مع الحبيب المصطفى: الوصايا الربانية للحبيب ﷺ (4)
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
48ـ الوصايا الربانية للحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (4)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: إنَّ التَّواضُعَ خُلُقٌ كَريمٌ من أخلاقِ المُؤمِنينَ، ودَليلُ مَحَبَّةِ ربِّ العالَمينَ، وهوَ الطَّريقُ المُوصِلَةُ إلى مَرضاةِ الله تعالى وجَنَّتِهِ، وهوَ السَّبيلُ إلى القُربِ من الله تعالى، ومن ثَمَّ القُربِ من النَّاسِ، التَّواضُعُ عُنوانُ سَعادَةِ العَبدِ في الدَّارَينِ.
اللهُ تبارَكَ وتعالى يُحِبُّ المُتَواضِعينَ، ويَكلَؤُهُم بِرِعايَتِهِ، ويُحيطُهُم بِعِنايَتِهِ، والمُتَواضِعونَ آمِنونَ من عَذابِ الله تعالى، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوَّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين﴾.
التَّواضُعُ دَليلٌ على حُسنِ الخُلُقِ، وهوَ دَليلٌ على حُسنِ الخاتِمَةِ إن شاءَ اللهُ تعالى.
يَقولُ عبدُ الله بنُ المُبارَكِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: رأسُ التَّواضُعِ أن تَضَعَ نَفسَكَ عِندَ مَن دُونِكَ في نِعمَةِ الدُّنيا، حتَّى تُعلِمَهُ أنَّهُ ليسَ لَكَ بِدُنياكَ عليهِ فَضْلٌ، وأن تَرفَعَ نَفسَكَ عَمَّن هوَ فَوقَكَ في الدُّنيا، حتَّى تُعلِمَهُ أنَّهُ ليسَ لَهُ بِدُنياهُ عليكَ فَضْلٌ. اهـ.
الوَصِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الرَّابِعَةُ للحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: بَعدَ أن أوصى ربُّنا عزَّ وجلَّ في سورَةِ الحِجرِ حَبيبَهُ المُصطَفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالصَّفحِ الجَميلِ، وأن لا يَمُدَّ عَينَيهِ إلى ما مَتَّعَ به بَعضَ خَلقِهِ من زَهرَةِ الحَياةِ الدُّنيا، وان لا يَحزَنَ عليهِم، أوصاهُ الوَصِيَّةَ الرَّابِعَةَ بِقَولِهِ تعالى:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين﴾
أيُّها الإخوة الكرام: أسرَعُ النَّاسِ لامتِثالِ أمرِ الله تعالى، هوَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَعِندَما أمَرَهُ اللهُ تعالى بِخَفْضِ الجَناحِ للمُؤمِنينَ، التَزَمَ ذلكَ حَقَّ الالتِزامِ، حتَّى صارَ المَثَلَ الأكمَلَ في التَّواضُعِ معَ عُلُوِّ مَقامِهِ، وشَرَفِ جَنابِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
صُوَرٌ من تَواضُعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد خَفَضَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَناحَهُ للمُؤمِنينَ في سائِرِ أحوالِهِ، معَ عامَّةِ المُؤمِنينَ وخاصَّتِهِم.
أولاً: كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعمَلُ معَ أصحابِهِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم:
أخرج الإمام البخاري عن عُرْوَةَ بْن الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عنهُ في قِصَّةِ بِناءِ مَسجِدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
قال: حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِن الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَداً لِلتَّمْرِ ـ المَوضِعُ الذي يُجمَعُ فيهِ التَّمرُ ـ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ ـ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ـ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: «هَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ الْمَنْزِلُ».
ثُمَّ دَعَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ، فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ، لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِداً.
فَقَالَا: لَا، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ الله.
فَأَبَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً، حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِداً.
وَطَفِقَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
«هَـذَا الْحِـمَالُ لَا حِـمَالَ خَيْبَرْ *** هَـذَا أَبَـرُّ رَبَّـنَـا وَأَطْــهَـرْ»
ـ ومعنى الحِمالُ: الذي يُحمَلُ من خَيبَرَ التَّمرُ، أي: إنَّ هذهِ الحِجارَةَ التي تُحمَلُ لِلبِناءِ في الآخِرَةِ أفضَلُ مِمَّا يُحمَلُ من خَيبَرَ ـ.
ويَقولُ:
«اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ *** فَارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ»
وروى الإمام البخاري كذلك عَن الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ ـ أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ ـ يَقُولُ:
والله لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّـيْنَا
فَـأَنْـزِلَـنْ سَكِيـنَةً عَلَيْنَا *** وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَـغَوْا عَـلَيْنَا *** إِذَا أَرَادُوا فِـتْـنَةً أَبَـيْـنَا
وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ: «أَبَيْنَا أَبَيْنَا». ومعنى الأُلى: هُمُ الأعداءُ.
ثانياً: كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَواضَعُ في طَعامِهِ وجِلسَتِهِ:
روى أبو يَعلى وإسنادُهُ حَسَنٌ، عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «آكُلُ كما يَأكُلُ العَبدُ، وأجلِسُ كما يُجلِسُ العَبدُ».
وكانَ الأعرابِيُّ يَدخُلُ المَسجِدَ وهوَ لا يَعرِفُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فيقول: أيُّكُم مُحَمَّدٌ؟ كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ.
وكانَ إذا دَخَلَ عليهِ رَجُلٌ تَرتَعِدُ فرائِصُهُ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الحاكم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ:
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ.
فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ، فإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ من قُرَيشٍ كانَت تَأْكُلُ الْقَدِيدَ».
كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُخالِطُ الأولادَ والصِّغارَ:
روى الإمام البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» والنُّغَيرُ: طَائِرٌ يُشْبِهُ الْعُصْفُورَ أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أوصى اللهُ تعالى سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخَفْضِ الجَناحِ للمُؤمِنينَ معَ جَلالَةِ قَدْرِهِ، وعُلُوِّ مَقامِهِ، فهل نَتَحَلَّى بهذا الخُلُقِ العَظيمِ، وخاصَّةً ونحنُ نَسمَعُ وَصِيَّةَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حيثُ يَقولُ: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» رواه الإمام مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
ويَقولُ: «طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ مِنْ غَيْرِ مَنْقَصَةٍ ـ غَيرِ مَعصِيَةٍ ـ، وذَلَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْكَنَةٍ، وَأَنْفَقَ مَالاً جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذِّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقِهِ وَالْحِكْمَةِ.
طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ، وصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ، وكَرُمَتْ عَلانِيَتُهُ، وَعَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ.
طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمٍ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ» رواه الطبراني في الكبير عَنْ رَكْبٍ الْمِصْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يُحَقِّقَنا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
48ـ الوصايا الربانية للحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (4)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: إنَّ التَّواضُعَ خُلُقٌ كَريمٌ من أخلاقِ المُؤمِنينَ، ودَليلُ مَحَبَّةِ ربِّ العالَمينَ، وهوَ الطَّريقُ المُوصِلَةُ إلى مَرضاةِ الله تعالى وجَنَّتِهِ، وهوَ السَّبيلُ إلى القُربِ من الله تعالى، ومن ثَمَّ القُربِ من النَّاسِ، التَّواضُعُ عُنوانُ سَعادَةِ العَبدِ في الدَّارَينِ.
اللهُ تبارَكَ وتعالى يُحِبُّ المُتَواضِعينَ، ويَكلَؤُهُم بِرِعايَتِهِ، ويُحيطُهُم بِعِنايَتِهِ، والمُتَواضِعونَ آمِنونَ من عَذابِ الله تعالى، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوَّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين﴾.
التَّواضُعُ دَليلٌ على حُسنِ الخُلُقِ، وهوَ دَليلٌ على حُسنِ الخاتِمَةِ إن شاءَ اللهُ تعالى.
يَقولُ عبدُ الله بنُ المُبارَكِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: رأسُ التَّواضُعِ أن تَضَعَ نَفسَكَ عِندَ مَن دُونِكَ في نِعمَةِ الدُّنيا، حتَّى تُعلِمَهُ أنَّهُ ليسَ لَكَ بِدُنياكَ عليهِ فَضْلٌ، وأن تَرفَعَ نَفسَكَ عَمَّن هوَ فَوقَكَ في الدُّنيا، حتَّى تُعلِمَهُ أنَّهُ ليسَ لَهُ بِدُنياهُ عليكَ فَضْلٌ. اهـ.
الوَصِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الرَّابِعَةُ للحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: بَعدَ أن أوصى ربُّنا عزَّ وجلَّ في سورَةِ الحِجرِ حَبيبَهُ المُصطَفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالصَّفحِ الجَميلِ، وأن لا يَمُدَّ عَينَيهِ إلى ما مَتَّعَ به بَعضَ خَلقِهِ من زَهرَةِ الحَياةِ الدُّنيا، وان لا يَحزَنَ عليهِم، أوصاهُ الوَصِيَّةَ الرَّابِعَةَ بِقَولِهِ تعالى:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين﴾
أيُّها الإخوة الكرام: أسرَعُ النَّاسِ لامتِثالِ أمرِ الله تعالى، هوَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَعِندَما أمَرَهُ اللهُ تعالى بِخَفْضِ الجَناحِ للمُؤمِنينَ، التَزَمَ ذلكَ حَقَّ الالتِزامِ، حتَّى صارَ المَثَلَ الأكمَلَ في التَّواضُعِ معَ عُلُوِّ مَقامِهِ، وشَرَفِ جَنابِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
صُوَرٌ من تَواضُعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد خَفَضَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَناحَهُ للمُؤمِنينَ في سائِرِ أحوالِهِ، معَ عامَّةِ المُؤمِنينَ وخاصَّتِهِم.
أولاً: كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعمَلُ معَ أصحابِهِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم:
أخرج الإمام البخاري عن عُرْوَةَ بْن الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عنهُ في قِصَّةِ بِناءِ مَسجِدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
قال: حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِن الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَداً لِلتَّمْرِ ـ المَوضِعُ الذي يُجمَعُ فيهِ التَّمرُ ـ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ ـ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ـ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: «هَذَا إِنْ شَاءَ اللهُ الْمَنْزِلُ».
ثُمَّ دَعَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ، فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ، لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِداً.
فَقَالَا: لَا، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ الله.
فَأَبَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً، حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِداً.
وَطَفِقَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
«هَـذَا الْحِـمَالُ لَا حِـمَالَ خَيْبَرْ *** هَـذَا أَبَـرُّ رَبَّـنَـا وَأَطْــهَـرْ»
ـ ومعنى الحِمالُ: الذي يُحمَلُ من خَيبَرَ التَّمرُ، أي: إنَّ هذهِ الحِجارَةَ التي تُحمَلُ لِلبِناءِ في الآخِرَةِ أفضَلُ مِمَّا يُحمَلُ من خَيبَرَ ـ.
ويَقولُ:
«اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ *** فَارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ»
وروى الإمام البخاري كذلك عَن الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ ـ أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ ـ يَقُولُ:
والله لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّـيْنَا
فَـأَنْـزِلَـنْ سَكِيـنَةً عَلَيْنَا *** وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَـغَوْا عَـلَيْنَا *** إِذَا أَرَادُوا فِـتْـنَةً أَبَـيْـنَا
وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ: «أَبَيْنَا أَبَيْنَا». ومعنى الأُلى: هُمُ الأعداءُ.
ثانياً: كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَواضَعُ في طَعامِهِ وجِلسَتِهِ:
روى أبو يَعلى وإسنادُهُ حَسَنٌ، عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «آكُلُ كما يَأكُلُ العَبدُ، وأجلِسُ كما يُجلِسُ العَبدُ».
وكانَ الأعرابِيُّ يَدخُلُ المَسجِدَ وهوَ لا يَعرِفُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فيقول: أيُّكُم مُحَمَّدٌ؟ كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ.
وكانَ إذا دَخَلَ عليهِ رَجُلٌ تَرتَعِدُ فرائِصُهُ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الحاكم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ:
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ.
فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ، فإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ من قُرَيشٍ كانَت تَأْكُلُ الْقَدِيدَ».
كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُخالِطُ الأولادَ والصِّغارَ:
روى الإمام البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» والنُّغَيرُ: طَائِرٌ يُشْبِهُ الْعُصْفُورَ أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أوصى اللهُ تعالى سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخَفْضِ الجَناحِ للمُؤمِنينَ معَ جَلالَةِ قَدْرِهِ، وعُلُوِّ مَقامِهِ، فهل نَتَحَلَّى بهذا الخُلُقِ العَظيمِ، وخاصَّةً ونحنُ نَسمَعُ وَصِيَّةَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حيثُ يَقولُ: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» رواه الإمام مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
ويَقولُ: «طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ مِنْ غَيْرِ مَنْقَصَةٍ ـ غَيرِ مَعصِيَةٍ ـ، وذَلَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْكَنَةٍ، وَأَنْفَقَ مَالاً جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذِّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقِهِ وَالْحِكْمَةِ.
طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ، وصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ، وكَرُمَتْ عَلانِيَتُهُ، وَعَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ.
طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمٍ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ» رواه الطبراني في الكبير عَنْ رَكْبٍ الْمِصْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يُحَقِّقَنا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin