مع الحبيب المصطفى: الله يتولى الدفاع عن نبيه ﷺ (3)
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
198ـ الله يتولى الدفاع عن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (3)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الابْتِلاءَ سُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ يَبْتَلِي اللهُ تعالى بِهَا أَهْلَ الإِيمَانِ، لأنَّ الادِّعَاءَ سَهْلٌ، وإْثْبَاتَ صِحَّةِ هذا الادِّعَاءِ أَمْرٌ عَسِيرٌ، قَد يَدَّعِي الإِنسَانُ أَنَّهُ يَمْلِكُ كذا وكذا من حُطَامِ الدُّنيَا، ولكن إذا طُلِبَ مِنهُ إِثْبَاتُ هذهِ المِلْكِيَّةِ بالأَدِلَّةِ القَاطَعَةِ فَإِنَّهُ يَصْعُبُ عَلَيهِ ذلكَ، إلا إذا كَانَ صَادِقَاً في هذا الادِّعَاءِ.
أيُّها الإخوة الكرام: اِدِّعَاءُ الإِيمَانِ لَيسَ أًمْرَاً هَيِّنَاً وسَهْلاً، لأنَّ ثَمَرَةَ الإِيمَانِ سَعَادَةُ الدُّنيَا والآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. فالمُؤمِنُ الحَقُّ ضَمِنَ اللهُ تعالى لَهُ الفَوْزَ في الدَّارَيْنِ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: من هذا المُنْطَلَقِ لا يَتْرُكُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ النَّاسَ يَدَّعُونَ الإِيمَانَ ادِّعَاءً، بَل لا بُدَّ من الابْتِلاءِ والاخْتِبَارِ لإثْبَاتِ صِحَّةِ هذا الادِّعَاءِ، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.
لا تَطْلُبْ الفِتْنَةَ والابْتِلاءَ:
أيُّها الإخوة الكرام: رَبُّنَا عزَّ وجلَّ عِنْدَمَا يُرِيدُ أن يَخْتَبِرَ إِيمَانَ العَبدِ فَإِنَّهُ يَخْتَبِرُهُ بِمَا شَاءَ، وفي الوَقْتِ الذي يَشَاءُ، ولَنْ يَكُونَ الابْتِلاءُ والاخْتِبَارُ على مُرَادِ العَبدِ بِنَوْعِهِ وَوَقْتِهِ.
ومن طَلَبَ الابْتِلاءَ والاخْتِبَارَ واسْتَعْجَلَهُ فاللهُ تَبَارَكَ وتعالى يَكِلُهُ إلى نَفْسِهِ، ويُخَلِّي بَينَهُ وبَينَ نَفْسِهِ، وأمَّا إذا جَاءَ الابْتِلاءُ من اللهِ تعالى فَإِنَّهُ يَأْتِي ومَعَهُ العَوْنُ مِنهُ تعالى، ولهذا حَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من تَمَنِّي الفِتْنَةِ والابْتِلاءِ والاخْتِبَارِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» رواه الإمام البخاري عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: المُؤمِنُ لا يَتَمَنَّى البَلاءَ، بَل يَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ في دِينِهِ ومَالِهِ وأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، ولكن إذا قَضَى اللهُ أَمْرَاً وقَدَّرَ، صَبَرَ على أَقْدَارِ اللهِ تعالى المُؤْلِمَةِ، واحْتَسَبَ وَرَضِيَ عن اللهِ تعالى، وانْشَرَحَ صَدْرُهُ بِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَقَدَرِهِ، لأَنَّ صَبْرَهُ ورِضَاهُ دَلِيلٌ على صِحَّةِ إِيمَانِهِ.
أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنبِيَاءُ:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام أحمد عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟
قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِن النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».
فَيَا مَن ابْتُلِيتَ بِنَوْعٍ من أَنوَاعِ البَلاءِ، لا تَجْزَعْ ولا تَحْزَنْ مَا دُمْتَ من أَهْلِ الإِيمَانِ، وتَرْجِمْ عن صِحَّةِ الإِيمَانِ بالرِّضَا عن اللهِ تعالى، لِيَقِينِكَ بِقَولِهِ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.
لا تَجْزَعْ ولا تَحْزَنْ، فَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً، وهوَ قُدْوَتُكَ وأُسْوَتُكَ.
لا تَجْزَعْ ولا تَحْزَنْ، فَإِنَّ اللهَ تعالى وَعَدَكَ بالدِّفَاعِ عَنكَ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾. ولكن الأَمْرُ يَحْتَاجُ إلى شَيْءٍ قَلِيلٍ من الصَّبْرِ، لأَنَّ اللهَ تعالى لا يُخْلِفُ المِيعَادَ.
يَا صَاحبَ الابْتِلاءِ، كُنْ على يَقِينٍ بِأَنَّ العَاقِبَةَ لَكَ، لِقَولِهِ تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وتَعَلَّمْ من سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَيفَ يَكُونُ الإِيمَانُ والصَّبْرُ.
أيُّها الإخوة الكرام: أَلَمْ يَقُلْ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾؟ أَلَمْ يَقُلْ لَهُ: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾؟ أَلَمْ يَقُلْ لَهُ: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا باللهِ﴾؟ أَلَمْ يَقُلْ لَهُ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدَاً﴾؟
لقد أَمَرَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالصَّبْرِ، وَوَعَدَهُ بالحِمَايَةِ والنُّصْرَةِ والدِّفَاعِ عَنهُ، فَصَبَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَوَثِقَ بِوَعْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ لَهُ، وحَقَّقَ اللهُ تعالى وَعْدَهُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَأْخُذْ من سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دُرُوسَاً في الصَّبْرِ والمُصَابَرَةِ، والإِيمَانِ بِوَعْدِ اللهِ تعالى الذي لا يَتَزَعْزَعُ.
إيذَاءُ عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيطٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: هُنَاكَ رَجُلٌ خَبِيثٌ حَقُودٌ حَسُودٌ مُجْرِمٌ اسْمُهُ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ، عَلَيهِ من اللهِ تعالى اللَّعَنَاتُ التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، هذا الخَبِيثُ المَاكِرُ آذَى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِيذَاءً شَدِيدَاً، من هذا الإِيذَاءِ:
ما رواه الإمام البخاري عن عَمْرِو بْن مَيْمُونٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ.
فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئَاً لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ.
قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ.
فَرَفَع رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ».
فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ». وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ ـ
قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.
وروى كذلكَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقَاً شَدِيدَاً.
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَالَ: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
وجَاءَ في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ في كِتَابِ الرَّوضِ الأُنفِ، بَعْضُ صُوَرِ إِيذَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ: أَيُنَزَّلُ على مُحَمَّدٍ ـ أي: القُرآن ـ وَأُتْرَكُ وأنا كَبِيرُ قُرَيشٍ وَسَيِّدُهَا، وَيُتْرَكُ أَبُو مَسْعُودٍ عَمرو بنُ عُمَيرٍ الثَّقَفِيُّ سَيِّدُ ثَقِيفٍ، وَنَحنُ عَظِيمَا القَريَتَينِ؟
فَأَنزَلَ اللهُ تعالى فِيهِ فِيمَا بَلَغَنِي: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً سُخْرِيَّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
وَأُبَيُّ بنُ خَلَفِ بنِ وَهَبِ بنِ حذافَةَ بن جُمَحٍ وَعُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ، وَكَانَا مُتَصَافِيَينِ حَسَنَاً مَا بَينَهُمَا.
فَكَانَ عُقْبَةُ قد جَلَسَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ مِنهُ فَبَلَغَ ذلكَ أُبَيَّاً، فَأَتَى عُقْبَةَ فَقَالَ: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكَ جَالَسْتَ مُحَمَّدَاً، وَسَمِعْتَ مِنهُ؟
ثمَّ قَالَ: وَجْهِي من وَجْهِكَ حَرَامٌ أن أكَلِّمَكَ ـ واسْتَغْلَظَ من اليَمِينِ ـ إن أَنتَ جَلَستَ إِلَيهِ أو سَمِعْتَ مِنهُ أو لَمْ تَأْتِهِ فَتَتْفُلَ في وَجْهِهِ.
فَفَعَلَ ذلكَ عَدُوُّ اللهِ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ لَعَنَهُ اللهُ.
فَأَنزَلَ اللهُ تعالى فِيهِمَا: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانَاً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً﴾.
وَمَشَى أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ بَالٍ قد ارِمَت.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنتَ تَزْعُمُ أن يُبْعَثَ هذا بَعْدَ ما أَرِمَ، ثمَّ فَتَّهُ بِيَدِهِ، ثمَّ نَفَخَهُ في الرِّيحِ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَعَم، أَنَا أَقُولُ ذلكَ، يَبْعَثُهُ اللهُ وَإِيَّاكَ بَعْدَمَا تَكُونَانِ هكذا، ثمَّ يُدْخِلُكَ اللهُ النَّارَ﴾.
فَأَنزَلَ اللهُ تعالى فِيهِ: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارَاً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾.
عَاقِبَةُ عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيطٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد ابْتُلِيَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَصَبَرَ ولَمْ يَجْزَعْ، وكَانَ كُلَّمَا اشْتَدَّ عَلَيهِ البَلاءُ ازْدَادَ إِيمَانَاً وثِقَةً بِوَعْدِ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. والقَائِلِ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد آذَى عُقْبَةُ وغَيْرُهُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وصَبَرَ الحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ امْتِثَالاً لأَمْرِ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، وانْتَظَرَ وَعْدَ اللهِ تعالى فِيهِم، وتَحَقَّقَ وَعْدُ اللهِ تعالى بَعْدَ حِينٍ.
روى عَبدُ الرَّزَّاقِ في المُصَنَّفِ، قَالَ مُعَمَّرُ: وحَدَّثَني الزهري: فَلَمَّا كَانَ يَومَ بَدْرٍ أُسِرَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ في الأَسَارَى، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ أن يَقْتُلَهُ.
فَقَالَ عُقْبَةُ: يَا مُحَمَّدُ! من بَينِ هؤلاءِ أُقْتَلُ؟
قَالَ: «نَعَم».
قَالَ: لِمَ؟
قَالَ: «بِكُفْرِكَ، وَفُجُورِكَ، وَعُتُوِّكَ على اللهِ وَرَسُولِهِ».
قَالَ مُعَمَّرُ: وَقَالَ مقسم: فَبَلَغَنَا ـ واللهُ أَعلَمُ ـ أَنَّهُ قَالَ: فَمَن للصِّبْيَةِ؟
قَالَ: «النَّارُ».
قَالَ: فَقَامَ إِلَيهِ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَأَمَّا أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ فَقَالَ: واللهِ لأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدَاً.
فَبَلَغَ ذلكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «بَل أَنَا أَقْتُلُه إنْ شَاءَ اللهُ».
فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ ذلكَ من النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ لما قِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا قُلتَ، قَالَ: «بَل أَنَا أَقْتُلُه إنْ شَاءَ اللهُ».
فَأَفْزَعَهُ ذلكَ، وَقَالَ: أَنْشُدُكَ باللهِ أَسَمِعْتَهُ يَقُولُ ذلكَ؟
قَالَ: نَعَم، فَوَقَعتْ في نَفْسِهِ، لأَنَّهُم لَمْ يَسْمَعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَولَاً إلا كَانَ حَقَّاً.
فَلَمَّا كَانَ يَومُ أُحُدٍ خَرَجَ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ مَعَ المُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ يَلْتَمِسُ غَفْلَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَ عَلَيهِ، فَيَحُولُ رَجُلٌ من المُسْلِمِينَ بَينَهُ وبَينَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأَصْحَابِهِ: خَلُّوا عَنهُ، فَأَخَذَ الحَربَةَ فَجَزَلَهُ بِهَا ـ يَقُولُ: رَمَاهُ بها ـ فَتَقَعُ في تَرقُوَتِهِ ـ الترقوة: العَظْمُ الذي في أَعلَى الصَّدْرِ بَينَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ والعَاتِقِ ـ تَحتَ تسبغة البيضة ـ مَا تُوصَلُ به الخُوذَةُ من حَلْقِ الدِّرْعِ فَتَسْتُرُ العُنُقَ ـ وفَوقَ الدِّرْعِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنهُ كَبِيرُ دَمٍ، واحْتَقَنَ الدَّمُ في جَوْفِهِ، فَجَعَلَ يَخُورُ ـ يَصِيحُ ـ كَمَا يَخُورُ الثَّوْرُ، فَأَقبَلَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى احْتَمَلُوهُ وهوَ يَخُورُ، وَقَالُوا : مَا هذا؟ فَوَاللهِ ما بِكَ إلا خَدْشٌ.
فَقَالَ: واللهِ لَو لَمْ يُصِبْنِي إلا بِرِيقِهِ لَقَتَلَنِي، أَلَيسَ قَد قَالَ: «بَل أَنَا أَقْتُلُه إنْ شَاءَ اللهُ». واللهِ لَو كَانَ الذي بِي بِأَهْلِ ذي المجاز لَقَتَلَهُم.
قَالَ: فَمَا لَبِثَ إلا يَومَاً أو نَحْوَ ذلكَ حَتَّى مَاتَ إلى النَّارِ، فَأَنزَلَ اللهُ فِيهِ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانَاً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً﴾.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: مَا يَرَاهُ المُسْلِمُونَ اليَومَ من بَلاءٍ وشِدَّةٍ وقَسْوَةٍ وكَرْبٍ مَا هوَ إلا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ، قال تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾. ولكن يَجِبُ عَلَينَا أن نَصْبِرَ كَمَا صَبَرَ الحَبِيبُ الأَعْظَمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأن نَكُونَ عل يَقِينٍ بِأَنَّ العَاقِبَةَ والعُلُوَّ للمُؤْمِنِينَ، لأَنَّ اللهَ تعالى وَعَدَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بذلكَ، قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿وللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾. وقال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقَّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقَّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. ولَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ، فَلْنَصْبِرُ ولَنَنْتَظِرِ الفَرَجَ.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
198ـ الله يتولى الدفاع عن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (3)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الابْتِلاءَ سُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ يَبْتَلِي اللهُ تعالى بِهَا أَهْلَ الإِيمَانِ، لأنَّ الادِّعَاءَ سَهْلٌ، وإْثْبَاتَ صِحَّةِ هذا الادِّعَاءِ أَمْرٌ عَسِيرٌ، قَد يَدَّعِي الإِنسَانُ أَنَّهُ يَمْلِكُ كذا وكذا من حُطَامِ الدُّنيَا، ولكن إذا طُلِبَ مِنهُ إِثْبَاتُ هذهِ المِلْكِيَّةِ بالأَدِلَّةِ القَاطَعَةِ فَإِنَّهُ يَصْعُبُ عَلَيهِ ذلكَ، إلا إذا كَانَ صَادِقَاً في هذا الادِّعَاءِ.
أيُّها الإخوة الكرام: اِدِّعَاءُ الإِيمَانِ لَيسَ أًمْرَاً هَيِّنَاً وسَهْلاً، لأنَّ ثَمَرَةَ الإِيمَانِ سَعَادَةُ الدُّنيَا والآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. فالمُؤمِنُ الحَقُّ ضَمِنَ اللهُ تعالى لَهُ الفَوْزَ في الدَّارَيْنِ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: من هذا المُنْطَلَقِ لا يَتْرُكُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ النَّاسَ يَدَّعُونَ الإِيمَانَ ادِّعَاءً، بَل لا بُدَّ من الابْتِلاءِ والاخْتِبَارِ لإثْبَاتِ صِحَّةِ هذا الادِّعَاءِ، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.
لا تَطْلُبْ الفِتْنَةَ والابْتِلاءَ:
أيُّها الإخوة الكرام: رَبُّنَا عزَّ وجلَّ عِنْدَمَا يُرِيدُ أن يَخْتَبِرَ إِيمَانَ العَبدِ فَإِنَّهُ يَخْتَبِرُهُ بِمَا شَاءَ، وفي الوَقْتِ الذي يَشَاءُ، ولَنْ يَكُونَ الابْتِلاءُ والاخْتِبَارُ على مُرَادِ العَبدِ بِنَوْعِهِ وَوَقْتِهِ.
ومن طَلَبَ الابْتِلاءَ والاخْتِبَارَ واسْتَعْجَلَهُ فاللهُ تَبَارَكَ وتعالى يَكِلُهُ إلى نَفْسِهِ، ويُخَلِّي بَينَهُ وبَينَ نَفْسِهِ، وأمَّا إذا جَاءَ الابْتِلاءُ من اللهِ تعالى فَإِنَّهُ يَأْتِي ومَعَهُ العَوْنُ مِنهُ تعالى، ولهذا حَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من تَمَنِّي الفِتْنَةِ والابْتِلاءِ والاخْتِبَارِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» رواه الإمام البخاري عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: المُؤمِنُ لا يَتَمَنَّى البَلاءَ، بَل يَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ في دِينِهِ ومَالِهِ وأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، ولكن إذا قَضَى اللهُ أَمْرَاً وقَدَّرَ، صَبَرَ على أَقْدَارِ اللهِ تعالى المُؤْلِمَةِ، واحْتَسَبَ وَرَضِيَ عن اللهِ تعالى، وانْشَرَحَ صَدْرُهُ بِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَقَدَرِهِ، لأَنَّ صَبْرَهُ ورِضَاهُ دَلِيلٌ على صِحَّةِ إِيمَانِهِ.
أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنبِيَاءُ:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام أحمد عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟
قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِن النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».
فَيَا مَن ابْتُلِيتَ بِنَوْعٍ من أَنوَاعِ البَلاءِ، لا تَجْزَعْ ولا تَحْزَنْ مَا دُمْتَ من أَهْلِ الإِيمَانِ، وتَرْجِمْ عن صِحَّةِ الإِيمَانِ بالرِّضَا عن اللهِ تعالى، لِيَقِينِكَ بِقَولِهِ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.
لا تَجْزَعْ ولا تَحْزَنْ، فَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً، وهوَ قُدْوَتُكَ وأُسْوَتُكَ.
لا تَجْزَعْ ولا تَحْزَنْ، فَإِنَّ اللهَ تعالى وَعَدَكَ بالدِّفَاعِ عَنكَ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾. ولكن الأَمْرُ يَحْتَاجُ إلى شَيْءٍ قَلِيلٍ من الصَّبْرِ، لأَنَّ اللهَ تعالى لا يُخْلِفُ المِيعَادَ.
يَا صَاحبَ الابْتِلاءِ، كُنْ على يَقِينٍ بِأَنَّ العَاقِبَةَ لَكَ، لِقَولِهِ تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وتَعَلَّمْ من سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَيفَ يَكُونُ الإِيمَانُ والصَّبْرُ.
أيُّها الإخوة الكرام: أَلَمْ يَقُلْ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾؟ أَلَمْ يَقُلْ لَهُ: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾؟ أَلَمْ يَقُلْ لَهُ: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا باللهِ﴾؟ أَلَمْ يَقُلْ لَهُ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدَاً﴾؟
لقد أَمَرَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالصَّبْرِ، وَوَعَدَهُ بالحِمَايَةِ والنُّصْرَةِ والدِّفَاعِ عَنهُ، فَصَبَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَوَثِقَ بِوَعْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ لَهُ، وحَقَّقَ اللهُ تعالى وَعْدَهُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَأْخُذْ من سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دُرُوسَاً في الصَّبْرِ والمُصَابَرَةِ، والإِيمَانِ بِوَعْدِ اللهِ تعالى الذي لا يَتَزَعْزَعُ.
إيذَاءُ عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيطٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: هُنَاكَ رَجُلٌ خَبِيثٌ حَقُودٌ حَسُودٌ مُجْرِمٌ اسْمُهُ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ، عَلَيهِ من اللهِ تعالى اللَّعَنَاتُ التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، هذا الخَبِيثُ المَاكِرُ آذَى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِيذَاءً شَدِيدَاً، من هذا الإِيذَاءِ:
ما رواه الإمام البخاري عن عَمْرِو بْن مَيْمُونٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ.
فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئَاً لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ.
قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ.
فَرَفَع رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ».
فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ». وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ ـ
قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.
وروى كذلكَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقَاً شَدِيدَاً.
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ فَقَالَ: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
وجَاءَ في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ في كِتَابِ الرَّوضِ الأُنفِ، بَعْضُ صُوَرِ إِيذَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ: أَيُنَزَّلُ على مُحَمَّدٍ ـ أي: القُرآن ـ وَأُتْرَكُ وأنا كَبِيرُ قُرَيشٍ وَسَيِّدُهَا، وَيُتْرَكُ أَبُو مَسْعُودٍ عَمرو بنُ عُمَيرٍ الثَّقَفِيُّ سَيِّدُ ثَقِيفٍ، وَنَحنُ عَظِيمَا القَريَتَينِ؟
فَأَنزَلَ اللهُ تعالى فِيهِ فِيمَا بَلَغَنِي: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً سُخْرِيَّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
وَأُبَيُّ بنُ خَلَفِ بنِ وَهَبِ بنِ حذافَةَ بن جُمَحٍ وَعُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ، وَكَانَا مُتَصَافِيَينِ حَسَنَاً مَا بَينَهُمَا.
فَكَانَ عُقْبَةُ قد جَلَسَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ مِنهُ فَبَلَغَ ذلكَ أُبَيَّاً، فَأَتَى عُقْبَةَ فَقَالَ: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكَ جَالَسْتَ مُحَمَّدَاً، وَسَمِعْتَ مِنهُ؟
ثمَّ قَالَ: وَجْهِي من وَجْهِكَ حَرَامٌ أن أكَلِّمَكَ ـ واسْتَغْلَظَ من اليَمِينِ ـ إن أَنتَ جَلَستَ إِلَيهِ أو سَمِعْتَ مِنهُ أو لَمْ تَأْتِهِ فَتَتْفُلَ في وَجْهِهِ.
فَفَعَلَ ذلكَ عَدُوُّ اللهِ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ لَعَنَهُ اللهُ.
فَأَنزَلَ اللهُ تعالى فِيهِمَا: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانَاً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً﴾.
وَمَشَى أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ بَالٍ قد ارِمَت.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنتَ تَزْعُمُ أن يُبْعَثَ هذا بَعْدَ ما أَرِمَ، ثمَّ فَتَّهُ بِيَدِهِ، ثمَّ نَفَخَهُ في الرِّيحِ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَعَم، أَنَا أَقُولُ ذلكَ، يَبْعَثُهُ اللهُ وَإِيَّاكَ بَعْدَمَا تَكُونَانِ هكذا، ثمَّ يُدْخِلُكَ اللهُ النَّارَ﴾.
فَأَنزَلَ اللهُ تعالى فِيهِ: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارَاً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾.
عَاقِبَةُ عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيطٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد ابْتُلِيَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَصَبَرَ ولَمْ يَجْزَعْ، وكَانَ كُلَّمَا اشْتَدَّ عَلَيهِ البَلاءُ ازْدَادَ إِيمَانَاً وثِقَةً بِوَعْدِ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. والقَائِلِ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد آذَى عُقْبَةُ وغَيْرُهُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وصَبَرَ الحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ امْتِثَالاً لأَمْرِ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، وانْتَظَرَ وَعْدَ اللهِ تعالى فِيهِم، وتَحَقَّقَ وَعْدُ اللهِ تعالى بَعْدَ حِينٍ.
روى عَبدُ الرَّزَّاقِ في المُصَنَّفِ، قَالَ مُعَمَّرُ: وحَدَّثَني الزهري: فَلَمَّا كَانَ يَومَ بَدْرٍ أُسِرَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ في الأَسَارَى، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ أن يَقْتُلَهُ.
فَقَالَ عُقْبَةُ: يَا مُحَمَّدُ! من بَينِ هؤلاءِ أُقْتَلُ؟
قَالَ: «نَعَم».
قَالَ: لِمَ؟
قَالَ: «بِكُفْرِكَ، وَفُجُورِكَ، وَعُتُوِّكَ على اللهِ وَرَسُولِهِ».
قَالَ مُعَمَّرُ: وَقَالَ مقسم: فَبَلَغَنَا ـ واللهُ أَعلَمُ ـ أَنَّهُ قَالَ: فَمَن للصِّبْيَةِ؟
قَالَ: «النَّارُ».
قَالَ: فَقَامَ إِلَيهِ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَأَمَّا أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ فَقَالَ: واللهِ لأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدَاً.
فَبَلَغَ ذلكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «بَل أَنَا أَقْتُلُه إنْ شَاءَ اللهُ».
فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ ذلكَ من النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ لما قِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا قُلتَ، قَالَ: «بَل أَنَا أَقْتُلُه إنْ شَاءَ اللهُ».
فَأَفْزَعَهُ ذلكَ، وَقَالَ: أَنْشُدُكَ باللهِ أَسَمِعْتَهُ يَقُولُ ذلكَ؟
قَالَ: نَعَم، فَوَقَعتْ في نَفْسِهِ، لأَنَّهُم لَمْ يَسْمَعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَولَاً إلا كَانَ حَقَّاً.
فَلَمَّا كَانَ يَومُ أُحُدٍ خَرَجَ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ مَعَ المُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ يَلْتَمِسُ غَفْلَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَ عَلَيهِ، فَيَحُولُ رَجُلٌ من المُسْلِمِينَ بَينَهُ وبَينَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأَصْحَابِهِ: خَلُّوا عَنهُ، فَأَخَذَ الحَربَةَ فَجَزَلَهُ بِهَا ـ يَقُولُ: رَمَاهُ بها ـ فَتَقَعُ في تَرقُوَتِهِ ـ الترقوة: العَظْمُ الذي في أَعلَى الصَّدْرِ بَينَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ والعَاتِقِ ـ تَحتَ تسبغة البيضة ـ مَا تُوصَلُ به الخُوذَةُ من حَلْقِ الدِّرْعِ فَتَسْتُرُ العُنُقَ ـ وفَوقَ الدِّرْعِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنهُ كَبِيرُ دَمٍ، واحْتَقَنَ الدَّمُ في جَوْفِهِ، فَجَعَلَ يَخُورُ ـ يَصِيحُ ـ كَمَا يَخُورُ الثَّوْرُ، فَأَقبَلَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى احْتَمَلُوهُ وهوَ يَخُورُ، وَقَالُوا : مَا هذا؟ فَوَاللهِ ما بِكَ إلا خَدْشٌ.
فَقَالَ: واللهِ لَو لَمْ يُصِبْنِي إلا بِرِيقِهِ لَقَتَلَنِي، أَلَيسَ قَد قَالَ: «بَل أَنَا أَقْتُلُه إنْ شَاءَ اللهُ». واللهِ لَو كَانَ الذي بِي بِأَهْلِ ذي المجاز لَقَتَلَهُم.
قَالَ: فَمَا لَبِثَ إلا يَومَاً أو نَحْوَ ذلكَ حَتَّى مَاتَ إلى النَّارِ، فَأَنزَلَ اللهُ فِيهِ: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانَاً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً﴾.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: مَا يَرَاهُ المُسْلِمُونَ اليَومَ من بَلاءٍ وشِدَّةٍ وقَسْوَةٍ وكَرْبٍ مَا هوَ إلا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ، قال تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾. ولكن يَجِبُ عَلَينَا أن نَصْبِرَ كَمَا صَبَرَ الحَبِيبُ الأَعْظَمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأن نَكُونَ عل يَقِينٍ بِأَنَّ العَاقِبَةَ والعُلُوَّ للمُؤْمِنِينَ، لأَنَّ اللهَ تعالى وَعَدَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بذلكَ، قال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿وللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾. وقال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقَّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقَّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. ولَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ، فَلْنَصْبِرُ ولَنَنْتَظِرِ الفَرَجَ.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin