مع الحبيب المصطفى: جود النبي ﷺ
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
25ـ جود النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيها الإخوةُ الكرام: ليسَ هُناكَ مَركَبٌ أَسرَعُ للوُصُولِ إلى الله تعالى منَ الجُودِ والكَرَمِ، فَهُوَ جَوادٌ مُسرِعٌ كالبَرقِ، يَصِلُ بِصَاحِبِهِ إلى مُبتَغاهُ في أَسرَعِ وَقتٍ وبِأقلِّ مَؤونَةٍ، يَكَادُ من سُرعَتِهِ التي كَالبَرقِ، يَخطَفَ أبصَارَ النَّاظِرينَ إليهِ، لِذَا كَانَ الُجودُ والكَرمُ والسَّخاءُ من الأَخلاقِ التي تَرفَعُ صَاحِبَهَا فوقَ نَظَراتِهِ.
صِفَةُ الجُودِ والكَرَمِ مِن أنبَلِ صِفاتِ العَربِ قَبلَ الإِسلامِ، وكَانَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ أبرَزَهُم، حتَّى صَارَ مَضرِبَ مَثَلٍ، ومِمَّا يُؤثَرُ عنهُ: أنَّ رَجُلاً سَأَلَ حَاتِماً الطَّائِيَّ فقال له: يا حَاتِم، هَل غَلَبَكَ أحَدٌ في الكَرَمِ؟
قال: نعم، غُلامٌ يَتِيمٌ، وذَلكَ أنِّي نَزَلتُ بفِنائِهِ وكانَ له عشرةُ أَرؤُسٍ مِنَ الغَنَمِ، فَعَمَدَ إلى رأسِ فَذَبَحَهُ، وأصلَحَ لحمَهُ وقَدَّمَهُ إليَّ، وكانَ فيما قَدَّمَ الدِّماغُ.
فقلتُ: طيِّبٌ واللهِ.
فَخَرَجَ من بينِ يَدَيَّ، وجَعَلَ يَذبَحُ رَأسَاً بعدَ رَأسٍ، ويُقَدِّمُ الدِّماغَ، وأَنَا لا أَعلَمُ.
فلمَّا رَجَعتُ لأرحَلَ، نَظَرتُ حولَ بيتِهِ دماً عظيماً، فإذا هوَ قد ذَبَحَ الغَنَمَ بأسرِهَا، فقلتُ له: لِمَ فَعَلتَ ذلكَ؟
قال: سُبحانَ الله، تَستَطيبُ شيئاً أملِكُهُ، وأبخَلُ عليكَ بِهِ، إنَّ ذلكَ لَسُبَّةٌ على العربِ قَبيحَةٌ.
فقيلَ: يا حَاتم، فَبِماذا عوَّضتَهُ؟
قال: بثلاثمائةِ نَاقةٍ حَمراءَ، وبِخَمسمَائةِ رَأسٍ مِنَ الغَنَمِ.
فقيلَ: أنتَ أكرمُ منه.
قال: هيهَات، بَل هوَ والله أَكرمُ، لأنَّهُ جادَ بِكُلِّ ما مَلَكَ، وأنا جُدتُ بِقَلِيلٍ مِن كَثيرٍ.
جاءَ الإسلامُ بِتَصحِيحِ النِيَّةِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: جاءَ الإسلامُ لِيُتَمِّمَ مَكارِمَ الأَخلاقِ، ولِيُضفِيَ على خُلُقِ الكَرَمِ مِعيَاراً جَدِيدَاً، أَلَا وَهُوَ الإِخلاصُ لله تعالى في سَائِرِ الأَعمالِ، حتَّى جَعَلَ الُمسلمينَ يَبذُلونَ ابتِغاءَ مَرضَاةِ الله تعالى، لا مِن أَجلِ الفَخرِ والثَّناءِ والمَدحِ من الوَرى، قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾.
وحذَّرَ الإسلامُ من الجُودِ والكَرَمِ إن كانَ لغَيرِ الله تعالى، لأنَّ صاحِبَهُ رَابِحٌ في الدُّنيا الشُّهرَةَ والسُّمعَةَ والثَّنَاءَ والمَدحَ، ولكنَّهُ خَاسِرٌ يَومَ القِيامَةِ، لأنَّ أوَّلَ من تُسَعَّرُ بهِمُ النَّارُ عَالمٌ ومٌنفِقٌ ومُجاهِدٌ، كما جاء في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الترمذي عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فيما قال: «وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟
قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ.
قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟
قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ.
فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ.
وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ.
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ» ثمَّ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ الله تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
أكرَمُ البَشَرِ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أكرَمُ البَشَرِ على الإطلاقِ هُمُ الأنبياءُ والمُرسَلُونَ عَليهِم صَلَواتُ الله ورَحمَتُهُ، فَهَذَا سَيِّدُنا إِبراهِيمُ عليه السَّلامُ حِينَ جَاءَتْهُ الملائِكَةُ بالبُشرى، وهُوَ لا يَعرِفُ أنَّهُم من الملائِكَةِ، أَحسَنَ إكرامَهُم، وأسرَعَ في إطعامِهِم بدونِ تأخيرٍ، كما قال تعالى: ﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذ﴾.
وأكرمُ الأنبياءِ والمرسَلينَ عَليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي قالَ فيهِ مولانا عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم﴾.
وهذا ما قالَتْهُ السَّيِّدَةُ خديجةُ رَضِيَ اللهُ عنها: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. رواه الشيخان.
صُوَرٌ من الكَرَمِ في حياةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد كَانت حَياةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَطبيقاً عَمَلِيَّاً لما يُؤمِنُ به ويَقولُهُ، أليسَ هوَ القائِلَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً»؟ رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أليسَ هوَ القائِلَ: «وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»؟ رواه الإمام مسلم عَنْ مُطَرِّفٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أليسَ هوَ القائِلَ: «مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ»؟ رواه الترمذي عن أَبي كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنَسمعْ إلى جُودِ المُصطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أولاً: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَباً»:
روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ مِن الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: «انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ».
وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَخَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَداً إِلَّا أَعْطَاهُ، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلاً.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خُذْ».
فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ.
قَالَ: «لَا».
قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ.
قَالَ: «لَا».
فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ.
قَالَ: «لَا».
قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ.
قَالَ: «لَا».
فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبَاً مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ.
وروى الإمام البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ».
قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله.
قَالَ: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَباً، تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا شَيْئاً أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ الله هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» ـ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ـ
ثانياً: يُعطي عَطاءَ من لا يَخشى الفَاقَةَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعطي عَطاءَ من لا يَخشى الفَقرَ والفاقَةَ.
روى الإمام مسلم عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَماً بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ: أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّداً يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ.
ثالثاً: أَعْطُونِي رِدَائِي:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: من أجملِ المواقِفِ التي قَرَأناها عن سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يومَ حُنَينٍ، فقد غَنِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَغانِمَ فاقَتِ الوصفَ، حتَّى إنَّ جُبَيرَ بنَ مُطعِمٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال أثناءَ عَودَتِهِ من حُنَينٍ: عَلِقَتْ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضطُروهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَماً لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلَا كَذُوباً وَلَا جَبَاناً».
رابعاً: يستَقرِضُ ويَتَصَدَّقُ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد بَلَغَ من جُودِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وكَرَمِهِ أنَّهُ كانَ يَستَقرِضُ لِيَتَصَدَّقَ.
روى أبو داوود والطبراني والبيهقي عن عَبْد الله الْهَوْزَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: لَقِيتُ بِلَالاً مُؤَذِّنَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحَلَبَ، فَقُلْتُ: يَا بِلَالُ، حَدِّثْنِي كَيْفَ كَانَتْ نَفَقَةُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: مَا كَانَ لَهُ شَيْءٌ، كُنْتُ أَنَا الَّذِي أَلِي ذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الْإِنْسَانُ مُسْلِماً فَرَآهُ عَارِياً يَأْمُرُنِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَقْرِضُ فَأَشْتَرِيَ لَهُ الْبُرْدَةَ، فَأَكْسُوهُ وَأُطْعِمُهُ، حَتَّى اعْتَرَضَنِي رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ.
فَقَالَ: يَا بِلَالُ، إِنَّ عِنْدِي سَعَةً فَلَا تَسْتَقْرِضْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا مِنِّي، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ تَوَضَّأْتُ، ثُمَّ قُمْتُ لِأُؤَذِّنَ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا الْمُشْرِكُ قَدْ أَقْبَلَ فِي عِصَابَةٍ مِنْ التُّجَّارِ، فَلَمَّا أَنْ رَآنِي قَالَ: يَا حَبَشِيُّ.
قُلْتُ: يَا لَبَّاهُ، فَتَجَهَّمَنِي وَقَالَ لِي قَوْلاً غَلِيظاً، وَقَالَ لِي: أَتَدْرِي كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّهْرِ؟
قَالَ: قُلْتُ: قَرِيبٌ، قَالَ: إِنَّمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعٌ، فَآخُذُكَ بِالَّذِي عَلَيْكَ، فَأَرُدُّكَ تَرْعَى الْغَنَمَ كَمَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَخَذَ فِي نَفْسِي مَا يَأْخُذُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ، حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ رَجَعَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنَّ الْمُشْرِكَ الَّذِي كُنْتُ أَتَدَيَّنُ مِنْهُ قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ عِنْدَكَ مَا تَقْضِي عَنِّي وَلَا عِنْدِي وَهُوَ فَاضِحِي، فَأْذَنْ لِي أَنْ آبَقَ إِلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ قَدْ أَسْلَمُوا حَتَّى يَرْزُقَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْضِي عَنِّي، فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا أَتَيْتُ مَنْزِلِي، فَجَعَلْتُ سَيْفِي وَجِرَابِي وَنَعْلِي وَمِجَنِّي عِنْدَ رَأْسِي، حَتَّى إِذَا انْشَقَّ عَمُودُ الصُّبْحِ الْأَوَّلِ أَرَدْتُ أَنْ أَنْطَلِقَ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يَسْعَى يَدْعُو يَا بِلَالُ، أَجِبْ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ، فَإِذَا أَرْبَعُ رَكَائِبَ مُنَاخَاتٌ عَلَيْهِنَّ أَحْمَالُهُنَّ فَاسْتَأْذَنْتُ.
فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَبْشِرْ فَقَدْ جَاءَكَ اللهُ بِقَضَائِكَ» ثُمَّ قَالَ: «أَلَمْ تَرَ الرَّكَائِبَ الْمُنَاخَاتِ الْأَرْبَعَ».
فَقُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ: «إِنَّ لَكَ رِقَابَهُنَّ وَمَا عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّ عَلَيْهِنَّ كِسْوَةً وَطَعَاماً أَهْدَاهُنَّ إِلَيَّ عَظِيمُ فَدَكَ، فَاقْبِضْهُنَّ وَاقْضِ دَيْنَكَ» فَفَعَلْتُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ مَا قِبَلَكَ؟».
قُلْتُ: قَدْ قَضَى اللهُ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ.
قَالَ: «أَفَضَلَ شَيْءٍ؟».
قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: «انْظُرْ أَنْ تُرِيحَنِي مِنْهُ، فَإِنِّي لَسْتُ بِدَاخِلٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِي حَتَّى تُرِيحَنِي مِنْهُ» فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْعَتَمَةَ دَعَانِي فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الَّذِي قِبَلَكَ؟».
قَالَ: قُلْتُ: هُوَ مَعِي، لَمْ يَأْتِنَا أَحَدٌ، فَبَاتَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَصَّ الْحَدِيثَ حَتَّى إِذَا صَلَّى الْعَتَمَةَ يَعْنِي مِنْ الْغَدِ دَعَانِي، قَالَ: «مَا فَعَلَ الَّذِي قِبَلَكَ؟»
قَالَ: قُلْتُ: قَدْ أَرَاحَكَ اللهُ مِنْهُ يَا رَسُولَ الله، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللهَ شَفَقاً مِنْ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ وَعِنْدَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّبَعْتُهُ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَزْوَاجَهُ فَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ امْرَأَةٍ، حَتَّى أَتَى مَبِيتَهُ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كلَّ الحِرصِ على الجودِ والكَرَمِ والعَطاءِ حتَّى قبلَ وفاتِهِ وهوَ على فِراشِ الموتِ، فقد بَلَغَ بهذا الفعلِ دَرَجَةً من الكَرَمِ لا يُدانِيها كَرَمُ أحَدٍ من العَالمين.
روى ابنُ حِبَّان في صحيحِهِ عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: اِشتَدَّ وَجَعُ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وعِندَهُ سَبعَةُ دنانيرَ أو تِسعَة، فقال: «يا عائِشَةُ، ما فَعَلَت تِلكَ الذَّهَبُ؟».
فقلتُ: هيَ عِندِي.
قال: «تَصَدَّقي بها».
قالت: فَشُغِلتُ به.
ثمَّ قال: «يا عائِشَةُ، ما فَعَلَت تِلكَ الذَّهَبُ؟».
فقلتُ: هيَ عِندِي.
فقال: «ائتِيني بها».
قالت: فَجِئتُ بها، فَوَضَعَها في كَفِّهِ، ثمَّ قال: «ما ظَنُّ مُحَمَّدٍ أن لو لَقِيَ اللهَ وهذهِ عِندَهُ؟ ما ظَنُّ مُحَمَّدٍ أن لو لَقِيَ اللهَ وهذهِ عِندَهُ؟».
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لم يَكنِزْ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأَموالَ لنَفسِهِ، ويُوَزِّعْ الفُتَاتَ القَليلَ مِنهَا على أصحَابِهِ، لأنَّهُ جَعَلَ المالَ هَمزةَ وَصلٍ لا هَمزةَ قَطعٍ، جَعَلَ المالَ وَسيلةً لتَألِيفِ القُلوبِ، جَعَلَ المالَ وَسيلةً لِمَحَبَّةِ النَّاسِ لِدِينِ الله تعالى، جَعَلَ المالَ مَطِيَّةً للآخِرَةِ يَتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى، إمَّا صَدَقَةً على أصحابِ الحاجَةِ، وإمَّا عَطاءً لِجَلبِ الآخِذِ لِدِينِ الله تعالى حتَّى يُسلِمَ، يقولُ سيِّدُنا أنسٌ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. رواه الإمام مسلم.
هذا حَالُ سيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مع الأموالِ، فكيفَ حالُنا نحنُ معَهُ؟ لا أُريدُ التَّعليقَ على هذا، بَل لِيَرجِعْ كلُّ واحِدٍ منَّا إلى نَفسِهِ، وليَضَعْ نفسَهُ في هذا الميزانِ.
اللَّهُمَّ فَرِّغْ قُلوبَنا من حُبِّ الدُّنيا، واجعَل حُبَّكَ وحُبَّ حَبِيبِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إلى قُلوبِنا مِن كُلِّ شَيءٍ يا أَرحَمَ الرَّاحمينَ.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
25ـ جود النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيها الإخوةُ الكرام: ليسَ هُناكَ مَركَبٌ أَسرَعُ للوُصُولِ إلى الله تعالى منَ الجُودِ والكَرَمِ، فَهُوَ جَوادٌ مُسرِعٌ كالبَرقِ، يَصِلُ بِصَاحِبِهِ إلى مُبتَغاهُ في أَسرَعِ وَقتٍ وبِأقلِّ مَؤونَةٍ، يَكَادُ من سُرعَتِهِ التي كَالبَرقِ، يَخطَفَ أبصَارَ النَّاظِرينَ إليهِ، لِذَا كَانَ الُجودُ والكَرمُ والسَّخاءُ من الأَخلاقِ التي تَرفَعُ صَاحِبَهَا فوقَ نَظَراتِهِ.
صِفَةُ الجُودِ والكَرَمِ مِن أنبَلِ صِفاتِ العَربِ قَبلَ الإِسلامِ، وكَانَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ أبرَزَهُم، حتَّى صَارَ مَضرِبَ مَثَلٍ، ومِمَّا يُؤثَرُ عنهُ: أنَّ رَجُلاً سَأَلَ حَاتِماً الطَّائِيَّ فقال له: يا حَاتِم، هَل غَلَبَكَ أحَدٌ في الكَرَمِ؟
قال: نعم، غُلامٌ يَتِيمٌ، وذَلكَ أنِّي نَزَلتُ بفِنائِهِ وكانَ له عشرةُ أَرؤُسٍ مِنَ الغَنَمِ، فَعَمَدَ إلى رأسِ فَذَبَحَهُ، وأصلَحَ لحمَهُ وقَدَّمَهُ إليَّ، وكانَ فيما قَدَّمَ الدِّماغُ.
فقلتُ: طيِّبٌ واللهِ.
فَخَرَجَ من بينِ يَدَيَّ، وجَعَلَ يَذبَحُ رَأسَاً بعدَ رَأسٍ، ويُقَدِّمُ الدِّماغَ، وأَنَا لا أَعلَمُ.
فلمَّا رَجَعتُ لأرحَلَ، نَظَرتُ حولَ بيتِهِ دماً عظيماً، فإذا هوَ قد ذَبَحَ الغَنَمَ بأسرِهَا، فقلتُ له: لِمَ فَعَلتَ ذلكَ؟
قال: سُبحانَ الله، تَستَطيبُ شيئاً أملِكُهُ، وأبخَلُ عليكَ بِهِ، إنَّ ذلكَ لَسُبَّةٌ على العربِ قَبيحَةٌ.
فقيلَ: يا حَاتم، فَبِماذا عوَّضتَهُ؟
قال: بثلاثمائةِ نَاقةٍ حَمراءَ، وبِخَمسمَائةِ رَأسٍ مِنَ الغَنَمِ.
فقيلَ: أنتَ أكرمُ منه.
قال: هيهَات، بَل هوَ والله أَكرمُ، لأنَّهُ جادَ بِكُلِّ ما مَلَكَ، وأنا جُدتُ بِقَلِيلٍ مِن كَثيرٍ.
جاءَ الإسلامُ بِتَصحِيحِ النِيَّةِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: جاءَ الإسلامُ لِيُتَمِّمَ مَكارِمَ الأَخلاقِ، ولِيُضفِيَ على خُلُقِ الكَرَمِ مِعيَاراً جَدِيدَاً، أَلَا وَهُوَ الإِخلاصُ لله تعالى في سَائِرِ الأَعمالِ، حتَّى جَعَلَ الُمسلمينَ يَبذُلونَ ابتِغاءَ مَرضَاةِ الله تعالى، لا مِن أَجلِ الفَخرِ والثَّناءِ والمَدحِ من الوَرى، قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾.
وحذَّرَ الإسلامُ من الجُودِ والكَرَمِ إن كانَ لغَيرِ الله تعالى، لأنَّ صاحِبَهُ رَابِحٌ في الدُّنيا الشُّهرَةَ والسُّمعَةَ والثَّنَاءَ والمَدحَ، ولكنَّهُ خَاسِرٌ يَومَ القِيامَةِ، لأنَّ أوَّلَ من تُسَعَّرُ بهِمُ النَّارُ عَالمٌ ومٌنفِقٌ ومُجاهِدٌ، كما جاء في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الترمذي عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فيما قال: «وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟
قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ.
قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟
قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ.
فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ.
وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ.
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ» ثمَّ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ الله تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
أكرَمُ البَشَرِ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أكرَمُ البَشَرِ على الإطلاقِ هُمُ الأنبياءُ والمُرسَلُونَ عَليهِم صَلَواتُ الله ورَحمَتُهُ، فَهَذَا سَيِّدُنا إِبراهِيمُ عليه السَّلامُ حِينَ جَاءَتْهُ الملائِكَةُ بالبُشرى، وهُوَ لا يَعرِفُ أنَّهُم من الملائِكَةِ، أَحسَنَ إكرامَهُم، وأسرَعَ في إطعامِهِم بدونِ تأخيرٍ، كما قال تعالى: ﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذ﴾.
وأكرمُ الأنبياءِ والمرسَلينَ عَليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي قالَ فيهِ مولانا عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم﴾.
وهذا ما قالَتْهُ السَّيِّدَةُ خديجةُ رَضِيَ اللهُ عنها: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. رواه الشيخان.
صُوَرٌ من الكَرَمِ في حياةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد كَانت حَياةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَطبيقاً عَمَلِيَّاً لما يُؤمِنُ به ويَقولُهُ، أليسَ هوَ القائِلَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً»؟ رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أليسَ هوَ القائِلَ: «وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»؟ رواه الإمام مسلم عَنْ مُطَرِّفٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أليسَ هوَ القائِلَ: «مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ»؟ رواه الترمذي عن أَبي كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنَسمعْ إلى جُودِ المُصطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أولاً: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَباً»:
روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ مِن الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: «انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ».
وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَخَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَداً إِلَّا أَعْطَاهُ، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلاً.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خُذْ».
فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ.
قَالَ: «لَا».
قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ.
قَالَ: «لَا».
فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ.
قَالَ: «لَا».
قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ.
قَالَ: «لَا».
فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبَاً مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ.
وروى الإمام البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ».
قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله.
قَالَ: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَباً، تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا شَيْئاً أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ الله هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» ـ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ـ
ثانياً: يُعطي عَطاءَ من لا يَخشى الفَاقَةَ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعطي عَطاءَ من لا يَخشى الفَقرَ والفاقَةَ.
روى الإمام مسلم عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَماً بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ: أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّداً يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ.
ثالثاً: أَعْطُونِي رِدَائِي:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: من أجملِ المواقِفِ التي قَرَأناها عن سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يومَ حُنَينٍ، فقد غَنِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَغانِمَ فاقَتِ الوصفَ، حتَّى إنَّ جُبَيرَ بنَ مُطعِمٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال أثناءَ عَودَتِهِ من حُنَينٍ: عَلِقَتْ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضطُروهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَماً لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلَا كَذُوباً وَلَا جَبَاناً».
رابعاً: يستَقرِضُ ويَتَصَدَّقُ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد بَلَغَ من جُودِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وكَرَمِهِ أنَّهُ كانَ يَستَقرِضُ لِيَتَصَدَّقَ.
روى أبو داوود والطبراني والبيهقي عن عَبْد الله الْهَوْزَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: لَقِيتُ بِلَالاً مُؤَذِّنَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحَلَبَ، فَقُلْتُ: يَا بِلَالُ، حَدِّثْنِي كَيْفَ كَانَتْ نَفَقَةُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: مَا كَانَ لَهُ شَيْءٌ، كُنْتُ أَنَا الَّذِي أَلِي ذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الْإِنْسَانُ مُسْلِماً فَرَآهُ عَارِياً يَأْمُرُنِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَقْرِضُ فَأَشْتَرِيَ لَهُ الْبُرْدَةَ، فَأَكْسُوهُ وَأُطْعِمُهُ، حَتَّى اعْتَرَضَنِي رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ.
فَقَالَ: يَا بِلَالُ، إِنَّ عِنْدِي سَعَةً فَلَا تَسْتَقْرِضْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا مِنِّي، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ تَوَضَّأْتُ، ثُمَّ قُمْتُ لِأُؤَذِّنَ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا الْمُشْرِكُ قَدْ أَقْبَلَ فِي عِصَابَةٍ مِنْ التُّجَّارِ، فَلَمَّا أَنْ رَآنِي قَالَ: يَا حَبَشِيُّ.
قُلْتُ: يَا لَبَّاهُ، فَتَجَهَّمَنِي وَقَالَ لِي قَوْلاً غَلِيظاً، وَقَالَ لِي: أَتَدْرِي كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّهْرِ؟
قَالَ: قُلْتُ: قَرِيبٌ، قَالَ: إِنَّمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعٌ، فَآخُذُكَ بِالَّذِي عَلَيْكَ، فَأَرُدُّكَ تَرْعَى الْغَنَمَ كَمَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَخَذَ فِي نَفْسِي مَا يَأْخُذُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ، حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ رَجَعَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنَّ الْمُشْرِكَ الَّذِي كُنْتُ أَتَدَيَّنُ مِنْهُ قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ عِنْدَكَ مَا تَقْضِي عَنِّي وَلَا عِنْدِي وَهُوَ فَاضِحِي، فَأْذَنْ لِي أَنْ آبَقَ إِلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ قَدْ أَسْلَمُوا حَتَّى يَرْزُقَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْضِي عَنِّي، فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا أَتَيْتُ مَنْزِلِي، فَجَعَلْتُ سَيْفِي وَجِرَابِي وَنَعْلِي وَمِجَنِّي عِنْدَ رَأْسِي، حَتَّى إِذَا انْشَقَّ عَمُودُ الصُّبْحِ الْأَوَّلِ أَرَدْتُ أَنْ أَنْطَلِقَ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يَسْعَى يَدْعُو يَا بِلَالُ، أَجِبْ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُهُ، فَإِذَا أَرْبَعُ رَكَائِبَ مُنَاخَاتٌ عَلَيْهِنَّ أَحْمَالُهُنَّ فَاسْتَأْذَنْتُ.
فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَبْشِرْ فَقَدْ جَاءَكَ اللهُ بِقَضَائِكَ» ثُمَّ قَالَ: «أَلَمْ تَرَ الرَّكَائِبَ الْمُنَاخَاتِ الْأَرْبَعَ».
فَقُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ: «إِنَّ لَكَ رِقَابَهُنَّ وَمَا عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّ عَلَيْهِنَّ كِسْوَةً وَطَعَاماً أَهْدَاهُنَّ إِلَيَّ عَظِيمُ فَدَكَ، فَاقْبِضْهُنَّ وَاقْضِ دَيْنَكَ» فَفَعَلْتُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ مَا قِبَلَكَ؟».
قُلْتُ: قَدْ قَضَى اللهُ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ.
قَالَ: «أَفَضَلَ شَيْءٍ؟».
قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: «انْظُرْ أَنْ تُرِيحَنِي مِنْهُ، فَإِنِّي لَسْتُ بِدَاخِلٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِي حَتَّى تُرِيحَنِي مِنْهُ» فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْعَتَمَةَ دَعَانِي فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الَّذِي قِبَلَكَ؟».
قَالَ: قُلْتُ: هُوَ مَعِي، لَمْ يَأْتِنَا أَحَدٌ، فَبَاتَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَصَّ الْحَدِيثَ حَتَّى إِذَا صَلَّى الْعَتَمَةَ يَعْنِي مِنْ الْغَدِ دَعَانِي، قَالَ: «مَا فَعَلَ الَّذِي قِبَلَكَ؟»
قَالَ: قُلْتُ: قَدْ أَرَاحَكَ اللهُ مِنْهُ يَا رَسُولَ الله، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللهَ شَفَقاً مِنْ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ وَعِنْدَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّبَعْتُهُ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَزْوَاجَهُ فَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ امْرَأَةٍ، حَتَّى أَتَى مَبِيتَهُ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كلَّ الحِرصِ على الجودِ والكَرَمِ والعَطاءِ حتَّى قبلَ وفاتِهِ وهوَ على فِراشِ الموتِ، فقد بَلَغَ بهذا الفعلِ دَرَجَةً من الكَرَمِ لا يُدانِيها كَرَمُ أحَدٍ من العَالمين.
روى ابنُ حِبَّان في صحيحِهِ عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: اِشتَدَّ وَجَعُ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وعِندَهُ سَبعَةُ دنانيرَ أو تِسعَة، فقال: «يا عائِشَةُ، ما فَعَلَت تِلكَ الذَّهَبُ؟».
فقلتُ: هيَ عِندِي.
قال: «تَصَدَّقي بها».
قالت: فَشُغِلتُ به.
ثمَّ قال: «يا عائِشَةُ، ما فَعَلَت تِلكَ الذَّهَبُ؟».
فقلتُ: هيَ عِندِي.
فقال: «ائتِيني بها».
قالت: فَجِئتُ بها، فَوَضَعَها في كَفِّهِ، ثمَّ قال: «ما ظَنُّ مُحَمَّدٍ أن لو لَقِيَ اللهَ وهذهِ عِندَهُ؟ ما ظَنُّ مُحَمَّدٍ أن لو لَقِيَ اللهَ وهذهِ عِندَهُ؟».
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لم يَكنِزْ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأَموالَ لنَفسِهِ، ويُوَزِّعْ الفُتَاتَ القَليلَ مِنهَا على أصحَابِهِ، لأنَّهُ جَعَلَ المالَ هَمزةَ وَصلٍ لا هَمزةَ قَطعٍ، جَعَلَ المالَ وَسيلةً لتَألِيفِ القُلوبِ، جَعَلَ المالَ وَسيلةً لِمَحَبَّةِ النَّاسِ لِدِينِ الله تعالى، جَعَلَ المالَ مَطِيَّةً للآخِرَةِ يَتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى، إمَّا صَدَقَةً على أصحابِ الحاجَةِ، وإمَّا عَطاءً لِجَلبِ الآخِذِ لِدِينِ الله تعالى حتَّى يُسلِمَ، يقولُ سيِّدُنا أنسٌ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. رواه الإمام مسلم.
هذا حَالُ سيِّدِنا رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مع الأموالِ، فكيفَ حالُنا نحنُ معَهُ؟ لا أُريدُ التَّعليقَ على هذا، بَل لِيَرجِعْ كلُّ واحِدٍ منَّا إلى نَفسِهِ، وليَضَعْ نفسَهُ في هذا الميزانِ.
اللَّهُمَّ فَرِّغْ قُلوبَنا من حُبِّ الدُّنيا، واجعَل حُبَّكَ وحُبَّ حَبِيبِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إلى قُلوبِنا مِن كُلِّ شَيءٍ يا أَرحَمَ الرَّاحمينَ.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
12/9/2024, 18:39 من طرف Admin
» كتاب اللطف الخفي في شرح رباعيات الجعفي - الشيخ عبد العزيز الجعفي الشاذلي
12/9/2024, 18:25 من طرف Admin
» كتاب: نقض كتاب تثليث الوحدانية للإمام أحمد القرطبي
12/9/2024, 18:23 من طرف Admin
» كتاب: الشيخ سيدي محمد الصوفي كما رأيته و عرفته تأليف تلميذه الأستاذ عتو عياد
12/9/2024, 18:21 من طرف Admin
» كتاب تجلّيّات السَّادات ، مخطوط نادر جدا للشيخ محمد وفا الشاذلي
12/9/2024, 18:15 من طرف Admin
» كتاب: النسوة الصوفية و حِكمهن ـ قطفها أحمد بن أشموني
12/9/2024, 18:13 من طرف Admin
» كتاب: مرآة العرفان و لبه شرح رسالة من عرف نفسه فقد عرف ربه ـ ابن عربي
12/9/2024, 18:09 من طرف Admin
» كتاب: إتحاف أهل العناية الربانية في اتحاد طرق أهل الله وإن تعددت مظاهرها - للشيخ فتح الله بناني
12/9/2024, 18:06 من طرف Admin
» كتاب: مجموع الرسائل الرحمانية ـ سيدي محمد بن عبد الرحمن الأزهري
12/9/2024, 18:04 من طرف Admin
» كتاب: المواقف الإلهية للشيخ قضيب البان و يليه رسالة تحفة الروح و الأنس ورسالة الأذكار الموصلة إلى حضرة الأنوار للبلاسي
12/9/2024, 18:00 من طرف Admin
» كتاب: مجالس شيخ الإسلام سيدي عبد القادر الجيلاني المسماة جلاء الخواطر
12/9/2024, 17:55 من طرف Admin
» كتاب: كيف أحفظ القرآن الكريم ـ للشيخ السيد البلقاسي
12/9/2024, 14:40 من طرف Admin
» كتاب: الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية تفسير القرآن العظيم ـ للإمام سليمان الصرصري
12/9/2024, 14:20 من طرف Admin
» كتاب: تربيع المراتب و الأصول .. نتائج أفكار الفحول من أرباب الوصول للشيخ إبراهيم البثنوي
11/9/2024, 18:44 من طرف Admin
» كتاب: الوصول إلى معاني وأسرار القول المقبول ـ للشيخ عبد القادر بن طه دحاح البوزيدي
11/9/2024, 18:42 من طرف Admin