مع الحبيب المصطفى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لكُمْ}
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
130ـ ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لكُمْ﴾
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: هذهِ الحَياةُ الدُّنيا لَيسَت فَارِغَةً، إنَّما هيَ حَياةٌ مَزيجٌ بَينَ سَعَادَةٍ وتَعَاسَةٍ، وبَينَ هَناءٍ وشَقاءٍ، وبَينَ فَرَحٍ وبُكاءٍ، وبَينَ رَخاءٍ وشِدَّةٍ، وبَينَ سَرَّاءَ وضَرَّاءَ، وهيَ حَياةُ غُرورٍ لمن اغتَرَّ بها، وعِبرَةٍ لمن اعتَبَرَ بها، كم فيها من مِحَنٍ وشَدَائِدَ وفِتَنٍ وبَلايا ورَزايا.
ولكن، إذا استَحَكَمَتِ الأَزماتُ، والشَّدَائِدُ أودَتْ بالمُهَجِ، فالمُؤمِنُ لا تُذِلُّهُ تِلكَ الأزَماتُ والشَّدَائِدُ، كما أنَّ النِّعمَةَ لا تُبطِرُهُ، فهوَ يَنظُرُ إلى الأزَماتِ والشَّدَائِدِ بأنَّها نِعمَةٌ جاءَت في ابتِلاءٍ وشِدَّةٍ.
أيُّها الإخوة الكرام: عِندَما نَزَلَ قَولُ الله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيَّاً وَلا نَصِيراً﴾. شَقَّ ذلكَ على أصحَابِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما روى الإمام أحمد والحاكم أنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾؟ فَكُلَّ سُوءٍ عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟».
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: «فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ».
العِرضُ لَيسَ أرفَعُ مِنهُ إلا الدِّينُ:
أيُّها الإخوة الكرام: تَعَالَوا لِنَتَعَلَّمْ دَرساً من دُروسِ القُرآنِ العَظيمِ، حَيثُ قالَ اللهُ تعالى فيهِ: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾. لِنَتَعَلَّمْ دَرساً من أُسوَتِنا وقُدوَتِنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيثُ مَرَّ عَلَيهِ شَهرٌ كَامِلٌ لا يَذوقُ من الطَّعامِ فيهِ إلا قَليلاً، ولا يَأتيهِ النَّومُ إلا رَدْحاً من اللَّيلِ، وما ذاكَ إلا لِمُصيبَةٍ وشِدَّةٍ وَقَعَت عَلَيهِ، حَيثُ اتُّهِمَ في عِرضِهِ، والعِرضُ لَيسَ أرفَعُ مِنهُ إلا الدِّينُ، لأنَّ الرَّجُلَ الشَّريفَ يُريدُ أن يَذهَبَ دَمُهُ هَدْراً، ولا أن يُنتَهَكَ عِرضُهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: المُنافِقونَ ما تَرَكوا سَيِّدَنا رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حتَّى نَالوا من عِرضِهِ، من السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، من الصِّدِّيقَةِ بِنتِ الصِّدِّيقِ، من الطَّاهِرَةِ بِنتِ الطَّاهِرِ، زَوجِ الطَّاهِرِ المُطَهَّرِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، من المُبَرَّأَةِ من فَوقِ سَبعِ سَماواتٍ، حَيثُ اتَّهَمُوها بالفَاحِشَةِ الكُبرَى.
حَادِثَةُ الإفكِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَستَمِعْ إلى حَادِثَةِ الإفكِ من أُمِّنا السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، التي عَاشَت أيَّاماً مَريرَةً بِسَبَبِ هذهِ الحَادِثَةِ، لَعَلَّنا أن نَجِدَ فيها السُّلوانَ لما يُصيبُنا في هذهِ الأيَّامِ العَصيبَةِ من شَدَائِدَ ومِحَنٍ وابتِلاءاتٍ.
روى الإمام مسلم عن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَراً أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوِهِ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِن الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ مِنْ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ ـ المَتاع ـ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ ـ خَرَزٌ يَمَنِيٌّ، وظِفارُ مَدِينَةٌ بِسَواحِلِ اليَمَنِ ـ قَد انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِيَ الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ.
قَالَتْ: وَكَانَت النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافاً لَمْ يُهَبَّلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ ـ لم يُثقَلْنَ ـ إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِن الطَّعَامِ ـ القَليلَ ـ فَلَمْ يَسْتَنْكِر الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ.
فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ ـ التَّعريسُ نُزُولُ المُسافِرِ آخِرِ اللَّيلِ للنَّومِ والاستِرَاحَةِ ـ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ ـ سارَ ـ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ ـ أي بِقَولِهِ: إنَّا لله وإنَّا إلَيهِ رَاجِعونَ ـ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، ووالله مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ ـ مُهَجَّرينَ في شِدَّةِ الحَرِّ ـ.
فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ ـ تَصَدَّى لذلكَ وتَقَلَّدَهُ وكَبَّرَهُ ـ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ ـ مَرِضتُ ـ حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْراً وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ ـ يَخوضونَ ـ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي ـ يُشَكِّكُني ـ فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ.
ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟ ـ إشارَةٌ إلى المُؤَنَّثِ ـ».
فَذَاكَ يَرِيبُنِي، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقَهْتُ ـ بَرِئتُ من المَرَضِ ـ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ ـ جِهَةَ المَنَاصِعِ: صَعيد أفيح خَارِجَ المَدِينَةِ ـ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا ـ كِنَايَةٌ عن الخُروجِ إلى قَضَاءِ الحَاجَةِ ـ وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ ـ المَكَانُ المُتَّخَذُ لِقَضَاءِ الحَاجَةِ ـ قَرِيباً مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّنَزُّهِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. ـ كُبَّ لِوَجْهِهِ أو هَلَكَ ـ
فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلاً قَدْ شَهِدَ بَدْراً؟
قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهْ ـ نِسبَةٌ إلى الغَفلَةِ ـ أَو لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟
قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟
قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضاً إِلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟».
قُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟
قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟
فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَيْكِ، فوالله لَقَلَّمَا كَانَت امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا.
قَالَتْ: قُلْتُ: سُبْحَانَ الله، وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟
قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ، لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ـ لا يَنقَطِعُ ـ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ـ اِستِعَارَةٌ للسَّهَرِ ـ ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي.
وَدَعَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ ـ طَالَ لَبثُ نُزُولِهِ ـ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ.
قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِن الْوُدِّ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هُمْ أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْراً.
وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّق الله عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَل الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ.
قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ: «أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟».
قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْراً قَطُّ أَغْمِصُهُ ـ أَعِيبُهُ ـ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ ـ أي: أَعجِنُ عَجِينِي وآمُرُها أن تَحفَظَهُ فَتَنَامَ عَنهُ ـ
قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاسْتَعْذَرَ ـ طَلَبَ من يُنصِفُهُ ـ مِنْ عَبْدِ الله بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ.
قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فوالله مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْراً».
وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْراً، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ الله، إِنْ كَانَ مِن الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ.
قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلاً صَالِحاً، وَلَكِن اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله، لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ.
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله، لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَن الْمُنَافِقِينَ.
فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.
قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِن الْأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي.
قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ.
قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْراً لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ.
قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ».
قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي ـ اِستَمسَكَ نُزُولُهُ فَانقَطَعَ ـ حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً.
فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ.
فَقَالَ: والله مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَتْ: والله مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقُلْتُ: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيراً مِن الْقُرْآنِ ـ هذا تَوطِئَةٌ لِعُذْرِهَا لِكَونِها لم تَستَحضِرْ اسمَ يَعقُوبَ عَلَيهِ السَّلامُ كما سَيَأَتي ـ إِنِّي والله لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ واللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِن اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ واللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي، وَإِنِّي والله مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ:﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾.
قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا والله حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ والله مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا.
قَالَتْ: فوالله مَا رَامَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِن الْبُرَحَاءِ ـ شِدَّةِ الحُمَّى ـ عِنْدَ الْوَحْيِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ ـ اللُّؤلُؤِ ـ مِن الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِ، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ».
فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ.
فَقُلْتُ: والله لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي.
قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾. ـ عَشْرَ آيَاتٍ ـ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي.
قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ـ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ ـ: والله لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئاً أَبَداً بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ.
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى إِلَى قَوْلِهِ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾.
قَالَ حِبَّانُ بْنُ مُوسَى: قَالَ عَبْدُ الله بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ الله.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: والله إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي؛ فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ: لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَداً.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِي: «مَا عَلِمْتِ؟ أَوْ مَا رَأَيْتِ؟».
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، والله مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْراً.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي ـ تُساوِيني في المَنزِلَةِ ـ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ.
دُروسٌ وعِبَرٌ لِكُلِّ مُؤمِنٍ عَاقِلٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: دُروسٌ وعِبَرٌ لِكُلِّ مُؤمِنٍ عَاقِلٍ يَأخُذُها من هذهِ الحَادِثَةِ الأليمَةِ، والمُصيبَةِ العَظيمَةِ، التي أصَابَت أشرَفَ الخَلقِ على الإطلاقِ، سَيِّدَنا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأصَابَت زَوجَتَهُ الطَّاهِرَةَ التي كادَ قَلبُها أن يَنفَطِرَ من الحُزنِ والبُكاءِ، وأصَابَت سَيِّدَنا أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ التَّقِيَّ النَّقِيَّ السَّابِقَ الوَفِيَّ، أحَبَّ الخَلقِ إلى سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيثُ عَانَى هوَ وَزَوجَتُهُ من الألَمِ والحُزنِ ما لم يُعَانِيهِ من سَابِقٍ، حتَّى قالَ: أمرٌ لم نُتَّهَمَ به في الجَاهِلِيَّةِ، أفَنُرمَى به في الإسلامِ؟
لَعنَةُ الله عَلَيكَ يا ابن أُبَيِّ بنِ سَلول، لقد سَطَّرتَ لِنَفسِكَ ذِكْراً تُلعَنُ به إلى يَومِ القِيامَةِ، وأنتَ من المَقبوحِينَ.
أيُّها الإخوة الكرام: من هذهِ الدُّروسِ:
أولاً: الثَّباتُ والصَّبرُ على البَلاءِ والمِحَنِ والشَّدَائِدِ حتَّى يَأذَنَ اللهُ تعالى بالفَرَجِ، وانتِظارُ الفَرَجِ عِبَادَةٌ، بل هوَ خَيرُ العِبادَةِ، لقد صَبَرَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وصَبَرَت السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها، وصَبَرَ الصِّدِّيقُ وزَوجَتُهُ، وصَبَرَ صفوانُ بنُ المُعَطِّلِ الذي اعتَصَرَ الألَمُ قَلبَهُ، حَيُثُ يُرمَى بِخِيانَةِ بَيتِ النُّبُوَّةِ، وهَتْكِ عِرضِ أحَبِّ الخَلْقِ إلى قَلبِهِ ـ لَعنَةُ الله عَلَيكَ يا ابن أُبَيِّ بنِ سَلول ـ
ثانياً: الحَذَرُ كُلُّ الحَذَرِ من نَقْلِ الأخبارِ دُونَ تَثبيتٍ.
ثالثاً: أن يَظُنَّ المُؤمِنُ بالمُؤمِنينَ خَيراً، ولا يَظُنَّ ظَنَّ السَّوءِ.
رابعاً: أن يُطَهِّرَ الإنسانُ المُؤمِنُ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ ولِسانَهُ من البُهتانِ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لا يَسلَمُ أحَدٌ من الشَّدَائِدِ والمِحَنِ ما دامَت رُوحُهُ في جَسَدِهِ، فالسَّعيدُ من شَكَرَ في الرَّخاءِ، وصَبَرَ في البَلاءِ، ورَضِيَ بالقَضَاءِ، وكونوا على يَقينٍ أنَّهُ من المُحالِ دَوامُ الحَالِ، وكُلُّ وَاحِدٍ منَّا يُسَطِّرُ لِنَفسِهِ ذِكْراً لما بَعدَ مَوتِهِ، وسَوفَ يَلقاهُ بَينَ يَديْ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ واللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾.
اللَّهُمَّ لا تَجعَل مُصيبَتَنا في دِينِنا ولا في أعراضِنا. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
130ـ ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لكُمْ﴾
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: هذهِ الحَياةُ الدُّنيا لَيسَت فَارِغَةً، إنَّما هيَ حَياةٌ مَزيجٌ بَينَ سَعَادَةٍ وتَعَاسَةٍ، وبَينَ هَناءٍ وشَقاءٍ، وبَينَ فَرَحٍ وبُكاءٍ، وبَينَ رَخاءٍ وشِدَّةٍ، وبَينَ سَرَّاءَ وضَرَّاءَ، وهيَ حَياةُ غُرورٍ لمن اغتَرَّ بها، وعِبرَةٍ لمن اعتَبَرَ بها، كم فيها من مِحَنٍ وشَدَائِدَ وفِتَنٍ وبَلايا ورَزايا.
ولكن، إذا استَحَكَمَتِ الأَزماتُ، والشَّدَائِدُ أودَتْ بالمُهَجِ، فالمُؤمِنُ لا تُذِلُّهُ تِلكَ الأزَماتُ والشَّدَائِدُ، كما أنَّ النِّعمَةَ لا تُبطِرُهُ، فهوَ يَنظُرُ إلى الأزَماتِ والشَّدَائِدِ بأنَّها نِعمَةٌ جاءَت في ابتِلاءٍ وشِدَّةٍ.
أيُّها الإخوة الكرام: عِندَما نَزَلَ قَولُ الله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيَّاً وَلا نَصِيراً﴾. شَقَّ ذلكَ على أصحَابِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما روى الإمام أحمد والحاكم أنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾؟ فَكُلَّ سُوءٍ عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟».
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: «فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ».
العِرضُ لَيسَ أرفَعُ مِنهُ إلا الدِّينُ:
أيُّها الإخوة الكرام: تَعَالَوا لِنَتَعَلَّمْ دَرساً من دُروسِ القُرآنِ العَظيمِ، حَيثُ قالَ اللهُ تعالى فيهِ: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾. لِنَتَعَلَّمْ دَرساً من أُسوَتِنا وقُدوَتِنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيثُ مَرَّ عَلَيهِ شَهرٌ كَامِلٌ لا يَذوقُ من الطَّعامِ فيهِ إلا قَليلاً، ولا يَأتيهِ النَّومُ إلا رَدْحاً من اللَّيلِ، وما ذاكَ إلا لِمُصيبَةٍ وشِدَّةٍ وَقَعَت عَلَيهِ، حَيثُ اتُّهِمَ في عِرضِهِ، والعِرضُ لَيسَ أرفَعُ مِنهُ إلا الدِّينُ، لأنَّ الرَّجُلَ الشَّريفَ يُريدُ أن يَذهَبَ دَمُهُ هَدْراً، ولا أن يُنتَهَكَ عِرضُهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: المُنافِقونَ ما تَرَكوا سَيِّدَنا رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حتَّى نَالوا من عِرضِهِ، من السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، من الصِّدِّيقَةِ بِنتِ الصِّدِّيقِ، من الطَّاهِرَةِ بِنتِ الطَّاهِرِ، زَوجِ الطَّاهِرِ المُطَهَّرِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، من المُبَرَّأَةِ من فَوقِ سَبعِ سَماواتٍ، حَيثُ اتَّهَمُوها بالفَاحِشَةِ الكُبرَى.
حَادِثَةُ الإفكِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَستَمِعْ إلى حَادِثَةِ الإفكِ من أُمِّنا السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، التي عَاشَت أيَّاماً مَريرَةً بِسَبَبِ هذهِ الحَادِثَةِ، لَعَلَّنا أن نَجِدَ فيها السُّلوانَ لما يُصيبُنا في هذهِ الأيَّامِ العَصيبَةِ من شَدَائِدَ ومِحَنٍ وابتِلاءاتٍ.
روى الإمام مسلم عن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَراً أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوِهِ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِن الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ مِنْ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ ـ المَتاع ـ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ ـ خَرَزٌ يَمَنِيٌّ، وظِفارُ مَدِينَةٌ بِسَواحِلِ اليَمَنِ ـ قَد انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِيَ الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ.
قَالَتْ: وَكَانَت النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافاً لَمْ يُهَبَّلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ ـ لم يُثقَلْنَ ـ إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِن الطَّعَامِ ـ القَليلَ ـ فَلَمْ يَسْتَنْكِر الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ.
فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ ـ التَّعريسُ نُزُولُ المُسافِرِ آخِرِ اللَّيلِ للنَّومِ والاستِرَاحَةِ ـ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ ـ سارَ ـ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ ـ أي بِقَولِهِ: إنَّا لله وإنَّا إلَيهِ رَاجِعونَ ـ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، ووالله مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ ـ مُهَجَّرينَ في شِدَّةِ الحَرِّ ـ.
فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ ـ تَصَدَّى لذلكَ وتَقَلَّدَهُ وكَبَّرَهُ ـ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ ـ مَرِضتُ ـ حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْراً وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ ـ يَخوضونَ ـ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي ـ يُشَكِّكُني ـ فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ.
ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟ ـ إشارَةٌ إلى المُؤَنَّثِ ـ».
فَذَاكَ يَرِيبُنِي، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقَهْتُ ـ بَرِئتُ من المَرَضِ ـ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ ـ جِهَةَ المَنَاصِعِ: صَعيد أفيح خَارِجَ المَدِينَةِ ـ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا ـ كِنَايَةٌ عن الخُروجِ إلى قَضَاءِ الحَاجَةِ ـ وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ ـ المَكَانُ المُتَّخَذُ لِقَضَاءِ الحَاجَةِ ـ قَرِيباً مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّنَزُّهِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. ـ كُبَّ لِوَجْهِهِ أو هَلَكَ ـ
فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلاً قَدْ شَهِدَ بَدْراً؟
قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهْ ـ نِسبَةٌ إلى الغَفلَةِ ـ أَو لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟
قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟
قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضاً إِلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟».
قُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟
قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟
فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَيْكِ، فوالله لَقَلَّمَا كَانَت امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا.
قَالَتْ: قُلْتُ: سُبْحَانَ الله، وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟
قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ، لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ـ لا يَنقَطِعُ ـ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ـ اِستِعَارَةٌ للسَّهَرِ ـ ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي.
وَدَعَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ ـ طَالَ لَبثُ نُزُولِهِ ـ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ.
قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِن الْوُدِّ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هُمْ أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْراً.
وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّق الله عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَل الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ.
قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ: «أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟».
قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْراً قَطُّ أَغْمِصُهُ ـ أَعِيبُهُ ـ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ ـ أي: أَعجِنُ عَجِينِي وآمُرُها أن تَحفَظَهُ فَتَنَامَ عَنهُ ـ
قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاسْتَعْذَرَ ـ طَلَبَ من يُنصِفُهُ ـ مِنْ عَبْدِ الله بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ.
قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فوالله مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْراً».
وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْراً، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ الله، إِنْ كَانَ مِن الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ.
قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلاً صَالِحاً، وَلَكِن اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله، لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ.
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ الله، لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَن الْمُنَافِقِينَ.
فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.
قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِن الْأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي.
قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ.
قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْراً لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ.
قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ».
قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي ـ اِستَمسَكَ نُزُولُهُ فَانقَطَعَ ـ حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً.
فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ.
فَقَالَ: والله مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَتْ: والله مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقُلْتُ: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيراً مِن الْقُرْآنِ ـ هذا تَوطِئَةٌ لِعُذْرِهَا لِكَونِها لم تَستَحضِرْ اسمَ يَعقُوبَ عَلَيهِ السَّلامُ كما سَيَأَتي ـ إِنِّي والله لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ واللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِن اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ واللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي، وَإِنِّي والله مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ:﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾.
قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا والله حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ والله مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا.
قَالَتْ: فوالله مَا رَامَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِن الْبُرَحَاءِ ـ شِدَّةِ الحُمَّى ـ عِنْدَ الْوَحْيِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ ـ اللُّؤلُؤِ ـ مِن الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِ، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ».
فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ.
فَقُلْتُ: والله لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي.
قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾. ـ عَشْرَ آيَاتٍ ـ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي.
قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ـ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ ـ: والله لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئاً أَبَداً بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ.
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى إِلَى قَوْلِهِ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾.
قَالَ حِبَّانُ بْنُ مُوسَى: قَالَ عَبْدُ الله بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ الله.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: والله إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي؛ فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ: لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَداً.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِي: «مَا عَلِمْتِ؟ أَوْ مَا رَأَيْتِ؟».
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، والله مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْراً.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي ـ تُساوِيني في المَنزِلَةِ ـ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ.
دُروسٌ وعِبَرٌ لِكُلِّ مُؤمِنٍ عَاقِلٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: دُروسٌ وعِبَرٌ لِكُلِّ مُؤمِنٍ عَاقِلٍ يَأخُذُها من هذهِ الحَادِثَةِ الأليمَةِ، والمُصيبَةِ العَظيمَةِ، التي أصَابَت أشرَفَ الخَلقِ على الإطلاقِ، سَيِّدَنا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأصَابَت زَوجَتَهُ الطَّاهِرَةَ التي كادَ قَلبُها أن يَنفَطِرَ من الحُزنِ والبُكاءِ، وأصَابَت سَيِّدَنا أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ التَّقِيَّ النَّقِيَّ السَّابِقَ الوَفِيَّ، أحَبَّ الخَلقِ إلى سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيثُ عَانَى هوَ وَزَوجَتُهُ من الألَمِ والحُزنِ ما لم يُعَانِيهِ من سَابِقٍ، حتَّى قالَ: أمرٌ لم نُتَّهَمَ به في الجَاهِلِيَّةِ، أفَنُرمَى به في الإسلامِ؟
لَعنَةُ الله عَلَيكَ يا ابن أُبَيِّ بنِ سَلول، لقد سَطَّرتَ لِنَفسِكَ ذِكْراً تُلعَنُ به إلى يَومِ القِيامَةِ، وأنتَ من المَقبوحِينَ.
أيُّها الإخوة الكرام: من هذهِ الدُّروسِ:
أولاً: الثَّباتُ والصَّبرُ على البَلاءِ والمِحَنِ والشَّدَائِدِ حتَّى يَأذَنَ اللهُ تعالى بالفَرَجِ، وانتِظارُ الفَرَجِ عِبَادَةٌ، بل هوَ خَيرُ العِبادَةِ، لقد صَبَرَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وصَبَرَت السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها، وصَبَرَ الصِّدِّيقُ وزَوجَتُهُ، وصَبَرَ صفوانُ بنُ المُعَطِّلِ الذي اعتَصَرَ الألَمُ قَلبَهُ، حَيُثُ يُرمَى بِخِيانَةِ بَيتِ النُّبُوَّةِ، وهَتْكِ عِرضِ أحَبِّ الخَلْقِ إلى قَلبِهِ ـ لَعنَةُ الله عَلَيكَ يا ابن أُبَيِّ بنِ سَلول ـ
ثانياً: الحَذَرُ كُلُّ الحَذَرِ من نَقْلِ الأخبارِ دُونَ تَثبيتٍ.
ثالثاً: أن يَظُنَّ المُؤمِنُ بالمُؤمِنينَ خَيراً، ولا يَظُنَّ ظَنَّ السَّوءِ.
رابعاً: أن يُطَهِّرَ الإنسانُ المُؤمِنُ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ ولِسانَهُ من البُهتانِ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لا يَسلَمُ أحَدٌ من الشَّدَائِدِ والمِحَنِ ما دامَت رُوحُهُ في جَسَدِهِ، فالسَّعيدُ من شَكَرَ في الرَّخاءِ، وصَبَرَ في البَلاءِ، ورَضِيَ بالقَضَاءِ، وكونوا على يَقينٍ أنَّهُ من المُحالِ دَوامُ الحَالِ، وكُلُّ وَاحِدٍ منَّا يُسَطِّرُ لِنَفسِهِ ذِكْراً لما بَعدَ مَوتِهِ، وسَوفَ يَلقاهُ بَينَ يَديْ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ واللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾.
اللَّهُمَّ لا تَجعَل مُصيبَتَنا في دِينِنا ولا في أعراضِنا. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin