أولياء الطريق الصوفي
ولا ينكر فكري أنكم تعترفون للسيوطي بأن له من الاطلاع في الفروع والأصول أكثر مما هو لكم، كما تعترفون للشبرخيتي من محققي السادة المالكية أيضا، وها أنقل لك ما نصه وما أفتى به، قال: " بعد الحمدلة والصلاة والسلام على رسول الله إن هؤلاء السادة ذكرهم مشهود مشهور، ويحضرهم فيه العلماء والفقهاء قرناً بعد قرن من قديم الزمان إلى الآن، فهم على حال محمود وطريق بالخير معهود، فمن آذاهم فهو مستحق لما في الحديث القدسي من الوعيد ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) ومن لم يكن منهم ولياً فهو في حمى الأولياء، لحبه لهم ومشيه على طريقهم، اهـ من بعض ما نقله عنه صاحب النصرة النبوية.
وأما ما نقله عن الفيروز آبادي المتقدم ذكره أنه قال: لا يجوز لأحد أن ينكر على القوم ببادي الرأي، لعلو مراتبهم في الفهم والكشف، ولم يبلغنا عن أحد أمر بشيءٍ يهدم الدين، ولا نهى أحداً عن الوضوء، ولا عن الصلاة ولا عن غيرهما من فروض الإسلام ومستحباته، إنما يتكلمون بكلام يدق عن الأفهام، وكان يقول: قد بلغ القوم في المقامات ودرجات العلوم إلى المقامات المجهولة، والعلوم المجهولة التي لم يصرَّح بها في كتابٍ ولا سنة، ولكنّ أكابر العلماء العاملين قد يردّون ذلك إلى الكتاب والسنة بطريق دقيق، لحسن استنباطهم، وحسن ظنهم بالصالحين، ولكن ما كل أحد يتربص إذا سمع كلاماً لا يُفهم، بل يبادر إلى الإنكار على صاحبه وخلق الإنسان عجولا قال: وناهيك بأبي العباس بن سريج في العلم والفهم، تنكر مرة ثم حضر مجلس أبي القاسم الجنيد ليسمع منه شياً مما يشاع عن الصوفية، فلما انصرف قالوا له: ما وجدت؟ فقال: لا أدري ما يقول، ولكن أجد لكلامه صولة في القلب ظاهراً تدل على عمل في الباطن وإخلاص في الضمير، وليس كلامه كلام مبطل اهـ من النصرة النبوية.
ثم أقول لكم: يا أخي ما هكذا بلغنا عن أسلافكم من علماء تونس ونواحيها، إنما المشتهر عنهم احترام مذهب التصوف وتعظيم أهله، وقد وصلت إليهم فتوى في عصر شيخ الإسلام محمد بيرم في مسالة ما عليه القوم فأجاب عن ذلك بجواب طويل منه أنه قال: إن هذا الطريق له سند يتصل بصاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، فهذا لاشك أنه من أصول قواعد ديننا المتين، وقد نص العلماء في دواوين علم الحديث وعلم أصول الفقه: أن السند من خصائص هذه الأمة الشريفة المباركة، والأصل فيه هو ما قدمناه، إلى أن قال: إن هذا الطريق يُجهر فيه بالذكر فهذا سائغ، فقد نقل في الدر المختار عن الفتاوي الخيرية ما نصه : جاء في الحديث ما اقتضى طلب الجهر بنحو (وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيرٍ منه ) .
ثم قال: نقل الحموي عن الإمام الشعراني ما نصه : أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب ذكر الجماعة في المساجد وغيرها إلا أن يشوش جهرهم على نائم أو مصل أو قارئ الخ . فإنه قد ذكره صاحب النصرة بطوله.
فهذا ومثله الشائع عن علماء تونس في احترام المنتسبين إلى الله، إلا ما وقع من القاضي ابن البراء مع الإمام الشاذلي رضي الله عنه، والحكاية مشهورة، ولكن ابن البراء لم يعارض المذهب من أصله إنما عارض شخصاً معيناً بنفسه وقد وقع له من المقت ما يشهد التاريخ به، حفظنا الله والمسلمين من سوء الانتقاد على الإسلام والمسلمين.
ثم إنكم قلتم: إن مالكاً رضي الله عنه قال في قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فلما لم يكن يومئذ ديناً لم يكن اليوم دين، وإنما يُعبد الله بما شرع ، ثم وصلته بقولك: "وهذا الاجتماع لم يكن مشروعاً قط فلا يصح أن يعبد الله به" .
ومن كان مثلك لا يفرق بين النقل وكلام نفسه لا يوثق بعلمه . سئل الإمام احمد رضي الله عنه؛ عن ابن إسحاق إذا انفرد بحديث أتقبله ؟ فقال: لا والله إني رأيته يحدث عن جماعة، ولا يفصل كلام ذا من ذا .
وفي ظني أنك تريد أن توهم القارئ من أن جميع المقالة لمالك، أن ما عليه الصوفية في مذهبهم هو من قبيل دين جديد، وهذا منك في أقصى درجات التشنيع، وبتهمتك للصوفية تتعدى لتهمة سائر المذاهب، لأنك تعتبر الاجتهاد ديناً زائدا، وحاشا لله أن تجتمع الأمة المحمدية على استبدال دين الإسلام بغيره، ولو تنبهت إلا لمجرد استدلالك بقوله عليه الصلاة والسلام ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) الخ الحديث . لعلمت أن اجتهاد المجتهدين هو من السنة، لأنهم خلائف في الأرض، وقد انعقد الإجماع على أمانتهم وكان من حقك على الأقل أن تعتبر أن المؤسس لمذهب التصوف من أحد المجتهدين في الدين، لاجتهاده في مقام الإحسان فهو كالأشعري في مقام الإيمان ومالك ونحوه في مقام الإسلام والدين مجموع الثلاثة كما في الحديث المشهور وهذا إذا لم يتضح لك ما عليه القوم من الاجتماع هو مأخوذ من صريح الشرع، حسبما دلت عليه الأحاديث التي تفيد الترغيب في مجالس الذكر. البدعة وأحكامها.
وحتى لو قلنا: أن ما عليه القوم أنه بدعة، ألا يصلح أن يكون من البدع المستحسنة، المسماة بالسنة المأخوذة من قوله عليه الصلاة والسلام: ( من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها إلى يوم الدين ) فتأمل كيف سمى البدعة سنة، ألم يبلغك أن الاجتماع على قيام رمضان في المساجد هو مما ابتدعه عمر فكان سنة متبعة وقال فيها رضي الله عنه: فنعمت البدعة، ومثل هذا لا يحتاج إلى بيان مع أنه داخل العبادات.
وأما مذهب التصوف إنما هو يدخل في العبادات من جهة ارتكاب العزائم لا من جهة النقص والزيادة، ومعظمة متعلق بتصفية الباطن وتحسين الأخلاق، والاشتغال بالذكر والحضور مع المذكور، وما هو مقرر بمحله، وهل ترى ذلك هو مناقض للدين أم هو عمدة فيه؟
ثم إنك أخذت في تزييف البدع، وفي ظني أنك لا تميز بين البدعة المستحسنة المعروفة بالسنة كما تقدم في قوله عليه السلام ( من سن سنة حسنة ) وبيَّن ما هي، بخلاف ذلك، ولهذا يخشى عليك أن تزيف كثيراً مما أنت تعامل به ربك الآن من حيث لا تشعر.
ألم تعلم أن البدعة قد تجري فيها الأحكام الخمسة؛ من الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرام، وقد بالغ في تقرير ذلك عز الدين بن عبد السلام ومثَّل للواجب منها فقال " هو ما يتوصل به إلى واجب كعلم النحو" ألم تعلم أنه بدعة؟ ومثله ما بأيديكم من الفنون؛ كالبلاغة والمنطق والعروض وعلم التجريح والتعديل والمصطلح، إن لم أقل الدرس والتدريس، بل كتابة العلم نفسها من البدع، وإن كانت كذلك فما تقول في هذه المحدثات ؟ أهي من البدع الضالة التي هي في النار؟ أم من المستحسنة المأجورة عليها؟ وإن كنت تقول بالآخر فلِمَ تجعل مجالس الذكر من ذلك القبيل؟ وهذا بقطع النظر عما دلت عليه الدلائل والنصوص الصريحة التي لا تحتاج للتأويل، ولكن عدم الإنصاف يقطع لسان الاعتراف، وقلة العلم تمنع صاحبها من الفهم، لأن العلماء رضي الله عنهم قد عرَّفوا معنى البدعة التي تعين اجتنابها، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "أن البدعة ما خالفت كتاباً أو سنةً أو إجماعاً أو أثراً، وما لم يخالف شيئاً من ذلك فهي المحمودة" والمخالفة لما ذكر إما تصريحاً أو التزاماً قد تنتهي إلى ما يوجب التحريم تارة، والكراهة أخرى، على ما رواه ابن حجر الهيتمي.
وفي ظني أنك تسلِّم أن الاجتهاد من خصائص هذه الأمة، وتعلم أن أركان الدين ثلاثة؛ الإسلام والإيمان والإحسان، فلِمَ تسلِّمُ اجتهاد الأئمة الأربعة ونحوهم في مقام الإسلام، وتسلِّمُ اجتهاد الأشعري والماتريدي في الاعتقاد الذي هو مقام الإيمان، ولا تسلِّمْ اجتهاد الجنيد وعصابته في مقام الإحسان، وهل لا تعتبر الإحسان ركنا؟
لا والله ما هكذا ظني فيكم أن تغفلوا ما هو الأهم، وما استطردناه في معنى البدعة يحتاج إليه فيما لا نص فيه حتى ينظر فيه أهو من البدعة الضالة؟ أم هو من البدع المستحسنة؟ وأما ما عليه القوم من الاجتماع هو من الشرع في أقصى درجات الوضوح، إلا عند من لم يتبع الآثار، أو أعماه وجود التعصب عن أن يقع بصره على ما في الكتاب والسنة لما يرشده ذلك.
وقد تقدم لك بعض الآثار من الترغيب في حلق الذكر والاجتماع عليه، وإني على يقين من أنكم على خبرة من ذلك، وما ذكرته إلا جرياً على ما اعتادته البلغاء من تنزيلهم العالِم أحياناً منزلة من لا يعلم، كقول الأخضري :
كقولنا لعالم ذي غفلةٍ الذكر مفتاح باب الحضرة وإذا تقر لديك ما تقدم من الترغيب في مجالس الذكر فقل لي بالله عليك أين يوجد هذا الاجتماع المرغب فيه؟ هل هو في غير البسيطة؟ أم هو في غير أمة محمد؟ أم هو يُسمع ولا يُرى؟ وفي ظني أنك احتقرت المنتسبين المجتمعين على الذكر، وإلا حسدتهم فيما هم عليه.
أخص أوصاف الصوفية
ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصفهم لك بأنهم أخلاط من قبائل شتى يجتمعون لأجل ذكر الله لا غير، قال عليه الصلاة والسلام: (عن يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ رجال ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغشى بياضُ وجوهِهِم نظرَ الناظرين، يغبطهم النبيون والشهداء بمقعدهم وقربهم من الله عز وجل، قيل: يا رسول الله من هم؟؟ قال: هم جُمَّاع من نوازع القبائل يجتمعون على ذكر الله، فينتقون أطايب الكلام كما ينتقي آكل التمر أطايبه " أليس هذا ـ يرحمك الله ـ من أخص أوصاف الصوفية؟ أليس في علمك أنهم يجتمعون من قبائل شتى لا لأرحام يتواصلونها، ولا لأموال يقترفونها، أليس هم المتحابون الذين يقول فيهم سبحانه وتعالى يوم القيامة ويناديهم: أين المتحابون فيّ ، فما هذه الداهية التي أصابتك فعمدت تقطع وصلةً أمر الله بوصلها واحترامها، ألم تعلم أن معية الله هي عبارة عن حب الذكر والذاكرين؟ ألم تعلم أن الله يغار على أهل نسبته ولو كانوا كاذبين؟ أنشدك الله وبحرمة رسول الله إلا ما رجعت عن بغض أهل لا إله إلاالله، وتركتهم وشأنهم يحكم الله فيهم يوم القيامة، فإني أخشى عليك أن تكون لا إله إلا الله خصيمتك يوم القيامة، { ويحذركم الله نفسه} .
قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه في وصيته "وإياك ومعاداة أهل لا إله إلا الله، فإن لها من الله الولاية العظمى، فهم أولياء الله وإن أخطأوا وجاءوا بقراب الأرض خطايا لا يشركون به شيئاً قابلهم الله بمثلها مغفرة " .
ويشهد لهم ما رواه حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صياماً ولا حجاً ولا زكاة، يقولون: أدركنا آباءنا يقولون: لا إله إلا الله،فقيل لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟؟!! فقال: تنجيهم من النار، تنجيهم من النار"
فإن كان هذا فكيف يكون حال من يصلي ويصوم ويحج ويزكي.. فهل تصح عداوته؟ فبحقهم عليك إلا ما رجعت عن بغض المنتسبين إلى الله وتحببت إليهم، ولتذعن بكل قلب ولسان قائلاً: عفا الله عما سلف، وأي معصية أشنع من تطبيقك ما ورد في أهل الزيغ والضلالة على جماعة الصوفية.
ولم يكفك ذلك حتى جعلتهم فرقة من فرق أهل النار، مستدلاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا فرقة واحدة؛ وهي ما أنا عليه وأصحابي) وهذا صريح في أنك تعني أن فرقة أهل التصوف واحدة من تلك الفرق، وإني أحكمك لله ولرسوله ولصالح المؤمنين فيما بينك وبين الصوفية.
ثم أقول لك إذا جعلت مذهب أهل التصوف فرقة من تلك الفرق يتعذَّر عليك تمام البضع والسبعين فرقة، إلا إذا أتممتها بنفسك وبمن هو على شاكلتك لأنك حصرت الفرق في أهل السنة والجماعة، وهلاّ نقلت حديثاً نقله الإمام الغزالي في كتابه المسمى "فيصل التفرقة..." وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلهم في الجنة إلا الزنادقة) ( 1) ولكن هذا لا يقع عليه بصرك، وإنما يقع على ما يساعدك في الحكم على سائر أفراد المسلمين بالنار، حتى تخلو لك الجنة أنت ومن هو على شاكلتك لا غير(قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) وفي الغالب تتشوف لوجه التطبيق بين الحديثين، وهذا ونحوه لا تجد من يرفع عنك معضلته إلا صوفي، ومحال أن تتنزل له لأن الحسد يسد باب الإنصاف، ويقطع لسان الاعتراف .
وعلى كل حال نذكر ما فتح الله به، وإن كنت لا حاجة لك فيه، فإن لكل ساقط لاقطا، فأقول: إن وجه التطبيق بين الحديثين سهل، وليس هو إلا أن تجعل الأمة في الحديث الأول عائدة على أمة الدعوة، وفي الحديث الثاني على أمة الإجابة ويتضح المعنى باستخدام وإيراد الحديث بطوله قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة وهي ما أنا عليه وأصحابي) فيتضح من سر الترتيب أن الملل كانت سبعين ملة، والملة التي جاء بها سيدنا موسى هي تمام إحدى وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما كان عليه موسى وأصحابه، وجميع الفرق تسمى أمته من حيث الدعوة لأنه رسول زمانه، ولم بعث عيسى عليه السلام كانت هي تمام اثنين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما كان عليه عيسى وأتباعه، ولما بعث أحمد بالملة الأحمدية السمحاء، كانت هي تمام الثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما كان عليه هو وأصحابه، ويعني بالأمة أمة الدعوة لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: ( أنا رسول من أدركته حياً ومن يولد بعدي ) ثم إن الملة الأحمدية افترقت حسب الحديث الثاني على بضع وسبعين فرقة، وهذا يحمل على تعدد المذاهب وتباين المشارب، وكلهم في الجنة إلا الزنادقة، وهذا ما يناسب الشفقة المحمدية، والرحمة الإلهية، وإلا لهلكت الأمة بأجمعها إذا كان الناجي جزءا من بضع وسبعين جزءا، والحالة أنه غير معين، لأن كل فريق يزعم بنجاته، وأنا أقول : إن الله سبحانه وتعالى عند ظن كل مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر مهما اجتهد لنفسه بما يقربه إلى الله، فإن أصاب فله أجران، وإن لم يصب فله أجر، فهو مأجور على كل حال أحببت أم كرهت، لأن الخلق ما كلفوا إصابة الصواب، إنما كلفوا الظن بأنه صواب، وجميع ذلك مما بقتضيه تسامح الشرع الأحمدي المشار إليه بقوله تعالى { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }ويشهد لما ذكر ما رواه الطبراني مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن شريعتي جاءت على ثلاثمائة طريقة ما سلك أحد طريقة منها إلا نجا ) والذي أبلغ في التأييد وهو الحق الأكيد إن شاء الله ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من أمة إلا وبعضها في النار وبعضها في الجنة إلا أمتي فإنها كلها في الجنة )
فلِمَ لم تصادف هذه الأخبار التي تفيد الوسع وتقضي على الأمة بالنجاة ؟ ولكنك تنظر بالعين العوراء، فلهذا أراك إلى الآن لم تترك نصاً يقضي على الذاكرين بالدمار، والخروج من سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء إلا ألصقته بجانبهم، ألا ترى أنك قلت بعد أن برهنت على أنهم المبتدعة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يضع بدعته ) ومرادك أنه لا يقبل شيئاً من أعمال الذاكرين حتى يتركوا ما هم عليه من الذكر والاجتماع، لأنه بدعة في زعمك، ويا ليت شعري إذا افترقت طوائف الذاكرين وما هم عليه من السواد الأعظم، فإلى أين يذهبون ؟ وأي مجلس اخترته لهم؟ فهل في الشوارع ينتشرون؟ أم للهو يقصدون؟ ألم تعلم أن الإنسان بالطبع يألف الاجتماع ؟ فإن كان ولا بد فأي شيء تختار لعوام المسلمين إن لم يجتمعوا على الله وبالذكر يجهرون ؟ فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ وبعد ذلك أتحفتهم بحديثين فقلت: أخرج أبو نعيم: (أهل البدع شر الخلق والخليقة) وأخرج غيره (أصحاب البدع كلاب النار)
( 1 ) ذكره العجلوني في كشف الخفا قال : " ورواه الشعراني في الميزان من حديث ابن النجار وصححه الحاكم بلفظ غريب وهو ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا واحدة ، وفي رواية عند الديلمي، الهالك منها واحدة ، قال العلماء هي الزنادقة انتهى ، وفي هامش الميزان المذكور عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا الزنادقة ، قال وفي رواية عنه أيضا تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقه إني أعلم أهداها الجماعة انتهى ، ثم رأيت ما في هامش الميزان مذكورا في تخريج أحاديث مسند الفردوس للحافظ ابن حجر ، ولفظه تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا واحدة وهي الزنادقة ، أسنده عن أنس قال وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أنس بلفظ أهداها فرقة الجماعة انتهى ، فلينظر مع المشهور ولعل وجه التوفيق أن المراد بأهل الجنة في الرواية الثانية ولو مآلا فتأمل "
ولا ينكر فكري أنكم تعترفون للسيوطي بأن له من الاطلاع في الفروع والأصول أكثر مما هو لكم، كما تعترفون للشبرخيتي من محققي السادة المالكية أيضا، وها أنقل لك ما نصه وما أفتى به، قال: " بعد الحمدلة والصلاة والسلام على رسول الله إن هؤلاء السادة ذكرهم مشهود مشهور، ويحضرهم فيه العلماء والفقهاء قرناً بعد قرن من قديم الزمان إلى الآن، فهم على حال محمود وطريق بالخير معهود، فمن آذاهم فهو مستحق لما في الحديث القدسي من الوعيد ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) ومن لم يكن منهم ولياً فهو في حمى الأولياء، لحبه لهم ومشيه على طريقهم، اهـ من بعض ما نقله عنه صاحب النصرة النبوية.
وأما ما نقله عن الفيروز آبادي المتقدم ذكره أنه قال: لا يجوز لأحد أن ينكر على القوم ببادي الرأي، لعلو مراتبهم في الفهم والكشف، ولم يبلغنا عن أحد أمر بشيءٍ يهدم الدين، ولا نهى أحداً عن الوضوء، ولا عن الصلاة ولا عن غيرهما من فروض الإسلام ومستحباته، إنما يتكلمون بكلام يدق عن الأفهام، وكان يقول: قد بلغ القوم في المقامات ودرجات العلوم إلى المقامات المجهولة، والعلوم المجهولة التي لم يصرَّح بها في كتابٍ ولا سنة، ولكنّ أكابر العلماء العاملين قد يردّون ذلك إلى الكتاب والسنة بطريق دقيق، لحسن استنباطهم، وحسن ظنهم بالصالحين، ولكن ما كل أحد يتربص إذا سمع كلاماً لا يُفهم، بل يبادر إلى الإنكار على صاحبه وخلق الإنسان عجولا قال: وناهيك بأبي العباس بن سريج في العلم والفهم، تنكر مرة ثم حضر مجلس أبي القاسم الجنيد ليسمع منه شياً مما يشاع عن الصوفية، فلما انصرف قالوا له: ما وجدت؟ فقال: لا أدري ما يقول، ولكن أجد لكلامه صولة في القلب ظاهراً تدل على عمل في الباطن وإخلاص في الضمير، وليس كلامه كلام مبطل اهـ من النصرة النبوية.
ثم أقول لكم: يا أخي ما هكذا بلغنا عن أسلافكم من علماء تونس ونواحيها، إنما المشتهر عنهم احترام مذهب التصوف وتعظيم أهله، وقد وصلت إليهم فتوى في عصر شيخ الإسلام محمد بيرم في مسالة ما عليه القوم فأجاب عن ذلك بجواب طويل منه أنه قال: إن هذا الطريق له سند يتصل بصاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، فهذا لاشك أنه من أصول قواعد ديننا المتين، وقد نص العلماء في دواوين علم الحديث وعلم أصول الفقه: أن السند من خصائص هذه الأمة الشريفة المباركة، والأصل فيه هو ما قدمناه، إلى أن قال: إن هذا الطريق يُجهر فيه بالذكر فهذا سائغ، فقد نقل في الدر المختار عن الفتاوي الخيرية ما نصه : جاء في الحديث ما اقتضى طلب الجهر بنحو (وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيرٍ منه ) .
ثم قال: نقل الحموي عن الإمام الشعراني ما نصه : أجمع العلماء سلفاً وخلفاً على استحباب ذكر الجماعة في المساجد وغيرها إلا أن يشوش جهرهم على نائم أو مصل أو قارئ الخ . فإنه قد ذكره صاحب النصرة بطوله.
فهذا ومثله الشائع عن علماء تونس في احترام المنتسبين إلى الله، إلا ما وقع من القاضي ابن البراء مع الإمام الشاذلي رضي الله عنه، والحكاية مشهورة، ولكن ابن البراء لم يعارض المذهب من أصله إنما عارض شخصاً معيناً بنفسه وقد وقع له من المقت ما يشهد التاريخ به، حفظنا الله والمسلمين من سوء الانتقاد على الإسلام والمسلمين.
ثم إنكم قلتم: إن مالكاً رضي الله عنه قال في قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فلما لم يكن يومئذ ديناً لم يكن اليوم دين، وإنما يُعبد الله بما شرع ، ثم وصلته بقولك: "وهذا الاجتماع لم يكن مشروعاً قط فلا يصح أن يعبد الله به" .
ومن كان مثلك لا يفرق بين النقل وكلام نفسه لا يوثق بعلمه . سئل الإمام احمد رضي الله عنه؛ عن ابن إسحاق إذا انفرد بحديث أتقبله ؟ فقال: لا والله إني رأيته يحدث عن جماعة، ولا يفصل كلام ذا من ذا .
وفي ظني أنك تريد أن توهم القارئ من أن جميع المقالة لمالك، أن ما عليه الصوفية في مذهبهم هو من قبيل دين جديد، وهذا منك في أقصى درجات التشنيع، وبتهمتك للصوفية تتعدى لتهمة سائر المذاهب، لأنك تعتبر الاجتهاد ديناً زائدا، وحاشا لله أن تجتمع الأمة المحمدية على استبدال دين الإسلام بغيره، ولو تنبهت إلا لمجرد استدلالك بقوله عليه الصلاة والسلام ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) الخ الحديث . لعلمت أن اجتهاد المجتهدين هو من السنة، لأنهم خلائف في الأرض، وقد انعقد الإجماع على أمانتهم وكان من حقك على الأقل أن تعتبر أن المؤسس لمذهب التصوف من أحد المجتهدين في الدين، لاجتهاده في مقام الإحسان فهو كالأشعري في مقام الإيمان ومالك ونحوه في مقام الإسلام والدين مجموع الثلاثة كما في الحديث المشهور وهذا إذا لم يتضح لك ما عليه القوم من الاجتماع هو مأخوذ من صريح الشرع، حسبما دلت عليه الأحاديث التي تفيد الترغيب في مجالس الذكر. البدعة وأحكامها.
وحتى لو قلنا: أن ما عليه القوم أنه بدعة، ألا يصلح أن يكون من البدع المستحسنة، المسماة بالسنة المأخوذة من قوله عليه الصلاة والسلام: ( من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها إلى يوم الدين ) فتأمل كيف سمى البدعة سنة، ألم يبلغك أن الاجتماع على قيام رمضان في المساجد هو مما ابتدعه عمر فكان سنة متبعة وقال فيها رضي الله عنه: فنعمت البدعة، ومثل هذا لا يحتاج إلى بيان مع أنه داخل العبادات.
وأما مذهب التصوف إنما هو يدخل في العبادات من جهة ارتكاب العزائم لا من جهة النقص والزيادة، ومعظمة متعلق بتصفية الباطن وتحسين الأخلاق، والاشتغال بالذكر والحضور مع المذكور، وما هو مقرر بمحله، وهل ترى ذلك هو مناقض للدين أم هو عمدة فيه؟
ثم إنك أخذت في تزييف البدع، وفي ظني أنك لا تميز بين البدعة المستحسنة المعروفة بالسنة كما تقدم في قوله عليه السلام ( من سن سنة حسنة ) وبيَّن ما هي، بخلاف ذلك، ولهذا يخشى عليك أن تزيف كثيراً مما أنت تعامل به ربك الآن من حيث لا تشعر.
ألم تعلم أن البدعة قد تجري فيها الأحكام الخمسة؛ من الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرام، وقد بالغ في تقرير ذلك عز الدين بن عبد السلام ومثَّل للواجب منها فقال " هو ما يتوصل به إلى واجب كعلم النحو" ألم تعلم أنه بدعة؟ ومثله ما بأيديكم من الفنون؛ كالبلاغة والمنطق والعروض وعلم التجريح والتعديل والمصطلح، إن لم أقل الدرس والتدريس، بل كتابة العلم نفسها من البدع، وإن كانت كذلك فما تقول في هذه المحدثات ؟ أهي من البدع الضالة التي هي في النار؟ أم من المستحسنة المأجورة عليها؟ وإن كنت تقول بالآخر فلِمَ تجعل مجالس الذكر من ذلك القبيل؟ وهذا بقطع النظر عما دلت عليه الدلائل والنصوص الصريحة التي لا تحتاج للتأويل، ولكن عدم الإنصاف يقطع لسان الاعتراف، وقلة العلم تمنع صاحبها من الفهم، لأن العلماء رضي الله عنهم قد عرَّفوا معنى البدعة التي تعين اجتنابها، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "أن البدعة ما خالفت كتاباً أو سنةً أو إجماعاً أو أثراً، وما لم يخالف شيئاً من ذلك فهي المحمودة" والمخالفة لما ذكر إما تصريحاً أو التزاماً قد تنتهي إلى ما يوجب التحريم تارة، والكراهة أخرى، على ما رواه ابن حجر الهيتمي.
وفي ظني أنك تسلِّم أن الاجتهاد من خصائص هذه الأمة، وتعلم أن أركان الدين ثلاثة؛ الإسلام والإيمان والإحسان، فلِمَ تسلِّمُ اجتهاد الأئمة الأربعة ونحوهم في مقام الإسلام، وتسلِّمُ اجتهاد الأشعري والماتريدي في الاعتقاد الذي هو مقام الإيمان، ولا تسلِّمْ اجتهاد الجنيد وعصابته في مقام الإحسان، وهل لا تعتبر الإحسان ركنا؟
لا والله ما هكذا ظني فيكم أن تغفلوا ما هو الأهم، وما استطردناه في معنى البدعة يحتاج إليه فيما لا نص فيه حتى ينظر فيه أهو من البدعة الضالة؟ أم هو من البدع المستحسنة؟ وأما ما عليه القوم من الاجتماع هو من الشرع في أقصى درجات الوضوح، إلا عند من لم يتبع الآثار، أو أعماه وجود التعصب عن أن يقع بصره على ما في الكتاب والسنة لما يرشده ذلك.
وقد تقدم لك بعض الآثار من الترغيب في حلق الذكر والاجتماع عليه، وإني على يقين من أنكم على خبرة من ذلك، وما ذكرته إلا جرياً على ما اعتادته البلغاء من تنزيلهم العالِم أحياناً منزلة من لا يعلم، كقول الأخضري :
كقولنا لعالم ذي غفلةٍ الذكر مفتاح باب الحضرة وإذا تقر لديك ما تقدم من الترغيب في مجالس الذكر فقل لي بالله عليك أين يوجد هذا الاجتماع المرغب فيه؟ هل هو في غير البسيطة؟ أم هو في غير أمة محمد؟ أم هو يُسمع ولا يُرى؟ وفي ظني أنك احتقرت المنتسبين المجتمعين على الذكر، وإلا حسدتهم فيما هم عليه.
أخص أوصاف الصوفية
ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصفهم لك بأنهم أخلاط من قبائل شتى يجتمعون لأجل ذكر الله لا غير، قال عليه الصلاة والسلام: (عن يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ رجال ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغشى بياضُ وجوهِهِم نظرَ الناظرين، يغبطهم النبيون والشهداء بمقعدهم وقربهم من الله عز وجل، قيل: يا رسول الله من هم؟؟ قال: هم جُمَّاع من نوازع القبائل يجتمعون على ذكر الله، فينتقون أطايب الكلام كما ينتقي آكل التمر أطايبه " أليس هذا ـ يرحمك الله ـ من أخص أوصاف الصوفية؟ أليس في علمك أنهم يجتمعون من قبائل شتى لا لأرحام يتواصلونها، ولا لأموال يقترفونها، أليس هم المتحابون الذين يقول فيهم سبحانه وتعالى يوم القيامة ويناديهم: أين المتحابون فيّ ، فما هذه الداهية التي أصابتك فعمدت تقطع وصلةً أمر الله بوصلها واحترامها، ألم تعلم أن معية الله هي عبارة عن حب الذكر والذاكرين؟ ألم تعلم أن الله يغار على أهل نسبته ولو كانوا كاذبين؟ أنشدك الله وبحرمة رسول الله إلا ما رجعت عن بغض أهل لا إله إلاالله، وتركتهم وشأنهم يحكم الله فيهم يوم القيامة، فإني أخشى عليك أن تكون لا إله إلا الله خصيمتك يوم القيامة، { ويحذركم الله نفسه} .
قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه في وصيته "وإياك ومعاداة أهل لا إله إلا الله، فإن لها من الله الولاية العظمى، فهم أولياء الله وإن أخطأوا وجاءوا بقراب الأرض خطايا لا يشركون به شيئاً قابلهم الله بمثلها مغفرة " .
ويشهد لهم ما رواه حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صياماً ولا حجاً ولا زكاة، يقولون: أدركنا آباءنا يقولون: لا إله إلا الله،فقيل لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟؟!! فقال: تنجيهم من النار، تنجيهم من النار"
فإن كان هذا فكيف يكون حال من يصلي ويصوم ويحج ويزكي.. فهل تصح عداوته؟ فبحقهم عليك إلا ما رجعت عن بغض المنتسبين إلى الله وتحببت إليهم، ولتذعن بكل قلب ولسان قائلاً: عفا الله عما سلف، وأي معصية أشنع من تطبيقك ما ورد في أهل الزيغ والضلالة على جماعة الصوفية.
ولم يكفك ذلك حتى جعلتهم فرقة من فرق أهل النار، مستدلاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا فرقة واحدة؛ وهي ما أنا عليه وأصحابي) وهذا صريح في أنك تعني أن فرقة أهل التصوف واحدة من تلك الفرق، وإني أحكمك لله ولرسوله ولصالح المؤمنين فيما بينك وبين الصوفية.
ثم أقول لك إذا جعلت مذهب أهل التصوف فرقة من تلك الفرق يتعذَّر عليك تمام البضع والسبعين فرقة، إلا إذا أتممتها بنفسك وبمن هو على شاكلتك لأنك حصرت الفرق في أهل السنة والجماعة، وهلاّ نقلت حديثاً نقله الإمام الغزالي في كتابه المسمى "فيصل التفرقة..." وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلهم في الجنة إلا الزنادقة) ( 1) ولكن هذا لا يقع عليه بصرك، وإنما يقع على ما يساعدك في الحكم على سائر أفراد المسلمين بالنار، حتى تخلو لك الجنة أنت ومن هو على شاكلتك لا غير(قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) وفي الغالب تتشوف لوجه التطبيق بين الحديثين، وهذا ونحوه لا تجد من يرفع عنك معضلته إلا صوفي، ومحال أن تتنزل له لأن الحسد يسد باب الإنصاف، ويقطع لسان الاعتراف .
وعلى كل حال نذكر ما فتح الله به، وإن كنت لا حاجة لك فيه، فإن لكل ساقط لاقطا، فأقول: إن وجه التطبيق بين الحديثين سهل، وليس هو إلا أن تجعل الأمة في الحديث الأول عائدة على أمة الدعوة، وفي الحديث الثاني على أمة الإجابة ويتضح المعنى باستخدام وإيراد الحديث بطوله قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة وهي ما أنا عليه وأصحابي) فيتضح من سر الترتيب أن الملل كانت سبعين ملة، والملة التي جاء بها سيدنا موسى هي تمام إحدى وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما كان عليه موسى وأصحابه، وجميع الفرق تسمى أمته من حيث الدعوة لأنه رسول زمانه، ولم بعث عيسى عليه السلام كانت هي تمام اثنين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما كان عليه عيسى وأتباعه، ولما بعث أحمد بالملة الأحمدية السمحاء، كانت هي تمام الثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما كان عليه هو وأصحابه، ويعني بالأمة أمة الدعوة لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: ( أنا رسول من أدركته حياً ومن يولد بعدي ) ثم إن الملة الأحمدية افترقت حسب الحديث الثاني على بضع وسبعين فرقة، وهذا يحمل على تعدد المذاهب وتباين المشارب، وكلهم في الجنة إلا الزنادقة، وهذا ما يناسب الشفقة المحمدية، والرحمة الإلهية، وإلا لهلكت الأمة بأجمعها إذا كان الناجي جزءا من بضع وسبعين جزءا، والحالة أنه غير معين، لأن كل فريق يزعم بنجاته، وأنا أقول : إن الله سبحانه وتعالى عند ظن كل مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر مهما اجتهد لنفسه بما يقربه إلى الله، فإن أصاب فله أجران، وإن لم يصب فله أجر، فهو مأجور على كل حال أحببت أم كرهت، لأن الخلق ما كلفوا إصابة الصواب، إنما كلفوا الظن بأنه صواب، وجميع ذلك مما بقتضيه تسامح الشرع الأحمدي المشار إليه بقوله تعالى { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }ويشهد لما ذكر ما رواه الطبراني مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن شريعتي جاءت على ثلاثمائة طريقة ما سلك أحد طريقة منها إلا نجا ) والذي أبلغ في التأييد وهو الحق الأكيد إن شاء الله ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من أمة إلا وبعضها في النار وبعضها في الجنة إلا أمتي فإنها كلها في الجنة )
فلِمَ لم تصادف هذه الأخبار التي تفيد الوسع وتقضي على الأمة بالنجاة ؟ ولكنك تنظر بالعين العوراء، فلهذا أراك إلى الآن لم تترك نصاً يقضي على الذاكرين بالدمار، والخروج من سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء إلا ألصقته بجانبهم، ألا ترى أنك قلت بعد أن برهنت على أنهم المبتدعة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يضع بدعته ) ومرادك أنه لا يقبل شيئاً من أعمال الذاكرين حتى يتركوا ما هم عليه من الذكر والاجتماع، لأنه بدعة في زعمك، ويا ليت شعري إذا افترقت طوائف الذاكرين وما هم عليه من السواد الأعظم، فإلى أين يذهبون ؟ وأي مجلس اخترته لهم؟ فهل في الشوارع ينتشرون؟ أم للهو يقصدون؟ ألم تعلم أن الإنسان بالطبع يألف الاجتماع ؟ فإن كان ولا بد فأي شيء تختار لعوام المسلمين إن لم يجتمعوا على الله وبالذكر يجهرون ؟ فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ وبعد ذلك أتحفتهم بحديثين فقلت: أخرج أبو نعيم: (أهل البدع شر الخلق والخليقة) وأخرج غيره (أصحاب البدع كلاب النار)
( 1 ) ذكره العجلوني في كشف الخفا قال : " ورواه الشعراني في الميزان من حديث ابن النجار وصححه الحاكم بلفظ غريب وهو ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا واحدة ، وفي رواية عند الديلمي، الهالك منها واحدة ، قال العلماء هي الزنادقة انتهى ، وفي هامش الميزان المذكور عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا الزنادقة ، قال وفي رواية عنه أيضا تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقه إني أعلم أهداها الجماعة انتهى ، ثم رأيت ما في هامش الميزان مذكورا في تخريج أحاديث مسند الفردوس للحافظ ابن حجر ، ولفظه تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا واحدة وهي الزنادقة ، أسنده عن أنس قال وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أنس بلفظ أهداها فرقة الجماعة انتهى ، فلينظر مع المشهور ولعل وجه التوفيق أن المراد بأهل الجنة في الرواية الثانية ولو مآلا فتأمل "
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin