مع الحبيب المصطفى: «اهتز لموته عرش الرحمن» (2)
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
132ـ «اهتز لموته عرش الرحمن» (2)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لا عِزَّ لنا إلا في طَاعَةِ الله عزَّ وجلَّ وطَاعَةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولا فَوزَ لنا إلا في القُربِ من حَضْرَةِ الله تعالى وحَضْرَةِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولا غِنَى لنا عن الله تعالى وعن رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَرفَةَ عَينٍ ولا أَقَلَّ من ذلكَ، لذلكَ كانَ من الوَاجِبِ على المُؤمِنِ أن يُقَدِّرَ نِعمَةَ الحَياةِ الدُّنيا، وأن يُقَدِّرَ نِعمَةَ الله تعالى عَلَيهِ بِشَكلٍ عامٍّ، ونِعمَةَ الشَّبابِ والقُوَّةِ والصِّحَّةِ بِشَكلٍ خاصٍّ.
أيُّها الإخوة الكرام: السَّعيدُ فينا من استَطَاعَ أن يُقَدِّمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَرحَلَةٍ من مَرَاحِلِ عُمُرِهِ زَاداً، السَّعيدُ حَقَّاً من قَدَّمَ زَاداً لِيَومِ الرَّحِيلِ من الدُّنيا، لأنَّ الرَّحِيلَ منها قَريبٌ وقَريبٌ جِدَّاً، فالمُؤمِنُ من تَزَوَّدَ لِسَفَرِهِ من الدُّنيا، وإنَّ السَّفَرَ منها إمَّا إلى جَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرضُ، وإمَّا إلى جَهَنَّمَ وبِئسَ المَصيرُ. ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير﴾.
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: العَاقِلُ من النَّاسِ من تَدَبَّرَ قَولَ الله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُون * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم﴾. العَاقِلُ من النَّاسِ من عَرَفَ الغَايَةَ من خَلْقِهِ، ولقد عَرََّفَنَا اللهُ تعالى الغَايَةَ من خَلْقِنا، فقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين﴾.
خُلِقنا من أجلِ العِبادَةِ، والعَاقِلُ منَّا من قَضَى نَحْبَهُ وعُمُرَهُ فيها، وإلا كانَ الغُبْنُ والخَسَارَةُ، فالمُؤمِنُ الحَقُّ لا تَلقَاهُ إلا في طَاعَةٍ لله عزَّ وجلَّ، فيما يَقولُ وفيما يَفعَلُ، فقد شَغَلَ عُمُرَهُ وشَبابَهُ خاصَّةً في ذلكَ.
أيُّها الإخوة الكرام: الكَثيرُ من النَّاسِ قد غُبِنَ في أيَّامِ صِحَّتِهِ وفَرَاغِهِ، رَغمَ أنَّ سَيِّدَنا رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَ من ذلكَ بِقَولِهِ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
العَاقِلُ المُوَفَّقُ من أدرَكَ حَقيقَةَ هذهِ النِّعمَةِ، فَاغتَنَمَ عُمُرَهُ في عِلمٍ نافِعٍ حَفِظَ به لِسانَهُ، وحَفِظَ به أُمَّتَهُ ومن يَلُوذُ به، العَاقِلُ المُوَفَّقُ من اغتَنَمَ فَترَةَ الشَّبابِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمَهُ لآخِرَتِهِ، وبِذِكْرٍ صَالِحٍ تَرَكَهُ بَعدَ مَوتِهِ.
فيا مَعشَرَ الشَّبابِ والأصِحَّاءِ والأقوِياءِ، خُذوا من أنفُسِكُم في هذا الوَقتِ، فالعَمَلُ النَّافِعُ هوَ في الشَّبابِ وفي الصِّحَّةِ والقُوَّةِ.
شَبابُ السَّلَفِ الصَّالِحِ شَغَلَتْهُم مَعَالِي الأُمورِ:
أيُّها الإخوة الكرام: شَبابُ السَّلَفِ الصَّالِحِ شَغَلَتْهُم مَعَالِي الأُمورِ لا سَفاسِفُها، فقد نَصَروا دِينَ الله تعالى سُلوكاً وعَمَلاً، وبَلَّغوا رِسالَةَ الله عزَّ وجلَّ كما أُمِروا، فَنَالوا عِزَّ الدُّنيا والآخِرَةِ، وفازوا بالقُربِ من الله تعالى ومن رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، من هؤلاءِ الشَّبابِ سَيِّدُنا سَعدُ بنُ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، سَيِّدُ الأَوسِ.
هذا السَّيِّدُ الجَليلُ الذي فَرِحَ اللهُ تعالى بِلِقَائِهِ، واهتَزَّ لَهُ عَرشُ الرَّحمنِ لاستِشهَادِهِ، وتَفَتَّحَت أبوابُ السَّماءِ لِرُوحِهِ، وشَيَّعَهُ سَبعونَ ألفاً من مَلائِكَةِ الرَّحمَةِ، وصَلَّى عَلَيهِ سَيِّدُ الأنبِياءِ والمُرسَلينَ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعَ أصحَابِهِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وما ذاكَ إلا لأنَّهُ كانَ عَظيماً في إيمانِهِ، وعَظيماً في إسلامِهِ، لم يَكُن إيمانُهُ مُجَرَّدَ دَعوَى، ولم يَكُن إسلامُهُ مُجَرَّدَ كَلِماتٍ رَدَّدَها على لِسانِهِ، إنَّما كانَ إيمانُهُ وَلاءً صَادِقاً لله تعالى، ولِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وللمُؤمِنينَ.
لقد بَلَّغَ رِسالَةَ الله عزَّ وجلَّ بِمُجَرَّدِ أن أعلَنَ إسلامَهُ، فقال لأهلِهِ وقَومِهِ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بالله وَبِرَسُولِهِ.
فَبَلَّغَ رِسالَةَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ كما أُمَرَ بأُسلوبِ الحَكيمِ، عِندَما سَأَلَ قَومَهُ: يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟
وكأنَّهُ عَلِمَ وتَعَلَّمَ ذلكَ من سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِندَما وَقَفَ مَوقِفَهُ الأوَّلَ مُبَلِّغاً أمرَ رَبِّهِ، فقالَ لِقَومِهِ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟».
قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقاً.
قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
يا شَبابَ هذهِ الأُمَّةِ، تَعَلَّموا الحِكمَةَ في الدَّعوَةِ إلى الله تعالى من هؤلاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، الذينَ انشَغَلوا بِمَعالِي الأُمورِ لا بِسَفَاسِفِها، لَعَلَّكُم أن تَنالوا ما نالَ سَلَفُنا الصَّالِحُ.
فَأمرُنا لأمرِكَ فِيهِ تَبَعٌ:
أيُّها الإخوة الكرام: البَعضُ يَتَساءَلُ لماذا اهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لِمَوتِ سَيِّدِنا سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ؟
لقد اهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لِمَوتِهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ لأنَّهُ ضَرَبَ أروَعَ الأمثِلَةِ لِشَبابِ هذهِ الأُمَّةِ، حَيثُ عاشَ في الإسلامِ سَبعَ سَنَواتٍ، فَقَدَّمَ ما لم يُقَدِّمْهُ أُناسٌ بِسَبعينَ سَنَةٍ، بِسَبَبِهِ أسلَمَ قَومُهُ جَميعاً.
لأنَّ إيمانَهُ كانَ في قَلبِهِ أعظَمُ من الجِبالِ، كما قالَ سَيِّدُنا عَبدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ في وَصْفِ إيمانِ الصَّحَابَةِ: الإيمانُ في قُلُوبِهِم أعظَمُ من الجِبالِ.
لقد اهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لِمَوتِ سَيِّدِنا سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، لأنَّهُ قالَ كَلِماتٍ لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَرَّتْهُ وأفرَحَتْ قَلبَهُ الشَّريفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، واستَنَارَ وَجْهُهُ المُنَوَّرُ بِتِلكَ الكَلِماتِ، وذاكَ يَومَ بَدْرٍ، عِندَما وَقَفَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وقال: «أَشِيرُوا عَلَينا في أَمرِنا ومَسيرِنا».
فقالَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: يا رَسولَ الله، إِنَّا أَعلَمُ النَّاسِ بِمَسَافَةِ الأرضِ، أَخبَرَنا عَدِيُّ بن أبي الزَّغباءِ أنَّ العِيرَ كانَت بِوَادي كذا وكذا.
ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ».
فقالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: يا رَسولَ الله، إِنَّها قُرَيشٌ وعِزُّها، والله ما ذَلَّت مُنذُ عَزَّت، ولا آمَنَت مُنذُ كَفَرَت، والله لَتُقَاتِلَنَّكَ، فَتَأَهَّبْ لذلكَ أُهبَتَهُ، وأَعدِدْ لَهُ عُدَّتَهُ.
فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ».
فقالَ المِقدادُ بنُ عَمرو عديد بني زهرة: إنَّا لا نَقولُ لَكَ كما قالَ أَصحَابُ مُوسى: اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون، ولكن اذهَبْ أنتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا مَعَكُم مُتَّبِعونَ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَسِرْنَا مَعَك. ـ مكانٌ في اليَمَنِ ـ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْراً، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ.
فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ».
فَلَمَّا رَأى سَعدُ بن مُعاذٍ كَثرَةَ استِشَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصحَابَهُ فَيُشِيرُونَ فَيَرجِعُ إلى المَشُورَةِ ظَنَّ سَعدٌ أَنَّهُ يَستَنطِقُ الأنصارَ شَفَقاً ألا يَستَحوِذُوا مَعَهُ ـ لا يَسيروا ـ على ما يُريدُ من أَمرِهِ.
فقال سَعدُ بن مُعاذٍ: لَعَلَّكَ يا رَسولَ الله تَخشَى أن لا يَكونَ الأنصارُ يُريدونَ مُواسَاتَكَ، ولا يَرَونَها حَقَّاً عَلَيهِم، إلا بأن يَرَوا عَدُوَّاً في بُيوتِهِم وأولادِهِم ونِسائِهِم، وإِنِّي أَقولُ عن الأنصارِ وأُجيبُ عَنهُم: يا رَسولَ الله، فَأَظعِنْ ـ اِرحَلْ بنا ـ حَيثُ شِئتَ، وصِلْ حَبلَ من شِئتَ، واقطَعْ حَبلَ من شِئتَ، وخُذْ من أَموالِنا ما شِئتَ، وأَعطِنَا ما شِئتَ، وما أَخَذْتَهُ مِنَّا أَحَبُّ إِلينَا مِمَّا تَرَكتَ عَلَينَا، وما ائتَمَرتَ ـ شَاوَرتَ ـ من أَمرٍ فَأمرُنا لأمرِكَ فِيهِ تَبَعٌ، فوالله لو سِرتَ حتَّى تَبلُغَ البِرْكَ من غِمدِ ذي يَمَنٍ لَسِرنا مَعَكَ. ـ بِركُ الغِمادِ: مَكانٌ وَراءَ مَكَّةَ يَبعُدُ عَنها 600كم ـ.
فَلَمَّا قالَ ذلكَ سَعدٌ قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سِيرُوا على اسمِ الله عزَّ وجلَّ، فَإِنِّي قد أُريتُ مَصارِعَ القَومِ» رواه البيهقي.
وجاءَ في سِيرَةِ ابنِ هِشامٍ أنَّهُ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: واللهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ الله؟
قَالَ: «أَجَلْ».
قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ الله لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَك، فَوَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَداً، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ؛ لَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرَّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ الله.
فَسُرَّ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، والله لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ».
أيُّها الإخوة الكرام: هكذا سَجَّلَ لِنَفسِهِ مَوقِفاً أدخَلَ فِيهِ السُّرورَ على قَلبِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتِ المُكَافَأَةُ لَهُ أن تُفتَحَ أبوابُ السَّماءِ لِرُوحِهِ، ويُهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لِمَوتِهِ، وتَزدَحِمَ مَلائِكَةُ الرَّحمَةِ عِندَ تَشييعِهِ، ويُصَلِّيَ عَلَيهِ أشرَفُ الخَلْقِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ أصحَابِهِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إذا أرَدْنا عِزَّ الدُّنيا والآخِرَةِ، والفَوزَ بالقُربِ من حَضْرَةِ الله تعالى، ومن حَضْرَةِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلنَجعَلْ شِعارَنا ما قالَهُ سَيِّدُنا سَعدُ بنُ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: فَأمرُنا لأمرِكَ فِيهِ تَبَعٌ.
ولنَجعَلْ هَوانا تَبَعاً لما جاءَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَيِّدُنا سَعدُ بنُ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ عِندَما كانَ كذلكَ اهتَزَّ لِمَوتِهِ عَرشُ الرَّحمنِ، وتَفَتَّحَت لِرُوحِهِ أبوابُ السَّماءِ، وتَرَكَ ذِكْراً صَالِحاً بَعدَ أن عاشَ في الإسلامِ سَبعَ سَنَواتٍ فَقَط.
اللَّهُمَّ اجعَلنا كَسَيِّدِنا سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
132ـ «اهتز لموته عرش الرحمن» (2)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لا عِزَّ لنا إلا في طَاعَةِ الله عزَّ وجلَّ وطَاعَةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولا فَوزَ لنا إلا في القُربِ من حَضْرَةِ الله تعالى وحَضْرَةِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولا غِنَى لنا عن الله تعالى وعن رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَرفَةَ عَينٍ ولا أَقَلَّ من ذلكَ، لذلكَ كانَ من الوَاجِبِ على المُؤمِنِ أن يُقَدِّرَ نِعمَةَ الحَياةِ الدُّنيا، وأن يُقَدِّرَ نِعمَةَ الله تعالى عَلَيهِ بِشَكلٍ عامٍّ، ونِعمَةَ الشَّبابِ والقُوَّةِ والصِّحَّةِ بِشَكلٍ خاصٍّ.
أيُّها الإخوة الكرام: السَّعيدُ فينا من استَطَاعَ أن يُقَدِّمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَرحَلَةٍ من مَرَاحِلِ عُمُرِهِ زَاداً، السَّعيدُ حَقَّاً من قَدَّمَ زَاداً لِيَومِ الرَّحِيلِ من الدُّنيا، لأنَّ الرَّحِيلَ منها قَريبٌ وقَريبٌ جِدَّاً، فالمُؤمِنُ من تَزَوَّدَ لِسَفَرِهِ من الدُّنيا، وإنَّ السَّفَرَ منها إمَّا إلى جَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرضُ، وإمَّا إلى جَهَنَّمَ وبِئسَ المَصيرُ. ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير﴾.
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: العَاقِلُ من النَّاسِ من تَدَبَّرَ قَولَ الله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُون * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم﴾. العَاقِلُ من النَّاسِ من عَرَفَ الغَايَةَ من خَلْقِهِ، ولقد عَرََّفَنَا اللهُ تعالى الغَايَةَ من خَلْقِنا، فقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين﴾.
خُلِقنا من أجلِ العِبادَةِ، والعَاقِلُ منَّا من قَضَى نَحْبَهُ وعُمُرَهُ فيها، وإلا كانَ الغُبْنُ والخَسَارَةُ، فالمُؤمِنُ الحَقُّ لا تَلقَاهُ إلا في طَاعَةٍ لله عزَّ وجلَّ، فيما يَقولُ وفيما يَفعَلُ، فقد شَغَلَ عُمُرَهُ وشَبابَهُ خاصَّةً في ذلكَ.
أيُّها الإخوة الكرام: الكَثيرُ من النَّاسِ قد غُبِنَ في أيَّامِ صِحَّتِهِ وفَرَاغِهِ، رَغمَ أنَّ سَيِّدَنا رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَذَّرَ من ذلكَ بِقَولِهِ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
العَاقِلُ المُوَفَّقُ من أدرَكَ حَقيقَةَ هذهِ النِّعمَةِ، فَاغتَنَمَ عُمُرَهُ في عِلمٍ نافِعٍ حَفِظَ به لِسانَهُ، وحَفِظَ به أُمَّتَهُ ومن يَلُوذُ به، العَاقِلُ المُوَفَّقُ من اغتَنَمَ فَترَةَ الشَّبابِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمَهُ لآخِرَتِهِ، وبِذِكْرٍ صَالِحٍ تَرَكَهُ بَعدَ مَوتِهِ.
فيا مَعشَرَ الشَّبابِ والأصِحَّاءِ والأقوِياءِ، خُذوا من أنفُسِكُم في هذا الوَقتِ، فالعَمَلُ النَّافِعُ هوَ في الشَّبابِ وفي الصِّحَّةِ والقُوَّةِ.
شَبابُ السَّلَفِ الصَّالِحِ شَغَلَتْهُم مَعَالِي الأُمورِ:
أيُّها الإخوة الكرام: شَبابُ السَّلَفِ الصَّالِحِ شَغَلَتْهُم مَعَالِي الأُمورِ لا سَفاسِفُها، فقد نَصَروا دِينَ الله تعالى سُلوكاً وعَمَلاً، وبَلَّغوا رِسالَةَ الله عزَّ وجلَّ كما أُمِروا، فَنَالوا عِزَّ الدُّنيا والآخِرَةِ، وفازوا بالقُربِ من الله تعالى ومن رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، من هؤلاءِ الشَّبابِ سَيِّدُنا سَعدُ بنُ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، سَيِّدُ الأَوسِ.
هذا السَّيِّدُ الجَليلُ الذي فَرِحَ اللهُ تعالى بِلِقَائِهِ، واهتَزَّ لَهُ عَرشُ الرَّحمنِ لاستِشهَادِهِ، وتَفَتَّحَت أبوابُ السَّماءِ لِرُوحِهِ، وشَيَّعَهُ سَبعونَ ألفاً من مَلائِكَةِ الرَّحمَةِ، وصَلَّى عَلَيهِ سَيِّدُ الأنبِياءِ والمُرسَلينَ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعَ أصحَابِهِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وما ذاكَ إلا لأنَّهُ كانَ عَظيماً في إيمانِهِ، وعَظيماً في إسلامِهِ، لم يَكُن إيمانُهُ مُجَرَّدَ دَعوَى، ولم يَكُن إسلامُهُ مُجَرَّدَ كَلِماتٍ رَدَّدَها على لِسانِهِ، إنَّما كانَ إيمانُهُ وَلاءً صَادِقاً لله تعالى، ولِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وللمُؤمِنينَ.
لقد بَلَّغَ رِسالَةَ الله عزَّ وجلَّ بِمُجَرَّدِ أن أعلَنَ إسلامَهُ، فقال لأهلِهِ وقَومِهِ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بالله وَبِرَسُولِهِ.
فَبَلَّغَ رِسالَةَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ كما أُمَرَ بأُسلوبِ الحَكيمِ، عِندَما سَأَلَ قَومَهُ: يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟
وكأنَّهُ عَلِمَ وتَعَلَّمَ ذلكَ من سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِندَما وَقَفَ مَوقِفَهُ الأوَّلَ مُبَلِّغاً أمرَ رَبِّهِ، فقالَ لِقَومِهِ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟».
قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقاً.
قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
يا شَبابَ هذهِ الأُمَّةِ، تَعَلَّموا الحِكمَةَ في الدَّعوَةِ إلى الله تعالى من هؤلاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، الذينَ انشَغَلوا بِمَعالِي الأُمورِ لا بِسَفَاسِفِها، لَعَلَّكُم أن تَنالوا ما نالَ سَلَفُنا الصَّالِحُ.
فَأمرُنا لأمرِكَ فِيهِ تَبَعٌ:
أيُّها الإخوة الكرام: البَعضُ يَتَساءَلُ لماذا اهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لِمَوتِ سَيِّدِنا سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ؟
لقد اهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لِمَوتِهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ لأنَّهُ ضَرَبَ أروَعَ الأمثِلَةِ لِشَبابِ هذهِ الأُمَّةِ، حَيثُ عاشَ في الإسلامِ سَبعَ سَنَواتٍ، فَقَدَّمَ ما لم يُقَدِّمْهُ أُناسٌ بِسَبعينَ سَنَةٍ، بِسَبَبِهِ أسلَمَ قَومُهُ جَميعاً.
لأنَّ إيمانَهُ كانَ في قَلبِهِ أعظَمُ من الجِبالِ، كما قالَ سَيِّدُنا عَبدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ في وَصْفِ إيمانِ الصَّحَابَةِ: الإيمانُ في قُلُوبِهِم أعظَمُ من الجِبالِ.
لقد اهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لِمَوتِ سَيِّدِنا سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، لأنَّهُ قالَ كَلِماتٍ لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَرَّتْهُ وأفرَحَتْ قَلبَهُ الشَّريفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، واستَنَارَ وَجْهُهُ المُنَوَّرُ بِتِلكَ الكَلِماتِ، وذاكَ يَومَ بَدْرٍ، عِندَما وَقَفَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وقال: «أَشِيرُوا عَلَينا في أَمرِنا ومَسيرِنا».
فقالَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: يا رَسولَ الله، إِنَّا أَعلَمُ النَّاسِ بِمَسَافَةِ الأرضِ، أَخبَرَنا عَدِيُّ بن أبي الزَّغباءِ أنَّ العِيرَ كانَت بِوَادي كذا وكذا.
ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ».
فقالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: يا رَسولَ الله، إِنَّها قُرَيشٌ وعِزُّها، والله ما ذَلَّت مُنذُ عَزَّت، ولا آمَنَت مُنذُ كَفَرَت، والله لَتُقَاتِلَنَّكَ، فَتَأَهَّبْ لذلكَ أُهبَتَهُ، وأَعدِدْ لَهُ عُدَّتَهُ.
فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ».
فقالَ المِقدادُ بنُ عَمرو عديد بني زهرة: إنَّا لا نَقولُ لَكَ كما قالَ أَصحَابُ مُوسى: اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون، ولكن اذهَبْ أنتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا مَعَكُم مُتَّبِعونَ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ لَسِرْنَا مَعَك. ـ مكانٌ في اليَمَنِ ـ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْراً، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ.
فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ».
فَلَمَّا رَأى سَعدُ بن مُعاذٍ كَثرَةَ استِشَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصحَابَهُ فَيُشِيرُونَ فَيَرجِعُ إلى المَشُورَةِ ظَنَّ سَعدٌ أَنَّهُ يَستَنطِقُ الأنصارَ شَفَقاً ألا يَستَحوِذُوا مَعَهُ ـ لا يَسيروا ـ على ما يُريدُ من أَمرِهِ.
فقال سَعدُ بن مُعاذٍ: لَعَلَّكَ يا رَسولَ الله تَخشَى أن لا يَكونَ الأنصارُ يُريدونَ مُواسَاتَكَ، ولا يَرَونَها حَقَّاً عَلَيهِم، إلا بأن يَرَوا عَدُوَّاً في بُيوتِهِم وأولادِهِم ونِسائِهِم، وإِنِّي أَقولُ عن الأنصارِ وأُجيبُ عَنهُم: يا رَسولَ الله، فَأَظعِنْ ـ اِرحَلْ بنا ـ حَيثُ شِئتَ، وصِلْ حَبلَ من شِئتَ، واقطَعْ حَبلَ من شِئتَ، وخُذْ من أَموالِنا ما شِئتَ، وأَعطِنَا ما شِئتَ، وما أَخَذْتَهُ مِنَّا أَحَبُّ إِلينَا مِمَّا تَرَكتَ عَلَينَا، وما ائتَمَرتَ ـ شَاوَرتَ ـ من أَمرٍ فَأمرُنا لأمرِكَ فِيهِ تَبَعٌ، فوالله لو سِرتَ حتَّى تَبلُغَ البِرْكَ من غِمدِ ذي يَمَنٍ لَسِرنا مَعَكَ. ـ بِركُ الغِمادِ: مَكانٌ وَراءَ مَكَّةَ يَبعُدُ عَنها 600كم ـ.
فَلَمَّا قالَ ذلكَ سَعدٌ قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «سِيرُوا على اسمِ الله عزَّ وجلَّ، فَإِنِّي قد أُريتُ مَصارِعَ القَومِ» رواه البيهقي.
وجاءَ في سِيرَةِ ابنِ هِشامٍ أنَّهُ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: واللهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ الله؟
قَالَ: «أَجَلْ».
قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ الله لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَك، فَوَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَداً، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ؛ لَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرَّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ الله.
فَسُرَّ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، والله لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ».
أيُّها الإخوة الكرام: هكذا سَجَّلَ لِنَفسِهِ مَوقِفاً أدخَلَ فِيهِ السُّرورَ على قَلبِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتِ المُكَافَأَةُ لَهُ أن تُفتَحَ أبوابُ السَّماءِ لِرُوحِهِ، ويُهتَزَّ عَرشُ الرَّحمنِ لِمَوتِهِ، وتَزدَحِمَ مَلائِكَةُ الرَّحمَةِ عِندَ تَشييعِهِ، ويُصَلِّيَ عَلَيهِ أشرَفُ الخَلْقِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ أصحَابِهِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إذا أرَدْنا عِزَّ الدُّنيا والآخِرَةِ، والفَوزَ بالقُربِ من حَضْرَةِ الله تعالى، ومن حَضْرَةِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلنَجعَلْ شِعارَنا ما قالَهُ سَيِّدُنا سَعدُ بنُ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: فَأمرُنا لأمرِكَ فِيهِ تَبَعٌ.
ولنَجعَلْ هَوانا تَبَعاً لما جاءَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَيِّدُنا سَعدُ بنُ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ عِندَما كانَ كذلكَ اهتَزَّ لِمَوتِهِ عَرشُ الرَّحمنِ، وتَفَتَّحَت لِرُوحِهِ أبوابُ السَّماءِ، وتَرَكَ ذِكْراً صَالِحاً بَعدَ أن عاشَ في الإسلامِ سَبعَ سَنَواتٍ فَقَط.
اللَّهُمَّ اجعَلنا كَسَيِّدِنا سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin