَ عَبْدِي؟!!...
ثمَّ أَمَرَ بِعَبدِ اللهِ بنِ حُذَافَةَ أن يُخْرَجَ من مَجْلِسِهِ، فَأُخْرِجَ.
خَرَجَ عَبدُ اللهِ بنُ حُذَافَةَ من مَجْلِسِ كِسْرَى، وهوَ لا يَدْرِي مَا يَفْعَلُ اللهُ لَهُ... أَيُقْتَلُ أم يُتْرَكُ حُرَّاً طَلِيقَاً؟
لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ أنْ قَالَ:
واللهِ مَا أُبَالِي على أَيِّ حَالٍ أَكُونُ بَعدَ أنْ أَدَّيتُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ... وَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ وانْطَلَقَ.
ولمَّا سَكَتَ عَن كِسْرَى الغَضَبُ، أَمَرَ بِأَنْ يُدْخَلَ عَلَيهِ عَبدُ اللهِ، فَلَمْ يُوجَدْ... فالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَقِفُوا لَهُ على أَثَرٍ...
فَطَلَبُوهُ في الطَّرِيقِ إلى جَزِيرَةِ العَرَبِ فَوَجَدُوهُ قَد سَبَقَ.
فَلَمَّا قَدِمَ عَبدُ اللهِ على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ من أَمْرِ كِـسْرَى وتَمْزِيقِهِ الكِتَابَ، فَمَا زَادَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ على أنْ قَالَ: «مَزَّقَ اللهُ مُلْكَهُ».
كِتَابُ كِسْرَى إلى بَاذَان:
أيُّها الإخوة الكرام: أَمَّا كِسْرَى فَقَد كَتَبَ إلى بَاذَانَ نَائِبِهِ على اليَمَنِ، أن ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي ظَهَرَ بالحِجَازِ رَجُلَينِ جَلْدَينِ من عِنْدِكَ، وَمُرْهُمَا أنْ يَأْتِيَانِي بِهِ...
فَبَعَثَ بَاذَانُ رَجُلَينِ من خِيرَةِ رِجَالِهِ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وحَمَّلَهُمَا رِسَالَةً لَهُ، يَأْمُرُهُ فِيهَا بِأَنْ يَنْصَرِفَ مَعَهُمَا إلى لِقَاءِ كِسْرَى دُونَ إِبْطَاءٍ...
وطَلَبَ إلى الرَّجُلَينِ أن يَقِفَا على خَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وأنْ يَسْتَقْصِيَا أَمْرَهُ، وأنْ يَأْتِيَاهُ بِمَا يَقِفَانِ عَلَيهِ من مَعْلُومَاتٍ.
خَرَجَ الرَّجُلانِ يُغِذَّانِ السَّيْرَ، حَتَّى بَلَغَا الطَّائِفَ، فَوَجَدَا رِجَالاً تُجَّارَاً من قُرَيشٍ، فَسَأَلاهُم عن مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَقَالُوا: هوَ في يَثْرِبَ.
ثمَّ مَضَى التُّجَّارُ إلى مَكَّةَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ، وجَعَلُوا يُهَنِّئُونَ قُرَيشَاً ويَقُولُونَ: قَرُّوا عَيْنَاً، فَإِنَّ كِسْرَى تَصَدَّى لِمُحَمَّدٍ وكَفَاكُم شَرَّهُ.
أمَّا الرَّجُلانِ فَيَمَّمَا وَجْهَيْهِمَا شَطْرَ المَدِينَةِ، حَتَّى إذا بَلغَاهَا لَقِيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ودَفَعَا إِلَيهِ رِسَالَةَ بَاذَانَ، وقَالا لَهُ: إِنَّ مَلِكَ المُلُوكَ كِـسْرَى كَتَبَ إلى مَلِكَنَا بَاذَانَ أنْ يَبْعَثَ إِلَيكَ مَن يَأْتِيهِ بِكَ... وقَد أَتَينَاكَ لِتَنْطَلِقَ مَعَنَا إِلَيهِ، فَإِنْ أَجَبْتَنَا كَلَّمْنَا كِسْرَى بِمَا يَنْفَعُكَ ويَكُفُّ أَذَاهُ عَنكَ، وإِنْ أَبَيتَ، فَهُوَ مَن قَد عَلِمْتَ سَطْوَتَهُ وبَطْشَهُ وقُدْرَتَهُ على إِهْلاكِكَ وإِهْلاكِ قَوْمِكَ.
«اِرْجِعَا إلى رِحَالِكُمَا اليَومَ وائْتِيَا غَدَاً»:
أيُّها الإخوة الكرام: اُنْظُرُوا إلى مَوقِفِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الوَاثِقِ بِرَبِّهِ، عِنْدَمَا قَالا لَهُ مَا قَالا، تَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وقَالَ لَهُمَا: «اِرْجِعَا إلى رِحَالِكُمَا اليَومَ وائْتِيَا غَدَاً».
فَلَمَّا غَدَوْا على النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في اليَومِ التَّالِي، قَالا لَهُ: هَل أَعْدَدْتَ نَفْسَكَ للمُضِيِّ مَعَنَا إلى لِقَاءِ كِسْرَى؟
فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّكُمَا لَيلَةَ كَذَا وَكَذَا وَسَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ شِيرَوَيْه».
قالا: إِنَّا نَكْتُبُ بهذا عَنكَ وَبِخَبَرِ المَلِكِ.
قَالَ: «نعم، فَقُولا لَهُ: إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكَ مَا تَحتَ يَدَيكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ».
كِتَابُ شِيرَوَيْه:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد صَدَقَ الذي مَا يَنْطِقُ عن الهَوَى، ومَزَّقَ اللهُ مُلْكَ كِسْرَى، وقَتَلَهُ وَلَدُهُ كَمَا ثَبَتَ.
فَلَمْ يَلْبَثْ أن قَدِمَ على بَاذَانَ كِتَابُ شِيرَوَيْه، وفِيهِ يَقُولُ: أَنِّي قَدْ قَتَلتُ كِسْرَى، فَلَمَّا انْتَهى كِتَابُ شيرويه إِلَى بَاذَانَ أَسْلَمَ، وَأَسْلَمَتِ الأَبْنَاءُ من فَارِسَ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: عَلَيَّ وعَلَيكُم بالدُّعَاءِ للهِ عزَّ وجلَّ في أن يُهْلِكَ اللهُ تعالى كُلَّ مَن أَرَادَ السُّوءَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ ولِدِينِنَا ولِبَلَدِنَا، فَدَعْوَةُ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، ولَو بَعدَ حِينٍ، ولَيسَ بَينَهَا وبَينَ اللهِ تعالى حِجَابٌ.
وعَلَيَّ وعَلَيكُم بالْتِزَامِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، فَلْنُحِلَّ مَا أَحَلَّ اللهُ تعالى، ولْنُحَرِّمْ مَا حَرَّمَ اللهُ تعالى، لَعَلَّ الهَ تعالى أن يُفَرِّجَ عَنَّا مَا نَحنُ فِيهِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin