“ 31 “
( - 3 - ) الفنّ عند جلال الدين
ليس من المستطاع أن أحيط بفنّ هذا الشاعر العملاق في مثل هذا البحث . ولكن حسبي أن أذكر بعض الحقائق التي تعين الدارس على تذوّق هذا الفنّ ، والإلمام ببعض خصائصه . لقد امتاز شعر جلال الدين بميزات فنيّة عديدة أهمّها ما يلي :
أولًا : روعة الصور البيانيّة التي عبر بها الشاعر عن أفكاره.
فهو يستطيع أن يُجسِّد الأفكار ، فيجعلنا نشعر بالمعنوّيات كأنها محسوسات نكاد نلمسها .
كما أنّه يستطيع في سهولة ويسر أن ينطلق من المحسوسات إلى المعنوّيات . وهو يمزج بين الطبيعة والحياة والنفس الإنسانيّة في صور متكاملة تجمع عمق التأمل إلى روعة التصوير . ولنضرب لذلك بعض الأمثلة :
يتحدّث الشاعر في بعض من أبيات المثنوي عن تجدّد الدنيا في كل لحظة ثم ينتقل من ذلك إلى دعوة الإنسان لتأمّل نفسه وما يطرأ عليها من تغيّر مستمرّ .
يقول :
“ في كلّ لحظة يا رب قافلة وراءها قافلة تسير من العدم إلى الوجود .
“ 32 “
ففي الخريف تذهب آلاف الأغصان والأوراق منهزمة إلى بحار الموت .
بينما الغراب يرتدي السواد كالحزين وينوح على الخضرة في البستان .
وثانيةً يجيء الأمر من سيّد الأرض فيقول للعدم :
“ ردَّ ما أكلت ! أيها الموت الأسود ! ردّ ما أكلت من زروع وأعشاب وورق وحشائش . “ فيا أخي ! اجعل عقلك معك لحظة واحدة ! إنّ بك في كل لحظة خريفاً وربيعاً ! وانظر بستان قلبك أخضر ريّان نضراً ، حافلًا ببراعم الورد والسرو والياسمين . “ “ 1 “ فلنتأمل هنا كيف بدأ الشاعر من فكرة عامة هي تغّير الدنيا في كل لحظة ، وضرب لذلك مثلًا بالربيع والخريف ، ثم صورهما بصور بيانيّة جميلة ، وانتقل من ذلك إلى دعوة الإنسان لتأمل نفسه ، والنظر إلى ما يطرأ عليها من ازدهار يشبه الربيع أو انكهاش يشبه الخريف .
وفي صورة أخرى يصورّ الإنسان وما يتعرض له من مغريات الحياة فيقول :
“ ربّاه ! إنّ أمامنا مائة ألف من الشباك والحبّ ، ونحن كالطيور الحريصة الجياع ! ففي كل لحظة نقع في شرَك جديد ، حتى ولو كان كل منا بازاً أو عنقاء !
................................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1889 ، 1892 - 1897 .
“ 33 “
وأنت - يا من لا حاجة بك الينا - تخلّصنا في كل لحظة ، ولكننا نعود فنقع في حبائل أخرى ! فنحن نضع القمح في هذا المخزن ، بيد أننا لا نكاد نجمع القمح حتى نفقده “ 1 “ .
وليس ينتهي بنا التفكير آخر الأمر أن هذا الخلل الذي يقع بالقمح جاء من مكر الفأر .
فمنذ أن صنع الفأر جُحراً في مخزننا ، خرّب بخداعه هذا المخزن .
فاعملي أيتها النفس أولًا على دفع شرّ الفأر ، ثم اجتهدي في جمع القمح ! فلو لم يكن في مخزننا فأرٌ سارق فأين محصول أعمالنا طيلة أربعين عاماً . “ “ 2 “ .
فالقمح في هذه الصورة يرمز إلى ما يحصّله الإنسان من أعمال صالحة ، وأما الفأر فيرمز إلى الشيطان الذي يجد سبيله إلى تلك الأعمال فينتقص منها .
وتتجلى مقدرة الشاعر على التصوير البياني فيما يسوقه من الصور المتلاحقة لبيان موقف من المواقف أو حال من الأحوال . يقول مثلًا عن القياس الفاسد وكيف أنه يجعل الناس يقيسون الأمور على ظاهرها لا على جوهرها وحقيقتها :
“ فقد ادّعى ( هؤلاء ) أنَّهم مساوون للأنبياء ، وظنوا أنفسهم
..............................................
( 1 ) القمع هنا رمز للأعمال الصالحة . والشاعر يقول هنا إنه يجمع الأعمال الصالحة ولكن هذه الأعمال تذهب بها السيئات .
( 2 ) المثنوي ، ج 1 ، 374 - 380 ، 382 .
“ 34 “
مثل الأولياء وقالوا : أنظروا ! إننا بشرٌ وهم بسر . ونحن وإياهم أسارى للنوم والطعام ! ومن عماهم لم يدركوا أن هناك فرقاً لا نهاية له بينهم وبين هؤلاء .
فالنحل كلها تأكل من مكان واحد ، ولكن يجيء من بعضها اللدغ ، ومن بعضها الآخر يأتي العسل .
ومن القصب نوعان يشربان من ماء واحد ، ولكنّ أحدهما خال والآخر ( حافل ) بالسكرّ .
فتأمل مائة ألف من أمثال هذه الأشباه ، وانظر كيف يفصل بينها طريق طوله سبعون عاماً ! فهذا يأكل فتتولد منه القذارة ، وذاك يأكل فيصبح كله نوراً إلهيّاً ! وهذا يأكل فينبعث منه البخل والحسد ، وذاك يأكل فيفيض منه عشق الأحد .
وهذه أرض طيّبة ، وتلك مالحة رديئة ، وهذا ملك طاهر وذاك شيطان ووحش ضار .
فلو تشابهت الصورتان فهذا جائز ، فالماء الملح والماء العذب شبيهان في الصفاء ! وليس يدري الفرق بينهما سوى صاحب ذوق ، فأدركة ، فهو الذي يميّز الماء العذب من الماء الملح . “ “ 1 “ والشاعر يتحدث عن الجسم والروح ، ويقارن بين إحساس الجسم وإحساس الروح فيقول :
“ إنّ حسّ الدنيا سُلّم لهذا العالم ، وأما حسّ الدين فهو
..............................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 265 - 268 ، 270 - 276 .
“ 35 “
سلّم السماء ! فاطلبْ صحة حسّ الدنيا من الطبيب ، والتمسْ صحة حسّ الدين عند الحبيب .
وصحة حس الدنيا تجيء من سلامة البدن . وأما صحة حسّ الدين فتأتي من خرابه .
فطريق الروح يخرّب الجسم ، ولكنه يعود فيعمره بعد هذا التخريب .
فهو كمن خرَّب داراً من أجل كنز الذهب ، ثم زادها عمراناً بذلك الكنز ذاته .
أو كمن قطع الماء وطهّر مجرى النهر ، تم عاد فأجرى ماء الشرب فيه .
أو كمن هدم القلعة وأخذها من الكفار ، ثم أقام على أرضها مائة برج وسدّ . “ “ 1 “ وهكذا ترى الشاعر لا يكاد يذكر فكرة من الأفكار حتى يؤيدها بعشرات الصور التي تتلاحق في روعة وجمال ، فتزيد الفكرة وضوحاً ، وتؤيّدها وتقوّيها .
ثانياً : موسيقي الشعر :
كان جلال الدين يجيد العزف على بعض الآلات الموسيقيّة ، وهو الذي توّسع بإدخال الموسيقي في مجالس الصوفية . وقد اقترن الشعر عنده بالموسيقى ، فكثيراً ما نظمه في مجلس السماع ، وكثيراً ما سمعه مقترناً بالإنشاد والأنغام .
وقد تجلى أثر هذا الإحساس الموسيقي في شعره .
فقد استطاع أن ينظم غزليات الديوان على أوزان عديدة بلغت خمسة وخمسين وزناً “ 2 “ ، بعضها كان من الأوزان المهجورة .
........................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 303 - 308 ، 310 .
( 2 ) أنظر ما قاله فروزانفر في عبارة اقتبسها منه علي دشتي في كتابه “ سيري در ديوان شمس “ ، ص 16 ، 17
“ 36 “
ومثل هذا التوسع في الأوزان ، والتنوع في الأنغام ، لا يُرى له مثيل عند غيره من الشعراء لا في الفارسية ولا في غيرها من لغات الأمم الإسلامية .
وقد استطاع أن يجعل الأوزان المهجورة - بمقدرته الفنية - جميلة الوقع سائغة الأنغام . كما استطاع أن يوّفر الموسيقى لشعرة بوسائل عديدة ، وأحياناً كان يختتم الأبيات بمقاطع صوتيّة لا معنى لها ولكنها ذات تأثير موسيقي ، ووقع جميل في السمع “ 1 “ .
وقد شهدنا في العصر الحديث من حاول اصطناع ذلك في الشعر العربي كوسيلة للتجديد في موسيقاه .
ثالثاً : للشاعر مقدرة عجيبة على أن يتناول الموضوع المطروق فيجعل منه موضوعاً جديداً وكأنه يعرضه على القارئ لأول مرة . لقد كان ينظم القصة المعروفة فيدخلها بفنّه ضمن نطاق إبداعه ، والأمثلة على ذلك كثيرة .
إن المثنوي يشتمل على بضع مئات من القصص .
وقد استطاع الباحثون من أمثال نيكولسون وفروزانفر أن يردّوا هذه القصص في - في أغلب الأحوال - إلى أصول قديمة “ 2 “ .
ولكننا إذا نظرنا إلى تلك الحكايات - كما وردت في مصادرها الأصلية - ثم نظرنا إليها عند الرومي ، وجدنا أنها قد تحوّلت تحولًا كاملًا ، وتغيرت معالمها ، وأصبحت حافلة بالمعاني الرائعة التي لم تخطر على بال مؤلف القصّة .
ولنبيّن هذا يمكننا أن نذكر على سبيل المثال قصة صغيرة من القصص
.............................................................................
( 1 ) أنظر أيضاً الفصل القيم الذي كتبه علي دشتى عن “ موسيقى ديوان شمس “ في كتابه “ سيري در ديوان شمس “ . طهران ، 1336 .
( 2 ) استطاع فروزانفر أن يرد 264 قصة من بين 275 وردت في المثنوي إلى أصول سابقة على الرومي في كتابه : “ مآخذ قصص وتمثيلات مثنوي “ ، طهران ، 1954 .
“ 37 “
المعروفة تناولها الرومي بطريقته فخلق منها عملًا فنياً ضخماً . تلك هي قصة “ الأرنب التي صرعت الأسد “ . وقد وردت هذه القصة في كليلة ودمنة “ 1 “ واستغرقت روايتها بضعة أسطر ، وخلاصتها أن أسداً كان يعيش بالقرب من أحد المروج ذات الماء والعشب الكثير ، وأن ذلك المرج كان مرتعاً لكثير من الوحوش ، تعيش فيه مستمتعة بمائه وعشبه ، ولكن الأسد كان يفسد عليها عيشها بمهاجمتها لاقتناص غذائه .
وقد رأت هذه الوحوش أن تخلص من شرِّ الأسد بأن تقدم له كل يوم دابة يأكلها ، على أن يسكن الأسد عن مهاجمتها .
وكانت هذه الدابّة التي تُرسل إلى الأسد تُختار بطريق الإقتراع . وذات يوم وقعت القرعة على أرنب ليذهب إلى الأسد ، فلم يرد الذهاب ، وأخذ يعمل الحيلة للقضاء على الأسد ، فتأخر عن الموعد الذي اعتاد الأسد أن يتلقى فيه فريسته ، ثم ذهب إلى الأسد بعد ذلك ، وأخبره بأنه تأخر لأن أسداً آخر اعترض طريقه ، وأخذ منه غذاء الملك ، وكان أرنباً آخر سميناً أرسله إليه الوحوش ، ودعا الأسد إلى أن يطهِّر الطريق من ذلك الأسد الدخيل حتى يصله طعامه دون تأخر
. فطلب الأسد من الأرنب أن يدّله على مكان ذلك العدوّ ، فأخذه الأرنب إلى بئر تَطلّع فيها فرأى خياله فظنه عدوَّه ، فوثب إليه ليقاتلة فغرق في البئر وخلصت الوحوش من شرّه .
لقد أخذ الرومي هذه القصة القصيرة ، فجعلها محوراً لألوان رائعة من الحوار ، وهيكلًا أدار حوله مناقشات ممتعة عن السعي والتوكل ، والقضاء والقدر ، وغير ذلك من المسائل .
ويمكننا أن نذكر الآن - على سبيل المثال - بعض جوانب هذه القصة كما صوّرها الرومي .
ولنبدأ بذكر الحوار الذي دار بين الوحوش وبين الأسد حين ذهبت إليه تطلب منه الأمان لقاء الحصول على رزق يومي يُرسل إليه .
…………………………………….
( 1 ) كليلة ودمنة “ ، ص 116 ، 117 ، المطبعة الأميرية ، القاهرة ، 1931 .
“ 38 “
“ قالت جملة الوحوش : أيها الحكيم العالم ! دع الحذر فليس يُغني عن قدر “ 1 “ .
إنّ في الحذر الحيرة البالغة والشرّ ، فاذهب وتوكل على اللَّه ، فالتوكل خير . ولا تضربْ بقبضتك القضاء أيها العنيف الحادّ ، حتى لا يلتحم القضاء في صراع معك .
فالمرء يجب أن يكون ميتاً أمام الحق ، وإلاجاءتة الضربة من ربّ الفلق .
فقال الأسد : “ إذا كان التوكل هو المرشد الصادق ، فإنّ الإفادة من الأسباب سنّة النبيّ .
فقد نادى الرسول بأعلى صوته أن اعقل بعيرك وتوكل على اللَّه . “ 2 “ واستمع إلى مغزى قول القائل ( الكاسب حبيب اللَّه ) ، ولا تكن بتوكلك متراخياً عن الأسباب والوسائل .
“ فقالت الوحوش : “ اعلم أن الكسب من ضعف الخلق ، وأنّه لقمة ، مزوِّرة على قدر الخلق.
فليس هناك كسب أحسن من التوكل ، وأيّ شيء أحبّ إلى اللَّه من التسليم .
فكم يفرّ المرء من بلاء ليقع في بلاء آخر ، وكم يهرب المرء من الثعبان ليلقى التنيّن ! لقد احتال الإنسان فكانت حيلته شركاً وقع هو فيه ، وكان موته فيما حسب أنه حياته ! فقد أوصد الباب والعدوُّ في منزله ، وإنّ حيلة فرعون لم تكن إلا قصّة من هذا النوع .
....................................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 908 وما يليه .
( 2 ) إشارة إلى قول الرسول عليه السلام . “ اعقلها وتوكل “ .
“ 39 “
فهذا الحقود قد قتل ألوف الأطفال ، بينما كان الطفل الذي يبحث عنه في منزله ! إنَّ بصرنا يعاني الكثير من العلل ، فاذهب وأَفْن بصرك في بصر الحبيب .
. . . . . . .
فأرواح البشر كانت - قبل أن تُخلق الأيدي والأرجل - تحلّق بوفائها في جوّ الصفاء .
وعندما قُيِّدت الأرواح بأمره تعالى : “ اهبطوا “، صارت أسيرة الغضب والحرص والرضى.
إنّا عيال اللَّه نطلب منه اللبن . وقد قال الرسول : “ الخلق عيال اللَّه . “ فذلك الإله الذي ينزل الغيث من السماء قادر على أن يمنحنا الخبز رحمةً منه وإشقاقاً .
“ فقال الأسد : “ نعم ! ولكنَّ رب العباد وضع سلّماً أمام أقدامنا ، فالواجب أن نصعد هذا السلم درجة نحو القمة ، وأما القول بالجبر فإنه طمع ساذج .
إنِّ لك ساقين فكيف تجعل من نفسك إنساناً أعرج ؟
وإن لك يدين فكيف تُخفي أصابعك ؟
فالسيد عندما يضع الفأس في يد عبده ، يتّضح مراده دون حاجة إلى القول .
. . . . . . . .
“ 40 “
فإذا توكلت على اللَّه فتوكل عليه في عملك . ألْق البذور ثم توكل على الخالق الجبار . “ فارتفع صوت الوحوش جميعاً قائلين : “ ما لهؤلاء الحريصين الذين زرعوا الأسباب - وهم ألوف مؤلفّة من الرجال والنساء - ظلوا محرومين من مواتاة الزمن ؟ .
فقد مرت آلاف القرون منذ بدء العالم ، وكان كل منها يفغر مائة فم كفم التنّين .
. . . . . . . . .
فلم يحقق لهم ذلك الصيد والعمل إلا ما قُسم لهم منذ الأزل ! لقد فشلوا جميعاً في التدبير والعمل ، وبقي قضاء اللَّه وأحكامه .
“ فقال الأسد : “ نعم ، ولكنْ انظروا إلى الجهود التي بذلها الأنبياء والمؤمنون ! لقد بارك اللَّه جهودهم وما لا قوه فيها من حرّ وبرد .
فجاءت تدابيرهم في جملة الأحوال لطيفة ، وكل ما جاء من لطيف فهو لطيف .
فاجتهد أيها السيدّ ما استطعت في اتّباع طريق الأنبياء والأولياء .
“ وهكذا يمضي هذا الحوار بين الأسد والوحوش ويمضي كلُ من المتناظرين في تأييد رأيه بالأمثال والحكايات إلى أن ترجح كفة السعي والجهد على التوكل والتراخي .
رابعاً : كانت لجلال الدين مقدرة فائفة في فنّ الحوار .
فهو لا يكاد
“ 41 “
يطرق موضوعاً من الموضوعاً حتى يعالجه في حوار يبيِّن به وجهات النظر المختلفة ، وينتهي منه إلى الرأي الذي يريد بيانه . وقد بلغت مقدرته في الحوار مستوى رائعاً . وإني أعتقد أنّ الكثير من محاوراته في المثنوي يرقى إلى مستويات الأدب التمثيلي . والحوار الذي ذكرته الآن يقدم لنا مثالًا للحوار الفلسفيّ الذي حفل به المثنوي . وهناك ألوان من الحوار ذات طابع واقعيّ ، نجد الشاعر فيها يُجري الحوار على مستوى المتناظرين ، فيكتب على لسانهم ما يلائم عقولهم ، وبهذا يقترب الحوار - إلى حد بعيد - من الواقعية التي تزيده قوة وتأثيراً .
ويمكننا أن نقتبس بعض الأبيات من حوار جرى في إحدى المشاجرات بين رجل فقير وزوجته الجاهلة ، تلوم المرأة زوجها على فقره فيقول لها :
“ إن الزوجين يجب أن يكون كل منهما على مثال الآخر . ألا فلتتأملي زوجين من الأحذية أو النعال ! فلو أنّ واحداً من النعلين ضاق بقدمك ، فلا نفع لهذين النعليْن عندك .
وهل بين مصراعي الباب واحد صغير وآخر كبير ؟ أم هل رأيت ذئبة اقترنت بأسد الغاب ؟
وليس يستقيم على ظهر البعير زوجان من الحقائب ، إحداهما صغيرة والأخرى كاملة الإتسّاع .
إنني أسير بقلب قويّ نحو القناعة ، فما لك أنت تسيرين نحو الشناعة ؟ “ “ 1 “ فنحن نرى في هذا الحديث كيف أن الشاعر قد جعله على المستوى
...................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 2309 - 2313 .
“ 42 “
الذي ينبغي أن يكون عليه حين يُوَجَّه إلى امرأة جاهلة .
خامساً : الشاعر قد استطاع - في كثير من الأحيان - أن يجعل من الأمور البسيطة التي تمر تحت أعيننا موضوعاً للشعر . فشعره يتناول الحياة بكلّ جوانبها ، وعبقريته الفنية تستطيع أن ترفع بعض الموضوعات من مستواها التافه إلى مستويات فنية تجعلها جديرة بأن تقرأ ، وتثير التأمل في النفس . وليس هذا بغريب على مثل هذا الفنان الأصيل . كما أنّنا لسنا بحاجة إلى أن نبرّر مثل هذا التصرّف من الناحية الفنيّة ، فالمصوّر مثلًا كثيراً ما يتخذ من الأمور التافهة موضوعاً للوحاته ، فيرتفع بها إلى مستوى الفنّ ، ويفرض على الأعين الحسّاسة تأمُّلها ، وعلى العقول تلقيها والتأثر بها . ومن أمثلة ذلك ما كتبه الشاعر عن البقول وهي تُطهى في القدر ، يصوّرها جلال الدين متوثبة من ألم النار ، تخاطب المرأة التي تقوم بالطهي ، معاتبة لها ، فتنهرها المرأة قائلة :
“ إنني أغليك بالنار لا لأني أكرهك ، ولكن لأنِّي أُريد أن أجعلك سائغة الطعم “ 1 “ .
فتصبحين بذلك غذاء يختلط بروح الحياة . فمثل هذا العذاب لا يهبط بك .
. . . . . . . . .
لقد فُصلت عن بستان الأرض ، وستصبحين بذلك طعاماً يدخل جسم الحيّ .
فيغدو غذاء وحيوية وفكراً . لقد كنت عصارة نباتيّة ، والآن
................................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 3 ، 4159 . . .
“ 43 “
تصبحين من أُسد الغاب .
. . . . . . . .
لقد كنت جزءاً من السحاب والشمس والكواكب ، والآن تصبحين نَفَساً وحركة وحديثاً وفكراً ! “ .
فهنا نرى كيف اتخذ الشاعر من مثل هذا العمل المعتاد ، طهي بعض البقول ، موضوعاً ينطلق منه بصورة رمزية إلى تلك المعاني .
وكثيرةُ هي الأمور البسيطة التي استخدمها الشاعر على هذا النحو فرفعها من مكانها المتواضع في الحياة إلى مقام الفكر المتأمِّل
سادساً : تكثر في المثنوي الحكم والأمثال التي يصوغها الشاعر من وحي تعاليمه الأخلاقية ، أو فلسفته الصوفية ، فتزيد شعره قوّةً في التأثير ، فالحكمة في موضعها تزيد المعنى قوّةً ووضوحاً ، وتجعل الشعر قادراً على النفاذ إلى النفس والتأثير فيها
. ومثل هذا كان ضرورياً بالنسبة لشعره التعليميّ الهادف .
ولا أريد أن أذكر هنا شيئاً من أمثال الشاعر أو حكمه ، لأنّ القليل في هذا المجال لا يدل على الكثير ، والذي يُقال في موضوع لا يمكن أن يدلّ على ما يقال من حكم في شتّى الموضوعات ، ومختلف المناسبات .
سابعاً : نجح الشاعر إلى أبعد الحدود في استخدام السخرية والتهكم لتحقيق أهدافه الفنيّة أو التعليمية .
وقد استطاع أن يرسم بالشعر لوحات تشبه لوحات “ الكاريكاتير “ : وفي الأبيات التالية يمكننا أن نرى كيف سخر من قصار النظر :
“ كانت ذبابة على عود قش فوق بول حمار ، وقد رفعت رأسها
“ 44 “
كربّان السفينة ! وقالت : “ إنّي أسمّيهما بحراً وسفينة ، وهذا ما استغرق فكري فترة من الزمن ! فانظر هذا البحر وتلك السفينة ، وأنا فوقهما الربَّان البارع الحصيف الرأي ! “ فكانت هذه الذبابة تسيّر سفينتها على صفحة البحر ، وقد بدا لها هذا القدر ماء لا يُحدّ .
لقد كان هذا الماء يبدو بلا حدود بالنسبة لها ، ومن أين لها ذلك النظر الذي يراه على حقيقته ؟
إن عالمها يمتد إلى المدى الذي يدركه بصرها ، فعلى قدر العين يكون مدى بحرها . “ “ 1 “ ثامناً : الشاعر متنوّع الأساليب ، وقد هدته سليقته إلى نظم الشعر بصور وأساليب متبانية تتلاءم مع عديدٍ من المذاهب الفنيّة التي ظهرت خلال القرون . فعنده الشعر الذي يمكن أن يُعد واقعيّاً ، وعنده الشعر العاطفيّ المثاليّ ، وعند الشعر الرمزيّ ، بل عنده شعر اللاوعي .
ومن الجدير بالذكر هنا أن الصوفيّة هم أول من قال بأدب اللاوعي :
فقد أثر عن الكثيرين منهم نظم الشعر في حالات الوجد الصوفيّ ، حالات الفناء عن الذات ، التي كانوا يخرجون فيها عن العقل الواعي . ومما هو جدير بالذكر أيضاً أن الصوفيّة - بقولهم بالوحي والكشف - قد فتحوا السبيل أمام ألوان جديدة من التفكير في طبيعة الأدب والفن ، بعد أن ظلت فكرة المحاكاة التي قال بها أرسطو مسيطرة على مفاهيم النقد الأدبيّ قروناً عديدة . وقد سبقوا بذلك فرانسيس بيكون الذي صنّف
………………………………………………..
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1082 - 1087 .
“ 45 “
المعرفة البشريّة على أساس ملكات إنسانيّة ثلاث هي العقل والذاكرة والخيال ، وجال الخيال مصدر الشعر فكان ذلك خروجاً على مذهب المحاكاة الأرسطيّ .
وقد يكون من الطريف أن نذكر هنا مثالًا لشعر الوجد الصوفيّ عند جلال الدين ، وهو الذي يمكن أن يُعدّ من شعر اللاوعي . قال في ديوان شمس تبريز :
“ هذه الدار التي لا تفتر فيها الألحان ، سل ربّها أيّ دار هذه ؟
إن كانت الكعبة فما صورة الصنم هذه ؟
وإن كانت دير المجوس فما هذا النور الإلهي ؟
في هذه الدار كنز يضيق به العالم ، وإنما هذه الدار وهذا السيّد ( رب الدار ) فعل وذريعة .
لا تَضع على الدار يداً فما هي إلا طلسم ، ولا تُكلّم السيد فقد أفنى الليل سُكراً .
تراب هذه الدار وقمامتها مسك وعنبر وعطر . كل سطحها وبابها شعر وألحان . فمن وجد سبيلًا فيها فهو سلطان الأرض وسليمان الزمان .
أيها السيد ! أطلَّ علينا من الشرفة ، فإن في خدك الجميل أمارة من الإقبال .
أقسم بروحك أن ما عدا رؤية وجهك ، ولو كان ملك العالم ، خيال وخرافة .
تحيّر البستان أي ورق وأي زهر ! وولهت الطير أي شبك وأي حَبّ !
“ 46 “
هذا سيّد الفلك كالزُهرة والقمر ، وهذي دار العشق لا حدّ لها ولا نهاية . “ “ 1 “( - 4 - ) موضوعات الرومي
إذا أردنا أن نقسم شعر جلال الدين على أساس مضمونه ، وجدنا أنه ينقسم إلى قسمين متميزين ، الأول منهما شعر وجدانيّ فلسفيّ يتناول معاني الصوفيّة ، من حديث عن المحبّة الإلهية ، والوجد ، والنفس الإنسانية ، وأصلها الإلهيّ ، وحنينما إلى ذلك الأصل الذي انفصلت عنه ، ولمحات عن وحدة الوجود لا كمسألة فلسفيّة ولكن كموضوع ذوقي ( فهو في هذه الناحية يختلف اختلافاً كبيراً عن يحي الدين بن عربي ) .
والشاعر في هذا اللون الوجدانيّ محلّق دائماً في آفاق العالم الروحي ، لا يكاد يمس الحياة المادّية إلا ليبيّن تفاهتها واتضاعها إذا قيست بحياة الروح ، وما تنطوي عليه من المباهج ، وما تُضمره للانسان من سعادة أبديّة قوامها الكمال والخلود .
أما القسم الثاني من شعره فشعرُ إنسانيّ أخلاقيّ ، تناول في جانب كبير منه الإنسان ، وبيّن أهميّته في هذا الكون ، ورسم المثل العليا للحياة الإنسانية في هذا العالم . وهو في هذا اللون من الشعر معلم أكثر منه فيلسوف ، يترك الرمز في كثير من الأحوال ، ويستخدم القصص والأمثال لبيان الآراء التي يدعو إليها .
وفلسفته الخلقيّة قائمة على دعوة الإنسان لتحقيق الكمال في هذه الحياة ، وهي ترسم للإنسانية الوسائل
...............................................................
( 1 ) ترجمة هذه القطعة لعبد الوهاب عزام . أنظر فصول من المثنوي ، ص 26 ، القاهرة ، 1946 .
“ 47 “
العمليّة التي يراها الشاعر مؤدّية إلى ذلك .
وشعر الديوان يكاد يكون من ذلك النوع الوجدانيّ الفلسفيّ ، أما المثنوي فتختلط فيه الفلسفة والحكمة بالشعر الخلقيّ التعلميّ على ذلك النحو الذي ذكرناه .
وبطبيعة الحال اختلف أسلوب الشاعر في شعره الوجدانيّ عنه في شعره التعليميّ . فهو في شعره الوجدانيّ يبدو جياش العاطفة ، عنيف الإحساس . يعبّر عن مغامراته الروحية بقوّة وحرارة .
ونحن نراه في هذا اللون من الشعر يعرض علينا فلسفة الصوفية بطريقة تبدو جديدة كل الجدة ، مختلفة كل الاختلاف عن كل ما عُرف من شعر صوفيّ إسلامي ، سواء منه ما كان بالعربية أو الفارسية أو التركية . لقد تناول في كثير من غزلياته موضوعات التصوف تناولًا مباشراً ، وعالجها بأصالة فنيّة جعلت شعره يختلف اختلافاً بعيداً عما كتبه غيره من شعراء الصوفيّة .
وبينما نجد شاعراً كابن الفارض يُغرض معانيه في سيل لا ينقطع من المحسنات الفظيّة ، نجد شاعرنا متحرراً في أسلوبه من تلك المحسنات ، منطلقاً بعباراته إلى آفاق لا تُحدّ ، لا تكاد عباراته تحمل من شحنات معانيه إلا القدر الضروري الذي يثير الخيال ويستحثّه إلى ملاحقة الشاعر في آفاقه العالية .
لننظر مثلًا إلى قوله عن المحبة الإلهية :
“ إنّ الروح التي ليس شعارها الحبّ الحقيقيّ من الخير ألا توجد ، فليس وجودها سوى عار ! كن ثملًا بالحب ، فإن الوجود كلّه محبة .
وبدون التعامل مع الحب فلا سبيل إلى الحبيب .
يقولون ما الحبّ ؟ قل هو ترك الإرادة !
“ 48 “
ومن لم يتخلّص من إرادته فلا إرادة له .
إنّ المحبّ ملك والعالمين نثارُ عند قدميه ! والملك لا يلتفت قط إلى ما هو مُلقى عند قدميه .
إن المحبة والمحبّ باقيان إلى الأبد ، فلا تربط قلبك بسواهما لأنه عرض زائل .
إلى متى تعانق هذا المحبوب الميّت “ 1 “ ؟
عانق الروح وإن كانت لا حدود لها .
فالأزهار التي تتولد في الربيع تموت في الخريف .
وبستان المحبة لا مدد له من الربيع .
وتلك الورود التي يجيء بها الربيع مقترنةُ بالأشواك كما أن خمر العصير لا تخلو من خُمار .
فلا ترتعد فوق حصان الجسد ، وسر مسرعاً على قدميك ! فإنّ اللَّه يهب جناحين لمن تخلّى عن حصان الجسد . “ فهو في هذا الغزل يتحدث عن المحبة الإلهية على أنها جوهر الوجود ، وأن كلّ ما سواها عرض زائل ، ويشبّه الجسد بحصان جامح ركبت متنه الروح ، ويدعو الإنسان للسيطرة على هذا الجسد والقضاء على رغائبه الجامحة ، لتستطيع الروح الانطلاق غير مكبلة بنزعاته وأهوائه .
وهو يخاطب قلبه المتعلق بالهيكل الجسمي ، الخاضع لأهوائه ، ويلومه على هذا التعلق في إحدى غزلياته فيقول :
...............................................................
( 1 ) المحبوب الميت هنا يرمز للدنيا الفانية ، والعناق رمز التمسك بها .
“ 49 “
“ أيها القلب ! لماذا أنت أسيرُ لهذا الهيكل الترابيّ الزائل ؟
ألا فلتنطلق خارج تلك الحظيرة ، فإنك طائر من عالم الروح .
إنك رفيق خلوة الدلال ، والمقيم وراء ستر الأسرار فكيف تجعل مقامك في هذا القرار الفاني ؟
انظر إلى حالك واخرج منها وارتحل من حبس عالم الصورة إلى مروج المعاني إنك طائر العالم القدسيّ ، نديم المجلس الأنسيّ فمن الحيف أن تظلّ باقياً بهذا المقام . “ ومقصود الشاعر بهذا الكلام دعوة قلبه إلى أن يتفكر ويتأمل ، وينطلق محلِّقاً في عالم المعاني ، ولا يبقى مجرد عضو محصور في هذا الجسد وطبيعته ، المادية المحدودة .
وفي الغزل الصوفيّ يناجي الشاعر محبوبه :
“ أيها الحبيب ! إني لم أر طرباً في الكونين بدونك .
لقد رأيت كثيراً من العجائب ، ولكني لم أر عجباً مثلك ! يقولون إنّ الاحتراق بالنار نصيب الكافر .
ولم أر محروماً من نارك سوى أبي لهب .
ولم وضعتُ أذن الروح على نافذة القلب فسمعت كلاماً كثيراً ولكني لم أر شفتين . “ كما يناجيه في غزل آخر بقوله : “ يا من أنت في ساعة الألم راحةُ لنفسي ! ويا من أنت في مرارة الفقر كنزُ لروحي !
“ 50 “
إن ما لا يحمله الوهم ولا يبصره الفهم يصل إلى روحي منك لأنك قبلتي .
ففي ركعات الصلاة يكون خيالك أيها الملك واجباً ولازماً لي لزوم السبع المثاني “ .
ويصوّر سعيه إلى المحبوب في غزل على طريقة السؤال والجواب ، وهي طريقة فارسيّة في النظم ، قوامها الحوار الذي يُستخدم لعرض الفكرة المقصودة .
“ قال : من بالباب ؟ قلت : عبدك الوضيع .
قال فأيّ شأن لك ؟ قلت : أقرئُك السلام أيها العظيم .
قال فإلى متى تلاحقني ؟ قلت ؟ حتى تدعوني ! قال : فإلى متى تجيش ؟ قلت : حتى القيامة ! لقد أقمتُ دعوى الحبّ وأقسمت على ذلك ، أني قد أضعتُ في سبيله الملك والشهامة ! قال : إنّ القاضي يريد شاهداً على الدعوى .
قلت : إنّ شاهدي دمعي ودليلي شحوب وجهي !
قال : إنّ الشاهد مُجرّح ، فعيناك مذنبتان .
قلت : بجلال عدلك إنهما من العدول ولا غرامة عليهما ! قال : فعلى أيّ شيء عزمت ؟ قلت على الوفاء والمحبة . قال : فماذا تريد مني ؟ قلت : لطفك الشامل .
قال : فمن كان رفيقك ؟ قلت خيالك أيها الملك ! قال : فماذا دعاك إلى هنا ؟ قلت : أريجُ كأسك ! قال : فأيّ مكان أفضل ؟ قلت : قصر قيصر .
“ 51 “
قال : فماذا رأيت هناك ؟ قلت : مائة كرامة ! قال : فلماذا هو خال ؟ قلت خوف قاطع الطريق .
قال : فمن قاطع الطريق ؟ قلت : إنّه الملامة .
قال : فأين الأمان ؟ قلت : إنّه في الزهد والتقوى .
قال : فما الزهد ؟ قلت : إنّه طريق السلامة “ .
وفي إحدى غزليَّاته يتحدث عن الاتحاد مع المحبوب ، ويصوّر لنا تلك الأفكار التي قالها غيره من الصوفيّة ، ولكن بصورة شاعرّية رائعة تحرك القلب ، وتجعلنا نرى ذلك المعنى من أبعاد أخرى ، وكأننا نسمعه من الشاعر لأول مرة . قال :
“ ما أسعد تلك اللحظة حين نجلس في الإيوان أنا وأنت ! نبدو نقشين وصورتين ولكنّنا روح واحدة أنا وأنت ! إنّ لون البستان وشدو الطيور يهبنا ماء الحياة ، في تلك اللحظة التي نذهب فيها إلى البستان أنا وأنت ! وتُقبل نجوم الفلك رانيةً إلينا بأبصارها فنجلو القمر نفسه لتلك الأفلاك أنا وأنت ! أنا وأنت ، وبدون أنا وأنت ، نبلغ بالذوق غاية الاتحاد .
فنسعد ونستريح من خرافات الفرقة إلي أنا وأنت ! وسيأكل الحسد قلوب طيور الفلك ، ذات الألوان الباهرة .
حينما تشاهدنا نضحك جذليْن على تلك الصورة أنا وأنت ! “ وقد حفل المثنوي أيضاً بقطع عالجت موضوع الإنسان ، وأصله الإلهي ، وكيف أن نفسه في حنين دائم إلى ذلك الأصل الذي جاءت منه ، وأنها تعاني في ذلك العالم الماديّ الذي احتبست فيه . والمثنوي
“ 52 “
يبدأ بالحديث عن الناى ، ويصف نغماته بأنها حنين إلى منبته الذي قُطع منه ، قبل أن تتناوله يد البشر فتشكّل منه تلك الآلة الموسيقية .
وما الناي هنا إلا رمز للنفس البشرية ، وما منبت الغاب إلا رمز لأصل تلك النفس ، وعالمها الأول ، وما حنين الناي إلا رمز لحنين تلك النفس البشرية إلى أصلها .
يقول الشاعر :
“ استمع للناي كيف يقصّ حكايته ، فهو يشكو آلام الفراق ( قائلًا ) :
إنني منذ قُطعت من منبت الغاب ، والناس جميعاً يبكون لبكائي ! إنني أنشد صدراً مزّقه الفراق ، حتى أشرح له ألم الإشتياق .
فكلّ إنسان أقام بعيداً عن أصله ، يظلّ يبحث عن زمان وصله .
لقد أصبحتُ أنوح في كل مجتمع وناد ، وصرت قريناً للبائسين والسعداء .
وقد ظنّ كلّ إنسان أنه قد أصبح لي رفيقاً ، ولكنّ أحداً لم ينقّب عما كمن في باطني من الأسرار ! وليس سرّي ببعيد عن نواحي ، ولكن أنّى لعين ذلك النور ، أو لأذن ذلك السمع الذي به تُدرك الأسرار “ 1 “ “ .
ويصوِّر فكرة الوحي أو الكشف والإلهام ، وهي السبيل الوحيد للمعرفة اليقينية عند الصوفية ، فيقول :
“ فخذ نوره من آدم إن شئت أو منه إن أردت ، وخذ الخمر من
...............................................................
( 1 ) المثنوي ، ح 1 ، 1 - 7
“ 53 “
الإبريق إن شئت ، أو من الكأس إن أردت ! فإن هذه الكأس وثيقة القربى بالإبريق .
فيا أيتها الكأس المباركة ، ليس هناك من هو سعيد مثلك ! ولقد قال المصطفى : طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى لمن رأى من رآني .
فحين يقتبس السراجُ نور الشمعة ، فكل من رآه رأى الشمعة يقيناً ! فلو انتقل النور على هذا النحو خلال مائة سراج ، فرؤية آخر سراج ملاقاةُ للأصل “ 1 “ “ .
كما يصوّر فناء الروح الإنساني في الخالق بأسلوب تعليميّ فيقول :
فالسيل حين وصل إلى البحر صار بحراً ، والحبة حين وصلت إلى الحقل صارت حصاداً .
والخبز - حين تعلّق بالكائن الحيّ - ، أصبح وهو الميّت حيّاً عالماً ! والشمع والحطب - عندما صارا فداءً للنار - أصبحت ذاتهما المظلمة أنواراً ! فما أسعد ذلك الرجل الذي تخلّص من ذاته ، وأصبح متحداً مع الوجود الحيّ “ 2 “ “ .
ومع أن جلال الدين كغيره من الصوفية - لا يحفل بالمباحث الكلامية ، ولا يراها موصلة إلى معرفة يقينيّة “ 3 “ ، فقد تناول في شعره جوانب من
..............................................................
( 1 ) نفس المصدر ، 1944 - 1948 .
( 2 ) المثنوي ، ج 1 ، 1531 - 33 ، 35 .
( 3 ) نفس المصدر ، 1500 - 1506 .
“ 54 “
المسائل الكلامية التي طال عليها الخلاف كمشكلة الجبر والاختيار ، وغيرها من المشكلات . لقد نظم الشعر عن الجبر والاختيار في عدة مواضع من المثنوي ، وأكد حرية إرادة الانسان ، ومسؤوليته عن أعماله .
ففي الجزء الخامس من المثنوي أكد في حوار حول القضاء والقدر بين مسلم ومجوسي أنّ الإنسان حرّ الإرادة ، وأنه لولا حرية إرادته لما كانت كل هذه الأوامر والنواهي التي حفل بها القرآن . فليس من المعقول أن هذه الأوامر والنواهي وجهت إلى أحجار ، ولولا حرية الإرادة لما كان لك أن تلوم لصاً سطا على منزلك “ 1 “ . وعلى هذا النحو يمضي في تأييد حرية الإرادة . ولكن ليس معنى هذا أن الشاعر كان معتزلىّ المذهب ، فقد انتقد المعتزلة بأن مذهبهم مذهب حسيّ بحت “ 2 “ ، وذكر في أكثر من موضع أنّه سنّي المذهب . قال : “ إن السنة هي أسلم الطرق ، والجماعة هم خير رفقاء الطريق “ “ 3 “
وتأكيد الشاعر لحرية إرادة الإنسان يتمشى مع تأكيده لأهمية الانسان في هذا الكون . ولا أريد أن أكرّر هنا ما سبق أن ذكرته عن الفلسفة الإنسانيّة لهذا الشاعر “ 4 “ .
...............................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 5 ، 2912 وما يليه .
( 2 ) المثنوي ، ج 2 ، 61 ، 62
( 3 ) المثنوي ، ج 4 ، 495
( 4 ) انظر : محمد كفافى : إتجاهات إنسانية في شعر الصوفية - ( محاضرات الموسم الثقافي الثاني لجامعة بيروت العربية . )
“ 55 “
( - 5 - ) أمّا الشعر التعليميّ لهذا الشاعر
فكان مجالًا رحباً تجلّت فيه عبقريته .
لقد استعان فيه بثقافته الواسعة ، وفهمه العميق لمعارف أهل زمانه .
إن هذا الشعر يكشف عن خبرته بالنفس البشرية ، ومقدرته على سبر أغوارها ، وتصوير نوازعها الخيّرة والشرّيرة على السواء .
لننظر مثلًا إلى حديثه عن الملق ، وأثره في نفس من يتقبله من الناس ، قال :
“ إنّ الجسم على شكل القفص ، وقد أصبح بخداع الداخلين والخارجين شوكة تخز الروح “ 1 “ .
فهذا يقول له : “ إننّي سأكون صفيّك “ ، وذاك يقول له :
“ لا . بل أنا شريكك . “ .
وهذا يقول له : “ ليس لك نظير في الوجود ، سواء في الجمال أو الفضل أو الإحسان والجود . “ وهذا يقول له : “ إنك صاحب العالمين ، وكلّ أرواحنا عيال على روحك . “ فحين يرى الخلق سُكارى ذاته ، يفقد من الكبر سلطانه على نفسه ،
..............................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1849 وما يليه .
“ 56 “
وهو لا يدري أنّ الشيطان قد أسقط آلافاً مثله في ماء النهر ! “ 1 “ إنّ ملق الدنيا ونفاقها لقمة حلوة المذاق ، ولكنها مليئة بالنار ، فأقلل من تناولها ! ولا تقل : “ متى كنت أبتلع هذا المديح ؟ إنه يتحدث عن طمع ، وأنا واقف على أمره ! “ .
فلو أنّ مادحك هجاك أمام الملأ فإن قلبك يحترق أياماً بلهيب هذا الهجاء .
ومع أنك تدري أنه قال هذا لحرمانه ، وأنّ طمعه في عطائك جعله مُغرضاً ، فإنّ أثر هذا يبقى في نفسك ، وإنك لتلقى التجربة ذاتها في المديح ! فإن أثره أيضاً يبقى معك أيّاماً ، ويصبح مصدراً لتكّبر الروح وانخذاعها .
ولكنّ المدح لا يظهر لك لأنه حلو ، أما القدح فيظهر لك لأنه قبيح مرّ .
فمن كثرة المديح أصبح فرعون طاغياً ، فكن متواضع النفس ليّن الجانب ولا تتجبّر ! وإلا فإنه حين لا يبقى لك لطف ولا جمال ، يقع منك الملال في نفوس أصحابك .
فهذه الجماعة التي كانت تتملّقك ، تقول عنك حين رؤياك : “ إنك الشيطان ! “
...............................................................
( 1 ) خدع آلافاً مثله حتى أهلكهم .
“ 57 “
والجميع يقولون حين يرونك بالباب : “ هذا ميّت نهض من قبره ! “ هذا مثال واحد من مئات الأمثلة التي عالح فيها أمراض المجتمع الإنسانيّ على هذا النحو البارع .
وخلاصة القول أنّ جلال الدين لم يكن فيلسوفاً فحسب ، وإنما كان حكيماً عملياً . لقد تقبل الحياة وتفاعل معها ، وعدّها واقعاً لا شك فيه ، وأوجب العمل فيها . يقول :
“ إن الدنيا تتجدّد في كل لحظة ونحن لا نُحسُّ بتجددها ، وهي باقية على هيئتها الظاهرة .
والعمر وإن بدا مستمراً في الجسد ، فإنه يتجدد في كل لحظة كما يتجدد ماء النهر “ .
وهو مؤمن بالإنسان وبمسؤوليته الذاتية على النحو الذي بيّناه .
مؤمن بالعلم ومكانه في هذه الحياة ، متفائل في نظرته إلى مستقبل البشرية رغم أنّه عاش في عصر من أظلم عصورها .
وحتى العشق الصوفىّ عند جلال الدين كان وسيلة من وسائل البعث الروحي . وفي ذلك يقول :
“ فيا من قلوبهم تحت جلودهم متحلّلة بالفناء . عودوا من العدم بنداء الحبيب ! “ 1 “ “ .
ولقد قُدّر لرسالته الروحيّة أن تستمر خلال القرون . لقد عاشت
...............................................................
( 1 ) نفس المصدر ، 1935 .
“ 58 “
تعاليمه في نفوس أتباعه من رجال الطريقة المولوية في تركيا العثمانية والشام ومصر . وكان لرئيس المولوية في تركيا العثمانية مكان مرموق ، فهو الذي كان يقلّد سلاطين الدولة العثمانية سيف جدّهم عثمان ، وهو عندهم رمز القوّة والسلطان .
واشتهر المثنوي في شرق العالم الاسلاميّ ، وانتشرت تعاليمه ، وتناوله الدارسون والشراح من كافة هذه الشعوب الاسلاميّة ، وظهرت له في كلّ أقطارهم شروح وترجمات . وعظم شأن جلال الدين بين أبناء تلك الشعوب ، واحتلّ بينهم المنزلة التي هو جدير كمعلم روحيّ كبير .
كما قُدّر لأفكاره وآرائه أن تجد سبيلها من جديد إلى الفكر الإسلاميّ الحديث ، على يد الشاعر الهندي الكبير محمد إقبال ، الذي كان له الفضل الأكبر في وضع الأسس الروحية لدولة الباكستان . لقد اعترف إقبال في مواضع عديدة من منظوماته بفضل جلال الدين عليه في بناء فلسفته . ومن أمثلة ذلك ما قاله في مقدمة منظومته الفارسيّة “ أسرار خودي “ ( أي اسرار الذات . ) وفي هذه المنظومته تحول العشق الصوفىّ عند إقبال إلى عشق للأمل والمثل الأعلى “ 1 “ . وتقوم فلسفة إقبال على إيجابية روحيّة ، تؤمن بهذه الحياة ، وتعدُّها حقيقة لا سبيل إلى إنكارها ، وتهاجم السلبيّة التي قال بها بعض الصوفيّة المسلمين . فالقيم الروحيّة - في رأي إقبال - تعصم الإنسان من الوقوع في قبضة المادية ، وتبعده عن المصير الذي انحدر إليه العالم في العصر الحديث .
ولقد قُوبل أدب جلال الدين عند كل من عرفوه بما هو جديربه من
...............................................................
( 1 ) عبد الوهاب عزام . محمد إقبال ، ص 69 - 71 ، 77 . القاهرة ، 1954 .
“ 59 “
التقدير والإعجاب . فأمّا أهل المشرق فقد مجّدوه على صورة لم يسبق لها مثال . وقد يدهش بعضنا إذا علم أن شاعراً إسلاميّا كبيراً كعبد الرحمن الجامي قد وصفه بقوله : “ إنه لم يكن نبيّاً ولكنه أوتي الكتاب “ . وقد نُشر المثنوي وشُرح مرات عديدة بمختلف لغات الأمم الإسلامية .
أمّا أهل الغرب فقد أعجبوا به إعجاباً شديداً ، ونشروا عنه الكثير من الأعمال العلمية باللغات الأوروبية المختلفة سواء منها ما هو ترجمة لبعض أعماله أو دراسة لها . وأعظم من ساهم في تلك الدارسات مستشر قو الإنجليز . ومن أعلامهم الكبار الأستاذ نيكولسون الذي قضى في دراسة جلال الدين ثلاثين عاماً من عمره ، منها خمسة وعشرون عاماً قضاها في نشر المثنوي وإعداد ترجمة إنجليزية له ، أتبعها بشروح قيّمة وتعليقات .
ولقد عبّر عن رأيه في جلال الدين - بعد ثلاثين عاماً من الاشتغال به - بأن طول الصحبة لأعمال هذا الشاعر ، والألفة بها ، لم تزده إلا تقديراً لها ، وأن ما وصفه به قبل ذلك بثلاثين عاماً - من أنه أعظم شعراء الصوفيّة على الإطلاق ليس بالوصف الذي يوفيه حقه . يقول : “ وإلا فأين لنا أن نرى صورة شاملة للوجود ، بأكمله منطلقة أمامنا خلال الزمن ، مستمرّة إلى الأبد ؟ إن هذا الشعر إلى جانب طابعه الصوفىّ قد انطوى على ثروة من السخريّة والتهكم ، والمواقف التي تثير الرثاء ، وصور رسمتها يدُ صناع ما مست شيئاً الا كشفت حقيقة جوهره “ 1 “ “ .
أمّا آربري - أستاذ الدراسات العربيّة والشرقيّة بجامعة كيمبردج –
...............................................................
( 1 ) .arberry : glassical persian literature , p . 241
“ 60 “
فقد خلف أستاذة نيكولسون في الاهتمام بأعمال جلال الدين ، ونشر عنه في السنوات الأخيرة بضعة كتب منها الترجمة ومنها الدراسة . وقد أدرجت بعض ترجمات آربري لجلال الدين ضمن قوائم اليونسكو التي تمثل روائع الآداب الإنسانية “ 1 “ .
وخلاصة القول أن جلال الدين في للوقت الحاضر - بإجماع الدارسين من أهل الشرق والغرب “ 2 “ - يُعدّ بلا شك أعظم شعراء الصوفيّة في كلّ زمان ومكان ، وواحداً من شعراء الإنسانيّة الأفذاذ .
...............................................................
( 1 ) انظر كتابه . 1961tales from the masnavi . london ,.
( 2 ) لخص محمد خلف اللَّه في مقال له بعنوان ( جلال الدين الرومي في نظر الباحثين ) بعض آراء مفكري الغرب في شعر جلال الدين وفلسفته . انظر . محمد خلف اللَّه . دراسات في الأدب الإسلامي ، ص 128 - 135 . القاهرة ، 1947 .
( - 3 - ) الفنّ عند جلال الدين
ليس من المستطاع أن أحيط بفنّ هذا الشاعر العملاق في مثل هذا البحث . ولكن حسبي أن أذكر بعض الحقائق التي تعين الدارس على تذوّق هذا الفنّ ، والإلمام ببعض خصائصه . لقد امتاز شعر جلال الدين بميزات فنيّة عديدة أهمّها ما يلي :
أولًا : روعة الصور البيانيّة التي عبر بها الشاعر عن أفكاره.
فهو يستطيع أن يُجسِّد الأفكار ، فيجعلنا نشعر بالمعنوّيات كأنها محسوسات نكاد نلمسها .
كما أنّه يستطيع في سهولة ويسر أن ينطلق من المحسوسات إلى المعنوّيات . وهو يمزج بين الطبيعة والحياة والنفس الإنسانيّة في صور متكاملة تجمع عمق التأمل إلى روعة التصوير . ولنضرب لذلك بعض الأمثلة :
يتحدّث الشاعر في بعض من أبيات المثنوي عن تجدّد الدنيا في كل لحظة ثم ينتقل من ذلك إلى دعوة الإنسان لتأمّل نفسه وما يطرأ عليها من تغيّر مستمرّ .
يقول :
“ في كلّ لحظة يا رب قافلة وراءها قافلة تسير من العدم إلى الوجود .
“ 32 “
ففي الخريف تذهب آلاف الأغصان والأوراق منهزمة إلى بحار الموت .
بينما الغراب يرتدي السواد كالحزين وينوح على الخضرة في البستان .
وثانيةً يجيء الأمر من سيّد الأرض فيقول للعدم :
“ ردَّ ما أكلت ! أيها الموت الأسود ! ردّ ما أكلت من زروع وأعشاب وورق وحشائش . “ فيا أخي ! اجعل عقلك معك لحظة واحدة ! إنّ بك في كل لحظة خريفاً وربيعاً ! وانظر بستان قلبك أخضر ريّان نضراً ، حافلًا ببراعم الورد والسرو والياسمين . “ “ 1 “ فلنتأمل هنا كيف بدأ الشاعر من فكرة عامة هي تغّير الدنيا في كل لحظة ، وضرب لذلك مثلًا بالربيع والخريف ، ثم صورهما بصور بيانيّة جميلة ، وانتقل من ذلك إلى دعوة الإنسان لتأمل نفسه ، والنظر إلى ما يطرأ عليها من ازدهار يشبه الربيع أو انكهاش يشبه الخريف .
وفي صورة أخرى يصورّ الإنسان وما يتعرض له من مغريات الحياة فيقول :
“ ربّاه ! إنّ أمامنا مائة ألف من الشباك والحبّ ، ونحن كالطيور الحريصة الجياع ! ففي كل لحظة نقع في شرَك جديد ، حتى ولو كان كل منا بازاً أو عنقاء !
................................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1889 ، 1892 - 1897 .
“ 33 “
وأنت - يا من لا حاجة بك الينا - تخلّصنا في كل لحظة ، ولكننا نعود فنقع في حبائل أخرى ! فنحن نضع القمح في هذا المخزن ، بيد أننا لا نكاد نجمع القمح حتى نفقده “ 1 “ .
وليس ينتهي بنا التفكير آخر الأمر أن هذا الخلل الذي يقع بالقمح جاء من مكر الفأر .
فمنذ أن صنع الفأر جُحراً في مخزننا ، خرّب بخداعه هذا المخزن .
فاعملي أيتها النفس أولًا على دفع شرّ الفأر ، ثم اجتهدي في جمع القمح ! فلو لم يكن في مخزننا فأرٌ سارق فأين محصول أعمالنا طيلة أربعين عاماً . “ “ 2 “ .
فالقمح في هذه الصورة يرمز إلى ما يحصّله الإنسان من أعمال صالحة ، وأما الفأر فيرمز إلى الشيطان الذي يجد سبيله إلى تلك الأعمال فينتقص منها .
وتتجلى مقدرة الشاعر على التصوير البياني فيما يسوقه من الصور المتلاحقة لبيان موقف من المواقف أو حال من الأحوال . يقول مثلًا عن القياس الفاسد وكيف أنه يجعل الناس يقيسون الأمور على ظاهرها لا على جوهرها وحقيقتها :
“ فقد ادّعى ( هؤلاء ) أنَّهم مساوون للأنبياء ، وظنوا أنفسهم
..............................................
( 1 ) القمع هنا رمز للأعمال الصالحة . والشاعر يقول هنا إنه يجمع الأعمال الصالحة ولكن هذه الأعمال تذهب بها السيئات .
( 2 ) المثنوي ، ج 1 ، 374 - 380 ، 382 .
“ 34 “
مثل الأولياء وقالوا : أنظروا ! إننا بشرٌ وهم بسر . ونحن وإياهم أسارى للنوم والطعام ! ومن عماهم لم يدركوا أن هناك فرقاً لا نهاية له بينهم وبين هؤلاء .
فالنحل كلها تأكل من مكان واحد ، ولكن يجيء من بعضها اللدغ ، ومن بعضها الآخر يأتي العسل .
ومن القصب نوعان يشربان من ماء واحد ، ولكنّ أحدهما خال والآخر ( حافل ) بالسكرّ .
فتأمل مائة ألف من أمثال هذه الأشباه ، وانظر كيف يفصل بينها طريق طوله سبعون عاماً ! فهذا يأكل فتتولد منه القذارة ، وذاك يأكل فيصبح كله نوراً إلهيّاً ! وهذا يأكل فينبعث منه البخل والحسد ، وذاك يأكل فيفيض منه عشق الأحد .
وهذه أرض طيّبة ، وتلك مالحة رديئة ، وهذا ملك طاهر وذاك شيطان ووحش ضار .
فلو تشابهت الصورتان فهذا جائز ، فالماء الملح والماء العذب شبيهان في الصفاء ! وليس يدري الفرق بينهما سوى صاحب ذوق ، فأدركة ، فهو الذي يميّز الماء العذب من الماء الملح . “ “ 1 “ والشاعر يتحدث عن الجسم والروح ، ويقارن بين إحساس الجسم وإحساس الروح فيقول :
“ إنّ حسّ الدنيا سُلّم لهذا العالم ، وأما حسّ الدين فهو
..............................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 265 - 268 ، 270 - 276 .
“ 35 “
سلّم السماء ! فاطلبْ صحة حسّ الدنيا من الطبيب ، والتمسْ صحة حسّ الدين عند الحبيب .
وصحة حس الدنيا تجيء من سلامة البدن . وأما صحة حسّ الدين فتأتي من خرابه .
فطريق الروح يخرّب الجسم ، ولكنه يعود فيعمره بعد هذا التخريب .
فهو كمن خرَّب داراً من أجل كنز الذهب ، ثم زادها عمراناً بذلك الكنز ذاته .
أو كمن قطع الماء وطهّر مجرى النهر ، تم عاد فأجرى ماء الشرب فيه .
أو كمن هدم القلعة وأخذها من الكفار ، ثم أقام على أرضها مائة برج وسدّ . “ “ 1 “ وهكذا ترى الشاعر لا يكاد يذكر فكرة من الأفكار حتى يؤيدها بعشرات الصور التي تتلاحق في روعة وجمال ، فتزيد الفكرة وضوحاً ، وتؤيّدها وتقوّيها .
ثانياً : موسيقي الشعر :
كان جلال الدين يجيد العزف على بعض الآلات الموسيقيّة ، وهو الذي توّسع بإدخال الموسيقي في مجالس الصوفية . وقد اقترن الشعر عنده بالموسيقى ، فكثيراً ما نظمه في مجلس السماع ، وكثيراً ما سمعه مقترناً بالإنشاد والأنغام .
وقد تجلى أثر هذا الإحساس الموسيقي في شعره .
فقد استطاع أن ينظم غزليات الديوان على أوزان عديدة بلغت خمسة وخمسين وزناً “ 2 “ ، بعضها كان من الأوزان المهجورة .
........................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 303 - 308 ، 310 .
( 2 ) أنظر ما قاله فروزانفر في عبارة اقتبسها منه علي دشتي في كتابه “ سيري در ديوان شمس “ ، ص 16 ، 17
“ 36 “
ومثل هذا التوسع في الأوزان ، والتنوع في الأنغام ، لا يُرى له مثيل عند غيره من الشعراء لا في الفارسية ولا في غيرها من لغات الأمم الإسلامية .
وقد استطاع أن يجعل الأوزان المهجورة - بمقدرته الفنية - جميلة الوقع سائغة الأنغام . كما استطاع أن يوّفر الموسيقى لشعرة بوسائل عديدة ، وأحياناً كان يختتم الأبيات بمقاطع صوتيّة لا معنى لها ولكنها ذات تأثير موسيقي ، ووقع جميل في السمع “ 1 “ .
وقد شهدنا في العصر الحديث من حاول اصطناع ذلك في الشعر العربي كوسيلة للتجديد في موسيقاه .
ثالثاً : للشاعر مقدرة عجيبة على أن يتناول الموضوع المطروق فيجعل منه موضوعاً جديداً وكأنه يعرضه على القارئ لأول مرة . لقد كان ينظم القصة المعروفة فيدخلها بفنّه ضمن نطاق إبداعه ، والأمثلة على ذلك كثيرة .
إن المثنوي يشتمل على بضع مئات من القصص .
وقد استطاع الباحثون من أمثال نيكولسون وفروزانفر أن يردّوا هذه القصص في - في أغلب الأحوال - إلى أصول قديمة “ 2 “ .
ولكننا إذا نظرنا إلى تلك الحكايات - كما وردت في مصادرها الأصلية - ثم نظرنا إليها عند الرومي ، وجدنا أنها قد تحوّلت تحولًا كاملًا ، وتغيرت معالمها ، وأصبحت حافلة بالمعاني الرائعة التي لم تخطر على بال مؤلف القصّة .
ولنبيّن هذا يمكننا أن نذكر على سبيل المثال قصة صغيرة من القصص
.............................................................................
( 1 ) أنظر أيضاً الفصل القيم الذي كتبه علي دشتى عن “ موسيقى ديوان شمس “ في كتابه “ سيري در ديوان شمس “ . طهران ، 1336 .
( 2 ) استطاع فروزانفر أن يرد 264 قصة من بين 275 وردت في المثنوي إلى أصول سابقة على الرومي في كتابه : “ مآخذ قصص وتمثيلات مثنوي “ ، طهران ، 1954 .
“ 37 “
المعروفة تناولها الرومي بطريقته فخلق منها عملًا فنياً ضخماً . تلك هي قصة “ الأرنب التي صرعت الأسد “ . وقد وردت هذه القصة في كليلة ودمنة “ 1 “ واستغرقت روايتها بضعة أسطر ، وخلاصتها أن أسداً كان يعيش بالقرب من أحد المروج ذات الماء والعشب الكثير ، وأن ذلك المرج كان مرتعاً لكثير من الوحوش ، تعيش فيه مستمتعة بمائه وعشبه ، ولكن الأسد كان يفسد عليها عيشها بمهاجمتها لاقتناص غذائه .
وقد رأت هذه الوحوش أن تخلص من شرِّ الأسد بأن تقدم له كل يوم دابة يأكلها ، على أن يسكن الأسد عن مهاجمتها .
وكانت هذه الدابّة التي تُرسل إلى الأسد تُختار بطريق الإقتراع . وذات يوم وقعت القرعة على أرنب ليذهب إلى الأسد ، فلم يرد الذهاب ، وأخذ يعمل الحيلة للقضاء على الأسد ، فتأخر عن الموعد الذي اعتاد الأسد أن يتلقى فيه فريسته ، ثم ذهب إلى الأسد بعد ذلك ، وأخبره بأنه تأخر لأن أسداً آخر اعترض طريقه ، وأخذ منه غذاء الملك ، وكان أرنباً آخر سميناً أرسله إليه الوحوش ، ودعا الأسد إلى أن يطهِّر الطريق من ذلك الأسد الدخيل حتى يصله طعامه دون تأخر
. فطلب الأسد من الأرنب أن يدّله على مكان ذلك العدوّ ، فأخذه الأرنب إلى بئر تَطلّع فيها فرأى خياله فظنه عدوَّه ، فوثب إليه ليقاتلة فغرق في البئر وخلصت الوحوش من شرّه .
لقد أخذ الرومي هذه القصة القصيرة ، فجعلها محوراً لألوان رائعة من الحوار ، وهيكلًا أدار حوله مناقشات ممتعة عن السعي والتوكل ، والقضاء والقدر ، وغير ذلك من المسائل .
ويمكننا أن نذكر الآن - على سبيل المثال - بعض جوانب هذه القصة كما صوّرها الرومي .
ولنبدأ بذكر الحوار الذي دار بين الوحوش وبين الأسد حين ذهبت إليه تطلب منه الأمان لقاء الحصول على رزق يومي يُرسل إليه .
…………………………………….
( 1 ) كليلة ودمنة “ ، ص 116 ، 117 ، المطبعة الأميرية ، القاهرة ، 1931 .
“ 38 “
“ قالت جملة الوحوش : أيها الحكيم العالم ! دع الحذر فليس يُغني عن قدر “ 1 “ .
إنّ في الحذر الحيرة البالغة والشرّ ، فاذهب وتوكل على اللَّه ، فالتوكل خير . ولا تضربْ بقبضتك القضاء أيها العنيف الحادّ ، حتى لا يلتحم القضاء في صراع معك .
فالمرء يجب أن يكون ميتاً أمام الحق ، وإلاجاءتة الضربة من ربّ الفلق .
فقال الأسد : “ إذا كان التوكل هو المرشد الصادق ، فإنّ الإفادة من الأسباب سنّة النبيّ .
فقد نادى الرسول بأعلى صوته أن اعقل بعيرك وتوكل على اللَّه . “ 2 “ واستمع إلى مغزى قول القائل ( الكاسب حبيب اللَّه ) ، ولا تكن بتوكلك متراخياً عن الأسباب والوسائل .
“ فقالت الوحوش : “ اعلم أن الكسب من ضعف الخلق ، وأنّه لقمة ، مزوِّرة على قدر الخلق.
فليس هناك كسب أحسن من التوكل ، وأيّ شيء أحبّ إلى اللَّه من التسليم .
فكم يفرّ المرء من بلاء ليقع في بلاء آخر ، وكم يهرب المرء من الثعبان ليلقى التنيّن ! لقد احتال الإنسان فكانت حيلته شركاً وقع هو فيه ، وكان موته فيما حسب أنه حياته ! فقد أوصد الباب والعدوُّ في منزله ، وإنّ حيلة فرعون لم تكن إلا قصّة من هذا النوع .
....................................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 908 وما يليه .
( 2 ) إشارة إلى قول الرسول عليه السلام . “ اعقلها وتوكل “ .
“ 39 “
فهذا الحقود قد قتل ألوف الأطفال ، بينما كان الطفل الذي يبحث عنه في منزله ! إنَّ بصرنا يعاني الكثير من العلل ، فاذهب وأَفْن بصرك في بصر الحبيب .
. . . . . . .
فأرواح البشر كانت - قبل أن تُخلق الأيدي والأرجل - تحلّق بوفائها في جوّ الصفاء .
وعندما قُيِّدت الأرواح بأمره تعالى : “ اهبطوا “، صارت أسيرة الغضب والحرص والرضى.
إنّا عيال اللَّه نطلب منه اللبن . وقد قال الرسول : “ الخلق عيال اللَّه . “ فذلك الإله الذي ينزل الغيث من السماء قادر على أن يمنحنا الخبز رحمةً منه وإشقاقاً .
“ فقال الأسد : “ نعم ! ولكنَّ رب العباد وضع سلّماً أمام أقدامنا ، فالواجب أن نصعد هذا السلم درجة نحو القمة ، وأما القول بالجبر فإنه طمع ساذج .
إنِّ لك ساقين فكيف تجعل من نفسك إنساناً أعرج ؟
وإن لك يدين فكيف تُخفي أصابعك ؟
فالسيد عندما يضع الفأس في يد عبده ، يتّضح مراده دون حاجة إلى القول .
. . . . . . . .
“ 40 “
فإذا توكلت على اللَّه فتوكل عليه في عملك . ألْق البذور ثم توكل على الخالق الجبار . “ فارتفع صوت الوحوش جميعاً قائلين : “ ما لهؤلاء الحريصين الذين زرعوا الأسباب - وهم ألوف مؤلفّة من الرجال والنساء - ظلوا محرومين من مواتاة الزمن ؟ .
فقد مرت آلاف القرون منذ بدء العالم ، وكان كل منها يفغر مائة فم كفم التنّين .
. . . . . . . . .
فلم يحقق لهم ذلك الصيد والعمل إلا ما قُسم لهم منذ الأزل ! لقد فشلوا جميعاً في التدبير والعمل ، وبقي قضاء اللَّه وأحكامه .
“ فقال الأسد : “ نعم ، ولكنْ انظروا إلى الجهود التي بذلها الأنبياء والمؤمنون ! لقد بارك اللَّه جهودهم وما لا قوه فيها من حرّ وبرد .
فجاءت تدابيرهم في جملة الأحوال لطيفة ، وكل ما جاء من لطيف فهو لطيف .
فاجتهد أيها السيدّ ما استطعت في اتّباع طريق الأنبياء والأولياء .
“ وهكذا يمضي هذا الحوار بين الأسد والوحوش ويمضي كلُ من المتناظرين في تأييد رأيه بالأمثال والحكايات إلى أن ترجح كفة السعي والجهد على التوكل والتراخي .
رابعاً : كانت لجلال الدين مقدرة فائفة في فنّ الحوار .
فهو لا يكاد
“ 41 “
يطرق موضوعاً من الموضوعاً حتى يعالجه في حوار يبيِّن به وجهات النظر المختلفة ، وينتهي منه إلى الرأي الذي يريد بيانه . وقد بلغت مقدرته في الحوار مستوى رائعاً . وإني أعتقد أنّ الكثير من محاوراته في المثنوي يرقى إلى مستويات الأدب التمثيلي . والحوار الذي ذكرته الآن يقدم لنا مثالًا للحوار الفلسفيّ الذي حفل به المثنوي . وهناك ألوان من الحوار ذات طابع واقعيّ ، نجد الشاعر فيها يُجري الحوار على مستوى المتناظرين ، فيكتب على لسانهم ما يلائم عقولهم ، وبهذا يقترب الحوار - إلى حد بعيد - من الواقعية التي تزيده قوة وتأثيراً .
ويمكننا أن نقتبس بعض الأبيات من حوار جرى في إحدى المشاجرات بين رجل فقير وزوجته الجاهلة ، تلوم المرأة زوجها على فقره فيقول لها :
“ إن الزوجين يجب أن يكون كل منهما على مثال الآخر . ألا فلتتأملي زوجين من الأحذية أو النعال ! فلو أنّ واحداً من النعلين ضاق بقدمك ، فلا نفع لهذين النعليْن عندك .
وهل بين مصراعي الباب واحد صغير وآخر كبير ؟ أم هل رأيت ذئبة اقترنت بأسد الغاب ؟
وليس يستقيم على ظهر البعير زوجان من الحقائب ، إحداهما صغيرة والأخرى كاملة الإتسّاع .
إنني أسير بقلب قويّ نحو القناعة ، فما لك أنت تسيرين نحو الشناعة ؟ “ “ 1 “ فنحن نرى في هذا الحديث كيف أن الشاعر قد جعله على المستوى
...................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 2309 - 2313 .
“ 42 “
الذي ينبغي أن يكون عليه حين يُوَجَّه إلى امرأة جاهلة .
خامساً : الشاعر قد استطاع - في كثير من الأحيان - أن يجعل من الأمور البسيطة التي تمر تحت أعيننا موضوعاً للشعر . فشعره يتناول الحياة بكلّ جوانبها ، وعبقريته الفنية تستطيع أن ترفع بعض الموضوعات من مستواها التافه إلى مستويات فنية تجعلها جديرة بأن تقرأ ، وتثير التأمل في النفس . وليس هذا بغريب على مثل هذا الفنان الأصيل . كما أنّنا لسنا بحاجة إلى أن نبرّر مثل هذا التصرّف من الناحية الفنيّة ، فالمصوّر مثلًا كثيراً ما يتخذ من الأمور التافهة موضوعاً للوحاته ، فيرتفع بها إلى مستوى الفنّ ، ويفرض على الأعين الحسّاسة تأمُّلها ، وعلى العقول تلقيها والتأثر بها . ومن أمثلة ذلك ما كتبه الشاعر عن البقول وهي تُطهى في القدر ، يصوّرها جلال الدين متوثبة من ألم النار ، تخاطب المرأة التي تقوم بالطهي ، معاتبة لها ، فتنهرها المرأة قائلة :
“ إنني أغليك بالنار لا لأني أكرهك ، ولكن لأنِّي أُريد أن أجعلك سائغة الطعم “ 1 “ .
فتصبحين بذلك غذاء يختلط بروح الحياة . فمثل هذا العذاب لا يهبط بك .
. . . . . . . . .
لقد فُصلت عن بستان الأرض ، وستصبحين بذلك طعاماً يدخل جسم الحيّ .
فيغدو غذاء وحيوية وفكراً . لقد كنت عصارة نباتيّة ، والآن
................................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 3 ، 4159 . . .
“ 43 “
تصبحين من أُسد الغاب .
. . . . . . . .
لقد كنت جزءاً من السحاب والشمس والكواكب ، والآن تصبحين نَفَساً وحركة وحديثاً وفكراً ! “ .
فهنا نرى كيف اتخذ الشاعر من مثل هذا العمل المعتاد ، طهي بعض البقول ، موضوعاً ينطلق منه بصورة رمزية إلى تلك المعاني .
وكثيرةُ هي الأمور البسيطة التي استخدمها الشاعر على هذا النحو فرفعها من مكانها المتواضع في الحياة إلى مقام الفكر المتأمِّل
سادساً : تكثر في المثنوي الحكم والأمثال التي يصوغها الشاعر من وحي تعاليمه الأخلاقية ، أو فلسفته الصوفية ، فتزيد شعره قوّةً في التأثير ، فالحكمة في موضعها تزيد المعنى قوّةً ووضوحاً ، وتجعل الشعر قادراً على النفاذ إلى النفس والتأثير فيها
. ومثل هذا كان ضرورياً بالنسبة لشعره التعليميّ الهادف .
ولا أريد أن أذكر هنا شيئاً من أمثال الشاعر أو حكمه ، لأنّ القليل في هذا المجال لا يدل على الكثير ، والذي يُقال في موضوع لا يمكن أن يدلّ على ما يقال من حكم في شتّى الموضوعات ، ومختلف المناسبات .
سابعاً : نجح الشاعر إلى أبعد الحدود في استخدام السخرية والتهكم لتحقيق أهدافه الفنيّة أو التعليمية .
وقد استطاع أن يرسم بالشعر لوحات تشبه لوحات “ الكاريكاتير “ : وفي الأبيات التالية يمكننا أن نرى كيف سخر من قصار النظر :
“ كانت ذبابة على عود قش فوق بول حمار ، وقد رفعت رأسها
“ 44 “
كربّان السفينة ! وقالت : “ إنّي أسمّيهما بحراً وسفينة ، وهذا ما استغرق فكري فترة من الزمن ! فانظر هذا البحر وتلك السفينة ، وأنا فوقهما الربَّان البارع الحصيف الرأي ! “ فكانت هذه الذبابة تسيّر سفينتها على صفحة البحر ، وقد بدا لها هذا القدر ماء لا يُحدّ .
لقد كان هذا الماء يبدو بلا حدود بالنسبة لها ، ومن أين لها ذلك النظر الذي يراه على حقيقته ؟
إن عالمها يمتد إلى المدى الذي يدركه بصرها ، فعلى قدر العين يكون مدى بحرها . “ “ 1 “ ثامناً : الشاعر متنوّع الأساليب ، وقد هدته سليقته إلى نظم الشعر بصور وأساليب متبانية تتلاءم مع عديدٍ من المذاهب الفنيّة التي ظهرت خلال القرون . فعنده الشعر الذي يمكن أن يُعد واقعيّاً ، وعنده الشعر العاطفيّ المثاليّ ، وعند الشعر الرمزيّ ، بل عنده شعر اللاوعي .
ومن الجدير بالذكر هنا أن الصوفيّة هم أول من قال بأدب اللاوعي :
فقد أثر عن الكثيرين منهم نظم الشعر في حالات الوجد الصوفيّ ، حالات الفناء عن الذات ، التي كانوا يخرجون فيها عن العقل الواعي . ومما هو جدير بالذكر أيضاً أن الصوفيّة - بقولهم بالوحي والكشف - قد فتحوا السبيل أمام ألوان جديدة من التفكير في طبيعة الأدب والفن ، بعد أن ظلت فكرة المحاكاة التي قال بها أرسطو مسيطرة على مفاهيم النقد الأدبيّ قروناً عديدة . وقد سبقوا بذلك فرانسيس بيكون الذي صنّف
………………………………………………..
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1082 - 1087 .
“ 45 “
المعرفة البشريّة على أساس ملكات إنسانيّة ثلاث هي العقل والذاكرة والخيال ، وجال الخيال مصدر الشعر فكان ذلك خروجاً على مذهب المحاكاة الأرسطيّ .
وقد يكون من الطريف أن نذكر هنا مثالًا لشعر الوجد الصوفيّ عند جلال الدين ، وهو الذي يمكن أن يُعدّ من شعر اللاوعي . قال في ديوان شمس تبريز :
“ هذه الدار التي لا تفتر فيها الألحان ، سل ربّها أيّ دار هذه ؟
إن كانت الكعبة فما صورة الصنم هذه ؟
وإن كانت دير المجوس فما هذا النور الإلهي ؟
في هذه الدار كنز يضيق به العالم ، وإنما هذه الدار وهذا السيّد ( رب الدار ) فعل وذريعة .
لا تَضع على الدار يداً فما هي إلا طلسم ، ولا تُكلّم السيد فقد أفنى الليل سُكراً .
تراب هذه الدار وقمامتها مسك وعنبر وعطر . كل سطحها وبابها شعر وألحان . فمن وجد سبيلًا فيها فهو سلطان الأرض وسليمان الزمان .
أيها السيد ! أطلَّ علينا من الشرفة ، فإن في خدك الجميل أمارة من الإقبال .
أقسم بروحك أن ما عدا رؤية وجهك ، ولو كان ملك العالم ، خيال وخرافة .
تحيّر البستان أي ورق وأي زهر ! وولهت الطير أي شبك وأي حَبّ !
“ 46 “
هذا سيّد الفلك كالزُهرة والقمر ، وهذي دار العشق لا حدّ لها ولا نهاية . “ “ 1 “( - 4 - ) موضوعات الرومي
إذا أردنا أن نقسم شعر جلال الدين على أساس مضمونه ، وجدنا أنه ينقسم إلى قسمين متميزين ، الأول منهما شعر وجدانيّ فلسفيّ يتناول معاني الصوفيّة ، من حديث عن المحبّة الإلهية ، والوجد ، والنفس الإنسانية ، وأصلها الإلهيّ ، وحنينما إلى ذلك الأصل الذي انفصلت عنه ، ولمحات عن وحدة الوجود لا كمسألة فلسفيّة ولكن كموضوع ذوقي ( فهو في هذه الناحية يختلف اختلافاً كبيراً عن يحي الدين بن عربي ) .
والشاعر في هذا اللون الوجدانيّ محلّق دائماً في آفاق العالم الروحي ، لا يكاد يمس الحياة المادّية إلا ليبيّن تفاهتها واتضاعها إذا قيست بحياة الروح ، وما تنطوي عليه من المباهج ، وما تُضمره للانسان من سعادة أبديّة قوامها الكمال والخلود .
أما القسم الثاني من شعره فشعرُ إنسانيّ أخلاقيّ ، تناول في جانب كبير منه الإنسان ، وبيّن أهميّته في هذا الكون ، ورسم المثل العليا للحياة الإنسانية في هذا العالم . وهو في هذا اللون من الشعر معلم أكثر منه فيلسوف ، يترك الرمز في كثير من الأحوال ، ويستخدم القصص والأمثال لبيان الآراء التي يدعو إليها .
وفلسفته الخلقيّة قائمة على دعوة الإنسان لتحقيق الكمال في هذه الحياة ، وهي ترسم للإنسانية الوسائل
...............................................................
( 1 ) ترجمة هذه القطعة لعبد الوهاب عزام . أنظر فصول من المثنوي ، ص 26 ، القاهرة ، 1946 .
“ 47 “
العمليّة التي يراها الشاعر مؤدّية إلى ذلك .
وشعر الديوان يكاد يكون من ذلك النوع الوجدانيّ الفلسفيّ ، أما المثنوي فتختلط فيه الفلسفة والحكمة بالشعر الخلقيّ التعلميّ على ذلك النحو الذي ذكرناه .
وبطبيعة الحال اختلف أسلوب الشاعر في شعره الوجدانيّ عنه في شعره التعليميّ . فهو في شعره الوجدانيّ يبدو جياش العاطفة ، عنيف الإحساس . يعبّر عن مغامراته الروحية بقوّة وحرارة .
ونحن نراه في هذا اللون من الشعر يعرض علينا فلسفة الصوفية بطريقة تبدو جديدة كل الجدة ، مختلفة كل الاختلاف عن كل ما عُرف من شعر صوفيّ إسلامي ، سواء منه ما كان بالعربية أو الفارسية أو التركية . لقد تناول في كثير من غزلياته موضوعات التصوف تناولًا مباشراً ، وعالجها بأصالة فنيّة جعلت شعره يختلف اختلافاً بعيداً عما كتبه غيره من شعراء الصوفيّة .
وبينما نجد شاعراً كابن الفارض يُغرض معانيه في سيل لا ينقطع من المحسنات الفظيّة ، نجد شاعرنا متحرراً في أسلوبه من تلك المحسنات ، منطلقاً بعباراته إلى آفاق لا تُحدّ ، لا تكاد عباراته تحمل من شحنات معانيه إلا القدر الضروري الذي يثير الخيال ويستحثّه إلى ملاحقة الشاعر في آفاقه العالية .
لننظر مثلًا إلى قوله عن المحبة الإلهية :
“ إنّ الروح التي ليس شعارها الحبّ الحقيقيّ من الخير ألا توجد ، فليس وجودها سوى عار ! كن ثملًا بالحب ، فإن الوجود كلّه محبة .
وبدون التعامل مع الحب فلا سبيل إلى الحبيب .
يقولون ما الحبّ ؟ قل هو ترك الإرادة !
“ 48 “
ومن لم يتخلّص من إرادته فلا إرادة له .
إنّ المحبّ ملك والعالمين نثارُ عند قدميه ! والملك لا يلتفت قط إلى ما هو مُلقى عند قدميه .
إن المحبة والمحبّ باقيان إلى الأبد ، فلا تربط قلبك بسواهما لأنه عرض زائل .
إلى متى تعانق هذا المحبوب الميّت “ 1 “ ؟
عانق الروح وإن كانت لا حدود لها .
فالأزهار التي تتولد في الربيع تموت في الخريف .
وبستان المحبة لا مدد له من الربيع .
وتلك الورود التي يجيء بها الربيع مقترنةُ بالأشواك كما أن خمر العصير لا تخلو من خُمار .
فلا ترتعد فوق حصان الجسد ، وسر مسرعاً على قدميك ! فإنّ اللَّه يهب جناحين لمن تخلّى عن حصان الجسد . “ فهو في هذا الغزل يتحدث عن المحبة الإلهية على أنها جوهر الوجود ، وأن كلّ ما سواها عرض زائل ، ويشبّه الجسد بحصان جامح ركبت متنه الروح ، ويدعو الإنسان للسيطرة على هذا الجسد والقضاء على رغائبه الجامحة ، لتستطيع الروح الانطلاق غير مكبلة بنزعاته وأهوائه .
وهو يخاطب قلبه المتعلق بالهيكل الجسمي ، الخاضع لأهوائه ، ويلومه على هذا التعلق في إحدى غزلياته فيقول :
...............................................................
( 1 ) المحبوب الميت هنا يرمز للدنيا الفانية ، والعناق رمز التمسك بها .
“ 49 “
“ أيها القلب ! لماذا أنت أسيرُ لهذا الهيكل الترابيّ الزائل ؟
ألا فلتنطلق خارج تلك الحظيرة ، فإنك طائر من عالم الروح .
إنك رفيق خلوة الدلال ، والمقيم وراء ستر الأسرار فكيف تجعل مقامك في هذا القرار الفاني ؟
انظر إلى حالك واخرج منها وارتحل من حبس عالم الصورة إلى مروج المعاني إنك طائر العالم القدسيّ ، نديم المجلس الأنسيّ فمن الحيف أن تظلّ باقياً بهذا المقام . “ ومقصود الشاعر بهذا الكلام دعوة قلبه إلى أن يتفكر ويتأمل ، وينطلق محلِّقاً في عالم المعاني ، ولا يبقى مجرد عضو محصور في هذا الجسد وطبيعته ، المادية المحدودة .
وفي الغزل الصوفيّ يناجي الشاعر محبوبه :
“ أيها الحبيب ! إني لم أر طرباً في الكونين بدونك .
لقد رأيت كثيراً من العجائب ، ولكني لم أر عجباً مثلك ! يقولون إنّ الاحتراق بالنار نصيب الكافر .
ولم أر محروماً من نارك سوى أبي لهب .
ولم وضعتُ أذن الروح على نافذة القلب فسمعت كلاماً كثيراً ولكني لم أر شفتين . “ كما يناجيه في غزل آخر بقوله : “ يا من أنت في ساعة الألم راحةُ لنفسي ! ويا من أنت في مرارة الفقر كنزُ لروحي !
“ 50 “
إن ما لا يحمله الوهم ولا يبصره الفهم يصل إلى روحي منك لأنك قبلتي .
ففي ركعات الصلاة يكون خيالك أيها الملك واجباً ولازماً لي لزوم السبع المثاني “ .
ويصوّر سعيه إلى المحبوب في غزل على طريقة السؤال والجواب ، وهي طريقة فارسيّة في النظم ، قوامها الحوار الذي يُستخدم لعرض الفكرة المقصودة .
“ قال : من بالباب ؟ قلت : عبدك الوضيع .
قال فأيّ شأن لك ؟ قلت : أقرئُك السلام أيها العظيم .
قال فإلى متى تلاحقني ؟ قلت ؟ حتى تدعوني ! قال : فإلى متى تجيش ؟ قلت : حتى القيامة ! لقد أقمتُ دعوى الحبّ وأقسمت على ذلك ، أني قد أضعتُ في سبيله الملك والشهامة ! قال : إنّ القاضي يريد شاهداً على الدعوى .
قلت : إنّ شاهدي دمعي ودليلي شحوب وجهي !
قال : إنّ الشاهد مُجرّح ، فعيناك مذنبتان .
قلت : بجلال عدلك إنهما من العدول ولا غرامة عليهما ! قال : فعلى أيّ شيء عزمت ؟ قلت على الوفاء والمحبة . قال : فماذا تريد مني ؟ قلت : لطفك الشامل .
قال : فمن كان رفيقك ؟ قلت خيالك أيها الملك ! قال : فماذا دعاك إلى هنا ؟ قلت : أريجُ كأسك ! قال : فأيّ مكان أفضل ؟ قلت : قصر قيصر .
“ 51 “
قال : فماذا رأيت هناك ؟ قلت : مائة كرامة ! قال : فلماذا هو خال ؟ قلت خوف قاطع الطريق .
قال : فمن قاطع الطريق ؟ قلت : إنّه الملامة .
قال : فأين الأمان ؟ قلت : إنّه في الزهد والتقوى .
قال : فما الزهد ؟ قلت : إنّه طريق السلامة “ .
وفي إحدى غزليَّاته يتحدث عن الاتحاد مع المحبوب ، ويصوّر لنا تلك الأفكار التي قالها غيره من الصوفيّة ، ولكن بصورة شاعرّية رائعة تحرك القلب ، وتجعلنا نرى ذلك المعنى من أبعاد أخرى ، وكأننا نسمعه من الشاعر لأول مرة . قال :
“ ما أسعد تلك اللحظة حين نجلس في الإيوان أنا وأنت ! نبدو نقشين وصورتين ولكنّنا روح واحدة أنا وأنت ! إنّ لون البستان وشدو الطيور يهبنا ماء الحياة ، في تلك اللحظة التي نذهب فيها إلى البستان أنا وأنت ! وتُقبل نجوم الفلك رانيةً إلينا بأبصارها فنجلو القمر نفسه لتلك الأفلاك أنا وأنت ! أنا وأنت ، وبدون أنا وأنت ، نبلغ بالذوق غاية الاتحاد .
فنسعد ونستريح من خرافات الفرقة إلي أنا وأنت ! وسيأكل الحسد قلوب طيور الفلك ، ذات الألوان الباهرة .
حينما تشاهدنا نضحك جذليْن على تلك الصورة أنا وأنت ! “ وقد حفل المثنوي أيضاً بقطع عالجت موضوع الإنسان ، وأصله الإلهي ، وكيف أن نفسه في حنين دائم إلى ذلك الأصل الذي جاءت منه ، وأنها تعاني في ذلك العالم الماديّ الذي احتبست فيه . والمثنوي
“ 52 “
يبدأ بالحديث عن الناى ، ويصف نغماته بأنها حنين إلى منبته الذي قُطع منه ، قبل أن تتناوله يد البشر فتشكّل منه تلك الآلة الموسيقية .
وما الناي هنا إلا رمز للنفس البشرية ، وما منبت الغاب إلا رمز لأصل تلك النفس ، وعالمها الأول ، وما حنين الناي إلا رمز لحنين تلك النفس البشرية إلى أصلها .
يقول الشاعر :
“ استمع للناي كيف يقصّ حكايته ، فهو يشكو آلام الفراق ( قائلًا ) :
إنني منذ قُطعت من منبت الغاب ، والناس جميعاً يبكون لبكائي ! إنني أنشد صدراً مزّقه الفراق ، حتى أشرح له ألم الإشتياق .
فكلّ إنسان أقام بعيداً عن أصله ، يظلّ يبحث عن زمان وصله .
لقد أصبحتُ أنوح في كل مجتمع وناد ، وصرت قريناً للبائسين والسعداء .
وقد ظنّ كلّ إنسان أنه قد أصبح لي رفيقاً ، ولكنّ أحداً لم ينقّب عما كمن في باطني من الأسرار ! وليس سرّي ببعيد عن نواحي ، ولكن أنّى لعين ذلك النور ، أو لأذن ذلك السمع الذي به تُدرك الأسرار “ 1 “ “ .
ويصوِّر فكرة الوحي أو الكشف والإلهام ، وهي السبيل الوحيد للمعرفة اليقينية عند الصوفية ، فيقول :
“ فخذ نوره من آدم إن شئت أو منه إن أردت ، وخذ الخمر من
...............................................................
( 1 ) المثنوي ، ح 1 ، 1 - 7
“ 53 “
الإبريق إن شئت ، أو من الكأس إن أردت ! فإن هذه الكأس وثيقة القربى بالإبريق .
فيا أيتها الكأس المباركة ، ليس هناك من هو سعيد مثلك ! ولقد قال المصطفى : طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى لمن رأى من رآني .
فحين يقتبس السراجُ نور الشمعة ، فكل من رآه رأى الشمعة يقيناً ! فلو انتقل النور على هذا النحو خلال مائة سراج ، فرؤية آخر سراج ملاقاةُ للأصل “ 1 “ “ .
كما يصوّر فناء الروح الإنساني في الخالق بأسلوب تعليميّ فيقول :
فالسيل حين وصل إلى البحر صار بحراً ، والحبة حين وصلت إلى الحقل صارت حصاداً .
والخبز - حين تعلّق بالكائن الحيّ - ، أصبح وهو الميّت حيّاً عالماً ! والشمع والحطب - عندما صارا فداءً للنار - أصبحت ذاتهما المظلمة أنواراً ! فما أسعد ذلك الرجل الذي تخلّص من ذاته ، وأصبح متحداً مع الوجود الحيّ “ 2 “ “ .
ومع أن جلال الدين كغيره من الصوفية - لا يحفل بالمباحث الكلامية ، ولا يراها موصلة إلى معرفة يقينيّة “ 3 “ ، فقد تناول في شعره جوانب من
..............................................................
( 1 ) نفس المصدر ، 1944 - 1948 .
( 2 ) المثنوي ، ج 1 ، 1531 - 33 ، 35 .
( 3 ) نفس المصدر ، 1500 - 1506 .
“ 54 “
المسائل الكلامية التي طال عليها الخلاف كمشكلة الجبر والاختيار ، وغيرها من المشكلات . لقد نظم الشعر عن الجبر والاختيار في عدة مواضع من المثنوي ، وأكد حرية إرادة الانسان ، ومسؤوليته عن أعماله .
ففي الجزء الخامس من المثنوي أكد في حوار حول القضاء والقدر بين مسلم ومجوسي أنّ الإنسان حرّ الإرادة ، وأنه لولا حرية إرادته لما كانت كل هذه الأوامر والنواهي التي حفل بها القرآن . فليس من المعقول أن هذه الأوامر والنواهي وجهت إلى أحجار ، ولولا حرية الإرادة لما كان لك أن تلوم لصاً سطا على منزلك “ 1 “ . وعلى هذا النحو يمضي في تأييد حرية الإرادة . ولكن ليس معنى هذا أن الشاعر كان معتزلىّ المذهب ، فقد انتقد المعتزلة بأن مذهبهم مذهب حسيّ بحت “ 2 “ ، وذكر في أكثر من موضع أنّه سنّي المذهب . قال : “ إن السنة هي أسلم الطرق ، والجماعة هم خير رفقاء الطريق “ “ 3 “
وتأكيد الشاعر لحرية إرادة الإنسان يتمشى مع تأكيده لأهمية الانسان في هذا الكون . ولا أريد أن أكرّر هنا ما سبق أن ذكرته عن الفلسفة الإنسانيّة لهذا الشاعر “ 4 “ .
...............................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 5 ، 2912 وما يليه .
( 2 ) المثنوي ، ج 2 ، 61 ، 62
( 3 ) المثنوي ، ج 4 ، 495
( 4 ) انظر : محمد كفافى : إتجاهات إنسانية في شعر الصوفية - ( محاضرات الموسم الثقافي الثاني لجامعة بيروت العربية . )
“ 55 “
( - 5 - ) أمّا الشعر التعليميّ لهذا الشاعر
فكان مجالًا رحباً تجلّت فيه عبقريته .
لقد استعان فيه بثقافته الواسعة ، وفهمه العميق لمعارف أهل زمانه .
إن هذا الشعر يكشف عن خبرته بالنفس البشرية ، ومقدرته على سبر أغوارها ، وتصوير نوازعها الخيّرة والشرّيرة على السواء .
لننظر مثلًا إلى حديثه عن الملق ، وأثره في نفس من يتقبله من الناس ، قال :
“ إنّ الجسم على شكل القفص ، وقد أصبح بخداع الداخلين والخارجين شوكة تخز الروح “ 1 “ .
فهذا يقول له : “ إننّي سأكون صفيّك “ ، وذاك يقول له :
“ لا . بل أنا شريكك . “ .
وهذا يقول له : “ ليس لك نظير في الوجود ، سواء في الجمال أو الفضل أو الإحسان والجود . “ وهذا يقول له : “ إنك صاحب العالمين ، وكلّ أرواحنا عيال على روحك . “ فحين يرى الخلق سُكارى ذاته ، يفقد من الكبر سلطانه على نفسه ،
..............................................................
( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1849 وما يليه .
“ 56 “
وهو لا يدري أنّ الشيطان قد أسقط آلافاً مثله في ماء النهر ! “ 1 “ إنّ ملق الدنيا ونفاقها لقمة حلوة المذاق ، ولكنها مليئة بالنار ، فأقلل من تناولها ! ولا تقل : “ متى كنت أبتلع هذا المديح ؟ إنه يتحدث عن طمع ، وأنا واقف على أمره ! “ .
فلو أنّ مادحك هجاك أمام الملأ فإن قلبك يحترق أياماً بلهيب هذا الهجاء .
ومع أنك تدري أنه قال هذا لحرمانه ، وأنّ طمعه في عطائك جعله مُغرضاً ، فإنّ أثر هذا يبقى في نفسك ، وإنك لتلقى التجربة ذاتها في المديح ! فإن أثره أيضاً يبقى معك أيّاماً ، ويصبح مصدراً لتكّبر الروح وانخذاعها .
ولكنّ المدح لا يظهر لك لأنه حلو ، أما القدح فيظهر لك لأنه قبيح مرّ .
فمن كثرة المديح أصبح فرعون طاغياً ، فكن متواضع النفس ليّن الجانب ولا تتجبّر ! وإلا فإنه حين لا يبقى لك لطف ولا جمال ، يقع منك الملال في نفوس أصحابك .
فهذه الجماعة التي كانت تتملّقك ، تقول عنك حين رؤياك : “ إنك الشيطان ! “
...............................................................
( 1 ) خدع آلافاً مثله حتى أهلكهم .
“ 57 “
والجميع يقولون حين يرونك بالباب : “ هذا ميّت نهض من قبره ! “ هذا مثال واحد من مئات الأمثلة التي عالح فيها أمراض المجتمع الإنسانيّ على هذا النحو البارع .
وخلاصة القول أنّ جلال الدين لم يكن فيلسوفاً فحسب ، وإنما كان حكيماً عملياً . لقد تقبل الحياة وتفاعل معها ، وعدّها واقعاً لا شك فيه ، وأوجب العمل فيها . يقول :
“ إن الدنيا تتجدّد في كل لحظة ونحن لا نُحسُّ بتجددها ، وهي باقية على هيئتها الظاهرة .
والعمر وإن بدا مستمراً في الجسد ، فإنه يتجدد في كل لحظة كما يتجدد ماء النهر “ .
وهو مؤمن بالإنسان وبمسؤوليته الذاتية على النحو الذي بيّناه .
مؤمن بالعلم ومكانه في هذه الحياة ، متفائل في نظرته إلى مستقبل البشرية رغم أنّه عاش في عصر من أظلم عصورها .
وحتى العشق الصوفىّ عند جلال الدين كان وسيلة من وسائل البعث الروحي . وفي ذلك يقول :
“ فيا من قلوبهم تحت جلودهم متحلّلة بالفناء . عودوا من العدم بنداء الحبيب ! “ 1 “ “ .
ولقد قُدّر لرسالته الروحيّة أن تستمر خلال القرون . لقد عاشت
...............................................................
( 1 ) نفس المصدر ، 1935 .
“ 58 “
تعاليمه في نفوس أتباعه من رجال الطريقة المولوية في تركيا العثمانية والشام ومصر . وكان لرئيس المولوية في تركيا العثمانية مكان مرموق ، فهو الذي كان يقلّد سلاطين الدولة العثمانية سيف جدّهم عثمان ، وهو عندهم رمز القوّة والسلطان .
واشتهر المثنوي في شرق العالم الاسلاميّ ، وانتشرت تعاليمه ، وتناوله الدارسون والشراح من كافة هذه الشعوب الاسلاميّة ، وظهرت له في كلّ أقطارهم شروح وترجمات . وعظم شأن جلال الدين بين أبناء تلك الشعوب ، واحتلّ بينهم المنزلة التي هو جدير كمعلم روحيّ كبير .
كما قُدّر لأفكاره وآرائه أن تجد سبيلها من جديد إلى الفكر الإسلاميّ الحديث ، على يد الشاعر الهندي الكبير محمد إقبال ، الذي كان له الفضل الأكبر في وضع الأسس الروحية لدولة الباكستان . لقد اعترف إقبال في مواضع عديدة من منظوماته بفضل جلال الدين عليه في بناء فلسفته . ومن أمثلة ذلك ما قاله في مقدمة منظومته الفارسيّة “ أسرار خودي “ ( أي اسرار الذات . ) وفي هذه المنظومته تحول العشق الصوفىّ عند إقبال إلى عشق للأمل والمثل الأعلى “ 1 “ . وتقوم فلسفة إقبال على إيجابية روحيّة ، تؤمن بهذه الحياة ، وتعدُّها حقيقة لا سبيل إلى إنكارها ، وتهاجم السلبيّة التي قال بها بعض الصوفيّة المسلمين . فالقيم الروحيّة - في رأي إقبال - تعصم الإنسان من الوقوع في قبضة المادية ، وتبعده عن المصير الذي انحدر إليه العالم في العصر الحديث .
ولقد قُوبل أدب جلال الدين عند كل من عرفوه بما هو جديربه من
...............................................................
( 1 ) عبد الوهاب عزام . محمد إقبال ، ص 69 - 71 ، 77 . القاهرة ، 1954 .
“ 59 “
التقدير والإعجاب . فأمّا أهل المشرق فقد مجّدوه على صورة لم يسبق لها مثال . وقد يدهش بعضنا إذا علم أن شاعراً إسلاميّا كبيراً كعبد الرحمن الجامي قد وصفه بقوله : “ إنه لم يكن نبيّاً ولكنه أوتي الكتاب “ . وقد نُشر المثنوي وشُرح مرات عديدة بمختلف لغات الأمم الإسلامية .
أمّا أهل الغرب فقد أعجبوا به إعجاباً شديداً ، ونشروا عنه الكثير من الأعمال العلمية باللغات الأوروبية المختلفة سواء منها ما هو ترجمة لبعض أعماله أو دراسة لها . وأعظم من ساهم في تلك الدارسات مستشر قو الإنجليز . ومن أعلامهم الكبار الأستاذ نيكولسون الذي قضى في دراسة جلال الدين ثلاثين عاماً من عمره ، منها خمسة وعشرون عاماً قضاها في نشر المثنوي وإعداد ترجمة إنجليزية له ، أتبعها بشروح قيّمة وتعليقات .
ولقد عبّر عن رأيه في جلال الدين - بعد ثلاثين عاماً من الاشتغال به - بأن طول الصحبة لأعمال هذا الشاعر ، والألفة بها ، لم تزده إلا تقديراً لها ، وأن ما وصفه به قبل ذلك بثلاثين عاماً - من أنه أعظم شعراء الصوفيّة على الإطلاق ليس بالوصف الذي يوفيه حقه . يقول : “ وإلا فأين لنا أن نرى صورة شاملة للوجود ، بأكمله منطلقة أمامنا خلال الزمن ، مستمرّة إلى الأبد ؟ إن هذا الشعر إلى جانب طابعه الصوفىّ قد انطوى على ثروة من السخريّة والتهكم ، والمواقف التي تثير الرثاء ، وصور رسمتها يدُ صناع ما مست شيئاً الا كشفت حقيقة جوهره “ 1 “ “ .
أمّا آربري - أستاذ الدراسات العربيّة والشرقيّة بجامعة كيمبردج –
...............................................................
( 1 ) .arberry : glassical persian literature , p . 241
“ 60 “
فقد خلف أستاذة نيكولسون في الاهتمام بأعمال جلال الدين ، ونشر عنه في السنوات الأخيرة بضعة كتب منها الترجمة ومنها الدراسة . وقد أدرجت بعض ترجمات آربري لجلال الدين ضمن قوائم اليونسكو التي تمثل روائع الآداب الإنسانية “ 1 “ .
وخلاصة القول أن جلال الدين في للوقت الحاضر - بإجماع الدارسين من أهل الشرق والغرب “ 2 “ - يُعدّ بلا شك أعظم شعراء الصوفيّة في كلّ زمان ومكان ، وواحداً من شعراء الإنسانيّة الأفذاذ .
...............................................................
( 1 ) انظر كتابه . 1961tales from the masnavi . london ,.
( 2 ) لخص محمد خلف اللَّه في مقال له بعنوان ( جلال الدين الرومي في نظر الباحثين ) بعض آراء مفكري الغرب في شعر جلال الدين وفلسفته . انظر . محمد خلف اللَّه . دراسات في الأدب الإسلامي ، ص 128 - 135 . القاهرة ، 1947 .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin