مع الحبيب المصطفى: «ما فعلت امرأة منكم؟»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
147ـ «ما فعلت امرأة منكم؟»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: قَلبُ الوَالِدَينِ قَلبٌ رَحِيمٌ، وصَدْرُهُمَا صَدْرٌ حَنُونٌ، مَجبُولٌ على الشَّفَقَةِ، نَفسُهُمَا نَفسٌ كَبِيرَةٌ تَتَّسِعُ ما لا تَسَعُهُ آلافُ النُّفُوسِ، وخَاصَّةً نَفسُ الأُمِّ وقَلبُهَا.
رُكِّبَتْ فِيهِمَا الرَّحمَةُ، وخَاصَّةً الأُمُّ، حَيثُ خَالَطَتِ الرَّحمَةُ أَحشَاءَهَا، وسَرَتْ سَرَيَانَ الدَّمِ في عُرُوقِهَا، وقَلبُ الأُمِّ مُحِبٌّ وإنْ لم يُحَبّ، ويَحنُو وإنْ أُغلِظَ عَلَيهِ، لا يُجَازِي بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، بل يُغشِي المُسيءَ بِرَّاً وإحسَاناً.
أيُّها الإخوة الكرام: الأُمُّ قَدَّمَت وضَحَّت ولم تَزَلْ، كم حَزِنَت لِنَفرَحَ، وجَاعَت لِنَشبَعَ، وبَكَت لِنَضحَكَ، وسَهِرَت لِنَنَامَ، وتَحَمَّلَتِ الصِّعَابَ في سَبِيلِ رَاحَتِنَا، إذا فَرِحنَا فَرِحَت، وإذا حَزِنَّا حَزِنَت، وإذا دَاهَمَنَا الهَمُّ صَارَت حَيَاتُهَا في هَمٍّ وغَمٍّ.
أَمَلُ أُمَّهَاتِنَا أن نَعِيشَ سُعَدَاءَ رَاضِينَ مَرضِيِّينَ، ومُنَاهُنَّ أن يُرَفرِفَ السُّرُورُ عَلَينَا، كُلُّ ذلكَ بِدُونِ طَلَبِ أَجْرٍ، وبِدُونِ تَطَلُّعٍ إلى شُكرٍ، فالأُمُّ هيَ رَمزُ الحَنَانِ، ورَمزُ الجَنَانِ، ولن أَكُونَ مُبَالِغَاً إن قُلتُ: الأُمُّ تُحِبُّ وَلَدَهَا أَكثَرَ من نَفسِهَا.
تَذَكَّرْ ضَعفَكَ:
أيُّها الإخوة الكرام: قُولُوا لمن وَقَعَ في عُقُوقِ الآبَاءِ، وخَاصَّةً لمن وَقَعَ في عُقُوقِ الأُمِّ: تَذَكَّرْ حَالَ نَفسِكَ وأَنتَ طِفلٌ صَغِيرٌ، وتَذَكَّرْ أَيَّامَ ضَعفِ طُفُولَتِكَ، لأنَّ اللهَ تعالى قَالَ: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾.
تَذَكَّرْ يا أَيُّهَا العَاقُّ للأُمِّ، أنَّ أُمَّكَ حَمَلَتْكَ في بَطنِهَا تِسعَةَ أَشهُرٍ وَهنَاً على وَهنٍ، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾. تَذَكَّرْ أنَّ أُمَّكَ حَمَلَتْكَ كُرهَاً وَوَضَعَتْكَ كُرهَاً، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾.
تَذَكَّرْ يا أَيُّهَا العَاقُّ، وأَنتَ في بَطنِ أُمِّكَ، كُلَّما ازدَدتَ نُمُوَّاً زِدتَهَا ضَعفَاً، وتُحَمِّلُهَا فَوقَ طَاقَتِهَا عَنَاءً، وهيَ ضَعِيفَةُ الجِسمِ، وَاهِنَةُ القِوَى.
تَذَكَّرْ يا أَيُّهَا العَاقُّ، عِندَ الوَضْعِ رَأَتْ أُمُّكَ المَوتَ بِعَينَيهَا، زَفَرَاتٌ وأَنِينٌ صَدَرَت من صَدْرِهَا، وغُصَصٌ، وآلامٌ تَجَرَّعَتْهَا، لا يَعلَمُهَا إلا اللهُ تعالى، ولكنَّهَا صَبَرَت وصَابَرَت، حتَّى عِندَمَا أَبصَرَتْكَ بِجَانِبِهَا، وَضَمَّتْكَ إلى صَدْرِهَا، وشَمَّتْ رَائِحَتَكَ، وتَحَسَّسَتْ أَنفَاسَكَ، نَسِيَتْ جَمِيعَ آلامِهَا وأَوجَاعِهَا.
تَذَكَّرْ يا أَيُّهَا العَاقُّ، أنَّ أُمَّكَ عَلَّقَت فِيكَ آمَالَهَا، ورَأَتْ فِيكَ بَهْجَةَ الحَيَاةِ وزِينَتَهَا، ثمَّ انصَرَفَت إلى خِدمَتِكَ لَيلاً ونَهَارَاً، تُغَذِّيكَ بِصِحَّتِهَا، وتُقَوِّيكَ بِضَعْفِهَا، تُحِيطُكَ وتَرعَاكَ، تَجُوعُ هيَ لِتَشبَعَ أَنتَ، وتَسهَرُ هيَ لِتَنَامَ أَنتَ، فهيَ بِكَ رَحِيمَةٌ، وعَلَيكَ شَفُوقَةٌ، إنْ غَابَت عَنكَ سَاعَةً نَادَيتَهَا، وإذا أَعرَضَت عَنكَ نَاجَيتَهَا، وإذا أَصَابَكَ مَكرُوهٌ لَجَأتَ إلَيهَا، تَخَافُ عَلَيكَ رِقَّةَ النَّسِيمِ، وطَنِينَ الذُّبَابِ.
تَذَكَّرْ يا أَيُّهَا العَاقُّ، بأنَّ صُورَتَكَ أَبهَى عِندَهَا من البَدْرِ عِندَ تَمَامِهِ، وصَوتُكَ عِندَهَا أحلَى من تَغرِيدِ البَلابِلِ، وغِنَاءِ الطُّيُورِ، ورِيحُكَ عِندَهَا أَروَعُ وأَجمَلُ أَنوَاعِ الطِّيبِ والزُّهُورِ، سَعَادَتُكَ عِندَهَا أَغلَى من الدُّنيا لو سِيقَت إلَيهَا بِحَذَافِيرِهَا، يِرخُصُ عِندَهَا كُلُّ شَيءٍ في سَبِيلِ رَاحَتِكَ، حتَّى تَرخُصُ رُوحُهَا التي بَينَ جَنبَيهَا في سَبِيلِ سَلامَتِكَ وسَعَادَتِكَ.
أَينَ نَحنُ من سَلَفِ الأُمَّةِ؟
أيُّها الإخوة الكرام: قُولُوا للعَاقِّ لِوَالِدَيهِ، وخَاصَّةً للعَاقِّ لأُمِّهِ: من أَينَ جَاءَكَ هذا العُقُوقُ؟ من الذي دَرَّبَكَ على العُقُوقِ؟ من الذي دَفَعَكَ لأنْ تَنسَ إحسَانَ أَبَوَيكَ إلَيكَ، وخَاصَّةً أُمِّكَ؟
واللهِ لو كَانَت لَكَ صِلَةٌ حَقِيقِيَّةٌ بهذا الدِّينِ لما كُنتَ عَاقَّاً لِوَالِدَيكَ، لِذَا، كَانَ لِزَامَاً عَلَيَّ أن أُذَكِّرَكَ، فاسمَعْ يا عَبدَ اللهِ:
«ما فَعَلَت امرَأَةً مِنكُم؟»:
أيُّها الإخوة الكرام: روى عَبدُ الرَّزَّاقِ في مُصَنَّفِهِ عن يَحيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو مُوسَى الأَشعَرِيِّ وأَبُو عَامِرٍ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَبَايَعُوهُ وأَسلَمُوا، قَالَ: «مَا فَعَلَت امرَأَةٌ مِنكُم تُدعَى كَذَا وكَذَا؟».
قَالُوا : تَرَكنَاهَا في أَهلِهَا.
قَالَ: «فَإِنَّهُ قد غُفِرَ لَهَا».
قَالُوا: بِمَا يا رَسُولَ اللهِ؟!
قَالَ: «بِبِرِّهَا وَالِدَتَهَا، كَانَت لَهَا أُمٌّ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فَجَاءَهُمُ النَّذِيرُ أنَّ العَدُوَّ يُرِيدُونَ أن يُغِيرُوا عَلَيكُم اللَّيلَةَ، فَارتَحِلُوا لِتَلحَقُوا بِعَظِيمِ قَومِهِم، ولم يَكُنْ مَعَهَا ما تَحتَمِلُ عَلَيهِ، فَعَمِدَت إلى أُمِّهَا فَجَعَلَت تَحمِلُهَا على ظَهرِهَا، فإذا أَعيَت وَضَعَتهَا، ثمَّ أَلزَقَت بَطنَهَا بِبَطنِ أُمِّهَا، وَجَعَلَت رِجلَيهَا تَحتَ رِجلَيْ أُمِّهَا من الرَّمضَاءِ حتَّى نَجَتْ».
أَتَخَافُ النَّارَ أن تَدخُلَهَا:
أيُّها الإخوة الكرام: يا من تُرِيدُونَ النَّجَاةَ، وسَعَادَةَ الدُّنيا والآخِرَةِ، اِلزَمُوا رِجْلَ أُمَّهَاتِكُم، فَثَمَّ الجَنَّةُ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه ابن ماجه عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».
قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: «ارْجِعْ فَبِرَّهَا».
ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِن الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».
قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبِرَّهَا».
ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».
قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ».
وقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما لِرَجُلٍ: أَتَخَافُ النَّارَ أن تَدخُلَهَا، وتُحِبُّ الجَنَّةَ أن تَدخُلَهَا؟
قَالَ: نَعَم.
قَالَ: بِرَّ أُمَّكَ، فواللهِ لَئِنْ أَلَنتَ لَهَا الكَلامَ، وأَطعَمْتَهَا الطَّعَامَ، لَتَدخُلَنَّ الجَنَّةَ ما اجتَنَبتَ المُوجِبَاتِ ـ أي: المُوبِقَاتِ ـ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ بِرَّ الوَالِدَينِ دَأبُ الصَّالِحِينَ، وسِيرَةُ العَارِفِينَ باللهِ تعالى، والسَّعِيدُ من أَكرَمَهُ اللهُ تعالى بِبِرِّ الوَالِدَينِ، والشَّقِيُّ من حُرِمَ بِرَّهُمَا.
قِيلَ للحَسَنِ البَصرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ما دُعَاءُ الوَالِدَينِ للوَلدَ؟
قَالَ: نَجَاةٌ.
قَالَ: فَقُلتُ: فَعَلَيهِ؟
قَالَ: اِستِئصَالُهُ ـ يَعنِي الهَلاكَ ـ.
اللَّهُمَّ لا تَحرِمْنَا بِرَّ الوَالِدَينِ أَحيَاءَ ومَيِّتِينَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
147ـ «ما فعلت امرأة منكم؟»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: قَلبُ الوَالِدَينِ قَلبٌ رَحِيمٌ، وصَدْرُهُمَا صَدْرٌ حَنُونٌ، مَجبُولٌ على الشَّفَقَةِ، نَفسُهُمَا نَفسٌ كَبِيرَةٌ تَتَّسِعُ ما لا تَسَعُهُ آلافُ النُّفُوسِ، وخَاصَّةً نَفسُ الأُمِّ وقَلبُهَا.
رُكِّبَتْ فِيهِمَا الرَّحمَةُ، وخَاصَّةً الأُمُّ، حَيثُ خَالَطَتِ الرَّحمَةُ أَحشَاءَهَا، وسَرَتْ سَرَيَانَ الدَّمِ في عُرُوقِهَا، وقَلبُ الأُمِّ مُحِبٌّ وإنْ لم يُحَبّ، ويَحنُو وإنْ أُغلِظَ عَلَيهِ، لا يُجَازِي بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، بل يُغشِي المُسيءَ بِرَّاً وإحسَاناً.
أيُّها الإخوة الكرام: الأُمُّ قَدَّمَت وضَحَّت ولم تَزَلْ، كم حَزِنَت لِنَفرَحَ، وجَاعَت لِنَشبَعَ، وبَكَت لِنَضحَكَ، وسَهِرَت لِنَنَامَ، وتَحَمَّلَتِ الصِّعَابَ في سَبِيلِ رَاحَتِنَا، إذا فَرِحنَا فَرِحَت، وإذا حَزِنَّا حَزِنَت، وإذا دَاهَمَنَا الهَمُّ صَارَت حَيَاتُهَا في هَمٍّ وغَمٍّ.
أَمَلُ أُمَّهَاتِنَا أن نَعِيشَ سُعَدَاءَ رَاضِينَ مَرضِيِّينَ، ومُنَاهُنَّ أن يُرَفرِفَ السُّرُورُ عَلَينَا، كُلُّ ذلكَ بِدُونِ طَلَبِ أَجْرٍ، وبِدُونِ تَطَلُّعٍ إلى شُكرٍ، فالأُمُّ هيَ رَمزُ الحَنَانِ، ورَمزُ الجَنَانِ، ولن أَكُونَ مُبَالِغَاً إن قُلتُ: الأُمُّ تُحِبُّ وَلَدَهَا أَكثَرَ من نَفسِهَا.
تَذَكَّرْ ضَعفَكَ:
أيُّها الإخوة الكرام: قُولُوا لمن وَقَعَ في عُقُوقِ الآبَاءِ، وخَاصَّةً لمن وَقَعَ في عُقُوقِ الأُمِّ: تَذَكَّرْ حَالَ نَفسِكَ وأَنتَ طِفلٌ صَغِيرٌ، وتَذَكَّرْ أَيَّامَ ضَعفِ طُفُولَتِكَ، لأنَّ اللهَ تعالى قَالَ: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾.
تَذَكَّرْ يا أَيُّهَا العَاقُّ للأُمِّ، أنَّ أُمَّكَ حَمَلَتْكَ في بَطنِهَا تِسعَةَ أَشهُرٍ وَهنَاً على وَهنٍ، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾. تَذَكَّرْ أنَّ أُمَّكَ حَمَلَتْكَ كُرهَاً وَوَضَعَتْكَ كُرهَاً، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾.
تَذَكَّرْ يا أَيُّهَا العَاقُّ، وأَنتَ في بَطنِ أُمِّكَ، كُلَّما ازدَدتَ نُمُوَّاً زِدتَهَا ضَعفَاً، وتُحَمِّلُهَا فَوقَ طَاقَتِهَا عَنَاءً، وهيَ ضَعِيفَةُ الجِسمِ، وَاهِنَةُ القِوَى.
تَذَكَّرْ يا أَيُّهَا العَاقُّ، عِندَ الوَضْعِ رَأَتْ أُمُّكَ المَوتَ بِعَينَيهَا، زَفَرَاتٌ وأَنِينٌ صَدَرَت من صَدْرِهَا، وغُصَصٌ، وآلامٌ تَجَرَّعَتْهَا، لا يَعلَمُهَا إلا اللهُ تعالى، ولكنَّهَا صَبَرَت وصَابَرَت، حتَّى عِندَمَا أَبصَرَتْكَ بِجَانِبِهَا، وَضَمَّتْكَ إلى صَدْرِهَا، وشَمَّتْ رَائِحَتَكَ، وتَحَسَّسَتْ أَنفَاسَكَ، نَسِيَتْ جَمِيعَ آلامِهَا وأَوجَاعِهَا.
تَذَكَّرْ يا أَيُّهَا العَاقُّ، أنَّ أُمَّكَ عَلَّقَت فِيكَ آمَالَهَا، ورَأَتْ فِيكَ بَهْجَةَ الحَيَاةِ وزِينَتَهَا، ثمَّ انصَرَفَت إلى خِدمَتِكَ لَيلاً ونَهَارَاً، تُغَذِّيكَ بِصِحَّتِهَا، وتُقَوِّيكَ بِضَعْفِهَا، تُحِيطُكَ وتَرعَاكَ، تَجُوعُ هيَ لِتَشبَعَ أَنتَ، وتَسهَرُ هيَ لِتَنَامَ أَنتَ، فهيَ بِكَ رَحِيمَةٌ، وعَلَيكَ شَفُوقَةٌ، إنْ غَابَت عَنكَ سَاعَةً نَادَيتَهَا، وإذا أَعرَضَت عَنكَ نَاجَيتَهَا، وإذا أَصَابَكَ مَكرُوهٌ لَجَأتَ إلَيهَا، تَخَافُ عَلَيكَ رِقَّةَ النَّسِيمِ، وطَنِينَ الذُّبَابِ.
تَذَكَّرْ يا أَيُّهَا العَاقُّ، بأنَّ صُورَتَكَ أَبهَى عِندَهَا من البَدْرِ عِندَ تَمَامِهِ، وصَوتُكَ عِندَهَا أحلَى من تَغرِيدِ البَلابِلِ، وغِنَاءِ الطُّيُورِ، ورِيحُكَ عِندَهَا أَروَعُ وأَجمَلُ أَنوَاعِ الطِّيبِ والزُّهُورِ، سَعَادَتُكَ عِندَهَا أَغلَى من الدُّنيا لو سِيقَت إلَيهَا بِحَذَافِيرِهَا، يِرخُصُ عِندَهَا كُلُّ شَيءٍ في سَبِيلِ رَاحَتِكَ، حتَّى تَرخُصُ رُوحُهَا التي بَينَ جَنبَيهَا في سَبِيلِ سَلامَتِكَ وسَعَادَتِكَ.
أَينَ نَحنُ من سَلَفِ الأُمَّةِ؟
أيُّها الإخوة الكرام: قُولُوا للعَاقِّ لِوَالِدَيهِ، وخَاصَّةً للعَاقِّ لأُمِّهِ: من أَينَ جَاءَكَ هذا العُقُوقُ؟ من الذي دَرَّبَكَ على العُقُوقِ؟ من الذي دَفَعَكَ لأنْ تَنسَ إحسَانَ أَبَوَيكَ إلَيكَ، وخَاصَّةً أُمِّكَ؟
واللهِ لو كَانَت لَكَ صِلَةٌ حَقِيقِيَّةٌ بهذا الدِّينِ لما كُنتَ عَاقَّاً لِوَالِدَيكَ، لِذَا، كَانَ لِزَامَاً عَلَيَّ أن أُذَكِّرَكَ، فاسمَعْ يا عَبدَ اللهِ:
«ما فَعَلَت امرَأَةً مِنكُم؟»:
أيُّها الإخوة الكرام: روى عَبدُ الرَّزَّاقِ في مُصَنَّفِهِ عن يَحيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو مُوسَى الأَشعَرِيِّ وأَبُو عَامِرٍ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَبَايَعُوهُ وأَسلَمُوا، قَالَ: «مَا فَعَلَت امرَأَةٌ مِنكُم تُدعَى كَذَا وكَذَا؟».
قَالُوا : تَرَكنَاهَا في أَهلِهَا.
قَالَ: «فَإِنَّهُ قد غُفِرَ لَهَا».
قَالُوا: بِمَا يا رَسُولَ اللهِ؟!
قَالَ: «بِبِرِّهَا وَالِدَتَهَا، كَانَت لَهَا أُمٌّ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فَجَاءَهُمُ النَّذِيرُ أنَّ العَدُوَّ يُرِيدُونَ أن يُغِيرُوا عَلَيكُم اللَّيلَةَ، فَارتَحِلُوا لِتَلحَقُوا بِعَظِيمِ قَومِهِم، ولم يَكُنْ مَعَهَا ما تَحتَمِلُ عَلَيهِ، فَعَمِدَت إلى أُمِّهَا فَجَعَلَت تَحمِلُهَا على ظَهرِهَا، فإذا أَعيَت وَضَعَتهَا، ثمَّ أَلزَقَت بَطنَهَا بِبَطنِ أُمِّهَا، وَجَعَلَت رِجلَيهَا تَحتَ رِجلَيْ أُمِّهَا من الرَّمضَاءِ حتَّى نَجَتْ».
أَتَخَافُ النَّارَ أن تَدخُلَهَا:
أيُّها الإخوة الكرام: يا من تُرِيدُونَ النَّجَاةَ، وسَعَادَةَ الدُّنيا والآخِرَةِ، اِلزَمُوا رِجْلَ أُمَّهَاتِكُم، فَثَمَّ الجَنَّةُ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه ابن ماجه عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».
قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: «ارْجِعْ فَبِرَّهَا».
ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِن الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».
قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبِرَّهَا».
ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».
قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ».
وقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما لِرَجُلٍ: أَتَخَافُ النَّارَ أن تَدخُلَهَا، وتُحِبُّ الجَنَّةَ أن تَدخُلَهَا؟
قَالَ: نَعَم.
قَالَ: بِرَّ أُمَّكَ، فواللهِ لَئِنْ أَلَنتَ لَهَا الكَلامَ، وأَطعَمْتَهَا الطَّعَامَ، لَتَدخُلَنَّ الجَنَّةَ ما اجتَنَبتَ المُوجِبَاتِ ـ أي: المُوبِقَاتِ ـ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ بِرَّ الوَالِدَينِ دَأبُ الصَّالِحِينَ، وسِيرَةُ العَارِفِينَ باللهِ تعالى، والسَّعِيدُ من أَكرَمَهُ اللهُ تعالى بِبِرِّ الوَالِدَينِ، والشَّقِيُّ من حُرِمَ بِرَّهُمَا.
قِيلَ للحَسَنِ البَصرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ما دُعَاءُ الوَالِدَينِ للوَلدَ؟
قَالَ: نَجَاةٌ.
قَالَ: فَقُلتُ: فَعَلَيهِ؟
قَالَ: اِستِئصَالُهُ ـ يَعنِي الهَلاكَ ـ.
اللَّهُمَّ لا تَحرِمْنَا بِرَّ الوَالِدَينِ أَحيَاءَ ومَيِّتِينَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin