01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي د. محمد عبد السلام الكفافي
“ 2 “
“ 3 “
الجزء الأول
[ مقدمة الجزء الأول ]
مثنوي جَلالُ الدِّين الرُّومي شَاعِرُ الصّوفيَّة الأكْبَر الكتابُ الأوّل ترجمَة وشرح وَدراسَة للدكتور محمّد عبد السّلام كفافي أستَاذ آداب الأمَم الإسلاميَّة بجَامِعَة القَاهرة الاستَاذ المنتَدب بجَامعَة بَيروت العَربيَّة جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى الناشر المكتبة العصرية صيدا - بيروت 1966
“ 4 “
“ 5 “
بسم الله الرحمن الرحيم
“ 6 “
الأهداءُ
إلى كل نفس صافية كريمة تنشد الحق والخير والجمال .
“ 7 “
تصْدير
يسعدني أن أقدم للقراء والباحثين العرب الكتاب الأول من المثنوي لشاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي . لقد بدأت أعرف أعمال هذا الشاعر العظيم منذ مدة تزيد على العشرين عاماً حينما كنت لا أزال بعدُ طالباً بمعهد اللغات الشرقية ( الذي كان معهداً عالياً ملحقاً بكلية الآداب ، جامعة القاهرة ) . وفي تلك الأعوام ، التي كانت مسرحاً لحرب ضروس شملت أقطار الأرض ، كنت أجد عند هذا الشاعر من الحكمة الروحية ، وجمال الفكر والفن ، ما يؤنس النفس ويمتع العقل . وكثيراً ما كنت أصحب المثنوي معي إلى الريف المصري حيث اعتدت - إبان تلك السنين - أن أقضي فترة قصيرة من الصيف في ضيعة صغيرة بالقرب من شاطىء بحيرة المنزلة ( في شمال الدلتا ) ، كان يملكها جدي لو الدتي ، الشيخ عبد السلام الدواخلي .
وكان الشيخ - رحمة اللَّه - من علماء الأزهر القدامى ، الذين كانوا يدرسون العلم ثم يعودون إلى قرارهم مبتعدين عن الوظائف ، متخذين من العلم ترفاً عقلياً . وكنت آنس إليه بعد فقد الوالد ، كما كان هو يسعد برفقتي ، ويحرص على أن يجعل منها مجالًا للدرس والتأمل .
في هذا الجو الهادىء ، كنت أقرأ المثنوي مستعيناً على فهمه بكتاب “ المنهج القوي لطلاب المثنوي “ . وكان جمال الريف وهدوءه ، ونخيله وأنسامه ، وآفاقه الرحبة ، وحقوله الخضراء ، وأشجار التوت المورقة الوارفة الظلال ، مما يعين على حسن التذوق ، وفهم بعض ما احتواه المثنوي من رائع الحكمة ، وعميق الفكر .
ودأبت على الرجوع إلى المثنوي أثناء إقامتي للدراسة في لندن ( 1946 -
“ 8 “
1950 ) ، ثم حين عدت إلى مصر لأعمل بكلية الآداب بجامعة القاهرة .
ومنذ بدأت أمارس التعليم الجامعي لم يمض عام وأحد من غير أن أقرأ مع طلابي بعض نصوص من المثنوي أو أتخذ من جلال الدين وشعره موضوعاً لبعض محاضراتي .
وفي عام 1960 بدأت أترجم المثنوي إلى العربية ثم رأيت أن أضع له شروحاً توضح معانيه .
وهأنذا أقدم القسم الأول من هذا العمل ، أملًا أن أتبعه ببقية الأقسام .
وقد حرصت في ترجمتي وشرحي على الوضوح وسهولة العبارة ، وأعددت للكتاب من الفهارس والكشافات ما آمل أن يجعله ميسور الفائدة للباحثين والدارسين .
محمد كفافي
“ 9 “
فهرسُ المحُتويَات
صفحة
( الاهداء )
( تصدير )
(المقدمة )
جلال الدين الرومي شاعر الصوفية الأكبر 1 - 44
آثاره الأدبية 10 - 14
الفن عند جلال الدين 15 - 30
موضوعات الرومي 30 - 38
شعره التعليمي 39 - 44
المثنوي ، شروحه وترجماته 45 - 64
التعريف بالمثنوي 45 - 48
أجزاء المثنوي 48 - 50
شراحه من الفرس والأتراك والعرب 51 - 53
الدراسات والترجمات الحديثة 54 - 64 هذه الترجمة 65 - 67
المثنوي ( نصّ الترجمة )
مقدمة الكتاب 70 - 72
المقدمة المنظومة 73 - 76 صفحة
“ 10 “
عشق الملك لاحدى الجواري 76 - 78
عجز الحكماء عن معالجة الجارية 78 - 80
رعاية الأدب ، وأضرار فقدانه 80 - 81
لقاء الملك للطبيب الإلهي 82
الطبيب يعود المريضة 82 - 86
الوليّ يطلب فحص المريضة على انفراد 86 - 90
الوليّ يكشف المرض ويعرض الأمر على الملك 90
كيف أوفد الملك الرسل إلى سمرقند 90 - 93
قتل الصائغ وبيان معناه 93 - 96
حكاية البقال والببغاء وأسرارها 96 - 102
حكاية ملك اليهود الذي كان يقتل النصارى 103
الوزير يعلم الملك المكر 104 - 105
خداع الوزير للنصارى 105 - 106
كيف تقبل النصارى مكر الوزير 106
قصة رؤية الخليفة لليلى 111
بيان حسد الوزير 114
كيف فهم حذاق النصارى مكر الوزير 115
المراسلة بين الملك والوزير 116
الأسباط الاثنا عشر 116
تخليط الوزير في أحكام الإنجيل 117 - 120
الخلاف كان في صورة السير لا في حقيقة الطريق 120 - 122
خسارة الوزير في مكره 122
الوزير يدبر مكرا آخر 125
بين الوزير ومريديه 127 - 135
“ 11 “
صفحة الوزير يعهد بولاية عهده إلى كل أمير على انفراد 135 - 136
الوزير يقتل نفسه 136
الأمراء وولاية العهد 136
تنازع الأمراء على الولاية 139
تعظيم نعت المصطفى 141
حكاية ملك يهودي آخر 142
الملك يحرق مخالفيه بالنار 145
كيف تكلم طفل وسط النار 147
المنافق الذي سخر من محمد 149
الملك يعاتب النار 150
قصة الريح التي أهلكت قوم عاد 153
سخرية ملك اليهود من ناصحية 154
قصة الأسدو الوحوش ( في السعي والتوكل ، والجبر والاختيار ) 157 - 167
الأرنب الذي صرع الأسد 167
تأويل الذبابة 176
قصة الهدهد وسليمان ( في القضاء والقدر ) 187
قصة آدم ، وكيف حجب القضاء بصره 190
الأرنب يقود الأسد إلى البئر 193
هلاك الأسد 196
الأرنب يبشر الوحوش بهلاك الأسد 199
ابتهاج الوحوش ، وثناؤهم على الأرنب 201
تفسير : “ رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “ 202
عمر ورسول الروم 204
آدم نسب زلته إلى نفسه ، وإبليس نسبها إلى ربه 212
“ 12 “
صفحة تفسير : “ وهو معكم أينما كنتم “ 216
رسول الروم يسأل عمر عن الروح والجسد 216
قصة التاجر والببغاء 219
التاجر يحمل رسالة الببغاء إلى ببغاوات الهند 223
شرح بيت للعطار 224
موسى والسحرة 225
التاجر يخبر الببغاء بما رآه من ببغاوات الهند 228
كيف مات الببغاء عند سماع ذلك 232
شرح بيت لسنائي وحديث للرسول 238
عود إلى حكاية التاجر 243
الببغاء الميت يطير 244
التاجر يودع الببغاء 246
مضرة اشتهار المرء 246
تفسير “ ما شاء اللَّه كان “ 249
قصة عازف الصنج الهرم 252
شرح حديث الرسول : “ إن لربكم في أيام دهركم لنفحات.... “255
قصة عائشة ، وسؤالها الرسول عن المطر 261
شرح بيت لسنائي 263
شرح حديث الرسول : “ اغتنموا برد الربيع . . . “ 265
سؤال عائشة عن سر الأمطار التي شاهدتها 266
بقية قصة عازف الصنج 268
عمر يتوجه لمعونة عازف الصنج 271
الجذع الحنان 272
نطق الحصى 276
“ 13 “
صفحة عود إلى قصة المطرب 277
عمر يحول المطرب من مقام البكاء إلى مقام الاستغراق 280
تفسير حديث نبوي عن الإنفاق والإمساك 283
قصة الخليفة والأعرابي 285
الأعرابي وزوجة 286
بين المريدين والمدعين المزورين 287-290
الأعرابي يأمر امرأته بالصبر 290
المرأة تعترض على قول زوجها 292
الأعرابي ينصح امرأته بالقناعة 295
كل إنسان ينطلق من وجوده الذاتي 297
المرأة تعتذر لزوجها 300
شرح “ خبر “ يتعلق بالنساء 303
الأعرابي يستسلم لرجاء امرأته 304
موسى وفرعون 305
حرمان الأشقياء من الدنيا والآخرة 308
صالح وقومه 310
معنى قوله تعالى : “ مرج البحرين يلتقيان “ 316
المريد والولي 319
مغزى ما جرى بين الأعرابي وامرأته 320
الأعرابي يسعى لتحقيق مطلبها 323
كيف عينت الأعرابية لزوجها طريق طلب الرزق 326
الأعرابي يحمل إبريق ماء ويتوجه إلى بلاط الخليفة 328
عناية المرأة بسلامة الإبريق 330
السائل والمحسن 332
“ 14 “
صفحة الفقير إلى اللَّه والفقير إلى غير اللَّه 333
نقباء الخليفة وحجابه يستقبلون الأعرابي 335
عاشق الدنيا 337
مثل العرب : “ إذا عشقت فاعشق الحرة “338
الأعرابي يهدي إبريق الماء للخليفة 339
حكاية النحوي والملاح 340
الخليفة يتقبل هدية الأعرابي ويأمر بمكافأته 342
صفة الشيخ المرشد 349
الرسول يوصي عليا بمصاحبة العاقل 351
القزويني الذي تألم من إبرة الوشم 353
قصة الأسد والذئب والثعلب 356
الأسد يمتحن الذئب 358
الصديق الذي قال “ أنا “ 360
صفة التوحيد 361
الأسد يؤدب الذئب 364
نوح وقومه 365
الملوك والصوفية 368
الضيف يهدي مرآة إلى يوسف 372
كاتب الوحي الذي ارتد 375
قصة بلعم بن باعور وموسى 381
قصة هاروت وماروت 383
قصة الأصم الذي ذهب ليعود جاره المريض 386
إبليس ، أول شخض عارض النص بالقياس 389
“ 15 “
صفحة على المرء أن يخفي حاله عن الجاهلين 392
الروم وأهل الصين يتجادلون حول النقش والتصوير 396
كيف سأل الرسول “ زيدا “ عن حاله ، وكيف أجابه زيد .
( حديث حارثة ) 399
لقمان ور فقاؤه 406
بقية قصة “ زيد “ 408
النار التي وقعت بالمدينة في عهد عمر 418
عليّ وخصمه الكافر 419 - 430
عليّ وقاتله 431 - 435
كيف عجب آدم من ضلال إبليس 435
عود إلى قصة علي وقاتله 437
معنى غزوات الرسول 440
عود إلى قصة علي وخصمه الكافر 443
خاتمة الكتاب الأول من المثنوي 445
شروح ودراسات
الأبيات 1 - 500 449 - 467
الأبيات 501 - 1000 467 - 490
الأبيات 1001 - 1500 490 - 504
الأبيات 1501 - 2000 504 - 526
الأبيات 2001 - 2500 526 - 546
الأبيات 2501 - 3000 546 - 569
الأبيات 3001 - 3500 569 - 591
الأبيات 3501 - 4003 591 – 614
فهارس الكتاب
المراجع 616 - 626
كشاف الأعلام والجماعات والأماكن 627 - 635
كشاف الموضوعات 637 - 646
“ 16 “
“ 17 “
الكتاب الأول
المقَدّمَة
( - 1 - ) جَلال الدّين الرّومي شاعر الصّوفيَة الاكبَر
جلال الدين محمد “ 1 “ بن محمد البلخيَّ ثم القونويّ ، المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ ) ، أحد شعراء الإنسانية الأفذاذ ، وعلم شامخ من أعلام الفكر ورواده الذين جادت بهم حضارتنا الإسلامية الزاهرة ، فأسهمت بتراثه الفكريّ والفنيّ في إغناء تراث البشرية جمعاء .
لقد كان هذا الشاعر صوفياً ، اختار التصوف سبيلًا في حياته العملية ، واختاره فلسفة ووحياً لفكره وفنه الرفيع . وقد امتزجت حياته الفكرية بحياته العملية بصورة جعلت تصوفه مزيجاً من الفلسفة والحكمة العملية .
ليس تصوف شاعرنا من ذلك النوع السلبيّ الذي يدع الحياة وما فيها ، ويدعو إلى هجرها والفناء عنها فناء كاملًا ، ويعدّها شراً تورطت فيه البشرية ،
.................................................................
( 1 ) كنت قد ألقيت هذا البحث في جامعة بيروت العربية ضمن نطاق موسمها الثقافي الثالث “ 1962 - 1963 “ . وقد رأيت ضمه رأيت ضمه إلى هذه الترجمة - بعد إدخال تعديلات قليلة عليه - ليكون مقدمة لها ، وتعم بذلك فائدته .
“ 18 “
بل هو تصوف بنّاء ، يستمد عناصره من الإنسان ، ويتعمق في بحث مشاكله الروحية والعملية ، ويحاول أن يرسلم له المثل العليا في الفكر والعمل . يُعنى بالحياة التي يحياها البشر ، كما يُعني بالمصير الذي يطمحون إليه ويتوقعونه بعد مفارقة هذه الحياة . وليس شاعرنا مبدع هذا الاتجاه في التصوف ، ولكنّه أفصح الألسنة في التعبير عنه ، وألمع العقول في إبداع فلسفته وابتكار أفكاره .
ولا بدّ لنا في تقديم هذا البحث من كلمة عن حياة الشاعر وعصره .
لقد كُتب عن حياة جلال الدين كتابات كثيرة ، ولكنّ الحقائق التي تُستخلص ، من هذه الكتابات قليلة إلى حدّ بعيد .
نقرأ في سيرة هذا الشاعر أخباراً عن معجزات وخوارق تمّت على يده ، ونطلع على صور لإنسان طاقته ومستواه فوق البشر العادّيين . ومثل هذه الكتابات أوحى بها حبّ أتباعه له ، وتقديسهم لذكراه ، وتعظيمهم لشخصه ، بصورة أخذت تنمو مع الأيام . فلنقتصر هنا على ذكر الحقائق التي يمكننا أن نستخلصها عن حياة الشاعر ، معرضين عن أحاديث الخوارق والمعجزات وما صحبها من مبالغات .
وقد وردت ترجمة الشاعر في منظومة بعنوان “ ولد نامه “ نظمها ابنه سلطان ولد ، وفي كتاب “ مناقب العارفين “ للأفلاكي ، وكان هذا تلميذاً لعارف حفيد جلال الدين . كما وردت في كتب متأخرة عن ذلك ، منها كتاب “ نفحات الأنس “ للشاعر المتصوف عبد الرحمن الجامي و “ تذكرت الشعراء “ لدولت شاه .
[ مولده ونسبه ]
وُلد جلال الدين في مدينة بلخ يوم 6 ربيع الأول 604 هـ ( سبتمبر 1207 ) .
وقد لُقّب بالرومي نسبة إلى أرض الروم ( بلاد الأناضول ) حيث قضى معظم حياته . كان أبوه محمد بن الحسين الخطيبي ، وكان يدعى بهاء الدين ولد .
وقد انتسب جلال الدين من ناحية الأب إلى أبي بكر الصديق ، ومن ناحية الأم إلى أُسرة خوارزم شاه التي كانت تحكم إقليم ما وراء النهر ، وتسيطر على بقاع أُخرى من العالم الإسلامي ، حين
“ 19 “
بدأت غارات المغول على الشرق الاسلامي في مطلع القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) .
كان أبو الشاعر عالماً دينياً من أتباع المذهب الحنفيّ . والظاهر أنّه أحرز مكانة مرموقة حتى لُقّب بسلطان العلماء .
وقد هاجم الفلاسفة والمتكلمين في زمنه ، ولعلّ هذا هو السبب ، فيما رُوى من اختلافه مع المفكر العربي فخر الدين الرازي الذي كان معاصراً له ، وكان من نزلاء بلخ . وقد اضطربهاء الدين وَلَد إلى أن يترك هذه المدينة مصطحباً أُسرته عام 609 هـ .
والروايات في بيان أسباب ذلك متعدّدة ، منها أنّه اختلاف مع حاكم البلاد ، ولكنّ الأغلب هو أنّه ترك موطنه حين شعر بقرب هجوم المغول . وكان جلال الدين حين ذاك لا يزال في الخامسة من عمره .
وأخذت الأسرة تنتقل من مدينة إلى أُخرى . وفي نيسابور التقت بالشاعر الصوفيّ الكبير فريد الدين العطار ، الذي تذكر الروايات أنّه أخذ الطفل جلال الدين بين ذراعيه ، وأهداه نسخة من منظومته “ أسرار نامه “ ، كما تنبّأ له ببلوغ المرتبة العليا في التصوف . ومن هناك ذهبت هذه الأسرة إلى بغداد ثم إلى مكة .
وانتقلت بعد ذلك إلى ملطيّة حيث أقامت أربع سنين ، وبعد ذلك ذهبت إلى لارندا ( قرمان الآن ) ، حيث أقامت سبع سنين ، ثم تركت لارندا إلى قونية حيث استقر بشاعرنا المقام .
وكانت قونية عاصمة للسلطان علاء الدين السلجوقي الذي كان من سلاجقة آسيا الصغرى . وقد توفي أبو الشاعر في هذه المدينة عام 628 هـ .
[ أساتيذه ]
تلقّى الشاعر تعليمه في أوّل الأمر على أبيه ، ثم على أحد أصدقاء أبيه ، وكان يدعى برهان الدين محقّق الترمذيّ .
ومما روى أنه ذهب إلى الشام بناء على نصح أستاذه برهان الدين ، وأنه أقام سنوات . وكان في دمشق حينذاك الصوفيّ الكبير محيي الدين بن العربي .
ولا تذكر هذه الرواية أن جلال الدين لقي ابن العربي ، كما أنّ شعر جلال الدين لا يشير إلى شيء من ذلك .
وكذلك زيارة جلال الدين لدمشق وإقامته بها سنين
“ 20 “
طويلة ليست من الأمور التي نعلم شيئاً واضحاً عن تفاصيلها .
[ شروع تدريسه ]
توّلى جلال الدين التدريس في مدينة قونية بعد وفاة أستاذه برهان الدين محقّق سنة 638 هـ . وهناك حظي بعطف سلطانها السلجوقيّ . وقد بقي مقيماً في قونية ، لا يفارقها إلا ليعود إليها ، وهناك تجمّع حوله عدد من التلاميذ والمريدين .
ولم يكن جلال الدين حينذاك يشتغل بنظم الشعر ، كما أنّه لم يُؤثر عنه اتباع طريق الصوفيّة الذي عُرف به فيما تلا ذلك من الأيام ، وأصبح يمثّل علماً من أكبر أعلامه .
لقد ظهرت عبقرّية الرومي كشاعر في فترة كان قد بلغ فيها مرحلة متقدّمة من النضج الفكري والنفسيّ .
ولكنّ العجيب في تلك العبقرّية أنّها جعلت إنتاجه العقليّ بعد أنّ قارب الأربعين يختلف اختلافاً كليّاً عن إنتاجه السابق على ذلك . لقد كان واعظاً وعُدّ من الفقهاء الأحناف ، فأصبح صوفيّاً فنّاناً شاعراً ، وحكيماً أخلاقياً وفيلسوفاً إنسانياً .
كيف حدث كل هذا ؟
إنّ المصادر تصوّر لنا هذا الانتقال بأنّه كان فجائياً ، نشأ من التقاء الشاعر بصوفيّ كثير التجوال كان يُدعى شمس الدين التبريزي .
حقّاً لقد كان لهذا الرجل أعمقُ الأثر في نفس جلال الدين.
ولكنّ وقوع الانقلاب في حياة الرومي لا يمكن أن يحدث بتلك الصورة المفاجئة .
فلا بدّ أنّ الرومي كان ميالًا إلى التصوف ، نزّاعاً إلى ذلك التأمل الروحيّ العميق . وأنّه بعد التقائه بذلك الصوفي وجد نفسه ، وأدرك حقيقته ، فانطلق في الطريق الذي كان مقدّراً له أن يخلدّ اسمه على الأيام ، ويضعه في مصافّ الخالدين من شعراء العالم ومفكّريه .
ذكر الرومي هذا التحّول في إحدى رباعيّاته فقال :” عندما اشتعلت نيران الحبّ في صدري ،
“ 21 “
أحرق لهيبها كلّ ما كان في قلبي . * فاز دريت العقل الدقيق والمدرسة والكتاب ،
وعملت على اكتساب صناعة الشعر ، وتعّلمت النظم . “
[ لقاء الرومي والتبريزي ]
إنّ لقاء الرومي والتبريزي يمثّل أهمّ نقطة فيما شهدناه من تطوّر روحيّ عميق عند هذا الشاعر . لقد ثمّ هذا القاء بين الشاعر والتبريزي في عام 642 ه ، بمدينة قونية . كان شمس الدين صوفيّاً متجولّا بلغ الستين من عمره ، وقد جاء به تجواله إلى تلك المدينة . وما كان جلال الدين يلتقي به حتى وجد فيه الإنسان الكامل ، والمثل الأعلى لما يمكن أن يطمح إليه البشر .
وتذكر تراجم الشاعر أنّه أخذ شمس الدين إلى داره وأنهّما بقيا معاً لا يفترقان مدة عام أو عامين . وليس يعلم أحد ماذا تمّ في هذا للقاء ، ولكنّ المؤرخين متفقون على أنّ الروميّ قد تحوّل بعده إلى إنسان آخر ، اختلفت كلّ أحواله عما كانت عليه من قبل . وكتب التراجم لا تقدّم لنا معلومات واضحة عن التبريزي هذا ، فأصله غير معروف على وجه اليقين .
ولقد وصفه البعض بأنّه كان شبه أُمّيّ ، ولكنّه كان يتسم دائماً بالحماس الروحيّ العظيم في حديثه ، وبأنّه كان ذا أثر بالغ في نفوس من استمعوا إليه .
وكان المفروض أنّ هذا الصوفيّ قد مضى دون أن يخلف أثراً يُذكر ، ولكنّ الباحثين عثروا أخيراً على نصّ منسوب إليه ، لم يُنشر بعد ، عنوانه “ المقالات “ “ 1 “ .
والمحقّق - على أية حال - أنّ التبريزي قد أثرّ في حياة شاعرنا أعمق الأثر إلى حدّ أنَّه صرفه عن تلاميذه صرفاً كاملًا ، وجعله يُعرض عن
..............................................................................
( 1 ) .” arberry : classical persianlit erature , p “ . 217
“ 22 “
الوعظ ، وينصرف إلى حياة التأمل الصوفيّ ، وينطلق في التعبير عن حياته الجديدة بفيض غامر من الشعر بلغ أسمى درجات العبقرّية .
ولقد حقد تلاميذ الرومي على ذلك الدخيل الذي صرف عنهم أستاذهم ، وهاجموه ، فما كان منه إلا أن سافر خفية إلى دمشق .
فحزن جلال الدين وابتأس لا فتراقه عن هذا الصديق الروحيّ ، ونظم كثيراً من شعره الوجدانيّ في فترة الفراق تلك ، ولم ينقذه من شجونه إلا ابنه سلطان ولد ، الذي ذهب إلى دمشق وعاد بشمس الدين . وقد ذُكر أنّ تلاميذ الرومي هاجموا التبريزي من جديد فرحل للمرة الثانية ؛ وأنّ الرومي عمل من جديد لإعادته .
ولكنَّه الختفي نهائيّاً عام 645 هـ . قيل في تفسير هذا الاختفاء إنّ تلاميذ الرومي قد قتلوه . وقد تألم الرومي كثيراً لفقدا صديقه ، وهتف من أعماق قلبه قائلًا :
« من ذا الذي قال إنّ شمس الروح الخالدة قد ماتت ؟
* ومن الذي تجرّأ على القول بأنّ شمس الأمل قد توّلت ؟
إنّ هذا ليس إلا عدوّاً »
للشمس وقف تحت سقف * وعصب كلتا عينيه ثم صاح :
ها هي ذي الشمس تموت » .
ومهما يكن من أمر ، فقد كان لصداقة الرومي والتبريزي حصيلة شعرّية هائلة جادت بها عبقرّية الرومي . فقد نظم ديواناً كاملًا سمَّاه « ديوان شمس تبريز » ذكرى لصديقه وموّجهه الروحيّ شمس الدين التبريزيّ .
ولم يقف الشاعر عند حدّ نسبة هذا العمل الأدبيّ في إجماله إلى صديقه ، بل إنّه نسب أكثر غزليات هذا الديوان إلى صديقه بوضع اسمه في تخلص كل منها .
( والتخلص في الغزال الفارسيّ هو أن يذكر الشاعر اسمه الأدبيّ في البيت الأخير من الغزل ) . أما القليل من
“ 23 “
الغزليّات الذي خرج فيه عن ذلك فقد تخلّص فيه الشاعر باسم أدبي اتخذه لنفسه هو “ خاموش “ . ويُقال إنّ جلال الدين أنشأ طريقته الصوفيّة - التي عُرفت فيما بعد بالطريقة المولوّية - ذكرى لأستاذه شمس الدين .
وكما تأثَّر جلال الدين بأستاذه التبريزيّ ، تأثّر على النحو ذاته ببعض تلاميذه ومريديه . فقد أنست روحه إلى تلميذه صلاح الدين زركوب ( الصائغ ) .
وحينما توفي هذا في عام 657 هـ .
تحوّل حبّ جلال الدين إلى تلميذه حسن حسام الدين ( 622 - 683 هـ . ) الذي خلفه في رئاسة الطريقة المولوّية بعد وفاته .
وقد نُسب إلى حسام الدين هذا الفضلُ في حثّ أستاذه على نظم المثنوي . وقد كان له خير عون إبّان عمله الشاقّ ، فقد كان يكتب ما يمليه عليه الشاعر ، ثم يعود فيقرؤه عليه ، وأحياناً يشنده بصوته الجميل . وكلم قضيا من ليال طوال في هذا العمل الشاق الذي استغرق سنين طويلة . وقد ذكر جلال الدين تلميذه حسام الدين في المقدّمة العامة للمثنوي ، وأثنى عليه وعلى أسرته كما ذكره في أوائل أجزاء المثنوي جميعاً ما عدا الجزء الأول ، وامتدحه بأرفع العبارات .
لم تشتمل كتب التراجم - رغم وفرة ما كتبته عن جلال الدين - على حقائق أكثر من تلك التي ذكرتها .
والذي يمكن أن نذكره إلى جانب تلك الحقائق أنّ الشاعر عاش حياة قديس ، يعلّم ويرشد ، ويحضر مجالس السماع والطرب - وقد أحاط به عدد كبير من التلاميذ والمريدين - إلى أن توفي عند غروب الشمس في الخامس من جمادي الثانية عام 672 هـ .
ولقي بعد موته من التكريم ما لقي في حياته ، فقد بُني له ضريح أُقيمت فوقه قبّة عرفت بالقبة الخضراء ، أُضيف إليها بعد انتهائها مبان أُخرى ، وأُنفق على ذلك ألوف الدراهم . كما أوقفت على الضريح أوقاف للسدنة ولقراء المثنوي .
“ 24 “
ومن الطريف أنّ الرحالة ابن بطوطة مرّ بقونيه بعد وفاة الشاعر بنحو ستين عاماً وكتب عنه ما يلي :
“ وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا ، وكان كبير القدر ، وبأرض الروم طائفة ينتمون إليه ويُعرفون بإسمه فيقال لهم الجلاليّة . . . وعلى تربته زاوية عظمية فيها الطعام للوارد .
يُذكر أنه كان في ابتداء أمره فقيهاً مدرَّساً يجتمع إليه الطلبة بمدرسته بقونيه ، فدخل يوماً إلى المدرسة رجل يبيع الحلوى وعلى رأسه طبق منها ، وهي مقطّعة يبيع القطعة منها بفلس ، فلما أتى مجلس التدريس قال له الشيخ : “ هات طبقك . “ فأخذ الحلوانيّ قطعة منه وأعطاها للشيخ فأخذها الشيخ بيده وأكلها ، فخرج الحلوانيّ ، ولم يُطعم أحداً سوى الشيخ ، فخرج الشيخ في اتباعه وترك التدريس ، فأبطأ على الطلبة ، وطال انتظارهم إياه ، فخرجوا في طلبه فلم يعرفوا له مستقرّاً ، ثم إنّه عاد إليهم بعد أعوام ، وصار لا ينطق إلا بالشعر الفارسي المتعلّق ( المزدوج ) الذي لا يُفهم ، فكان الطلبة يتبعونه ويكتبون ما يصدر عنه من ذلك الشعر ، وألّفوا منه كتاباً سمّوه المثنوي . وأهل تلك البلاد يعظمون ذلك الكتاب ويعتبرون كلامه ، ويعلمّونه ويقرأونه بزواياهم في ليالي الجمعات “ “ 1 “ .
ورغم الطابع الخرافيّ لتلك القصّة فإنّها تؤيّد الحقائق من وجوه أهمها ما يلي :
أولًا : غموض قصّة الرومي مع التبريزي منذ وقت مبكّر .
.......................................................................
( 1 ) رحلة ابن بطوطة . ج 1 ، ص 187 ، طبعة المكتبة التجارية ، القاهرة سنة 1958 .
“ 25 “
ثانياً : انتقال الشاعر الفجائيّ من التدريس إلى الشعر وانطلاق قريحته بالشعر بصورة ملحوظة .
ثالثاً : تعظيم الشاعر بعد وفاته وإقامة زاوية كبيرة على ضريحه يُقّدم فيها الطعام للواردين .
رابعاً : اشتهار المثنوي وتعظيمه منذ وقت مبكر .
خامساً : إطلاق اسم الجلاليّة على أتباع الرومي في ذلك الوقت ، واشتهار الشاعر بلقب “ مولانا “ الذي اشتقّ منه فيما بعد اسم أتباع جلال الدين ، فأصبحوا يُعرفون بالمولوّية حتى زماننا هذا .
أما زمن الشاعر فيُعدّ عصراً من أقسى ما مرّ على البشرية من عصور .
لقد عاش الشاعر في القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) ، وهو القرن الذي شهد غارات المغول المدّمرة على العالم الإسلاميّ .
فقد انطلقت جحافلهم تدكّ معالم الحضارة وتبيد صروح المدنيّة بصورة لم يُعرف لها مثيل من قبل .
وتعكس لنا كتب التاريخ الشرقيّ والغربيّ على السواء أصداء هذه المأساة المروِّعة . ولا يكاد يختلف أسلوب ابن الأثير المؤرّخ العربيّ الذي عاصر تلك الحوادث عن أسلوب المؤرّخ الإنجليزي ماتيو باريسMatthewparis” 1 “ الذي كتب في ذات الوقت تقريباً ، ووصف غارات المغول بأسلوب يتفجّر منه الرعب .
والجدير بالذكر هنا أنّ الشاعر عاش قريباً من مسرح تلك الحوادث ،
..............................................................................
( 1 ) ماتيو باريس راهب إنجليزي له كتابات كثيرة سجل بها حوادث التاريخ الأوروبي بين عامي 1235 ، 1259 على طريقة الحوليات . وتعد كتاباته من أهم المصادر لدراسة تلك الحقبة من تاريخ أو روبا .
“ 26 “
ومع ذلك وجد في نفسه تلك الطاقة الهائلة على الإنتاج الأدبيّ ، وبقي رغم تلك الحوادث الوحشيّة مؤمناً بالإنسان ، وبأصله الإلهيّ ، ناظراً إلى البشرية كلها نظرة الحنان والعطف ، مسخِّراً كلّ ملكاته للنهوض بها من كبوتها ، وتخليصها من ذلك المصير الذي انتهت إليه .( - 2 - ) ما الآثار الأدبية التي تركها جلال الدين ؟
إن اثار هذا الشاعر تنقسم إلى قسمين ، قسم منثور ، وقسم منظوم .
أما القسم المنثور فعلى الرغم من أهميّته لدارسة الشاعر ، فإنّه لم يكن المجال الذي تجلّت فيه عبقريّته . ويتكوّن إنتاجه النثريّ من ثلاثة مؤلفات ، أوّلها يدعى المجالس السبعة ، وهو مواعظ وخطب من ذلك النوع المعروف .
والظاهر أنّها أُثرت عنه في فترة حياته الأولى قبل أن يعتنق التصوف فكراً وعملًا .
وثانيها مجموعة من الرسائل كتبها إلى أقاربه وأصدقائه .
وأما ثالثها فكتاب يدعى “ فيه ما فيه “ ، ويشتمل على أحاديث جلال الدين ومحاضراته التي كان يلقيها على تلاميذه ومريديه في تلك المجالس الخاصّة التي كانت تجمعهم . وبطبيعة الحال لم يكن جلال الدين هو الذي جمع نصوص هذا الكتاب ، وإنما هو من جمع أحد أبنائه أو مريديه .
الجانب الهام من إنتاج جلال الدين هو شعره . وهو الجانب الذي يعنينا
“ 27 “
في هذا البحث . وقد ذكرت من قبل أنّ هذا الإنتاج بلغ نحو سبعين ألف بيت . فإذا كانت هذه الكثرة مقرونة بالإجادة فمعنى هذا أنّ شاعرنا قد انطلقت شاعرّيته بفيض غامر من الشعر قلما أُتيح لشاعر آخر في أيِّ زمان أو بأية لغة . ومع ذلك فشاعرنا لم يبدأ نظم الشعر إلا حين شارف الثامنة والثلاثين من عمره ، وقد عاش حتى بلغ من العمر ثمانية وستين عاماً .
إنّ تراث جلال الدين الشعريّ ينقسم من حيث الشكل إلى ثلاثة أقسام هي الديوان الذي سُمّي بديوان شمس تبريز ، والرباعيّات والمثنوي .
فأما الديوان فيشتمل في أكثره على غزليات صوفيّة يبلغ عددها نحو 3500 غزلًا نظمت في بحور عديدة ، كما يضمُّ أيضاً ملمّعات تركيّة وعربيّة ويونانيّة ، وقصائد وترجيعات فارسيّة . ويبلغ عدد أبياته - في أقدم النسخ الخطيّة المعروفة نحو 43 ألف بيت ، وذلك حسب إحصاء قام به أستاذ إيرانيّ معاصر كرّس أكثر أبحاثه لدراسة الروميّ ، هو الأستاذ بديع الزمان فروزانفر “ 1 “ .
أما الرباعيّات فيُنسب إلى شاعرنا منها 1659 رباعيّاً عدد أبياتها 3318 ، حسب إحصاء فروزانفر “ 2 “ . وبعض هذه الرباعيّات قد يُشكّ في نسبته إلى الشاعر ، ولكنّ الكثير منها يمكن أن يُعدّ بحقّ من إنتاجه ، لما يتجلى فيه من مطابقته لتفكيره وأسلوبه .
.......................................................................
( 1 ) أنظر مقاله عن جلال الدين في مجلة الدراسات الأدبية “ السنة الأولى - العدد الرابع ، شتاء 1960 “ ص 62 . “ يصدرها قسم اللغة الفارسية وآدابها بالجامعة اللبنانية “ .
( 2 ) نفس المصدر .
“ 28 “
أما الأثر الثالث فهو المثنوي : وكلمة المثنوي تعني ذلك النظم الذي يُعرف بالمزدوج في العربيّة ، وهو يعتمد في التقفية على توحيد القافية بين شطري كل بيت من أبيات المنظومة . فكل بيت من الأبيات تكون له قافيته المستقلّة ، وبهذا تتحرّر المنظومة من القافية الموحّدة التي طالما عاقت شعراء العرب عن نظم المطوّلات .
فهذا التعدّد في القوافي هو الذي مكَّن شعراء الفرس من نظم الملاحم المطوّلة على الأوزان العربية ، والانطلاق بها إلى أبعد مدى أرادوه .
وقد سمّى جلال الدين كتابه هذا “ المثنوي “ .
وينقسم هذا الكتاب إلى ستة مجلدات تضم نحواً من خمسة وعشرين ألف بيت .
ولا تتصل تسمية الكتاب بموضوعه وإنما بشكل قوافيه ، فهي تسمية شكلية بحتة .
والإيرانيون يعظمون هذا الكتاب إلى أبعد الحدود .
وقد بالغوا في تعظيمه حتى سموّه “ قرآن بهلوي “ أي قرآن الفارسية .
يقول جلال الدين في مقدمته العربية :
“ هذا الكتاب المثنوي ؛ وهو أصول أصول أصول الدين ، في كشف أسرار الوصول واليقين ، وهو فقه اللَّه الأكبر ، وشرع اللَّه الأزهر ، وبرهان اللَّه الأظهر ، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، يشرق إشراقاً أنور من الإصباح . . وهو جنان الجَنان ، “ ذو العيون والأغصان . . . .
الأبرار فيه يأكلون ويشربون ، والأحرار فيه يفرحون ويطربون ؛ وهو كنيل مصر شراب للصابرين ، وحسرة على آل فرعون والكافرين . “ “ 1 “ كتاب المثنوي هذا يعد أثراً من الآثار الأدبية الخالدة ، يرتفع فيه
...........................................................
( 1 ) أنظر المقدمة العربية للمثنوي .
“ 29 “
الشعر إلى مستوى عالمي فذّ . وإذا أردنا أن نحدِّد موضوعاً لهذه المنظومة المطوّلة ، وجدنا أنّ ذلك من الأمور العسيرة .
إنّ موضوعه الوجود كلّه بصفة عامة ، والإنسان والحياة بصفة خاصّة . وكلّ جزء من الأجزاء الستة لهذه المنظومة يشتمل على نيف وأربعة آلاف بيت .
والمثنوي كله مبنيّ حول مجموعة من القصص ، ولكنّ رواية القصص في هذه المنظومة لا تُقصد لذاتها ، وإنما هي لبيان مقاصد فلسفيّة ، أو لأهداف تعليميّة . فالشاعر يبدأ القصّة فلا يكاد يروي أولى وقائعها حتى يستطرد منها للتحدّث في حكمة هذه الواقعة ، فيذكر الآيات القرآنيّة .
ويفسّرها ، وقد يذكر الأحاديث ، ويظل يبني عليها الآراء والحكم .
ثم يعود بعد ذلك إلى القصّة ليستأنف روايتها ، ويظلّ يعالجها على هذا النحو حتى ينتهي منها . وإذا رجعنا إلى حديث الإحصاءات وجدنا أنّ مؤلِّفاً هنديِّاً يدعى تلمذ حسين يذكر في كتاب ألفه يُدعى “ مرآة المثنوي “ أنّ الرومي قد عالج في المثنوي 1281 موضوعا .
الكُتَّابُ من أبناء الشرق مولعون بأن ينسبوا إلى جلال الدين أنه عالج في ملحمته هذه جميع المعارف ، وتناول بالبحث كل العلوم .
ولست أُحبّ أن أمضي في تلك السبيل فأخلط بين ثقافة الشاعر التي تنعكس في إنتاجه الفنيّ ، وبين اعتباره صاحب علم يحميع المعارف ، يُقرأ لكي تُلتمس عنده هذه العلوم المختلفة . فالشاعر لو ذكر الكيمياء أو سواها فليس معنى هذا أنّه أراد أن يفيد دارس الكيمياء في هذا العلم ، وإنما هو يستخدم كل ثقافته التي وعاها في خدمة فنّه ، وإرساء أسس تعاليمه العرفانيّة . ولذلك فإني أميل إلى اعتبار المثنوي أثراً فنيّاً قبل كل شيء ، ومصدراً للاطلاع على القيم الإنسانيّة والخلقيّة التي انبثقت من الحضارة الإسلامية . والشاعر يستخدم القصص في إيضاح آرائه - كما ذكرنا - ويفسر الآيات القرآنيّة ، ويذكر الأحاديث النبوّية ، ويقتبس
“ 30 “
الحكمة منها ، ويتوسّع في بيان مدلولاتها . وهو في كل ذلك شاعر أصيل ، نلمس عنده الإحساس الصادق ، والعاطفة الجيَّاشة ، والعقل المعلّم ، والنفس الصافية التي تستطيع أن تبثّ الصفاء في نفوس الآخرين وتشيع فيها البهجة ، وتصحبها معها في رفق وأناة في دروب من التأمّل العميق ، وآفاق من الفكر الرفيع ، تعينها على تحقيق حياة أسمى ، والطموح إلى غايات أعلى من تلك الغايات المادّية التي يعنو لها البشر في هذه الحياة .
ولكنّ طريقة الشاعر في معالجة هذه الموضوعات قد خلت من الترتيب الدقيق ، فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع ، ومن مقصد إلى مقصد ، دون منهج محدّد يتبعه في ذلك الإنتقال . ومع ذلك فقد عكف باحث ألماني يدعى جوستاف ريشترGustav Richterعلى المثنوي ، واستطاع أن يبين أنّ كلّ جزء من أجزائه يمثل وحدة فنية متكاملة ، وأنّ ما يبدو فيه من انطلاق على غير نظام موضوعيّ محدّد ليس هو الواقع ، وإنما هناك ارتباط فنيّ دقيق في التنقل من موضوع إلى آخر .
وقد ذهب إلى ذلك أيضاً الأستاذ نيكولسون الذي عكف على ترجمة المثنويّ ودراسته خمسة وعشرين عاماً “ 1 “ .
ومهما يكن الأمر فإن هذا التنقل بين الموضوعات لا يعني أن الشاعر لا يعالج الموضوع الواحد بصورة فنيّة مترابطة . فنحن نستطيع أن نستخرج من المثنوي موضوعات كثيرة تناولها الشاعر تناولًا فنيّاً بارعاً ، واستطاع أن يقدمها لنا في هيكل فنيّ متكامل العناصر ، مترابط الأجزاء ، تجمعه وحدة فنيّة أكيدة .
.........................................................................
( 1 ) .Arberry : cIassical persian literature , p . 236
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي د. محمد عبد السلام الكفافي
“ 2 “
“ 3 “
الجزء الأول
[ مقدمة الجزء الأول ]
مثنوي جَلالُ الدِّين الرُّومي شَاعِرُ الصّوفيَّة الأكْبَر الكتابُ الأوّل ترجمَة وشرح وَدراسَة للدكتور محمّد عبد السّلام كفافي أستَاذ آداب الأمَم الإسلاميَّة بجَامِعَة القَاهرة الاستَاذ المنتَدب بجَامعَة بَيروت العَربيَّة جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى الناشر المكتبة العصرية صيدا - بيروت 1966
“ 4 “
“ 5 “
بسم الله الرحمن الرحيم
“ 6 “
الأهداءُ
إلى كل نفس صافية كريمة تنشد الحق والخير والجمال .
“ 7 “
تصْدير
يسعدني أن أقدم للقراء والباحثين العرب الكتاب الأول من المثنوي لشاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي . لقد بدأت أعرف أعمال هذا الشاعر العظيم منذ مدة تزيد على العشرين عاماً حينما كنت لا أزال بعدُ طالباً بمعهد اللغات الشرقية ( الذي كان معهداً عالياً ملحقاً بكلية الآداب ، جامعة القاهرة ) . وفي تلك الأعوام ، التي كانت مسرحاً لحرب ضروس شملت أقطار الأرض ، كنت أجد عند هذا الشاعر من الحكمة الروحية ، وجمال الفكر والفن ، ما يؤنس النفس ويمتع العقل . وكثيراً ما كنت أصحب المثنوي معي إلى الريف المصري حيث اعتدت - إبان تلك السنين - أن أقضي فترة قصيرة من الصيف في ضيعة صغيرة بالقرب من شاطىء بحيرة المنزلة ( في شمال الدلتا ) ، كان يملكها جدي لو الدتي ، الشيخ عبد السلام الدواخلي .
وكان الشيخ - رحمة اللَّه - من علماء الأزهر القدامى ، الذين كانوا يدرسون العلم ثم يعودون إلى قرارهم مبتعدين عن الوظائف ، متخذين من العلم ترفاً عقلياً . وكنت آنس إليه بعد فقد الوالد ، كما كان هو يسعد برفقتي ، ويحرص على أن يجعل منها مجالًا للدرس والتأمل .
في هذا الجو الهادىء ، كنت أقرأ المثنوي مستعيناً على فهمه بكتاب “ المنهج القوي لطلاب المثنوي “ . وكان جمال الريف وهدوءه ، ونخيله وأنسامه ، وآفاقه الرحبة ، وحقوله الخضراء ، وأشجار التوت المورقة الوارفة الظلال ، مما يعين على حسن التذوق ، وفهم بعض ما احتواه المثنوي من رائع الحكمة ، وعميق الفكر .
ودأبت على الرجوع إلى المثنوي أثناء إقامتي للدراسة في لندن ( 1946 -
“ 8 “
1950 ) ، ثم حين عدت إلى مصر لأعمل بكلية الآداب بجامعة القاهرة .
ومنذ بدأت أمارس التعليم الجامعي لم يمض عام وأحد من غير أن أقرأ مع طلابي بعض نصوص من المثنوي أو أتخذ من جلال الدين وشعره موضوعاً لبعض محاضراتي .
وفي عام 1960 بدأت أترجم المثنوي إلى العربية ثم رأيت أن أضع له شروحاً توضح معانيه .
وهأنذا أقدم القسم الأول من هذا العمل ، أملًا أن أتبعه ببقية الأقسام .
وقد حرصت في ترجمتي وشرحي على الوضوح وسهولة العبارة ، وأعددت للكتاب من الفهارس والكشافات ما آمل أن يجعله ميسور الفائدة للباحثين والدارسين .
محمد كفافي
“ 9 “
فهرسُ المحُتويَات
صفحة
( الاهداء )
( تصدير )
(المقدمة )
جلال الدين الرومي شاعر الصوفية الأكبر 1 - 44
آثاره الأدبية 10 - 14
الفن عند جلال الدين 15 - 30
موضوعات الرومي 30 - 38
شعره التعليمي 39 - 44
المثنوي ، شروحه وترجماته 45 - 64
التعريف بالمثنوي 45 - 48
أجزاء المثنوي 48 - 50
شراحه من الفرس والأتراك والعرب 51 - 53
الدراسات والترجمات الحديثة 54 - 64 هذه الترجمة 65 - 67
المثنوي ( نصّ الترجمة )
مقدمة الكتاب 70 - 72
المقدمة المنظومة 73 - 76 صفحة
“ 10 “
عشق الملك لاحدى الجواري 76 - 78
عجز الحكماء عن معالجة الجارية 78 - 80
رعاية الأدب ، وأضرار فقدانه 80 - 81
لقاء الملك للطبيب الإلهي 82
الطبيب يعود المريضة 82 - 86
الوليّ يطلب فحص المريضة على انفراد 86 - 90
الوليّ يكشف المرض ويعرض الأمر على الملك 90
كيف أوفد الملك الرسل إلى سمرقند 90 - 93
قتل الصائغ وبيان معناه 93 - 96
حكاية البقال والببغاء وأسرارها 96 - 102
حكاية ملك اليهود الذي كان يقتل النصارى 103
الوزير يعلم الملك المكر 104 - 105
خداع الوزير للنصارى 105 - 106
كيف تقبل النصارى مكر الوزير 106
قصة رؤية الخليفة لليلى 111
بيان حسد الوزير 114
كيف فهم حذاق النصارى مكر الوزير 115
المراسلة بين الملك والوزير 116
الأسباط الاثنا عشر 116
تخليط الوزير في أحكام الإنجيل 117 - 120
الخلاف كان في صورة السير لا في حقيقة الطريق 120 - 122
خسارة الوزير في مكره 122
الوزير يدبر مكرا آخر 125
بين الوزير ومريديه 127 - 135
“ 11 “
صفحة الوزير يعهد بولاية عهده إلى كل أمير على انفراد 135 - 136
الوزير يقتل نفسه 136
الأمراء وولاية العهد 136
تنازع الأمراء على الولاية 139
تعظيم نعت المصطفى 141
حكاية ملك يهودي آخر 142
الملك يحرق مخالفيه بالنار 145
كيف تكلم طفل وسط النار 147
المنافق الذي سخر من محمد 149
الملك يعاتب النار 150
قصة الريح التي أهلكت قوم عاد 153
سخرية ملك اليهود من ناصحية 154
قصة الأسدو الوحوش ( في السعي والتوكل ، والجبر والاختيار ) 157 - 167
الأرنب الذي صرع الأسد 167
تأويل الذبابة 176
قصة الهدهد وسليمان ( في القضاء والقدر ) 187
قصة آدم ، وكيف حجب القضاء بصره 190
الأرنب يقود الأسد إلى البئر 193
هلاك الأسد 196
الأرنب يبشر الوحوش بهلاك الأسد 199
ابتهاج الوحوش ، وثناؤهم على الأرنب 201
تفسير : “ رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “ 202
عمر ورسول الروم 204
آدم نسب زلته إلى نفسه ، وإبليس نسبها إلى ربه 212
“ 12 “
صفحة تفسير : “ وهو معكم أينما كنتم “ 216
رسول الروم يسأل عمر عن الروح والجسد 216
قصة التاجر والببغاء 219
التاجر يحمل رسالة الببغاء إلى ببغاوات الهند 223
شرح بيت للعطار 224
موسى والسحرة 225
التاجر يخبر الببغاء بما رآه من ببغاوات الهند 228
كيف مات الببغاء عند سماع ذلك 232
شرح بيت لسنائي وحديث للرسول 238
عود إلى حكاية التاجر 243
الببغاء الميت يطير 244
التاجر يودع الببغاء 246
مضرة اشتهار المرء 246
تفسير “ ما شاء اللَّه كان “ 249
قصة عازف الصنج الهرم 252
شرح حديث الرسول : “ إن لربكم في أيام دهركم لنفحات.... “255
قصة عائشة ، وسؤالها الرسول عن المطر 261
شرح بيت لسنائي 263
شرح حديث الرسول : “ اغتنموا برد الربيع . . . “ 265
سؤال عائشة عن سر الأمطار التي شاهدتها 266
بقية قصة عازف الصنج 268
عمر يتوجه لمعونة عازف الصنج 271
الجذع الحنان 272
نطق الحصى 276
“ 13 “
صفحة عود إلى قصة المطرب 277
عمر يحول المطرب من مقام البكاء إلى مقام الاستغراق 280
تفسير حديث نبوي عن الإنفاق والإمساك 283
قصة الخليفة والأعرابي 285
الأعرابي وزوجة 286
بين المريدين والمدعين المزورين 287-290
الأعرابي يأمر امرأته بالصبر 290
المرأة تعترض على قول زوجها 292
الأعرابي ينصح امرأته بالقناعة 295
كل إنسان ينطلق من وجوده الذاتي 297
المرأة تعتذر لزوجها 300
شرح “ خبر “ يتعلق بالنساء 303
الأعرابي يستسلم لرجاء امرأته 304
موسى وفرعون 305
حرمان الأشقياء من الدنيا والآخرة 308
صالح وقومه 310
معنى قوله تعالى : “ مرج البحرين يلتقيان “ 316
المريد والولي 319
مغزى ما جرى بين الأعرابي وامرأته 320
الأعرابي يسعى لتحقيق مطلبها 323
كيف عينت الأعرابية لزوجها طريق طلب الرزق 326
الأعرابي يحمل إبريق ماء ويتوجه إلى بلاط الخليفة 328
عناية المرأة بسلامة الإبريق 330
السائل والمحسن 332
“ 14 “
صفحة الفقير إلى اللَّه والفقير إلى غير اللَّه 333
نقباء الخليفة وحجابه يستقبلون الأعرابي 335
عاشق الدنيا 337
مثل العرب : “ إذا عشقت فاعشق الحرة “338
الأعرابي يهدي إبريق الماء للخليفة 339
حكاية النحوي والملاح 340
الخليفة يتقبل هدية الأعرابي ويأمر بمكافأته 342
صفة الشيخ المرشد 349
الرسول يوصي عليا بمصاحبة العاقل 351
القزويني الذي تألم من إبرة الوشم 353
قصة الأسد والذئب والثعلب 356
الأسد يمتحن الذئب 358
الصديق الذي قال “ أنا “ 360
صفة التوحيد 361
الأسد يؤدب الذئب 364
نوح وقومه 365
الملوك والصوفية 368
الضيف يهدي مرآة إلى يوسف 372
كاتب الوحي الذي ارتد 375
قصة بلعم بن باعور وموسى 381
قصة هاروت وماروت 383
قصة الأصم الذي ذهب ليعود جاره المريض 386
إبليس ، أول شخض عارض النص بالقياس 389
“ 15 “
صفحة على المرء أن يخفي حاله عن الجاهلين 392
الروم وأهل الصين يتجادلون حول النقش والتصوير 396
كيف سأل الرسول “ زيدا “ عن حاله ، وكيف أجابه زيد .
( حديث حارثة ) 399
لقمان ور فقاؤه 406
بقية قصة “ زيد “ 408
النار التي وقعت بالمدينة في عهد عمر 418
عليّ وخصمه الكافر 419 - 430
عليّ وقاتله 431 - 435
كيف عجب آدم من ضلال إبليس 435
عود إلى قصة علي وقاتله 437
معنى غزوات الرسول 440
عود إلى قصة علي وخصمه الكافر 443
خاتمة الكتاب الأول من المثنوي 445
شروح ودراسات
الأبيات 1 - 500 449 - 467
الأبيات 501 - 1000 467 - 490
الأبيات 1001 - 1500 490 - 504
الأبيات 1501 - 2000 504 - 526
الأبيات 2001 - 2500 526 - 546
الأبيات 2501 - 3000 546 - 569
الأبيات 3001 - 3500 569 - 591
الأبيات 3501 - 4003 591 – 614
فهارس الكتاب
المراجع 616 - 626
كشاف الأعلام والجماعات والأماكن 627 - 635
كشاف الموضوعات 637 - 646
“ 16 “
“ 17 “
الكتاب الأول
المقَدّمَة
( - 1 - ) جَلال الدّين الرّومي شاعر الصّوفيَة الاكبَر
جلال الدين محمد “ 1 “ بن محمد البلخيَّ ثم القونويّ ، المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ ) ، أحد شعراء الإنسانية الأفذاذ ، وعلم شامخ من أعلام الفكر ورواده الذين جادت بهم حضارتنا الإسلامية الزاهرة ، فأسهمت بتراثه الفكريّ والفنيّ في إغناء تراث البشرية جمعاء .
لقد كان هذا الشاعر صوفياً ، اختار التصوف سبيلًا في حياته العملية ، واختاره فلسفة ووحياً لفكره وفنه الرفيع . وقد امتزجت حياته الفكرية بحياته العملية بصورة جعلت تصوفه مزيجاً من الفلسفة والحكمة العملية .
ليس تصوف شاعرنا من ذلك النوع السلبيّ الذي يدع الحياة وما فيها ، ويدعو إلى هجرها والفناء عنها فناء كاملًا ، ويعدّها شراً تورطت فيه البشرية ،
.................................................................
( 1 ) كنت قد ألقيت هذا البحث في جامعة بيروت العربية ضمن نطاق موسمها الثقافي الثالث “ 1962 - 1963 “ . وقد رأيت ضمه رأيت ضمه إلى هذه الترجمة - بعد إدخال تعديلات قليلة عليه - ليكون مقدمة لها ، وتعم بذلك فائدته .
“ 18 “
بل هو تصوف بنّاء ، يستمد عناصره من الإنسان ، ويتعمق في بحث مشاكله الروحية والعملية ، ويحاول أن يرسلم له المثل العليا في الفكر والعمل . يُعنى بالحياة التي يحياها البشر ، كما يُعني بالمصير الذي يطمحون إليه ويتوقعونه بعد مفارقة هذه الحياة . وليس شاعرنا مبدع هذا الاتجاه في التصوف ، ولكنّه أفصح الألسنة في التعبير عنه ، وألمع العقول في إبداع فلسفته وابتكار أفكاره .
ولا بدّ لنا في تقديم هذا البحث من كلمة عن حياة الشاعر وعصره .
لقد كُتب عن حياة جلال الدين كتابات كثيرة ، ولكنّ الحقائق التي تُستخلص ، من هذه الكتابات قليلة إلى حدّ بعيد .
نقرأ في سيرة هذا الشاعر أخباراً عن معجزات وخوارق تمّت على يده ، ونطلع على صور لإنسان طاقته ومستواه فوق البشر العادّيين . ومثل هذه الكتابات أوحى بها حبّ أتباعه له ، وتقديسهم لذكراه ، وتعظيمهم لشخصه ، بصورة أخذت تنمو مع الأيام . فلنقتصر هنا على ذكر الحقائق التي يمكننا أن نستخلصها عن حياة الشاعر ، معرضين عن أحاديث الخوارق والمعجزات وما صحبها من مبالغات .
وقد وردت ترجمة الشاعر في منظومة بعنوان “ ولد نامه “ نظمها ابنه سلطان ولد ، وفي كتاب “ مناقب العارفين “ للأفلاكي ، وكان هذا تلميذاً لعارف حفيد جلال الدين . كما وردت في كتب متأخرة عن ذلك ، منها كتاب “ نفحات الأنس “ للشاعر المتصوف عبد الرحمن الجامي و “ تذكرت الشعراء “ لدولت شاه .
[ مولده ونسبه ]
وُلد جلال الدين في مدينة بلخ يوم 6 ربيع الأول 604 هـ ( سبتمبر 1207 ) .
وقد لُقّب بالرومي نسبة إلى أرض الروم ( بلاد الأناضول ) حيث قضى معظم حياته . كان أبوه محمد بن الحسين الخطيبي ، وكان يدعى بهاء الدين ولد .
وقد انتسب جلال الدين من ناحية الأب إلى أبي بكر الصديق ، ومن ناحية الأم إلى أُسرة خوارزم شاه التي كانت تحكم إقليم ما وراء النهر ، وتسيطر على بقاع أُخرى من العالم الإسلامي ، حين
“ 19 “
بدأت غارات المغول على الشرق الاسلامي في مطلع القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) .
كان أبو الشاعر عالماً دينياً من أتباع المذهب الحنفيّ . والظاهر أنّه أحرز مكانة مرموقة حتى لُقّب بسلطان العلماء .
وقد هاجم الفلاسفة والمتكلمين في زمنه ، ولعلّ هذا هو السبب ، فيما رُوى من اختلافه مع المفكر العربي فخر الدين الرازي الذي كان معاصراً له ، وكان من نزلاء بلخ . وقد اضطربهاء الدين وَلَد إلى أن يترك هذه المدينة مصطحباً أُسرته عام 609 هـ .
والروايات في بيان أسباب ذلك متعدّدة ، منها أنّه اختلاف مع حاكم البلاد ، ولكنّ الأغلب هو أنّه ترك موطنه حين شعر بقرب هجوم المغول . وكان جلال الدين حين ذاك لا يزال في الخامسة من عمره .
وأخذت الأسرة تنتقل من مدينة إلى أُخرى . وفي نيسابور التقت بالشاعر الصوفيّ الكبير فريد الدين العطار ، الذي تذكر الروايات أنّه أخذ الطفل جلال الدين بين ذراعيه ، وأهداه نسخة من منظومته “ أسرار نامه “ ، كما تنبّأ له ببلوغ المرتبة العليا في التصوف . ومن هناك ذهبت هذه الأسرة إلى بغداد ثم إلى مكة .
وانتقلت بعد ذلك إلى ملطيّة حيث أقامت أربع سنين ، وبعد ذلك ذهبت إلى لارندا ( قرمان الآن ) ، حيث أقامت سبع سنين ، ثم تركت لارندا إلى قونية حيث استقر بشاعرنا المقام .
وكانت قونية عاصمة للسلطان علاء الدين السلجوقي الذي كان من سلاجقة آسيا الصغرى . وقد توفي أبو الشاعر في هذه المدينة عام 628 هـ .
[ أساتيذه ]
تلقّى الشاعر تعليمه في أوّل الأمر على أبيه ، ثم على أحد أصدقاء أبيه ، وكان يدعى برهان الدين محقّق الترمذيّ .
ومما روى أنه ذهب إلى الشام بناء على نصح أستاذه برهان الدين ، وأنه أقام سنوات . وكان في دمشق حينذاك الصوفيّ الكبير محيي الدين بن العربي .
ولا تذكر هذه الرواية أن جلال الدين لقي ابن العربي ، كما أنّ شعر جلال الدين لا يشير إلى شيء من ذلك .
وكذلك زيارة جلال الدين لدمشق وإقامته بها سنين
“ 20 “
طويلة ليست من الأمور التي نعلم شيئاً واضحاً عن تفاصيلها .
[ شروع تدريسه ]
توّلى جلال الدين التدريس في مدينة قونية بعد وفاة أستاذه برهان الدين محقّق سنة 638 هـ . وهناك حظي بعطف سلطانها السلجوقيّ . وقد بقي مقيماً في قونية ، لا يفارقها إلا ليعود إليها ، وهناك تجمّع حوله عدد من التلاميذ والمريدين .
ولم يكن جلال الدين حينذاك يشتغل بنظم الشعر ، كما أنّه لم يُؤثر عنه اتباع طريق الصوفيّة الذي عُرف به فيما تلا ذلك من الأيام ، وأصبح يمثّل علماً من أكبر أعلامه .
لقد ظهرت عبقرّية الرومي كشاعر في فترة كان قد بلغ فيها مرحلة متقدّمة من النضج الفكري والنفسيّ .
ولكنّ العجيب في تلك العبقرّية أنّها جعلت إنتاجه العقليّ بعد أنّ قارب الأربعين يختلف اختلافاً كليّاً عن إنتاجه السابق على ذلك . لقد كان واعظاً وعُدّ من الفقهاء الأحناف ، فأصبح صوفيّاً فنّاناً شاعراً ، وحكيماً أخلاقياً وفيلسوفاً إنسانياً .
كيف حدث كل هذا ؟
إنّ المصادر تصوّر لنا هذا الانتقال بأنّه كان فجائياً ، نشأ من التقاء الشاعر بصوفيّ كثير التجوال كان يُدعى شمس الدين التبريزي .
حقّاً لقد كان لهذا الرجل أعمقُ الأثر في نفس جلال الدين.
ولكنّ وقوع الانقلاب في حياة الرومي لا يمكن أن يحدث بتلك الصورة المفاجئة .
فلا بدّ أنّ الرومي كان ميالًا إلى التصوف ، نزّاعاً إلى ذلك التأمل الروحيّ العميق . وأنّه بعد التقائه بذلك الصوفي وجد نفسه ، وأدرك حقيقته ، فانطلق في الطريق الذي كان مقدّراً له أن يخلدّ اسمه على الأيام ، ويضعه في مصافّ الخالدين من شعراء العالم ومفكّريه .
ذكر الرومي هذا التحّول في إحدى رباعيّاته فقال :” عندما اشتعلت نيران الحبّ في صدري ،
“ 21 “
أحرق لهيبها كلّ ما كان في قلبي . * فاز دريت العقل الدقيق والمدرسة والكتاب ،
وعملت على اكتساب صناعة الشعر ، وتعّلمت النظم . “
[ لقاء الرومي والتبريزي ]
إنّ لقاء الرومي والتبريزي يمثّل أهمّ نقطة فيما شهدناه من تطوّر روحيّ عميق عند هذا الشاعر . لقد ثمّ هذا القاء بين الشاعر والتبريزي في عام 642 ه ، بمدينة قونية . كان شمس الدين صوفيّاً متجولّا بلغ الستين من عمره ، وقد جاء به تجواله إلى تلك المدينة . وما كان جلال الدين يلتقي به حتى وجد فيه الإنسان الكامل ، والمثل الأعلى لما يمكن أن يطمح إليه البشر .
وتذكر تراجم الشاعر أنّه أخذ شمس الدين إلى داره وأنهّما بقيا معاً لا يفترقان مدة عام أو عامين . وليس يعلم أحد ماذا تمّ في هذا للقاء ، ولكنّ المؤرخين متفقون على أنّ الروميّ قد تحوّل بعده إلى إنسان آخر ، اختلفت كلّ أحواله عما كانت عليه من قبل . وكتب التراجم لا تقدّم لنا معلومات واضحة عن التبريزي هذا ، فأصله غير معروف على وجه اليقين .
ولقد وصفه البعض بأنّه كان شبه أُمّيّ ، ولكنّه كان يتسم دائماً بالحماس الروحيّ العظيم في حديثه ، وبأنّه كان ذا أثر بالغ في نفوس من استمعوا إليه .
وكان المفروض أنّ هذا الصوفيّ قد مضى دون أن يخلف أثراً يُذكر ، ولكنّ الباحثين عثروا أخيراً على نصّ منسوب إليه ، لم يُنشر بعد ، عنوانه “ المقالات “ “ 1 “ .
والمحقّق - على أية حال - أنّ التبريزي قد أثرّ في حياة شاعرنا أعمق الأثر إلى حدّ أنَّه صرفه عن تلاميذه صرفاً كاملًا ، وجعله يُعرض عن
..............................................................................
( 1 ) .” arberry : classical persianlit erature , p “ . 217
“ 22 “
الوعظ ، وينصرف إلى حياة التأمل الصوفيّ ، وينطلق في التعبير عن حياته الجديدة بفيض غامر من الشعر بلغ أسمى درجات العبقرّية .
ولقد حقد تلاميذ الرومي على ذلك الدخيل الذي صرف عنهم أستاذهم ، وهاجموه ، فما كان منه إلا أن سافر خفية إلى دمشق .
فحزن جلال الدين وابتأس لا فتراقه عن هذا الصديق الروحيّ ، ونظم كثيراً من شعره الوجدانيّ في فترة الفراق تلك ، ولم ينقذه من شجونه إلا ابنه سلطان ولد ، الذي ذهب إلى دمشق وعاد بشمس الدين . وقد ذُكر أنّ تلاميذ الرومي هاجموا التبريزي من جديد فرحل للمرة الثانية ؛ وأنّ الرومي عمل من جديد لإعادته .
ولكنَّه الختفي نهائيّاً عام 645 هـ . قيل في تفسير هذا الاختفاء إنّ تلاميذ الرومي قد قتلوه . وقد تألم الرومي كثيراً لفقدا صديقه ، وهتف من أعماق قلبه قائلًا :
« من ذا الذي قال إنّ شمس الروح الخالدة قد ماتت ؟
* ومن الذي تجرّأ على القول بأنّ شمس الأمل قد توّلت ؟
إنّ هذا ليس إلا عدوّاً »
للشمس وقف تحت سقف * وعصب كلتا عينيه ثم صاح :
ها هي ذي الشمس تموت » .
ومهما يكن من أمر ، فقد كان لصداقة الرومي والتبريزي حصيلة شعرّية هائلة جادت بها عبقرّية الرومي . فقد نظم ديواناً كاملًا سمَّاه « ديوان شمس تبريز » ذكرى لصديقه وموّجهه الروحيّ شمس الدين التبريزيّ .
ولم يقف الشاعر عند حدّ نسبة هذا العمل الأدبيّ في إجماله إلى صديقه ، بل إنّه نسب أكثر غزليات هذا الديوان إلى صديقه بوضع اسمه في تخلص كل منها .
( والتخلص في الغزال الفارسيّ هو أن يذكر الشاعر اسمه الأدبيّ في البيت الأخير من الغزل ) . أما القليل من
“ 23 “
الغزليّات الذي خرج فيه عن ذلك فقد تخلّص فيه الشاعر باسم أدبي اتخذه لنفسه هو “ خاموش “ . ويُقال إنّ جلال الدين أنشأ طريقته الصوفيّة - التي عُرفت فيما بعد بالطريقة المولوّية - ذكرى لأستاذه شمس الدين .
وكما تأثَّر جلال الدين بأستاذه التبريزيّ ، تأثّر على النحو ذاته ببعض تلاميذه ومريديه . فقد أنست روحه إلى تلميذه صلاح الدين زركوب ( الصائغ ) .
وحينما توفي هذا في عام 657 هـ .
تحوّل حبّ جلال الدين إلى تلميذه حسن حسام الدين ( 622 - 683 هـ . ) الذي خلفه في رئاسة الطريقة المولوّية بعد وفاته .
وقد نُسب إلى حسام الدين هذا الفضلُ في حثّ أستاذه على نظم المثنوي . وقد كان له خير عون إبّان عمله الشاقّ ، فقد كان يكتب ما يمليه عليه الشاعر ، ثم يعود فيقرؤه عليه ، وأحياناً يشنده بصوته الجميل . وكلم قضيا من ليال طوال في هذا العمل الشاق الذي استغرق سنين طويلة . وقد ذكر جلال الدين تلميذه حسام الدين في المقدّمة العامة للمثنوي ، وأثنى عليه وعلى أسرته كما ذكره في أوائل أجزاء المثنوي جميعاً ما عدا الجزء الأول ، وامتدحه بأرفع العبارات .
لم تشتمل كتب التراجم - رغم وفرة ما كتبته عن جلال الدين - على حقائق أكثر من تلك التي ذكرتها .
والذي يمكن أن نذكره إلى جانب تلك الحقائق أنّ الشاعر عاش حياة قديس ، يعلّم ويرشد ، ويحضر مجالس السماع والطرب - وقد أحاط به عدد كبير من التلاميذ والمريدين - إلى أن توفي عند غروب الشمس في الخامس من جمادي الثانية عام 672 هـ .
ولقي بعد موته من التكريم ما لقي في حياته ، فقد بُني له ضريح أُقيمت فوقه قبّة عرفت بالقبة الخضراء ، أُضيف إليها بعد انتهائها مبان أُخرى ، وأُنفق على ذلك ألوف الدراهم . كما أوقفت على الضريح أوقاف للسدنة ولقراء المثنوي .
“ 24 “
ومن الطريف أنّ الرحالة ابن بطوطة مرّ بقونيه بعد وفاة الشاعر بنحو ستين عاماً وكتب عنه ما يلي :
“ وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا ، وكان كبير القدر ، وبأرض الروم طائفة ينتمون إليه ويُعرفون بإسمه فيقال لهم الجلاليّة . . . وعلى تربته زاوية عظمية فيها الطعام للوارد .
يُذكر أنه كان في ابتداء أمره فقيهاً مدرَّساً يجتمع إليه الطلبة بمدرسته بقونيه ، فدخل يوماً إلى المدرسة رجل يبيع الحلوى وعلى رأسه طبق منها ، وهي مقطّعة يبيع القطعة منها بفلس ، فلما أتى مجلس التدريس قال له الشيخ : “ هات طبقك . “ فأخذ الحلوانيّ قطعة منه وأعطاها للشيخ فأخذها الشيخ بيده وأكلها ، فخرج الحلوانيّ ، ولم يُطعم أحداً سوى الشيخ ، فخرج الشيخ في اتباعه وترك التدريس ، فأبطأ على الطلبة ، وطال انتظارهم إياه ، فخرجوا في طلبه فلم يعرفوا له مستقرّاً ، ثم إنّه عاد إليهم بعد أعوام ، وصار لا ينطق إلا بالشعر الفارسي المتعلّق ( المزدوج ) الذي لا يُفهم ، فكان الطلبة يتبعونه ويكتبون ما يصدر عنه من ذلك الشعر ، وألّفوا منه كتاباً سمّوه المثنوي . وأهل تلك البلاد يعظمون ذلك الكتاب ويعتبرون كلامه ، ويعلمّونه ويقرأونه بزواياهم في ليالي الجمعات “ “ 1 “ .
ورغم الطابع الخرافيّ لتلك القصّة فإنّها تؤيّد الحقائق من وجوه أهمها ما يلي :
أولًا : غموض قصّة الرومي مع التبريزي منذ وقت مبكّر .
.......................................................................
( 1 ) رحلة ابن بطوطة . ج 1 ، ص 187 ، طبعة المكتبة التجارية ، القاهرة سنة 1958 .
“ 25 “
ثانياً : انتقال الشاعر الفجائيّ من التدريس إلى الشعر وانطلاق قريحته بالشعر بصورة ملحوظة .
ثالثاً : تعظيم الشاعر بعد وفاته وإقامة زاوية كبيرة على ضريحه يُقّدم فيها الطعام للواردين .
رابعاً : اشتهار المثنوي وتعظيمه منذ وقت مبكر .
خامساً : إطلاق اسم الجلاليّة على أتباع الرومي في ذلك الوقت ، واشتهار الشاعر بلقب “ مولانا “ الذي اشتقّ منه فيما بعد اسم أتباع جلال الدين ، فأصبحوا يُعرفون بالمولوّية حتى زماننا هذا .
أما زمن الشاعر فيُعدّ عصراً من أقسى ما مرّ على البشرية من عصور .
لقد عاش الشاعر في القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) ، وهو القرن الذي شهد غارات المغول المدّمرة على العالم الإسلاميّ .
فقد انطلقت جحافلهم تدكّ معالم الحضارة وتبيد صروح المدنيّة بصورة لم يُعرف لها مثيل من قبل .
وتعكس لنا كتب التاريخ الشرقيّ والغربيّ على السواء أصداء هذه المأساة المروِّعة . ولا يكاد يختلف أسلوب ابن الأثير المؤرّخ العربيّ الذي عاصر تلك الحوادث عن أسلوب المؤرّخ الإنجليزي ماتيو باريسMatthewparis” 1 “ الذي كتب في ذات الوقت تقريباً ، ووصف غارات المغول بأسلوب يتفجّر منه الرعب .
والجدير بالذكر هنا أنّ الشاعر عاش قريباً من مسرح تلك الحوادث ،
..............................................................................
( 1 ) ماتيو باريس راهب إنجليزي له كتابات كثيرة سجل بها حوادث التاريخ الأوروبي بين عامي 1235 ، 1259 على طريقة الحوليات . وتعد كتاباته من أهم المصادر لدراسة تلك الحقبة من تاريخ أو روبا .
“ 26 “
ومع ذلك وجد في نفسه تلك الطاقة الهائلة على الإنتاج الأدبيّ ، وبقي رغم تلك الحوادث الوحشيّة مؤمناً بالإنسان ، وبأصله الإلهيّ ، ناظراً إلى البشرية كلها نظرة الحنان والعطف ، مسخِّراً كلّ ملكاته للنهوض بها من كبوتها ، وتخليصها من ذلك المصير الذي انتهت إليه .( - 2 - ) ما الآثار الأدبية التي تركها جلال الدين ؟
إن اثار هذا الشاعر تنقسم إلى قسمين ، قسم منثور ، وقسم منظوم .
أما القسم المنثور فعلى الرغم من أهميّته لدارسة الشاعر ، فإنّه لم يكن المجال الذي تجلّت فيه عبقريّته . ويتكوّن إنتاجه النثريّ من ثلاثة مؤلفات ، أوّلها يدعى المجالس السبعة ، وهو مواعظ وخطب من ذلك النوع المعروف .
والظاهر أنّها أُثرت عنه في فترة حياته الأولى قبل أن يعتنق التصوف فكراً وعملًا .
وثانيها مجموعة من الرسائل كتبها إلى أقاربه وأصدقائه .
وأما ثالثها فكتاب يدعى “ فيه ما فيه “ ، ويشتمل على أحاديث جلال الدين ومحاضراته التي كان يلقيها على تلاميذه ومريديه في تلك المجالس الخاصّة التي كانت تجمعهم . وبطبيعة الحال لم يكن جلال الدين هو الذي جمع نصوص هذا الكتاب ، وإنما هو من جمع أحد أبنائه أو مريديه .
الجانب الهام من إنتاج جلال الدين هو شعره . وهو الجانب الذي يعنينا
“ 27 “
في هذا البحث . وقد ذكرت من قبل أنّ هذا الإنتاج بلغ نحو سبعين ألف بيت . فإذا كانت هذه الكثرة مقرونة بالإجادة فمعنى هذا أنّ شاعرنا قد انطلقت شاعرّيته بفيض غامر من الشعر قلما أُتيح لشاعر آخر في أيِّ زمان أو بأية لغة . ومع ذلك فشاعرنا لم يبدأ نظم الشعر إلا حين شارف الثامنة والثلاثين من عمره ، وقد عاش حتى بلغ من العمر ثمانية وستين عاماً .
إنّ تراث جلال الدين الشعريّ ينقسم من حيث الشكل إلى ثلاثة أقسام هي الديوان الذي سُمّي بديوان شمس تبريز ، والرباعيّات والمثنوي .
فأما الديوان فيشتمل في أكثره على غزليات صوفيّة يبلغ عددها نحو 3500 غزلًا نظمت في بحور عديدة ، كما يضمُّ أيضاً ملمّعات تركيّة وعربيّة ويونانيّة ، وقصائد وترجيعات فارسيّة . ويبلغ عدد أبياته - في أقدم النسخ الخطيّة المعروفة نحو 43 ألف بيت ، وذلك حسب إحصاء قام به أستاذ إيرانيّ معاصر كرّس أكثر أبحاثه لدراسة الروميّ ، هو الأستاذ بديع الزمان فروزانفر “ 1 “ .
أما الرباعيّات فيُنسب إلى شاعرنا منها 1659 رباعيّاً عدد أبياتها 3318 ، حسب إحصاء فروزانفر “ 2 “ . وبعض هذه الرباعيّات قد يُشكّ في نسبته إلى الشاعر ، ولكنّ الكثير منها يمكن أن يُعدّ بحقّ من إنتاجه ، لما يتجلى فيه من مطابقته لتفكيره وأسلوبه .
.......................................................................
( 1 ) أنظر مقاله عن جلال الدين في مجلة الدراسات الأدبية “ السنة الأولى - العدد الرابع ، شتاء 1960 “ ص 62 . “ يصدرها قسم اللغة الفارسية وآدابها بالجامعة اللبنانية “ .
( 2 ) نفس المصدر .
“ 28 “
أما الأثر الثالث فهو المثنوي : وكلمة المثنوي تعني ذلك النظم الذي يُعرف بالمزدوج في العربيّة ، وهو يعتمد في التقفية على توحيد القافية بين شطري كل بيت من أبيات المنظومة . فكل بيت من الأبيات تكون له قافيته المستقلّة ، وبهذا تتحرّر المنظومة من القافية الموحّدة التي طالما عاقت شعراء العرب عن نظم المطوّلات .
فهذا التعدّد في القوافي هو الذي مكَّن شعراء الفرس من نظم الملاحم المطوّلة على الأوزان العربية ، والانطلاق بها إلى أبعد مدى أرادوه .
وقد سمّى جلال الدين كتابه هذا “ المثنوي “ .
وينقسم هذا الكتاب إلى ستة مجلدات تضم نحواً من خمسة وعشرين ألف بيت .
ولا تتصل تسمية الكتاب بموضوعه وإنما بشكل قوافيه ، فهي تسمية شكلية بحتة .
والإيرانيون يعظمون هذا الكتاب إلى أبعد الحدود .
وقد بالغوا في تعظيمه حتى سموّه “ قرآن بهلوي “ أي قرآن الفارسية .
يقول جلال الدين في مقدمته العربية :
“ هذا الكتاب المثنوي ؛ وهو أصول أصول أصول الدين ، في كشف أسرار الوصول واليقين ، وهو فقه اللَّه الأكبر ، وشرع اللَّه الأزهر ، وبرهان اللَّه الأظهر ، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، يشرق إشراقاً أنور من الإصباح . . وهو جنان الجَنان ، “ ذو العيون والأغصان . . . .
الأبرار فيه يأكلون ويشربون ، والأحرار فيه يفرحون ويطربون ؛ وهو كنيل مصر شراب للصابرين ، وحسرة على آل فرعون والكافرين . “ “ 1 “ كتاب المثنوي هذا يعد أثراً من الآثار الأدبية الخالدة ، يرتفع فيه
...........................................................
( 1 ) أنظر المقدمة العربية للمثنوي .
“ 29 “
الشعر إلى مستوى عالمي فذّ . وإذا أردنا أن نحدِّد موضوعاً لهذه المنظومة المطوّلة ، وجدنا أنّ ذلك من الأمور العسيرة .
إنّ موضوعه الوجود كلّه بصفة عامة ، والإنسان والحياة بصفة خاصّة . وكلّ جزء من الأجزاء الستة لهذه المنظومة يشتمل على نيف وأربعة آلاف بيت .
والمثنوي كله مبنيّ حول مجموعة من القصص ، ولكنّ رواية القصص في هذه المنظومة لا تُقصد لذاتها ، وإنما هي لبيان مقاصد فلسفيّة ، أو لأهداف تعليميّة . فالشاعر يبدأ القصّة فلا يكاد يروي أولى وقائعها حتى يستطرد منها للتحدّث في حكمة هذه الواقعة ، فيذكر الآيات القرآنيّة .
ويفسّرها ، وقد يذكر الأحاديث ، ويظل يبني عليها الآراء والحكم .
ثم يعود بعد ذلك إلى القصّة ليستأنف روايتها ، ويظلّ يعالجها على هذا النحو حتى ينتهي منها . وإذا رجعنا إلى حديث الإحصاءات وجدنا أنّ مؤلِّفاً هنديِّاً يدعى تلمذ حسين يذكر في كتاب ألفه يُدعى “ مرآة المثنوي “ أنّ الرومي قد عالج في المثنوي 1281 موضوعا .
الكُتَّابُ من أبناء الشرق مولعون بأن ينسبوا إلى جلال الدين أنه عالج في ملحمته هذه جميع المعارف ، وتناول بالبحث كل العلوم .
ولست أُحبّ أن أمضي في تلك السبيل فأخلط بين ثقافة الشاعر التي تنعكس في إنتاجه الفنيّ ، وبين اعتباره صاحب علم يحميع المعارف ، يُقرأ لكي تُلتمس عنده هذه العلوم المختلفة . فالشاعر لو ذكر الكيمياء أو سواها فليس معنى هذا أنّه أراد أن يفيد دارس الكيمياء في هذا العلم ، وإنما هو يستخدم كل ثقافته التي وعاها في خدمة فنّه ، وإرساء أسس تعاليمه العرفانيّة . ولذلك فإني أميل إلى اعتبار المثنوي أثراً فنيّاً قبل كل شيء ، ومصدراً للاطلاع على القيم الإنسانيّة والخلقيّة التي انبثقت من الحضارة الإسلامية . والشاعر يستخدم القصص في إيضاح آرائه - كما ذكرنا - ويفسر الآيات القرآنيّة ، ويذكر الأحاديث النبوّية ، ويقتبس
“ 30 “
الحكمة منها ، ويتوسّع في بيان مدلولاتها . وهو في كل ذلك شاعر أصيل ، نلمس عنده الإحساس الصادق ، والعاطفة الجيَّاشة ، والعقل المعلّم ، والنفس الصافية التي تستطيع أن تبثّ الصفاء في نفوس الآخرين وتشيع فيها البهجة ، وتصحبها معها في رفق وأناة في دروب من التأمّل العميق ، وآفاق من الفكر الرفيع ، تعينها على تحقيق حياة أسمى ، والطموح إلى غايات أعلى من تلك الغايات المادّية التي يعنو لها البشر في هذه الحياة .
ولكنّ طريقة الشاعر في معالجة هذه الموضوعات قد خلت من الترتيب الدقيق ، فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع ، ومن مقصد إلى مقصد ، دون منهج محدّد يتبعه في ذلك الإنتقال . ومع ذلك فقد عكف باحث ألماني يدعى جوستاف ريشترGustav Richterعلى المثنوي ، واستطاع أن يبين أنّ كلّ جزء من أجزائه يمثل وحدة فنية متكاملة ، وأنّ ما يبدو فيه من انطلاق على غير نظام موضوعيّ محدّد ليس هو الواقع ، وإنما هناك ارتباط فنيّ دقيق في التنقل من موضوع إلى آخر .
وقد ذهب إلى ذلك أيضاً الأستاذ نيكولسون الذي عكف على ترجمة المثنويّ ودراسته خمسة وعشرين عاماً “ 1 “ .
ومهما يكن الأمر فإن هذا التنقل بين الموضوعات لا يعني أن الشاعر لا يعالج الموضوع الواحد بصورة فنيّة مترابطة . فنحن نستطيع أن نستخرج من المثنوي موضوعات كثيرة تناولها الشاعر تناولًا فنيّاً بارعاً ، واستطاع أن يقدمها لنا في هيكل فنيّ متكامل العناصر ، مترابط الأجزاء ، تجمعه وحدة فنيّة أكيدة .
.........................................................................
( 1 ) .Arberry : cIassical persian literature , p . 236
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin