رد القول بأن مذهب التصوف بطالة
ولما خشيت أن القارئ لا يفهم من هم أهل البدع المشار إليهم لأن الناس تتفاوت في الفهم، فوضحت ذلك بقولك: " قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي: مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلاله فما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " , .
فأقول فما أجرأك على أهل نسبة الله وما أحد لسانك في أكل لحوم أهل الله... والله لئن تهدم الكعبة أولى لك من أن تفوه بمثل هاتة المقالة، عرَّفتَ التصوف بأنه بطالة وجهالة، والله لقد عرَّف التصوفَ علماءُ الدين وحكماءُ المسلمين بخلاف ما عرَّفتـَه فقالوا: إن التصوف عبارة عن تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية، التصوف؛ الخروج من كل خُلُقٍ دنيٍّ والدخول في كل وصف سنيٍّ ، وقال أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه: التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به، وهذا من بعض ما عرَّفوا به التصوف.
أما قولكم: "التصوف بطالة" فمردود عليكم بما قرروه بأن الصوفي يحاسب نفسه على الأنفاس عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا ) وهل ترى هذا من البطالة ؟
وأما قولكم ( مذهب التصوف جهالة ) فهذا مردود عليكم أيضاً بما أبدوه من العلوم التي تعجز عنها فحول أكابر العلماء فضلا عمن هو على شاكلتكم ومؤلفاتهم أعدل شاهد، ألم تعلم أن التصوف ذكره بعض الأكابر من فروض العين، كالإمام الغزالي والشيخ السنوسي صاحب العقائد فقال : " يجب السعي إلى من اشتهر به ولو بغير رضاء والديه"، وقال الجنيد رضي الله عنه : " لو أن تحت أديم السماء اشرف من العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعينا إليه "، وقال الشيخ الصقلي في كتابه المسمى بنور القلوب: " كل من صدق بهذا العلم فهو من الخاصة، ومن فهمه فهو من خاصة الخاصة، وكل من عبر عنه فهو النجم الذي لا يدرك، والبحر الذي لا ينزف "..
قلت: يشهدك الله فهل تفهم شيئاً من مكنون علمهم ودرر لغزهم ؟ كلا فما أنت إلا من وراء حجاب من حديد، ولهذا أصبح عندكم جهالة، أما قولكم "إنه ضلالة" فالله أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بمن اهتدى.
ثم أقول: إنى لا أنكر وجود النقص في المعترضين في كل عصر من أهل السنة على بعض أفراد المتصوفة لاحتمال وجود النقص في المعترض أو المعترض عليه، وأما إنكار مذهب التصوف من أصله فلم تتظاهر به أهل السنة، إنما تظاهرت به بعض الفرق التي لا أهمية لها بالنظر للسواد الأعظم ولهذا لم ترُج معتقداتهم، وأي شيء اخترته في تلك المذاهب المندرسة حتى قمت تنتصر لمذهبهم وتحيي من معتقداتهم ما اندرس؟ فأخذت تبث في قلوب أبناء الوطن سوء الظن بالذكر والذاكرين وفي ظني أن مجلسك لا يخلو من نحو ما كتبته في هذا الشأن، وإن كان كذلك فالله يعصم من حضرك كيلا يشاركك إلا فيما يعود عليه بالنفع ويترك ما وراء ذلك .
أما قولكم : "فما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" فمن ذا الذي بلغك عن الصوفية أنهم يقولون: إن في كتاب الله من العلوم ما لا يتوصل إليه العموم، قال سلطان العاشقين :
فثم وراء النقل علم يدق عن *** مدارك غايات العقول السليمة
قلت: ولعل المتجمد على الظواهر لا يرى من كتاب الله إلا ما وصل إليه من جهة بضاعته القليلة وقريحته الكليلة، وينكر ما وراء ذلك، ولم يعلم إن ما عرفه من ظاهر الكتاب إلا كمن عرف القشر من اللباب، وما وراء ذلك ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهل يُعتقَد أن ما وصل إليه فهمه هو ما كانت عليه بواطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله، كلا وليفتش نفسه إن كان ما أكـَّنه فؤاده أعز مما تحدث به فهو على بينه من ربه، وإلا ما ضاع له أكثر مما حصل عليه، قال عليه الصلاة والسلام (إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا أظهره أنكره أهل الاغترار بالله ) وقال: (علم الباطن سر من أسرار الله وحكم من حكمه يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ) وقال أيضا: ( العلم علمان فعلم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم) فدل هذا على أن العلوم الخفية غير العلوم المتعاطية، قال أبو هريرة في ما شاع عنه: (حفظت عن رسول الله وعاءين من العلم، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم ) نقله عمر بن عبد البر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ( لو قلت لكم ما أعلم تفسير قول الله تعالى (يتنزل الأمر بينهن) لرجمتموني أو لقلتم أني كافر ) ذكره الشعراني في اليواقيت والجواهر ومما ينسب لزين العابدين رضي الله عنه.
يا رُبَّ جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي *** يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: ( لو حدثتكم بكل ما أعلم لقلتم: رحم الله قاتل سلمان ) وقال الإمام علي كرم الله وجهه: "إن بجانبي علماً لو قلته لأزلتم هذا عن هذه، وأشار برأسه عن جثته " فدل هذا على أن في الزوايا خبايا .
وفي قولكم "فما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" فكأنكم تشيرون أن ذاك هو الذي فهمتموه من كتاب الله، ألم تعلم أن للقرآن ظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً كما هو الحديث المشهور عن رسول الله نقله في تاج التفاسير، وحتى لو قلنا: أنك على خبرة من ظواهره فهل علمت شيئا من باطنه ؟ وأين أنت من حده ومطلعه؟ ذلك حظ العارفين في كتاب الله وسنة رسول الله، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ( لن تتفقه كل الفقه حتى ترى للقران وجوهاً كثيرة ) وقيل إنه حديث عن شداد بن أوس نقله ابن عبد البر، ولكنك ترى الإسلام هو مجرد ما أنت عليه ومن هو على شاكلتك، وإن كان كذلك فإنك سويت بين سريرتك وسريرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وسريرة الأنبياء، وهذا من الجهل في أقصى غاية، ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لن تخلو الارض من أربعين رجلا على قلب خليل الرحمن ) وهل أنت من هاته العصابة المشار إليها في الحديث؟ فإن كنت كذلك فلا يبعد أن يكون لك أوفر نصيب من الاطلاع على مكنونات الدين وإلا فسلم العلم لأربابه، لأن الأثر صريح في ذلك لمن تتبعه بأن في الأمة خصوصاً أطلعهم الله سبحانه وتعالى على أسرار الكتاب والسنة، ومهما صح ذلك فهل توجد العصابة المشار إليها في غير الذاكرين الموسومين بصفة الانقطاع لله عز وجل؟ {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } .
التواجد والحركة في الذكر
وفي مثلهم قال ذو النون المصري رضي الله عنه: " اجتمعت بجارية في بعض السياحات فقلت لها: من أين أقبلت؟ فقالت: من عند أناس {تتجافى جنوبها عن المضاجع} فقلت لها: والى أين تريدين؟ فقالت: إلى{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} ، ولكنك ظننت أن التصوف عبارة عن جماعة من الناس يجتمعون للرقص ونشد الأشعار لا غير، ومثلك كمن قصد راعي الغنم بالليل يطلبه أن يتصدق عليه بماشية فأذن له في ذلك فذهب ليأخذ ماشيته فوقعت يده على كلب الحراسة، الذي هو عادة يكون مختلطاً بالمواشي، فلما أصبح الصباح وجد بيده كلباً ، فأخذ يتهم راعي المواشي ويلقبه براعي الكلاب، وهذا ما يقتضيه لسان ما جمعتموه، لأنكم أقصرتم التصوف على الرقص وما في معناه، ولهذا قلت: وفي المعيار( أن من البدع المنكرة المحرمة الرقص بالذكر) ثم أتيتم بقول الطرطوشي الذي قضى على خيار الأمة المحمدية بالبطالة والجهالة والضلالة، ولم يكفكم هذا حتى وضعتم عليهم تشبيهاً بليغاً أخرجهم من دائرة الإسلام والمسلمين، وهو قولكم نقلا عمن لا يتقي الله مثلكم، أو لم يقصد بذلك إلا جماعة بعينها " ( وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، فإنهم لما عبدوا العجل صاروا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل) وفي ظني أنكم تجاوزتم الحد فيما ارتكبتموه، فلا مسلك وخيم في أعراض أهل الله إلا وسلكتموه، ثم أقول: إن كان تشبيهكم هذا للفقراء بعبّاد العجل فيه إصابة من حيث الهيئة الموجودة في الفريقين، وقد صادفتم فيما زعمتم، فهل صادفتم وجه الشبه فيما بين المعبودين المتواجَد من أجلهما؟ بين عجل الإسرائيلي وإله الذاكرين؟ فتعالى الله عما يقول الظالمون، وحقي أن لا نشتغل بالكلام على هاته العبارة الواهية، لأنها زُيِّـفتْ ورُدَّتْ من عدة وجوه، وقد أطال الكلام عليه غير واحد، وذكروا إنها مدسوسة على أبى حنيفة، وحاشاه أن يقول مثل ذلك.
ثم أتكلم في التواجد الذي ذكرتم تحريمه، وإن كان ليس هو المقصود من طريق القوم، إنما هو نتيجة الوجل الذي عدمتموه قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } فها هو تعالى أخبرك عما يلحق الذاكر من الوجل، وجعله من أخص صفة المؤمنين، ألا ترى أنه تعالى أثنى على أهل الكتاب بما حصل لهم من الوجد، فذكر أحد لوازمه بأبلغ ما يكون من المدح فقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أوليس في هذا ما يدل على وقوع حركة في باطن المؤمن من أجل ذكر الله واستماع كلامه؟ أو لم يقل تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ثم بيَّن معنى القرآن الذي تتصدع منه الجبال فقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلم لا تعذر القلوب إذا تصدعت والأجسام إذا تمايلت من شيء تتصدع منه الجبال؟ وليس ذلك إلا لأنك لم تجد في باطنك ما وجده غيرك، لأنه ذكر من القلوب ما هو كالحجارة أو أشد قسوة، أو لأنك ذكرت أسماء الله وتلوتَ كتاب الله على ظاهر قلب، ألم يبلغك أن السيد عمر مرَّ برجل يقرأ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } فصاح صيحة سمعت من أقطار المدينة، ثم غُشي عليه، فحُمل إلى منـزله، فمكث يومين لم يرجع كلاما وسمع الشافعي رضي الله عنه قارئاً يقرأ { هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ *وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } فغُشي عليه وحُمل إلى منزله. ومثل هذا لا يحتاج إلى شدة بيان، فقد قضى الوجل والتواجد بانعدام الكثير من السلف الصالح.
ألم يبلغك ما جاء في الآثار عن مجلس سيدنا داود عليه السلام، وما كان يقع فيه الجموع إذا أخذ في قراءة الزبور؟ وهل تظن أن بني إسرائيل كانت أرق أفئدة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وعلى كل حال فإني أظنك لا تذكر حصول الوجل الذي هو علّة في التواجد، بل تسلمه لبعض أفراد غير معنيين تسليماً علمياً ولا ذوقياً، كذلك وعلمت أنه من أخص لوازم الشعور فلم تخصصه بيدن الكفار الذين وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَام } فإنك جعلتهم أرق أفئدة من الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وهل جعلت شغف الإسرائيليين بالعجل أشد شغفاً من أهل محبة الله والله يقول ( والذين أمونا أشد حبا لله )
قوم تخلَّجَهُمْ زُهوٌّ بسيدهم *** والعبد يزهو على قدر مولاه.
فالإسرائيليون حركهم ما أُشربوه في قلوبهم من حب العجل، والصوفية حركهم ما أُشربوه في قلوبهم من حب الله، فوقع منهم ما أنكرته عليهم، ومن جهل شيئاً عاداه، أو لم يبلغك قوله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر في أمته أقواماً يدخلون الجنة أفئدتهم مثل أفئدة الطير ( ذكره في الجامع الصغير).
وعلى هذا فأين يوجد المشار إليهم إن لم يوجدوا في حيز الذاكرين؟ وفي الغالب أنك تحدث نفسك أنك منهم، فأقول: بالله عليك إلا ما أخبرتني أأنت من { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرا }؟ أم من الذين { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }؟ أم من الذين { لا تلهيهم أموالهم ولا أولادهم عن ذكر الله } ؟ أم من { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } ؟ أم من { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }أم من الذين { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أم من الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام: ( سبق المفرِّدون المهتزون بذكر الله ) أم من الذين قيل فيه مجنون؟ عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون ) أم ممن قيل فيهم مراؤون؟ عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقول المنافقون أنكم مراؤون ) عزمت عليك بالله إلا ما أخبرتني من أي فريق أنت ؟ أأنت من القائلين ؟ أم ممن قيل فيهم ؟ وبالجملة إن التواجد لا يستبعد وقوعه إلا غليظ الطبع جافي الأخلاق، كما يستبعد العِنِّين لذة الجماع، وإذا فاتتك المنة في نفسك فلا يفوتك التصديق بها في غيرك، قال الشيخ شعيب أبو مدين رضى الله عنه :
فقل للذي ينهى عن الوجد أهله *** إذا لم تذق معنى شراب الهوى دعنا
فإنا إذا ما طبنا وطابت نفوسنا *** وخامَرَنا خـمر الغـرام تـهتكنا
إلى آخر ما قرره فيما يتعلق بالوجد والتواجد، ومع هذا إنى لا أقول بأن الرقص والتواجد هما من لوازم التصوف، إنما هما من لوائح ما ينشأ عن الاستغراق في الذكر، ومَنْ شَكَّ فليجرِّب، فليس الخبر كالمعاينة، وهذا ما يتعلق بالتواجد، وأما الرقص فسيأتي الكلام عليه.
ثم أراك بعد ما حكمت على السواد الأعظم من أمة محمد بالتضليل، أخذت تحرض الأمراء على أفعال الخير في ظنك، وإنما أردت مشاركتهم لك في مصيبتك فقلت: "ينبغي للسلطان أو نائبه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها" ولا فائدة تلحقك وتلحق من عمل بإشارتك إلا الدخول تحت قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } فقد سعيت في تخريب بيوت الله، وعرَّضت ولاةَ المسلمين لسخط الله، وللخزي المترتب على من فعل مثل ذلك، ولكن رجال الحكومة أوسع منك نظراً وأشد منك محبة في الذكر والذاكرين، فلا زالت الأمراء في سائر أصقاع المسلمين قديماً وحديثاً في إكرام المنتسبين، والتعظيم لجنابهم على اختلاف طبقاتهم، وليس ذلك إلا بسبب من لازمهم من علماء الملة، جزى الله الفريقين خيرا، وأما من سواهم من العلماء المتهورين فلا يُـعبأُ بهم، ولا يُعتدُّ بِفَتْوتهن لأنهم على علمٍ مِن أن ما صدر منه إنما هو عن ضيقٍ في صدره، أو قصورٍ في عمله وما يدريك أن يكونوا من أمرت بإخراجهم من المساجد هم المقصودون من قوله عليه الصلاة والسلام، لما سئل عن الذين يقال لهم يوم القيامة: (يقول الله جل وعلا يوم القيامة: سيعلم أهل الجمع من أهل الكرم فقيل: من أهل الكرم يا رسول الله؟ قال: هم أهل الذكر في المساجد ) رواة الإمام احمد.
ثم أقول إذا إمرتهم أن يمنعوهم من المساجد فلم لم تقتصر على ذلك حتى أمرتهم أن يمنعوهم من الاجتماع ولو في بيوتهم ؟ والحالة أنهم لا يمنعون أهل الكتاب من الاجتماع في كنائسهم موافقة لما قرر الشارع من احترام الكتابيين من أهل الذمة، وهلاَّ جعلت طوائف الذاكرين على الأقل من ذلك القبيل ؟ ولكنك ترى الاجتماع على ذكر الله وتلاوة القران من أعظم المناكر، كما قررته فم غير ما موضع من، فلهذا أمرت الحكومة بتغيير هذا المنكر الشنيع حتى لا يعود أحد يجتمع على ذكر الله وتلاوة القرآن، والصلاة والسلام على النبي عليه السلام، أو مما هو من هذا القبيل { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
وبعد ما حكمت بتضليل ما هم عليه من الاجتماع للذكر ونحوه قلت : " ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطلهم " فيا لله العجب! متى جاء هذا الدين الذي نزل بتحريم الحضور مع الذاكرين؟ وهذا إذا كان مجرد حضور فيكون محرماً، وأما إذا تحركت شفتاه مع الذاكرين بقولنا لا إله إلا الله، فلم ندر ما حكم الله في ذلك، ولعلك تراه مرتداً، أو ما هو من هذا القبيل، اللهم إنك تعلم براءتي وبراء الإسلام والمسلمين ممن يعتقد هذا ونحوه.
وعلاوة على ما تحملته من الزور وارتكبته من الفجور قلت: " وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم " فأشركت أئمة الدين فيما ارتكبته، وادعيت أن الأئمة يقولون ما قلته، وحاشا لله.
وها أنا أنقل لك زيادة على ما نبهنا عليه من فتاوى علماء المذاهب الأربعة، أين توجد في هاته النازلة، وأن ذلك يتعذر نقله لكثرته، وعلى كل حال ذكرنا لك منها جملة ممن لا تخفى مكانته في الدين كجلال الدين السيوطي والشبرخيتي والفيروز آبادي وغيرهم، وإني الآن أذكر لك ما نقل عن المذاهب الأربعة في أنفسهم من احترامهم لأهل التصوف، زيادة على ما قررناه، وتبرئة للأئمة مما نسبته إليهم من أنهم ينكرون التصوف من أصله.
فأقول: مما علم من سيرة الشافعي بالضرورة أنه كان يجالس الصوفية ويلازمهم ويحترمهم، فقيل له في ذلك فقال: " استفدت من مشائخ الصوفية ما لم أستفده من غيرهم قولهم: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وقولهم: أشغل نفسك بالخير، فإن لم تشغلها بالخير شغلتك بضده " ، وقد كان يلازم شيبان الراعي وهو من خواص الصوفية رضي الله عنهم.
وهكذا كان الإمام أحمد ذات يوم مع الإمام الشافعي فسأل أحمد شيبان الراعي رضي الله عنهما عن رجل نسي في خمس صلوات لم يدر عينها، فقال شيبان: " هذا رجل غفل عن الله حقه أن يؤدب "، ثم سأله عن الزكاة، فأجابه بما يطول ذكره، فصار أحمد من ذلك الوقت يحترم أهل التصوف، حتى كان يبعث لأبي حمزة البغدادي الصوفي إذا نزلت به نازلة مما هو أدق وأرق فيقول: ما تقول في هذا يا صوفي؟؟ فيجيبه أبو حمزة مما علمه الله.
وهكذا ذكر الشيخ قطب الدين بن أيمن من أن الإمام أحمد كان يحث ولده على الاجتماع بالصوفية ويقول:إنهم بلغوا في الإخلاص مقاماً لم نبلغه أهـ من النصرة النبوية.
وأما ما شاع عن مالك مما يتعلق بالتصوف هو قوله: " من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق" وأما ما نقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه أنه رفع إليه سؤال مما يفعله الصوفية في الحضرة وما يتظاهرون به، هل هم صادقون في ذلك أم كاذبون؟ فأجاب: إن لله رجالاً يدخلون الجنة بدفوفهم ومزاميرهم، ثم قال الناقل: كان في بلادنا طائفة يرقصون للذكر حتى يسقطوا على الأرض، ولم ينكر عليهم الإمام، ويزورونه ويكرمهم، ويسألونه ويجيبهم، ومن ذلك أنه قال مرة شيخهم للإمام: ما تقول يا سيدي ـ رضي الله عنكم ـ في مسالة هي؛ أن أناساً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم دخلوا الكنيسة، واجتمعوا فيها حلقة، وتداولوا ذكر الشيطان بصوت عال من الصباح إلى المساء، افتنا فيهم؛ أكفارٌ هم، أم لا؟؟ فأجاب رضي الله عنه: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وهذا ليس بذنب. نقله قي تحفة أهل الفتوحات والأذواق .
وكل هذا محافظة من الإمام من أن يقول في دين الله برأيه، وأن يتهم أحداً من أهل القبلة ونحوه، فجزاهم الله خيرا، ما أوسعهم علماً وأعظمهم حلماً!! فإن كان كذلك فكيف ينسب للإمام تلك المقالة السخيفة، إذ زعموا أنه قال: " ينبغي للموضع الذي تحلقوا فيه للذكر بكيفيتهم المعهودة أن تحفر تربتها وتملأ برمل" ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مثل ذلك: (ما من قوم اجتمعوا في مجلس يذكرون فيه الله إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ومثل تلك المقالة حقها أن لا تصدر من غافل فضلاً عن أن تنسب لأحد من الأمة العظام، وهم لا يقولون بحفر كنيسة إذا عادت للإسلام مسجدا، ويرون أن عرق الحي ولعابه ومخاطه من الأشياء الطاهرة ولو كان خنزيرا ألم يبلغ هؤلاء الجهلة أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد بناءه كانت بقعته فيها مقابر المشركين، فنقل عظامها ثم بنى مسجده في البقعة المباركة، وهل ترى أنه أمر بحفرها، ونقل ترابها عليه الصلاة والسلام؟؟ فكلاّ، إنه ما جاءنا عنه مثل ذلك، وما سمعنا به وإن كان كذلك فكيف يقول الإمام بما نُسب إليه مع فقهه واطلاعه، وحاشا أن يصدر منه مثل ذلك.
وقد نص صاحب تحفة الفتاوى على أن تلك المقالة الشنيعة مدسوسة على الإمام أبي حنيفة، ثم قال: " وكيف يقول ذلك وقد أتاه فقير صوفي من أهل زمانه، فسأله عن مسجد مكث فيه جماعة من اليهود بنسائهم وصبيانهم ثلاثة أيام، فهل يغسل؟ أم يُهدَم؟ أم كيف؟؟ فقال الإمام: " إن لم تكن فيه نجاسة معينة محققة فهو طاهر" أو ليس في هذا بطلان ما نسب إليه؛ من أنه قال بحفر الأرض التي يذكرون عليها الفقراء، وقال الشيخ أبو الحسن بن منصور الجنيدي الحنفي: ليست هذه المقالة الشنيعة منا، ولا من إمام فروعنا، إنما هي صدرت من بعض الروافض لأنهم ينكرون وجود الصالحين. وكذلك الشيخ عبد الحكيم ردَّها ردّاً شنيعاً وقال: " من أفتى بها فهو من أهل الاعتزال" ثم قال: " إن الذي زوَّرها على الإمام هو بن شرحان الفزَّاني ـ دمَّره الله ـ حاشا الإمام من ذلك، فإنه كان يحب الذكر وأهله، ويحب التطريب والأنغام والإنشاد بالأصوات الحسان " اهـ نقل بعضه من النصرة النبوية.
وليس العجب ممن نسب هاته المقالة للإمام، إنما العجب ممن رسمها في ذهنه، وقررها حجة لديه {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور } قال عليه الصلاة والسلام: (رب حامل فقه ليس بفقيه ) اهـ ما يتعلق بالأئمة في شأن الذاكرين باختصار.
الحركة في الذكر (الرقص)
ومما يتعلق بالرقص الذي قلتم بتكفير من يستحله مطلقاً مستدلين بقول ابن وهبان، حيث قال: ومن يستحل الرقص قالوا بكفره، ولا سيما بالدُّف يلهو ويزمر، ثم قلت: وفي المعيار ما محصله عن جماعة من الشيوخ (إن من حبس زاوية أو غيرها على فقراء الوقت فحبسه باطل، لأنه على معصية) وهكذا شأنك مهما وجدت سيرة شنيعة أو حالة فظيعة إلا وألصقتها بجنب الذاكرين، تدليساً منك على القارئ، حتى لا يتبادر الفهم من مذهب التصوف إلا مجرد ما ذكرته من الرقص واللهو والتزمير ونحو ذلك، فالله يجازيك عن مذهب التصوف بما أنت أهل له.
ثم ارجع لحكم الرقص ـ وإن كان هو ليس من التصوف في شيء ـ فأقول: كل ما أصابك من تحريم ما حلل الله؛ إما لعدم اطلاعك على الأصول، أو لعد ورعك، ولم تعلم أن ما حُرم من الرقص هو ما قُيد باللهو، وكان على سبيل التخنث والتكسر الذي هو من طبع السفهاء، وتحريم هذا لا يحتاج لاستدلال، فالطباع الكريمة تستقبحه ضرورة، لأن الداعي فيه رعونة نفسانية، ونزعة شيطانية، ثم إنك إن تناولت هذا الحكم وأخذت تضعه على كل من رأيته، أو سمعتَ به رقصٌ، أو قُرِّرَ على الرقص، فينتج لك منه حكم ما تقِرُّ به عينُك.
ألا ترى أنه تقرر لديك أن مستحل الرقص قالوا بكفره؟ فكيف بك إذا بلغك أن الحبشة دخلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد على هيئتهم المعروفة من الرقص ونحوه، وهو عليه الصلاة والسلام ناظر لهم، وعائشة رضي الله عنها تتطلع عليهم من خلفه حتى فرغوا من أعمالهم، ولم ينكر عليهم عليه الصلاة والسلام فبالله عليك؛ أي شيء تفهمه من ذلك ؟؟ وأنت تقول: الرقص حرام مطلقاً، وهل تراه عليه الصلاة والسلام يقرر على الحرام؟؟ وهلاَّ تجد فرقاً بين رقص السفهاء المتخنثين وبين رقص الحبشة؟ وإذا لم يبلغك هذا، أو بلغك ولم تستنتج منه حكم الإباحة لقصور الإدراك، فأي شيء تقوله في رقص السيد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ـ إن صح ذلك ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث لما قال له عليه الصلاة والسلام: (أشبهت خَلْقي وخُلُقي ) فقام يرقص بحضرته عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه ولم ينهه، وهلاَّ يفيدك هذا إباحةً في الحكم؟؟ وهل يصح التطبيق بين رقص السيد جعفر وبين الرقص المشار إليه في قصيدة ابن وهبان؟؟ ألم تعلم أن التخصيص يقيد الإطلاق وهل ترى أن الصوفية يقولون بتحليل الرقص مطلقاً؟؟ كما قلت أنت بتحريمه مطلقاً؟ كلا، وإنما هم أوسع منك نظراً، لا يقولون في دين الله بغير علم، ولا يتناولون النصوص بغير فهم، ولكن الأغبياء تظن أن من جمع شيئاً من النصوص وأضاف إليها نصيباً من قلة الحياء يُعَدُّ عالماً!!
أو لم تعلم يا هذا أن محرِّمَ الحلالَ كمستحِلّ الحرام؟؟ كما هو في الحديث، وقد فضحك الله بما جمعته فكفاك مقتاً أن لا تميز الحلال من الحرام، وهل تظن أن العلم عبارة عمن يحمله { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } كلا إنما العلم هو عبارة عن نور يحدث في الملَكة، فيبصر به المعلومات كما يبصر بالبصر المحسوسان، لأن العلم صفة إدراك لا مجمع أوراق، قال تعالى لنبيه {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وعلى هذا يتعين على العالم أن لا يحكم على الرقص قبل أن يعلم ما هو الداعي فيه، لئلا يحرم ما حلل الله، ولهذا قال الشيخ مصطفى بن إسماعيل حبش: "وإن كان ظاهر الوهبانية تحريم الرقص مطلقاً فالمعتمد ما ذكره ابن كمال باشا ونقله الصفوة ونصه:
ما في التواجد إن حققت من حرج *** ولا التمايل إن أخلصت من باس
فقمت تسعى على رجل وحقـ لمن *** دعاه مولاه أن يسعى على الرأس
ثم أقول: إن ما قررناه في هاته النازلة ليس هو مجرد انتصار لجانب الرقص، كلا، وإنما هو إظهار الحكم، وانتصار للأمة المحمدية التي قضيت بالكفر على الجل منها، لأن الغالب فيها يعتقد جواز الاهتزاز، وأما المنتسبون يعتقدون مطلوبيته لقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب) نقله صاحب النصرة النبوية.
ومثله أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام {سيروا سبق المفرِّدون المهتزّون بذكر الله } ذكره في الجامع الصغير، وما يدريك أن يكون رقص الصّوفية بالذكر هو ذاك الاهتزاز المخبَر عنه في الحديث لأنّه صريح في حركة الذّاكر، ولهذه المناسبة رأى بعض الصّوفية الاهتزاز عند ذكر الله {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه } وبالطّبع كل حبيب يرتعد عند ذكر حبيبه، وإني على علم من أن الحجّة لا تقوم عندك بما ذكرناه لأنك لم تذق طعم المحبّة، ولو دبت في مفاصلك لأشتهيت أن تسمع ذكر الله ولو من كافر، ثم تقول كما قال السلطان العاشقين:
ولي ذكرها يحلوا على كل صيغة *** وإن مزجـوه عذّلي بخـصام
وحينئذ تعرف معنى الوجل وتنظر هل تملك نفسك أم لا؟
ألم يبلغك في كتاب الله خبر النسوة الّلاتي قطعن أيديهن لما خرج علين يوسف عليه السّلام وقلن حاش لله ما هذا بشراً، فإن كان مثل هذا يقع بمشاهدة جمال مخلوق، فلِمَ لا يقع ما يقرب منه عند مشاهدته جمال خالقه، إذا ظهر بسلطان كبريائه.
ثم إني رأيتك لا تبالي بتضليل المؤمن، ولا بتقسيقه ولا بتبديعه، بل ولا بتكفيره، فكل ذلك أهون عندك من شربة ماء، ولم تدر ما حرمة المؤمن عند الله، ولا عند رسول الله. ألم تعلم أنك إذا قلت بكفر مؤمن فقد حكمت بإباحة ماله ودمه، وبخلوده في النار، وهل ترى هذا مما يرضي الله ورسوله ؟ أو ليس في علمك أن الخضر عليه السلام استهون قتل النفس على تكفير مؤمن ؟ قال تعالى فيما أخبر عنه : {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} ألم تعلم أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة ؟وأن هدمها عنده أهون من تكفير المؤمن المطن بكلمة الإخلاص، المردد لها في سائر الأنفاس ؟ وإني أحذرك الله أن تتقيه في أهل لا إله إلا الله، ولا تقل فيهم برأيك، فإنهم أقوام خلقهم الله لذكره، واختارهم في سابق علمه، فعلى الأقل أن تراقبهم لله، وتحترمهم في الله، والإضافة تعنيك، والله يلهمك ويهديك، انتهى ما يتعلق بالرقص.
ولما خشيت أن القارئ لا يفهم من هم أهل البدع المشار إليهم لأن الناس تتفاوت في الفهم، فوضحت ذلك بقولك: " قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي: مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلاله فما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " , .
فأقول فما أجرأك على أهل نسبة الله وما أحد لسانك في أكل لحوم أهل الله... والله لئن تهدم الكعبة أولى لك من أن تفوه بمثل هاتة المقالة، عرَّفتَ التصوف بأنه بطالة وجهالة، والله لقد عرَّف التصوفَ علماءُ الدين وحكماءُ المسلمين بخلاف ما عرَّفتـَه فقالوا: إن التصوف عبارة عن تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية، التصوف؛ الخروج من كل خُلُقٍ دنيٍّ والدخول في كل وصف سنيٍّ ، وقال أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه: التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به، وهذا من بعض ما عرَّفوا به التصوف.
أما قولكم: "التصوف بطالة" فمردود عليكم بما قرروه بأن الصوفي يحاسب نفسه على الأنفاس عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا ) وهل ترى هذا من البطالة ؟
وأما قولكم ( مذهب التصوف جهالة ) فهذا مردود عليكم أيضاً بما أبدوه من العلوم التي تعجز عنها فحول أكابر العلماء فضلا عمن هو على شاكلتكم ومؤلفاتهم أعدل شاهد، ألم تعلم أن التصوف ذكره بعض الأكابر من فروض العين، كالإمام الغزالي والشيخ السنوسي صاحب العقائد فقال : " يجب السعي إلى من اشتهر به ولو بغير رضاء والديه"، وقال الجنيد رضي الله عنه : " لو أن تحت أديم السماء اشرف من العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعينا إليه "، وقال الشيخ الصقلي في كتابه المسمى بنور القلوب: " كل من صدق بهذا العلم فهو من الخاصة، ومن فهمه فهو من خاصة الخاصة، وكل من عبر عنه فهو النجم الذي لا يدرك، والبحر الذي لا ينزف "..
قلت: يشهدك الله فهل تفهم شيئاً من مكنون علمهم ودرر لغزهم ؟ كلا فما أنت إلا من وراء حجاب من حديد، ولهذا أصبح عندكم جهالة، أما قولكم "إنه ضلالة" فالله أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بمن اهتدى.
ثم أقول: إنى لا أنكر وجود النقص في المعترضين في كل عصر من أهل السنة على بعض أفراد المتصوفة لاحتمال وجود النقص في المعترض أو المعترض عليه، وأما إنكار مذهب التصوف من أصله فلم تتظاهر به أهل السنة، إنما تظاهرت به بعض الفرق التي لا أهمية لها بالنظر للسواد الأعظم ولهذا لم ترُج معتقداتهم، وأي شيء اخترته في تلك المذاهب المندرسة حتى قمت تنتصر لمذهبهم وتحيي من معتقداتهم ما اندرس؟ فأخذت تبث في قلوب أبناء الوطن سوء الظن بالذكر والذاكرين وفي ظني أن مجلسك لا يخلو من نحو ما كتبته في هذا الشأن، وإن كان كذلك فالله يعصم من حضرك كيلا يشاركك إلا فيما يعود عليه بالنفع ويترك ما وراء ذلك .
أما قولكم : "فما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" فمن ذا الذي بلغك عن الصوفية أنهم يقولون: إن في كتاب الله من العلوم ما لا يتوصل إليه العموم، قال سلطان العاشقين :
فثم وراء النقل علم يدق عن *** مدارك غايات العقول السليمة
قلت: ولعل المتجمد على الظواهر لا يرى من كتاب الله إلا ما وصل إليه من جهة بضاعته القليلة وقريحته الكليلة، وينكر ما وراء ذلك، ولم يعلم إن ما عرفه من ظاهر الكتاب إلا كمن عرف القشر من اللباب، وما وراء ذلك ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهل يُعتقَد أن ما وصل إليه فهمه هو ما كانت عليه بواطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الله، كلا وليفتش نفسه إن كان ما أكـَّنه فؤاده أعز مما تحدث به فهو على بينه من ربه، وإلا ما ضاع له أكثر مما حصل عليه، قال عليه الصلاة والسلام (إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا أظهره أنكره أهل الاغترار بالله ) وقال: (علم الباطن سر من أسرار الله وحكم من حكمه يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ) وقال أيضا: ( العلم علمان فعلم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم) فدل هذا على أن العلوم الخفية غير العلوم المتعاطية، قال أبو هريرة في ما شاع عنه: (حفظت عن رسول الله وعاءين من العلم، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم ) نقله عمر بن عبد البر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ( لو قلت لكم ما أعلم تفسير قول الله تعالى (يتنزل الأمر بينهن) لرجمتموني أو لقلتم أني كافر ) ذكره الشعراني في اليواقيت والجواهر ومما ينسب لزين العابدين رضي الله عنه.
يا رُبَّ جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي *** يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: ( لو حدثتكم بكل ما أعلم لقلتم: رحم الله قاتل سلمان ) وقال الإمام علي كرم الله وجهه: "إن بجانبي علماً لو قلته لأزلتم هذا عن هذه، وأشار برأسه عن جثته " فدل هذا على أن في الزوايا خبايا .
وفي قولكم "فما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" فكأنكم تشيرون أن ذاك هو الذي فهمتموه من كتاب الله، ألم تعلم أن للقرآن ظاهراً وباطناً وحداً ومطلعاً كما هو الحديث المشهور عن رسول الله نقله في تاج التفاسير، وحتى لو قلنا: أنك على خبرة من ظواهره فهل علمت شيئا من باطنه ؟ وأين أنت من حده ومطلعه؟ ذلك حظ العارفين في كتاب الله وسنة رسول الله، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ( لن تتفقه كل الفقه حتى ترى للقران وجوهاً كثيرة ) وقيل إنه حديث عن شداد بن أوس نقله ابن عبد البر، ولكنك ترى الإسلام هو مجرد ما أنت عليه ومن هو على شاكلتك، وإن كان كذلك فإنك سويت بين سريرتك وسريرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وسريرة الأنبياء، وهذا من الجهل في أقصى غاية، ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لن تخلو الارض من أربعين رجلا على قلب خليل الرحمن ) وهل أنت من هاته العصابة المشار إليها في الحديث؟ فإن كنت كذلك فلا يبعد أن يكون لك أوفر نصيب من الاطلاع على مكنونات الدين وإلا فسلم العلم لأربابه، لأن الأثر صريح في ذلك لمن تتبعه بأن في الأمة خصوصاً أطلعهم الله سبحانه وتعالى على أسرار الكتاب والسنة، ومهما صح ذلك فهل توجد العصابة المشار إليها في غير الذاكرين الموسومين بصفة الانقطاع لله عز وجل؟ {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } .
التواجد والحركة في الذكر
وفي مثلهم قال ذو النون المصري رضي الله عنه: " اجتمعت بجارية في بعض السياحات فقلت لها: من أين أقبلت؟ فقالت: من عند أناس {تتجافى جنوبها عن المضاجع} فقلت لها: والى أين تريدين؟ فقالت: إلى{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} ، ولكنك ظننت أن التصوف عبارة عن جماعة من الناس يجتمعون للرقص ونشد الأشعار لا غير، ومثلك كمن قصد راعي الغنم بالليل يطلبه أن يتصدق عليه بماشية فأذن له في ذلك فذهب ليأخذ ماشيته فوقعت يده على كلب الحراسة، الذي هو عادة يكون مختلطاً بالمواشي، فلما أصبح الصباح وجد بيده كلباً ، فأخذ يتهم راعي المواشي ويلقبه براعي الكلاب، وهذا ما يقتضيه لسان ما جمعتموه، لأنكم أقصرتم التصوف على الرقص وما في معناه، ولهذا قلت: وفي المعيار( أن من البدع المنكرة المحرمة الرقص بالذكر) ثم أتيتم بقول الطرطوشي الذي قضى على خيار الأمة المحمدية بالبطالة والجهالة والضلالة، ولم يكفكم هذا حتى وضعتم عليهم تشبيهاً بليغاً أخرجهم من دائرة الإسلام والمسلمين، وهو قولكم نقلا عمن لا يتقي الله مثلكم، أو لم يقصد بذلك إلا جماعة بعينها " ( وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، فإنهم لما عبدوا العجل صاروا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل) وفي ظني أنكم تجاوزتم الحد فيما ارتكبتموه، فلا مسلك وخيم في أعراض أهل الله إلا وسلكتموه، ثم أقول: إن كان تشبيهكم هذا للفقراء بعبّاد العجل فيه إصابة من حيث الهيئة الموجودة في الفريقين، وقد صادفتم فيما زعمتم، فهل صادفتم وجه الشبه فيما بين المعبودين المتواجَد من أجلهما؟ بين عجل الإسرائيلي وإله الذاكرين؟ فتعالى الله عما يقول الظالمون، وحقي أن لا نشتغل بالكلام على هاته العبارة الواهية، لأنها زُيِّـفتْ ورُدَّتْ من عدة وجوه، وقد أطال الكلام عليه غير واحد، وذكروا إنها مدسوسة على أبى حنيفة، وحاشاه أن يقول مثل ذلك.
ثم أتكلم في التواجد الذي ذكرتم تحريمه، وإن كان ليس هو المقصود من طريق القوم، إنما هو نتيجة الوجل الذي عدمتموه قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } فها هو تعالى أخبرك عما يلحق الذاكر من الوجل، وجعله من أخص صفة المؤمنين، ألا ترى أنه تعالى أثنى على أهل الكتاب بما حصل لهم من الوجد، فذكر أحد لوازمه بأبلغ ما يكون من المدح فقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أوليس في هذا ما يدل على وقوع حركة في باطن المؤمن من أجل ذكر الله واستماع كلامه؟ أو لم يقل تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ثم بيَّن معنى القرآن الذي تتصدع منه الجبال فقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلم لا تعذر القلوب إذا تصدعت والأجسام إذا تمايلت من شيء تتصدع منه الجبال؟ وليس ذلك إلا لأنك لم تجد في باطنك ما وجده غيرك، لأنه ذكر من القلوب ما هو كالحجارة أو أشد قسوة، أو لأنك ذكرت أسماء الله وتلوتَ كتاب الله على ظاهر قلب، ألم يبلغك أن السيد عمر مرَّ برجل يقرأ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } فصاح صيحة سمعت من أقطار المدينة، ثم غُشي عليه، فحُمل إلى منـزله، فمكث يومين لم يرجع كلاما وسمع الشافعي رضي الله عنه قارئاً يقرأ { هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ *وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } فغُشي عليه وحُمل إلى منزله. ومثل هذا لا يحتاج إلى شدة بيان، فقد قضى الوجل والتواجد بانعدام الكثير من السلف الصالح.
ألم يبلغك ما جاء في الآثار عن مجلس سيدنا داود عليه السلام، وما كان يقع فيه الجموع إذا أخذ في قراءة الزبور؟ وهل تظن أن بني إسرائيل كانت أرق أفئدة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وعلى كل حال فإني أظنك لا تذكر حصول الوجل الذي هو علّة في التواجد، بل تسلمه لبعض أفراد غير معنيين تسليماً علمياً ولا ذوقياً، كذلك وعلمت أنه من أخص لوازم الشعور فلم تخصصه بيدن الكفار الذين وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَام } فإنك جعلتهم أرق أفئدة من الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وهل جعلت شغف الإسرائيليين بالعجل أشد شغفاً من أهل محبة الله والله يقول ( والذين أمونا أشد حبا لله )
قوم تخلَّجَهُمْ زُهوٌّ بسيدهم *** والعبد يزهو على قدر مولاه.
فالإسرائيليون حركهم ما أُشربوه في قلوبهم من حب العجل، والصوفية حركهم ما أُشربوه في قلوبهم من حب الله، فوقع منهم ما أنكرته عليهم، ومن جهل شيئاً عاداه، أو لم يبلغك قوله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر في أمته أقواماً يدخلون الجنة أفئدتهم مثل أفئدة الطير ( ذكره في الجامع الصغير).
وعلى هذا فأين يوجد المشار إليهم إن لم يوجدوا في حيز الذاكرين؟ وفي الغالب أنك تحدث نفسك أنك منهم، فأقول: بالله عليك إلا ما أخبرتني أأنت من { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرا }؟ أم من الذين { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }؟ أم من الذين { لا تلهيهم أموالهم ولا أولادهم عن ذكر الله } ؟ أم من { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } ؟ أم من { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }أم من الذين { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أم من الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام: ( سبق المفرِّدون المهتزون بذكر الله ) أم من الذين قيل فيه مجنون؟ عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون ) أم ممن قيل فيهم مراؤون؟ عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقول المنافقون أنكم مراؤون ) عزمت عليك بالله إلا ما أخبرتني من أي فريق أنت ؟ أأنت من القائلين ؟ أم ممن قيل فيهم ؟ وبالجملة إن التواجد لا يستبعد وقوعه إلا غليظ الطبع جافي الأخلاق، كما يستبعد العِنِّين لذة الجماع، وإذا فاتتك المنة في نفسك فلا يفوتك التصديق بها في غيرك، قال الشيخ شعيب أبو مدين رضى الله عنه :
فقل للذي ينهى عن الوجد أهله *** إذا لم تذق معنى شراب الهوى دعنا
فإنا إذا ما طبنا وطابت نفوسنا *** وخامَرَنا خـمر الغـرام تـهتكنا
إلى آخر ما قرره فيما يتعلق بالوجد والتواجد، ومع هذا إنى لا أقول بأن الرقص والتواجد هما من لوازم التصوف، إنما هما من لوائح ما ينشأ عن الاستغراق في الذكر، ومَنْ شَكَّ فليجرِّب، فليس الخبر كالمعاينة، وهذا ما يتعلق بالتواجد، وأما الرقص فسيأتي الكلام عليه.
ثم أراك بعد ما حكمت على السواد الأعظم من أمة محمد بالتضليل، أخذت تحرض الأمراء على أفعال الخير في ظنك، وإنما أردت مشاركتهم لك في مصيبتك فقلت: "ينبغي للسلطان أو نائبه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها" ولا فائدة تلحقك وتلحق من عمل بإشارتك إلا الدخول تحت قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } فقد سعيت في تخريب بيوت الله، وعرَّضت ولاةَ المسلمين لسخط الله، وللخزي المترتب على من فعل مثل ذلك، ولكن رجال الحكومة أوسع منك نظراً وأشد منك محبة في الذكر والذاكرين، فلا زالت الأمراء في سائر أصقاع المسلمين قديماً وحديثاً في إكرام المنتسبين، والتعظيم لجنابهم على اختلاف طبقاتهم، وليس ذلك إلا بسبب من لازمهم من علماء الملة، جزى الله الفريقين خيرا، وأما من سواهم من العلماء المتهورين فلا يُـعبأُ بهم، ولا يُعتدُّ بِفَتْوتهن لأنهم على علمٍ مِن أن ما صدر منه إنما هو عن ضيقٍ في صدره، أو قصورٍ في عمله وما يدريك أن يكونوا من أمرت بإخراجهم من المساجد هم المقصودون من قوله عليه الصلاة والسلام، لما سئل عن الذين يقال لهم يوم القيامة: (يقول الله جل وعلا يوم القيامة: سيعلم أهل الجمع من أهل الكرم فقيل: من أهل الكرم يا رسول الله؟ قال: هم أهل الذكر في المساجد ) رواة الإمام احمد.
ثم أقول إذا إمرتهم أن يمنعوهم من المساجد فلم لم تقتصر على ذلك حتى أمرتهم أن يمنعوهم من الاجتماع ولو في بيوتهم ؟ والحالة أنهم لا يمنعون أهل الكتاب من الاجتماع في كنائسهم موافقة لما قرر الشارع من احترام الكتابيين من أهل الذمة، وهلاَّ جعلت طوائف الذاكرين على الأقل من ذلك القبيل ؟ ولكنك ترى الاجتماع على ذكر الله وتلاوة القران من أعظم المناكر، كما قررته فم غير ما موضع من، فلهذا أمرت الحكومة بتغيير هذا المنكر الشنيع حتى لا يعود أحد يجتمع على ذكر الله وتلاوة القرآن، والصلاة والسلام على النبي عليه السلام، أو مما هو من هذا القبيل { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
وبعد ما حكمت بتضليل ما هم عليه من الاجتماع للذكر ونحوه قلت : " ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا يعينهم على باطلهم " فيا لله العجب! متى جاء هذا الدين الذي نزل بتحريم الحضور مع الذاكرين؟ وهذا إذا كان مجرد حضور فيكون محرماً، وأما إذا تحركت شفتاه مع الذاكرين بقولنا لا إله إلا الله، فلم ندر ما حكم الله في ذلك، ولعلك تراه مرتداً، أو ما هو من هذا القبيل، اللهم إنك تعلم براءتي وبراء الإسلام والمسلمين ممن يعتقد هذا ونحوه.
وعلاوة على ما تحملته من الزور وارتكبته من الفجور قلت: " وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم " فأشركت أئمة الدين فيما ارتكبته، وادعيت أن الأئمة يقولون ما قلته، وحاشا لله.
وها أنا أنقل لك زيادة على ما نبهنا عليه من فتاوى علماء المذاهب الأربعة، أين توجد في هاته النازلة، وأن ذلك يتعذر نقله لكثرته، وعلى كل حال ذكرنا لك منها جملة ممن لا تخفى مكانته في الدين كجلال الدين السيوطي والشبرخيتي والفيروز آبادي وغيرهم، وإني الآن أذكر لك ما نقل عن المذاهب الأربعة في أنفسهم من احترامهم لأهل التصوف، زيادة على ما قررناه، وتبرئة للأئمة مما نسبته إليهم من أنهم ينكرون التصوف من أصله.
فأقول: مما علم من سيرة الشافعي بالضرورة أنه كان يجالس الصوفية ويلازمهم ويحترمهم، فقيل له في ذلك فقال: " استفدت من مشائخ الصوفية ما لم أستفده من غيرهم قولهم: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وقولهم: أشغل نفسك بالخير، فإن لم تشغلها بالخير شغلتك بضده " ، وقد كان يلازم شيبان الراعي وهو من خواص الصوفية رضي الله عنهم.
وهكذا كان الإمام أحمد ذات يوم مع الإمام الشافعي فسأل أحمد شيبان الراعي رضي الله عنهما عن رجل نسي في خمس صلوات لم يدر عينها، فقال شيبان: " هذا رجل غفل عن الله حقه أن يؤدب "، ثم سأله عن الزكاة، فأجابه بما يطول ذكره، فصار أحمد من ذلك الوقت يحترم أهل التصوف، حتى كان يبعث لأبي حمزة البغدادي الصوفي إذا نزلت به نازلة مما هو أدق وأرق فيقول: ما تقول في هذا يا صوفي؟؟ فيجيبه أبو حمزة مما علمه الله.
وهكذا ذكر الشيخ قطب الدين بن أيمن من أن الإمام أحمد كان يحث ولده على الاجتماع بالصوفية ويقول:إنهم بلغوا في الإخلاص مقاماً لم نبلغه أهـ من النصرة النبوية.
وأما ما شاع عن مالك مما يتعلق بالتصوف هو قوله: " من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق" وأما ما نقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه أنه رفع إليه سؤال مما يفعله الصوفية في الحضرة وما يتظاهرون به، هل هم صادقون في ذلك أم كاذبون؟ فأجاب: إن لله رجالاً يدخلون الجنة بدفوفهم ومزاميرهم، ثم قال الناقل: كان في بلادنا طائفة يرقصون للذكر حتى يسقطوا على الأرض، ولم ينكر عليهم الإمام، ويزورونه ويكرمهم، ويسألونه ويجيبهم، ومن ذلك أنه قال مرة شيخهم للإمام: ما تقول يا سيدي ـ رضي الله عنكم ـ في مسالة هي؛ أن أناساً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم دخلوا الكنيسة، واجتمعوا فيها حلقة، وتداولوا ذكر الشيطان بصوت عال من الصباح إلى المساء، افتنا فيهم؛ أكفارٌ هم، أم لا؟؟ فأجاب رضي الله عنه: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وهذا ليس بذنب. نقله قي تحفة أهل الفتوحات والأذواق .
وكل هذا محافظة من الإمام من أن يقول في دين الله برأيه، وأن يتهم أحداً من أهل القبلة ونحوه، فجزاهم الله خيرا، ما أوسعهم علماً وأعظمهم حلماً!! فإن كان كذلك فكيف ينسب للإمام تلك المقالة السخيفة، إذ زعموا أنه قال: " ينبغي للموضع الذي تحلقوا فيه للذكر بكيفيتهم المعهودة أن تحفر تربتها وتملأ برمل" ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مثل ذلك: (ما من قوم اجتمعوا في مجلس يذكرون فيه الله إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ومثل تلك المقالة حقها أن لا تصدر من غافل فضلاً عن أن تنسب لأحد من الأمة العظام، وهم لا يقولون بحفر كنيسة إذا عادت للإسلام مسجدا، ويرون أن عرق الحي ولعابه ومخاطه من الأشياء الطاهرة ولو كان خنزيرا ألم يبلغ هؤلاء الجهلة أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد بناءه كانت بقعته فيها مقابر المشركين، فنقل عظامها ثم بنى مسجده في البقعة المباركة، وهل ترى أنه أمر بحفرها، ونقل ترابها عليه الصلاة والسلام؟؟ فكلاّ، إنه ما جاءنا عنه مثل ذلك، وما سمعنا به وإن كان كذلك فكيف يقول الإمام بما نُسب إليه مع فقهه واطلاعه، وحاشا أن يصدر منه مثل ذلك.
وقد نص صاحب تحفة الفتاوى على أن تلك المقالة الشنيعة مدسوسة على الإمام أبي حنيفة، ثم قال: " وكيف يقول ذلك وقد أتاه فقير صوفي من أهل زمانه، فسأله عن مسجد مكث فيه جماعة من اليهود بنسائهم وصبيانهم ثلاثة أيام، فهل يغسل؟ أم يُهدَم؟ أم كيف؟؟ فقال الإمام: " إن لم تكن فيه نجاسة معينة محققة فهو طاهر" أو ليس في هذا بطلان ما نسب إليه؛ من أنه قال بحفر الأرض التي يذكرون عليها الفقراء، وقال الشيخ أبو الحسن بن منصور الجنيدي الحنفي: ليست هذه المقالة الشنيعة منا، ولا من إمام فروعنا، إنما هي صدرت من بعض الروافض لأنهم ينكرون وجود الصالحين. وكذلك الشيخ عبد الحكيم ردَّها ردّاً شنيعاً وقال: " من أفتى بها فهو من أهل الاعتزال" ثم قال: " إن الذي زوَّرها على الإمام هو بن شرحان الفزَّاني ـ دمَّره الله ـ حاشا الإمام من ذلك، فإنه كان يحب الذكر وأهله، ويحب التطريب والأنغام والإنشاد بالأصوات الحسان " اهـ نقل بعضه من النصرة النبوية.
وليس العجب ممن نسب هاته المقالة للإمام، إنما العجب ممن رسمها في ذهنه، وقررها حجة لديه {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور } قال عليه الصلاة والسلام: (رب حامل فقه ليس بفقيه ) اهـ ما يتعلق بالأئمة في شأن الذاكرين باختصار.
الحركة في الذكر (الرقص)
ومما يتعلق بالرقص الذي قلتم بتكفير من يستحله مطلقاً مستدلين بقول ابن وهبان، حيث قال: ومن يستحل الرقص قالوا بكفره، ولا سيما بالدُّف يلهو ويزمر، ثم قلت: وفي المعيار ما محصله عن جماعة من الشيوخ (إن من حبس زاوية أو غيرها على فقراء الوقت فحبسه باطل، لأنه على معصية) وهكذا شأنك مهما وجدت سيرة شنيعة أو حالة فظيعة إلا وألصقتها بجنب الذاكرين، تدليساً منك على القارئ، حتى لا يتبادر الفهم من مذهب التصوف إلا مجرد ما ذكرته من الرقص واللهو والتزمير ونحو ذلك، فالله يجازيك عن مذهب التصوف بما أنت أهل له.
ثم ارجع لحكم الرقص ـ وإن كان هو ليس من التصوف في شيء ـ فأقول: كل ما أصابك من تحريم ما حلل الله؛ إما لعدم اطلاعك على الأصول، أو لعد ورعك، ولم تعلم أن ما حُرم من الرقص هو ما قُيد باللهو، وكان على سبيل التخنث والتكسر الذي هو من طبع السفهاء، وتحريم هذا لا يحتاج لاستدلال، فالطباع الكريمة تستقبحه ضرورة، لأن الداعي فيه رعونة نفسانية، ونزعة شيطانية، ثم إنك إن تناولت هذا الحكم وأخذت تضعه على كل من رأيته، أو سمعتَ به رقصٌ، أو قُرِّرَ على الرقص، فينتج لك منه حكم ما تقِرُّ به عينُك.
ألا ترى أنه تقرر لديك أن مستحل الرقص قالوا بكفره؟ فكيف بك إذا بلغك أن الحبشة دخلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد على هيئتهم المعروفة من الرقص ونحوه، وهو عليه الصلاة والسلام ناظر لهم، وعائشة رضي الله عنها تتطلع عليهم من خلفه حتى فرغوا من أعمالهم، ولم ينكر عليهم عليه الصلاة والسلام فبالله عليك؛ أي شيء تفهمه من ذلك ؟؟ وأنت تقول: الرقص حرام مطلقاً، وهل تراه عليه الصلاة والسلام يقرر على الحرام؟؟ وهلاَّ تجد فرقاً بين رقص السفهاء المتخنثين وبين رقص الحبشة؟ وإذا لم يبلغك هذا، أو بلغك ولم تستنتج منه حكم الإباحة لقصور الإدراك، فأي شيء تقوله في رقص السيد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ـ إن صح ذلك ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث لما قال له عليه الصلاة والسلام: (أشبهت خَلْقي وخُلُقي ) فقام يرقص بحضرته عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه ولم ينهه، وهلاَّ يفيدك هذا إباحةً في الحكم؟؟ وهل يصح التطبيق بين رقص السيد جعفر وبين الرقص المشار إليه في قصيدة ابن وهبان؟؟ ألم تعلم أن التخصيص يقيد الإطلاق وهل ترى أن الصوفية يقولون بتحليل الرقص مطلقاً؟؟ كما قلت أنت بتحريمه مطلقاً؟ كلا، وإنما هم أوسع منك نظراً، لا يقولون في دين الله بغير علم، ولا يتناولون النصوص بغير فهم، ولكن الأغبياء تظن أن من جمع شيئاً من النصوص وأضاف إليها نصيباً من قلة الحياء يُعَدُّ عالماً!!
أو لم تعلم يا هذا أن محرِّمَ الحلالَ كمستحِلّ الحرام؟؟ كما هو في الحديث، وقد فضحك الله بما جمعته فكفاك مقتاً أن لا تميز الحلال من الحرام، وهل تظن أن العلم عبارة عمن يحمله { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } كلا إنما العلم هو عبارة عن نور يحدث في الملَكة، فيبصر به المعلومات كما يبصر بالبصر المحسوسان، لأن العلم صفة إدراك لا مجمع أوراق، قال تعالى لنبيه {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وعلى هذا يتعين على العالم أن لا يحكم على الرقص قبل أن يعلم ما هو الداعي فيه، لئلا يحرم ما حلل الله، ولهذا قال الشيخ مصطفى بن إسماعيل حبش: "وإن كان ظاهر الوهبانية تحريم الرقص مطلقاً فالمعتمد ما ذكره ابن كمال باشا ونقله الصفوة ونصه:
ما في التواجد إن حققت من حرج *** ولا التمايل إن أخلصت من باس
فقمت تسعى على رجل وحقـ لمن *** دعاه مولاه أن يسعى على الرأس
ثم أقول: إن ما قررناه في هاته النازلة ليس هو مجرد انتصار لجانب الرقص، كلا، وإنما هو إظهار الحكم، وانتصار للأمة المحمدية التي قضيت بالكفر على الجل منها، لأن الغالب فيها يعتقد جواز الاهتزاز، وأما المنتسبون يعتقدون مطلوبيته لقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب) نقله صاحب النصرة النبوية.
ومثله أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام {سيروا سبق المفرِّدون المهتزّون بذكر الله } ذكره في الجامع الصغير، وما يدريك أن يكون رقص الصّوفية بالذكر هو ذاك الاهتزاز المخبَر عنه في الحديث لأنّه صريح في حركة الذّاكر، ولهذه المناسبة رأى بعض الصّوفية الاهتزاز عند ذكر الله {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه } وبالطّبع كل حبيب يرتعد عند ذكر حبيبه، وإني على علم من أن الحجّة لا تقوم عندك بما ذكرناه لأنك لم تذق طعم المحبّة، ولو دبت في مفاصلك لأشتهيت أن تسمع ذكر الله ولو من كافر، ثم تقول كما قال السلطان العاشقين:
ولي ذكرها يحلوا على كل صيغة *** وإن مزجـوه عذّلي بخـصام
وحينئذ تعرف معنى الوجل وتنظر هل تملك نفسك أم لا؟
ألم يبلغك في كتاب الله خبر النسوة الّلاتي قطعن أيديهن لما خرج علين يوسف عليه السّلام وقلن حاش لله ما هذا بشراً، فإن كان مثل هذا يقع بمشاهدة جمال مخلوق، فلِمَ لا يقع ما يقرب منه عند مشاهدته جمال خالقه، إذا ظهر بسلطان كبريائه.
ثم إني رأيتك لا تبالي بتضليل المؤمن، ولا بتقسيقه ولا بتبديعه، بل ولا بتكفيره، فكل ذلك أهون عندك من شربة ماء، ولم تدر ما حرمة المؤمن عند الله، ولا عند رسول الله. ألم تعلم أنك إذا قلت بكفر مؤمن فقد حكمت بإباحة ماله ودمه، وبخلوده في النار، وهل ترى هذا مما يرضي الله ورسوله ؟ أو ليس في علمك أن الخضر عليه السلام استهون قتل النفس على تكفير مؤمن ؟ قال تعالى فيما أخبر عنه : {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} ألم تعلم أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة ؟وأن هدمها عنده أهون من تكفير المؤمن المطن بكلمة الإخلاص، المردد لها في سائر الأنفاس ؟ وإني أحذرك الله أن تتقيه في أهل لا إله إلا الله، ولا تقل فيهم برأيك، فإنهم أقوام خلقهم الله لذكره، واختارهم في سابق علمه، فعلى الأقل أن تراقبهم لله، وتحترمهم في الله، والإضافة تعنيك، والله يلهمك ويهديك، انتهى ما يتعلق بالرقص.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin