..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty20/11/2024, 22:49 من طرف Admin

» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 23:30 من طرف Admin

» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 23:25 من طرف Admin

» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 23:20 من طرف Admin

» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 23:08 من طرف Admin

» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 23:03 من طرف Admin

» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 23:01 من طرف Admin

» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 22:57 من طرف Admin

» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 22:55 من طرف Admin

» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 22:41 من طرف Admin

» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 22:34 من طرف Admin

» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 22:23 من طرف Admin

» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 22:21 من طرف Admin

» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 21:50 من طرف Admin

» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty18/11/2024, 21:38 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3 Empty كتاب: 01 - مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي ـ ج3

    مُساهمة من طرف Admin 14/10/2020, 10:18

    “ 31 “
    ( - 3 - ) الفنّ عند جلال الدين
    ليس من المستطاع أن أحيط بفنّ هذا الشاعر العملاق في مثل هذا البحث . ولكن حسبي أن أذكر بعض الحقائق التي تعين الدارس على تذوّق هذا الفنّ ، والإلمام ببعض خصائصه . لقد امتاز شعر جلال الدين بميزات فنيّة عديدة أهمّها ما يلي :
    أولًا : روعة الصور البيانيّة التي عبر بها الشاعر عن أفكاره.
    فهو يستطيع أن يُجسِّد الأفكار ، فيجعلنا نشعر بالمعنوّيات كأنها محسوسات نكاد نلمسها .
    كما أنّه يستطيع في سهولة ويسر أن ينطلق من المحسوسات إلى المعنوّيات . وهو يمزج بين الطبيعة والحياة والنفس الإنسانيّة في صور متكاملة تجمع عمق التأمل إلى روعة التصوير . ولنضرب لذلك بعض الأمثلة :
    يتحدّث الشاعر في بعض من أبيات المثنوي عن تجدّد الدنيا في كل لحظة ثم ينتقل من ذلك إلى دعوة الإنسان لتأمّل نفسه وما يطرأ عليها من تغيّر مستمرّ .
    يقول :
    “ في كلّ لحظة يا رب قافلة وراءها قافلة تسير من العدم إلى الوجود .
    “ 32 “
    ففي الخريف تذهب آلاف الأغصان والأوراق منهزمة إلى بحار الموت .
    بينما الغراب يرتدي السواد كالحزين وينوح على الخضرة في البستان .
    وثانيةً يجيء الأمر من سيّد الأرض فيقول للعدم :
    “ ردَّ ما أكلت ! أيها الموت الأسود ! ردّ ما أكلت من زروع وأعشاب وورق وحشائش . “ فيا أخي ! اجعل عقلك معك لحظة واحدة ! إنّ بك في كل لحظة خريفاً وربيعاً ! وانظر بستان قلبك أخضر ريّان نضراً ، حافلًا ببراعم الورد والسرو والياسمين . “ “ 1 “ فلنتأمل هنا كيف بدأ الشاعر من فكرة عامة هي تغّير الدنيا في كل لحظة ، وضرب لذلك مثلًا بالربيع والخريف ، ثم صورهما بصور بيانيّة جميلة ، وانتقل من ذلك إلى دعوة الإنسان لتأمل نفسه ، والنظر إلى ما يطرأ عليها من ازدهار يشبه الربيع أو انكهاش يشبه الخريف .
    وفي صورة أخرى يصورّ الإنسان وما يتعرض له من مغريات الحياة فيقول :
    “ ربّاه ! إنّ أمامنا مائة ألف من الشباك والحبّ ، ونحن كالطيور الحريصة الجياع ! ففي كل لحظة نقع في شرَك جديد ، حتى ولو كان كل منا بازاً أو عنقاء !
    ................................................................
    ( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1889 ، 1892 - 1897 .
    “ 33 “
    وأنت - يا من لا حاجة بك الينا - تخلّصنا في كل لحظة ، ولكننا نعود فنقع في حبائل أخرى ! فنحن نضع القمح في هذا المخزن ، بيد أننا لا نكاد نجمع القمح حتى نفقده “ 1 “ .
    وليس ينتهي بنا التفكير آخر الأمر أن هذا الخلل الذي يقع بالقمح جاء من مكر الفأر .
    فمنذ أن صنع الفأر جُحراً في مخزننا ، خرّب بخداعه هذا المخزن .
    فاعملي أيتها النفس أولًا على دفع شرّ الفأر ، ثم اجتهدي في جمع القمح ! فلو لم يكن في مخزننا فأرٌ سارق فأين محصول أعمالنا طيلة أربعين عاماً . “ “ 2 “ .
    فالقمح في هذه الصورة يرمز إلى ما يحصّله الإنسان من أعمال صالحة ، وأما الفأر فيرمز إلى الشيطان الذي يجد سبيله إلى تلك الأعمال فينتقص منها .
    وتتجلى مقدرة الشاعر على التصوير البياني فيما يسوقه من الصور المتلاحقة لبيان موقف من المواقف أو حال من الأحوال . يقول مثلًا عن القياس الفاسد وكيف أنه يجعل الناس يقيسون الأمور على ظاهرها لا على جوهرها وحقيقتها :
    “ فقد ادّعى ( هؤلاء ) أنَّهم مساوون للأنبياء ، وظنوا أنفسهم
    ..............................................
    ( 1 ) القمع هنا رمز للأعمال الصالحة . والشاعر يقول هنا إنه يجمع الأعمال الصالحة ولكن هذه الأعمال تذهب بها السيئات .
    ( 2 ) المثنوي ، ج 1 ، 374 - 380 ، 382 .
    “ 34 “
    مثل الأولياء وقالوا : أنظروا ! إننا بشرٌ وهم بسر . ونحن وإياهم أسارى للنوم والطعام ! ومن عماهم لم يدركوا أن هناك فرقاً لا نهاية له بينهم وبين هؤلاء .
    فالنحل كلها تأكل من مكان واحد ، ولكن يجيء من بعضها اللدغ ، ومن بعضها الآخر يأتي العسل .
    ومن القصب نوعان يشربان من ماء واحد ، ولكنّ أحدهما خال والآخر ( حافل ) بالسكرّ .
    فتأمل مائة ألف من أمثال هذه الأشباه ، وانظر كيف يفصل بينها طريق طوله سبعون عاماً ! فهذا يأكل فتتولد منه القذارة ، وذاك يأكل فيصبح كله نوراً إلهيّاً ! وهذا يأكل فينبعث منه البخل والحسد ، وذاك يأكل فيفيض منه عشق الأحد .
    وهذه أرض طيّبة ، وتلك مالحة رديئة ، وهذا ملك طاهر وذاك شيطان ووحش ضار .
    فلو تشابهت الصورتان فهذا جائز ، فالماء الملح والماء العذب شبيهان في الصفاء ! وليس يدري الفرق بينهما سوى صاحب ذوق ، فأدركة ، فهو الذي يميّز الماء العذب من الماء الملح . “ “ 1 “ والشاعر يتحدث عن الجسم والروح ، ويقارن بين إحساس الجسم وإحساس الروح فيقول :
    “ إنّ حسّ الدنيا سُلّم لهذا العالم ، وأما حسّ الدين فهو
    ..............................................................
    ( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 265 - 268 ، 270 - 276 .
    “ 35 “
    سلّم السماء ! فاطلبْ صحة حسّ الدنيا من الطبيب ، والتمسْ صحة حسّ الدين عند الحبيب .
    وصحة حس الدنيا تجيء من سلامة البدن . وأما صحة حسّ الدين فتأتي من خرابه .
    فطريق الروح يخرّب الجسم ، ولكنه يعود فيعمره بعد هذا التخريب .
    فهو كمن خرَّب داراً من أجل كنز الذهب ، ثم زادها عمراناً بذلك الكنز ذاته .
    أو كمن قطع الماء وطهّر مجرى النهر ، تم عاد فأجرى ماء الشرب فيه .
    أو كمن هدم القلعة وأخذها من الكفار ، ثم أقام على أرضها مائة برج وسدّ . “ “ 1 “ وهكذا ترى الشاعر لا يكاد يذكر فكرة من الأفكار حتى يؤيدها بعشرات الصور التي تتلاحق في روعة وجمال ، فتزيد الفكرة وضوحاً ، وتؤيّدها وتقوّيها .
    ثانياً : موسيقي الشعر :
    كان جلال الدين يجيد العزف على بعض الآلات الموسيقيّة ، وهو الذي توّسع بإدخال الموسيقي في مجالس الصوفية . وقد اقترن الشعر عنده بالموسيقى ، فكثيراً ما نظمه في مجلس السماع ، وكثيراً ما سمعه مقترناً بالإنشاد والأنغام .
    وقد تجلى أثر هذا الإحساس الموسيقي في شعره .
    فقد استطاع أن ينظم غزليات الديوان على أوزان عديدة بلغت خمسة وخمسين وزناً “ 2 “ ، بعضها كان من الأوزان المهجورة .
    ........................................................
    ( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 303 - 308 ، 310 .
    ( 2 ) أنظر ما قاله فروزانفر في عبارة اقتبسها منه علي دشتي في كتابه “ سيري در ديوان شمس “ ، ص 16 ، 17
    “ 36 “
    ومثل هذا التوسع في الأوزان ، والتنوع في الأنغام ، لا يُرى له مثيل عند غيره من الشعراء لا في الفارسية ولا في غيرها من لغات الأمم الإسلامية .
    وقد استطاع أن يجعل الأوزان المهجورة - بمقدرته الفنية - جميلة الوقع سائغة الأنغام . كما استطاع أن يوّفر الموسيقى لشعرة بوسائل عديدة ، وأحياناً كان يختتم الأبيات بمقاطع صوتيّة لا معنى لها ولكنها ذات تأثير موسيقي ، ووقع جميل في السمع “ 1 “ .
    وقد شهدنا في العصر الحديث من حاول اصطناع ذلك في الشعر العربي كوسيلة للتجديد في موسيقاه .
    ثالثاً : للشاعر مقدرة عجيبة على أن يتناول الموضوع المطروق فيجعل منه موضوعاً جديداً وكأنه يعرضه على القارئ لأول مرة . لقد كان ينظم القصة المعروفة فيدخلها بفنّه ضمن نطاق إبداعه ، والأمثلة على ذلك كثيرة .
    إن المثنوي يشتمل على بضع مئات من القصص .
    وقد استطاع الباحثون من أمثال نيكولسون وفروزانفر أن يردّوا هذه القصص في - في أغلب الأحوال - إلى أصول قديمة “ 2 “ .
    ولكننا إذا نظرنا إلى تلك الحكايات - كما وردت في مصادرها الأصلية - ثم نظرنا إليها عند الرومي ، وجدنا أنها قد تحوّلت تحولًا كاملًا ، وتغيرت معالمها ، وأصبحت حافلة بالمعاني الرائعة التي لم تخطر على بال مؤلف القصّة .
    ولنبيّن هذا يمكننا أن نذكر على سبيل المثال قصة صغيرة من القصص
    .............................................................................
    ( 1 ) أنظر أيضاً الفصل القيم الذي كتبه علي دشتى عن “ موسيقى ديوان شمس “ في كتابه “ سيري در ديوان شمس “ . طهران ، 1336 .
    ( 2 ) استطاع فروزانفر أن يرد 264 قصة من بين 275 وردت في المثنوي إلى أصول سابقة على الرومي في كتابه : “ مآخذ قصص وتمثيلات مثنوي “ ، طهران ، 1954 .
    “ 37 “
    المعروفة تناولها الرومي بطريقته فخلق منها عملًا فنياً ضخماً . تلك هي قصة “ الأرنب التي صرعت الأسد “ . وقد وردت هذه القصة في كليلة ودمنة “ 1 “ واستغرقت روايتها بضعة أسطر ، وخلاصتها أن أسداً كان يعيش بالقرب من أحد المروج ذات الماء والعشب الكثير ، وأن ذلك المرج كان مرتعاً لكثير من الوحوش ، تعيش فيه مستمتعة بمائه وعشبه ، ولكن الأسد كان يفسد عليها عيشها بمهاجمتها لاقتناص غذائه .
    وقد رأت هذه الوحوش أن تخلص من شرِّ الأسد بأن تقدم له كل يوم دابة يأكلها ، على أن يسكن الأسد عن مهاجمتها .
    وكانت هذه الدابّة التي تُرسل إلى الأسد تُختار بطريق الإقتراع . وذات يوم وقعت القرعة على أرنب ليذهب إلى الأسد ، فلم يرد الذهاب ، وأخذ يعمل الحيلة للقضاء على الأسد ، فتأخر عن الموعد الذي اعتاد الأسد أن يتلقى فيه فريسته ، ثم ذهب إلى الأسد بعد ذلك ، وأخبره بأنه تأخر لأن أسداً آخر اعترض طريقه ، وأخذ منه غذاء الملك ، وكان أرنباً آخر سميناً أرسله إليه الوحوش ، ودعا الأسد إلى أن يطهِّر الطريق من ذلك الأسد الدخيل حتى يصله طعامه دون تأخر
    . فطلب الأسد من الأرنب أن يدّله على مكان ذلك العدوّ ، فأخذه الأرنب إلى بئر تَطلّع فيها فرأى خياله فظنه عدوَّه ، فوثب إليه ليقاتلة فغرق في البئر وخلصت الوحوش من شرّه .
    لقد أخذ الرومي هذه القصة القصيرة ، فجعلها محوراً لألوان رائعة من الحوار ، وهيكلًا أدار حوله مناقشات ممتعة عن السعي والتوكل ، والقضاء والقدر ، وغير ذلك من المسائل .
    ويمكننا أن نذكر الآن - على سبيل المثال - بعض جوانب هذه القصة كما صوّرها الرومي .
    ولنبدأ بذكر الحوار الذي دار بين الوحوش وبين الأسد حين ذهبت إليه تطلب منه الأمان لقاء الحصول على رزق يومي يُرسل إليه .
    …………………………………….
    ( 1 ) كليلة ودمنة “ ، ص 116 ، 117 ، المطبعة الأميرية ، القاهرة ، 1931 .
    “ 38 “
    “ قالت جملة الوحوش : أيها الحكيم العالم ! دع الحذر فليس يُغني عن قدر “ 1 “ .
    إنّ في الحذر الحيرة البالغة والشرّ ، فاذهب وتوكل على اللَّه ، فالتوكل خير . ولا تضربْ بقبضتك القضاء أيها العنيف الحادّ ، حتى لا يلتحم القضاء في صراع معك .
    فالمرء يجب أن يكون ميتاً أمام الحق ، وإلاجاءتة الضربة من ربّ الفلق .
    فقال الأسد : “ إذا كان التوكل هو المرشد الصادق ، فإنّ الإفادة من الأسباب سنّة النبيّ .
    فقد نادى الرسول بأعلى صوته أن اعقل بعيرك وتوكل على اللَّه . “ 2 “ واستمع إلى مغزى قول القائل ( الكاسب حبيب اللَّه ) ، ولا تكن بتوكلك متراخياً عن الأسباب والوسائل .
    “ فقالت الوحوش : “ اعلم أن الكسب من ضعف الخلق ، وأنّه لقمة ، مزوِّرة على قدر الخلق.
    فليس هناك كسب أحسن من التوكل ، وأيّ شيء أحبّ إلى اللَّه من التسليم .
    فكم يفرّ المرء من بلاء ليقع في بلاء آخر ، وكم يهرب المرء من الثعبان ليلقى التنيّن ! لقد احتال الإنسان فكانت حيلته شركاً وقع هو فيه ، وكان موته فيما حسب أنه حياته ! فقد أوصد الباب والعدوُّ في منزله ، وإنّ حيلة فرعون لم تكن إلا قصّة من هذا النوع .
    ....................................................................
    ( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 908 وما يليه .
    ( 2 ) إشارة إلى قول الرسول عليه السلام . “ اعقلها وتوكل “ .
    “ 39 “
    فهذا الحقود قد قتل ألوف الأطفال ، بينما كان الطفل الذي يبحث عنه في منزله ! إنَّ بصرنا يعاني الكثير من العلل ، فاذهب وأَفْن بصرك في بصر الحبيب .
    . . . . . . .
    فأرواح البشر كانت - قبل أن تُخلق الأيدي والأرجل - تحلّق بوفائها في جوّ الصفاء .
    وعندما قُيِّدت الأرواح بأمره تعالى : “ اهبطوا “، صارت أسيرة الغضب والحرص والرضى.
    إنّا عيال اللَّه نطلب منه اللبن . وقد قال الرسول : “ الخلق عيال اللَّه . “ فذلك الإله الذي ينزل الغيث من السماء قادر على أن يمنحنا الخبز رحمةً منه وإشقاقاً .
    “ فقال الأسد : “ نعم ! ولكنَّ رب العباد وضع سلّماً أمام أقدامنا ، فالواجب أن نصعد هذا السلم درجة نحو القمة ، وأما القول بالجبر فإنه طمع ساذج .
    إنِّ لك ساقين فكيف تجعل من نفسك إنساناً أعرج ؟
    وإن لك يدين فكيف تُخفي أصابعك ؟
    فالسيد عندما يضع الفأس في يد عبده ، يتّضح مراده دون حاجة إلى القول .
    . . . . . . . .
    “ 40 “
    فإذا توكلت على اللَّه فتوكل عليه في عملك . ألْق البذور ثم توكل على الخالق الجبار . “ فارتفع صوت الوحوش جميعاً قائلين : “ ما لهؤلاء الحريصين الذين زرعوا الأسباب - وهم ألوف مؤلفّة من الرجال والنساء - ظلوا محرومين من مواتاة الزمن ؟ .
    فقد مرت آلاف القرون منذ بدء العالم ، وكان كل منها يفغر مائة فم كفم التنّين .
    . . . . . . . . .
    فلم يحقق لهم ذلك الصيد والعمل إلا ما قُسم لهم منذ الأزل ! لقد فشلوا جميعاً في التدبير والعمل ، وبقي قضاء اللَّه وأحكامه .
    “ فقال الأسد : “ نعم ، ولكنْ انظروا إلى الجهود التي بذلها الأنبياء والمؤمنون ! لقد بارك اللَّه جهودهم وما لا قوه فيها من حرّ وبرد .
    فجاءت تدابيرهم في جملة الأحوال لطيفة ، وكل ما جاء من لطيف فهو لطيف .
    فاجتهد أيها السيدّ ما استطعت في اتّباع طريق الأنبياء والأولياء .
    “ وهكذا يمضي هذا الحوار بين الأسد والوحوش ويمضي كلُ من المتناظرين في تأييد رأيه بالأمثال والحكايات إلى أن ترجح كفة السعي والجهد على التوكل والتراخي .
    رابعاً : كانت لجلال الدين مقدرة فائفة في فنّ الحوار .
    فهو لا يكاد
    “ 41 “
    يطرق موضوعاً من الموضوعاً حتى يعالجه في حوار يبيِّن به وجهات النظر المختلفة ، وينتهي منه إلى الرأي الذي يريد بيانه . وقد بلغت مقدرته في الحوار مستوى رائعاً . وإني أعتقد أنّ الكثير من محاوراته في المثنوي يرقى إلى مستويات الأدب التمثيلي . والحوار الذي ذكرته الآن يقدم لنا مثالًا للحوار الفلسفيّ الذي حفل به المثنوي . وهناك ألوان من الحوار ذات طابع واقعيّ ، نجد الشاعر فيها يُجري الحوار على مستوى المتناظرين ، فيكتب على لسانهم ما يلائم عقولهم ، وبهذا يقترب الحوار - إلى حد بعيد - من الواقعية التي تزيده قوة وتأثيراً .
    ويمكننا أن نقتبس بعض الأبيات من حوار جرى في إحدى المشاجرات بين رجل فقير وزوجته الجاهلة ، تلوم المرأة زوجها على فقره فيقول لها :
    “ إن الزوجين يجب أن يكون كل منهما على مثال الآخر . ألا فلتتأملي زوجين من الأحذية أو النعال ! فلو أنّ واحداً من النعلين ضاق بقدمك ، فلا نفع لهذين النعليْن عندك .
    وهل بين مصراعي الباب واحد صغير وآخر كبير ؟ أم هل رأيت ذئبة اقترنت بأسد الغاب ؟
    وليس يستقيم على ظهر البعير زوجان من الحقائب ، إحداهما صغيرة والأخرى كاملة الإتسّاع .
    إنني أسير بقلب قويّ نحو القناعة ، فما لك أنت تسيرين نحو الشناعة ؟ “ “ 1 “ فنحن نرى في هذا الحديث كيف أن الشاعر قد جعله على المستوى
    ...................................................
    ( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 2309 - 2313 .
    “ 42 “
    الذي ينبغي أن يكون عليه حين يُوَجَّه إلى امرأة جاهلة .
    خامساً : الشاعر قد استطاع - في كثير من الأحيان - أن يجعل من الأمور البسيطة التي تمر تحت أعيننا موضوعاً للشعر . فشعره يتناول الحياة بكلّ جوانبها ، وعبقريته الفنية تستطيع أن ترفع بعض الموضوعات من مستواها التافه إلى مستويات فنية تجعلها جديرة بأن تقرأ ، وتثير التأمل في النفس . وليس هذا بغريب على مثل هذا الفنان الأصيل . كما أنّنا لسنا بحاجة إلى أن نبرّر مثل هذا التصرّف من الناحية الفنيّة ، فالمصوّر مثلًا كثيراً ما يتخذ من الأمور التافهة موضوعاً للوحاته ، فيرتفع بها إلى مستوى الفنّ ، ويفرض على الأعين الحسّاسة تأمُّلها ، وعلى العقول تلقيها والتأثر بها . ومن أمثلة ذلك ما كتبه الشاعر عن البقول وهي تُطهى في القدر ، يصوّرها جلال الدين متوثبة من ألم النار ، تخاطب المرأة التي تقوم بالطهي ، معاتبة لها ، فتنهرها المرأة قائلة :
    “ إنني أغليك بالنار لا لأني أكرهك ، ولكن لأنِّي أُريد أن أجعلك سائغة الطعم “ 1 “ .
    فتصبحين بذلك غذاء يختلط بروح الحياة . فمثل هذا العذاب لا يهبط بك .
    . . . . . . . . .
    لقد فُصلت عن بستان الأرض ، وستصبحين بذلك طعاماً يدخل جسم الحيّ .
    فيغدو غذاء وحيوية وفكراً . لقد كنت عصارة نباتيّة ، والآن
    ................................................................
    ( 1 ) المثنوي ، ج 3 ، 4159 . . .
    “ 43 “
    تصبحين من أُسد الغاب .
    . . . . . . . .
    لقد كنت جزءاً من السحاب والشمس والكواكب ، والآن تصبحين نَفَساً وحركة وحديثاً وفكراً ! “ .
    فهنا نرى كيف اتخذ الشاعر من مثل هذا العمل المعتاد ، طهي بعض البقول ، موضوعاً ينطلق منه بصورة رمزية إلى تلك المعاني .
    وكثيرةُ هي الأمور البسيطة التي استخدمها الشاعر على هذا النحو فرفعها من مكانها المتواضع في الحياة إلى مقام الفكر المتأمِّل
    سادساً : تكثر في المثنوي الحكم والأمثال التي يصوغها الشاعر من وحي تعاليمه الأخلاقية ، أو فلسفته الصوفية ، فتزيد شعره قوّةً في التأثير ، فالحكمة في موضعها تزيد المعنى قوّةً ووضوحاً ، وتجعل الشعر قادراً على النفاذ إلى النفس والتأثير فيها
    . ومثل هذا كان ضرورياً بالنسبة لشعره التعليميّ الهادف .
    ولا أريد أن أذكر هنا شيئاً من أمثال الشاعر أو حكمه ، لأنّ القليل في هذا المجال لا يدل على الكثير ، والذي يُقال في موضوع لا يمكن أن يدلّ على ما يقال من حكم في شتّى الموضوعات ، ومختلف المناسبات .
    سابعاً : نجح الشاعر إلى أبعد الحدود في استخدام السخرية والتهكم لتحقيق أهدافه الفنيّة أو التعليمية .
    وقد استطاع أن يرسم بالشعر لوحات تشبه لوحات “ الكاريكاتير “ : وفي الأبيات التالية يمكننا أن نرى كيف سخر من قصار النظر :
    “ كانت ذبابة على عود قش فوق بول حمار ، وقد رفعت رأسها
    “ 44 “
    كربّان السفينة ! وقالت : “ إنّي أسمّيهما بحراً وسفينة ، وهذا ما استغرق فكري فترة من الزمن ! فانظر هذا البحر وتلك السفينة ، وأنا فوقهما الربَّان البارع الحصيف الرأي ! “ فكانت هذه الذبابة تسيّر سفينتها على صفحة البحر ، وقد بدا لها هذا القدر ماء لا يُحدّ .
    لقد كان هذا الماء يبدو بلا حدود بالنسبة لها ، ومن أين لها ذلك النظر الذي يراه على حقيقته ؟
    إن عالمها يمتد إلى المدى الذي يدركه بصرها ، فعلى قدر العين يكون مدى بحرها . “ “ 1 “ ثامناً : الشاعر متنوّع الأساليب ، وقد هدته سليقته إلى نظم الشعر بصور وأساليب متبانية تتلاءم مع عديدٍ من المذاهب الفنيّة التي ظهرت خلال القرون . فعنده الشعر الذي يمكن أن يُعد واقعيّاً ، وعنده الشعر العاطفيّ المثاليّ ، وعند الشعر الرمزيّ ، بل عنده شعر اللاوعي .
    ومن الجدير بالذكر هنا أن الصوفيّة هم أول من قال بأدب اللاوعي :
    فقد أثر عن الكثيرين منهم نظم الشعر في حالات الوجد الصوفيّ ، حالات الفناء عن الذات ، التي كانوا يخرجون فيها عن العقل الواعي . ومما هو جدير بالذكر أيضاً أن الصوفيّة - بقولهم بالوحي والكشف - قد فتحوا السبيل أمام ألوان جديدة من التفكير في طبيعة الأدب والفن ، بعد أن ظلت فكرة المحاكاة التي قال بها أرسطو مسيطرة على مفاهيم النقد الأدبيّ قروناً عديدة . وقد سبقوا بذلك فرانسيس بيكون الذي صنّف
    ………………………………………………..
    ( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1082 - 1087 .
    “ 45 “
    المعرفة البشريّة على أساس ملكات إنسانيّة ثلاث هي العقل والذاكرة والخيال ، وجال الخيال مصدر الشعر فكان ذلك خروجاً على مذهب المحاكاة الأرسطيّ .
    وقد يكون من الطريف أن نذكر هنا مثالًا لشعر الوجد الصوفيّ عند جلال الدين ، وهو الذي يمكن أن يُعدّ من شعر اللاوعي . قال في ديوان شمس تبريز :
    “ هذه الدار التي لا تفتر فيها الألحان ، سل ربّها أيّ دار هذه ؟
    إن كانت الكعبة فما صورة الصنم هذه ؟
    وإن كانت دير المجوس فما هذا النور الإلهي ؟
    في هذه الدار كنز يضيق به العالم ، وإنما هذه الدار وهذا السيّد ( رب الدار ) فعل وذريعة .
    لا تَضع على الدار يداً فما هي إلا طلسم ، ولا تُكلّم السيد فقد أفنى الليل سُكراً .
    تراب هذه الدار وقمامتها مسك وعنبر وعطر . كل سطحها وبابها شعر وألحان . فمن وجد سبيلًا فيها فهو سلطان الأرض وسليمان الزمان .
    أيها السيد ! أطلَّ علينا من الشرفة ، فإن في خدك الجميل أمارة من الإقبال .
    أقسم بروحك أن ما عدا رؤية وجهك ، ولو كان ملك العالم ، خيال وخرافة .
    تحيّر البستان أي ورق وأي زهر ! وولهت الطير أي شبك وأي حَبّ !
    “ 46 “
    هذا سيّد الفلك كالزُهرة والقمر ، وهذي دار العشق لا حدّ لها ولا نهاية . “ “ 1 “( - 4 - ) موضوعات الرومي
    إذا أردنا أن نقسم شعر جلال الدين على أساس مضمونه ، وجدنا أنه ينقسم إلى قسمين متميزين ، الأول منهما شعر وجدانيّ فلسفيّ يتناول معاني الصوفيّة ، من حديث عن المحبّة الإلهية ، والوجد ، والنفس الإنسانية ، وأصلها الإلهيّ ، وحنينما إلى ذلك الأصل الذي انفصلت عنه ، ولمحات عن وحدة الوجود لا كمسألة فلسفيّة ولكن كموضوع ذوقي ( فهو في هذه الناحية يختلف اختلافاً كبيراً عن يحي الدين بن عربي ) .
    والشاعر في هذا اللون الوجدانيّ محلّق دائماً في آفاق العالم الروحي ، لا يكاد يمس الحياة المادّية إلا ليبيّن تفاهتها واتضاعها إذا قيست بحياة الروح ، وما تنطوي عليه من المباهج ، وما تُضمره للانسان من سعادة أبديّة قوامها الكمال والخلود .
    أما القسم الثاني من شعره فشعرُ إنسانيّ أخلاقيّ ، تناول في جانب كبير منه الإنسان ، وبيّن أهميّته في هذا الكون ، ورسم المثل العليا للحياة الإنسانية في هذا العالم . وهو في هذا اللون من الشعر معلم أكثر منه فيلسوف ، يترك الرمز في كثير من الأحوال ، ويستخدم القصص والأمثال لبيان الآراء التي يدعو إليها .
    وفلسفته الخلقيّة قائمة على دعوة الإنسان لتحقيق الكمال في هذه الحياة ، وهي ترسم للإنسانية الوسائل
    ...............................................................
    ( 1 ) ترجمة هذه القطعة لعبد الوهاب عزام . أنظر فصول من المثنوي ، ص 26 ، القاهرة ، 1946 .
    “ 47 “
    العمليّة التي يراها الشاعر مؤدّية إلى ذلك .
    وشعر الديوان يكاد يكون من ذلك النوع الوجدانيّ الفلسفيّ ، أما المثنوي فتختلط فيه الفلسفة والحكمة بالشعر الخلقيّ التعلميّ على ذلك النحو الذي ذكرناه .
    وبطبيعة الحال اختلف أسلوب الشاعر في شعره الوجدانيّ عنه في شعره التعليميّ . فهو في شعره الوجدانيّ يبدو جياش العاطفة ، عنيف الإحساس . يعبّر عن مغامراته الروحية بقوّة وحرارة .
    ونحن نراه في هذا اللون من الشعر يعرض علينا فلسفة الصوفية بطريقة تبدو جديدة كل الجدة ، مختلفة كل الاختلاف عن كل ما عُرف من شعر صوفيّ إسلامي ، سواء منه ما كان بالعربية أو الفارسية أو التركية . لقد تناول في كثير من غزلياته موضوعات التصوف تناولًا مباشراً ، وعالجها بأصالة فنيّة جعلت شعره يختلف اختلافاً بعيداً عما كتبه غيره من شعراء الصوفيّة .
    وبينما نجد شاعراً كابن الفارض يُغرض معانيه في سيل لا ينقطع من المحسنات الفظيّة ، نجد شاعرنا متحرراً في أسلوبه من تلك المحسنات ، منطلقاً بعباراته إلى آفاق لا تُحدّ ، لا تكاد عباراته تحمل من شحنات معانيه إلا القدر الضروري الذي يثير الخيال ويستحثّه إلى ملاحقة الشاعر في آفاقه العالية .
    لننظر مثلًا إلى قوله عن المحبة الإلهية :
    “ إنّ الروح التي ليس شعارها الحبّ الحقيقيّ من الخير ألا توجد ، فليس وجودها سوى عار ! كن ثملًا بالحب ، فإن الوجود كلّه محبة .
    وبدون التعامل مع الحب فلا سبيل إلى الحبيب .
    يقولون ما الحبّ ؟ قل هو ترك الإرادة !
    “ 48 “
    ومن لم يتخلّص من إرادته فلا إرادة له .
    إنّ المحبّ ملك والعالمين نثارُ عند قدميه ! والملك لا يلتفت قط إلى ما هو مُلقى عند قدميه .
    إن المحبة والمحبّ باقيان إلى الأبد ، فلا تربط قلبك بسواهما لأنه عرض زائل .
    إلى متى تعانق هذا المحبوب الميّت “ 1 “ ؟
    عانق الروح وإن كانت لا حدود لها .
    فالأزهار التي تتولد في الربيع تموت في الخريف .
    وبستان المحبة لا مدد له من الربيع .
    وتلك الورود التي يجيء بها الربيع مقترنةُ بالأشواك كما أن خمر العصير لا تخلو من خُمار .
    فلا ترتعد فوق حصان الجسد ، وسر مسرعاً على قدميك ! فإنّ اللَّه يهب جناحين لمن تخلّى عن حصان الجسد . “ فهو في هذا الغزل يتحدث عن المحبة الإلهية على أنها جوهر الوجود ، وأن كلّ ما سواها عرض زائل ، ويشبّه الجسد بحصان جامح ركبت متنه الروح ، ويدعو الإنسان للسيطرة على هذا الجسد والقضاء على رغائبه الجامحة ، لتستطيع الروح الانطلاق غير مكبلة بنزعاته وأهوائه .
    وهو يخاطب قلبه المتعلق بالهيكل الجسمي ، الخاضع لأهوائه ، ويلومه على هذا التعلق في إحدى غزلياته فيقول :
    ...............................................................
    ( 1 ) المحبوب الميت هنا يرمز للدنيا الفانية ، والعناق رمز التمسك بها .
    “ 49 “
    “ أيها القلب ! لماذا أنت أسيرُ لهذا الهيكل الترابيّ الزائل ؟
    ألا فلتنطلق خارج تلك الحظيرة ، فإنك طائر من عالم الروح .
    إنك رفيق خلوة الدلال ، والمقيم وراء ستر الأسرار فكيف تجعل مقامك في هذا القرار الفاني ؟
    انظر إلى حالك واخرج منها وارتحل من حبس عالم الصورة إلى مروج المعاني إنك طائر العالم القدسيّ ، نديم المجلس الأنسيّ فمن الحيف أن تظلّ باقياً بهذا المقام . “ ومقصود الشاعر بهذا الكلام دعوة قلبه إلى أن يتفكر ويتأمل ، وينطلق محلِّقاً في عالم المعاني ، ولا يبقى مجرد عضو محصور في هذا الجسد وطبيعته ، المادية المحدودة .
    وفي الغزل الصوفيّ يناجي الشاعر محبوبه :
    “ أيها الحبيب ! إني لم أر طرباً في الكونين بدونك .
    لقد رأيت كثيراً من العجائب ، ولكني لم أر عجباً مثلك ! يقولون إنّ الاحتراق بالنار نصيب الكافر .
    ولم أر محروماً من نارك سوى أبي لهب .
    ولم وضعتُ أذن الروح على نافذة القلب فسمعت كلاماً كثيراً ولكني لم أر شفتين . “ كما يناجيه في غزل آخر بقوله : “ يا من أنت في ساعة الألم راحةُ لنفسي ! ويا من أنت في مرارة الفقر كنزُ لروحي !
    “ 50 “
    إن ما لا يحمله الوهم ولا يبصره الفهم يصل إلى روحي منك لأنك قبلتي .
    ففي ركعات الصلاة يكون خيالك أيها الملك واجباً ولازماً لي لزوم السبع المثاني “ .
    ويصوّر سعيه إلى المحبوب في غزل على طريقة السؤال والجواب ، وهي طريقة فارسيّة في النظم ، قوامها الحوار الذي يُستخدم لعرض الفكرة المقصودة .
    “ قال : من بالباب ؟ قلت : عبدك الوضيع .
    قال فأيّ شأن لك ؟ قلت : أقرئُك السلام أيها العظيم .
    قال فإلى متى تلاحقني ؟ قلت ؟ حتى تدعوني ! قال : فإلى متى تجيش ؟ قلت : حتى القيامة ! لقد أقمتُ دعوى الحبّ وأقسمت على ذلك ، أني قد أضعتُ في سبيله الملك والشهامة ! قال : إنّ القاضي يريد شاهداً على الدعوى .
    قلت : إنّ شاهدي دمعي ودليلي شحوب وجهي !
    قال : إنّ الشاهد مُجرّح ، فعيناك مذنبتان .
    قلت : بجلال عدلك إنهما من العدول ولا غرامة عليهما ! قال : فعلى أيّ شيء عزمت ؟ قلت على الوفاء والمحبة . قال : فماذا تريد مني ؟ قلت : لطفك الشامل .
    قال : فمن كان رفيقك ؟ قلت خيالك أيها الملك ! قال : فماذا دعاك إلى هنا ؟ قلت : أريجُ كأسك ! قال : فأيّ مكان أفضل ؟ قلت : قصر قيصر .
    “ 51 “
    قال : فماذا رأيت هناك ؟ قلت : مائة كرامة ! قال : فلماذا هو خال ؟ قلت خوف قاطع الطريق .
    قال : فمن قاطع الطريق ؟ قلت : إنّه الملامة .
    قال : فأين الأمان ؟ قلت : إنّه في الزهد والتقوى .
    قال : فما الزهد ؟ قلت : إنّه طريق السلامة “ .
    وفي إحدى غزليَّاته يتحدث عن الاتحاد مع المحبوب ، ويصوّر لنا تلك الأفكار التي قالها غيره من الصوفيّة ، ولكن بصورة شاعرّية رائعة تحرك القلب ، وتجعلنا نرى ذلك المعنى من أبعاد أخرى ، وكأننا نسمعه من الشاعر لأول مرة . قال :
    “ ما أسعد تلك اللحظة حين نجلس في الإيوان أنا وأنت ! نبدو نقشين وصورتين ولكنّنا روح واحدة أنا وأنت ! إنّ لون البستان وشدو الطيور يهبنا ماء الحياة ، في تلك اللحظة التي نذهب فيها إلى البستان أنا وأنت ! وتُقبل نجوم الفلك رانيةً إلينا بأبصارها فنجلو القمر نفسه لتلك الأفلاك أنا وأنت ! أنا وأنت ، وبدون أنا وأنت ، نبلغ بالذوق غاية الاتحاد .
    فنسعد ونستريح من خرافات الفرقة إلي أنا وأنت ! وسيأكل الحسد قلوب طيور الفلك ، ذات الألوان الباهرة .
    حينما تشاهدنا نضحك جذليْن على تلك الصورة أنا وأنت ! “ وقد حفل المثنوي أيضاً بقطع عالجت موضوع الإنسان ، وأصله الإلهي ، وكيف أن نفسه في حنين دائم إلى ذلك الأصل الذي جاءت منه ، وأنها تعاني في ذلك العالم الماديّ الذي احتبست فيه . والمثنوي
    “ 52 “
    يبدأ بالحديث عن الناى ، ويصف نغماته بأنها حنين إلى منبته الذي قُطع منه ، قبل أن تتناوله يد البشر فتشكّل منه تلك الآلة الموسيقية .
    وما الناي هنا إلا رمز للنفس البشرية ، وما منبت الغاب إلا رمز لأصل تلك النفس ، وعالمها الأول ، وما حنين الناي إلا رمز لحنين تلك النفس البشرية إلى أصلها .
    يقول الشاعر :
    “ استمع للناي كيف يقصّ حكايته ، فهو يشكو آلام الفراق ( قائلًا ) :
    إنني منذ قُطعت من منبت الغاب ، والناس جميعاً يبكون لبكائي ! إنني أنشد صدراً مزّقه الفراق ، حتى أشرح له ألم الإشتياق .
    فكلّ إنسان أقام بعيداً عن أصله ، يظلّ يبحث عن زمان وصله .
    لقد أصبحتُ أنوح في كل مجتمع وناد ، وصرت قريناً للبائسين والسعداء .
    وقد ظنّ كلّ إنسان أنه قد أصبح لي رفيقاً ، ولكنّ أحداً لم ينقّب عما كمن في باطني من الأسرار ! وليس سرّي ببعيد عن نواحي ، ولكن أنّى لعين ذلك النور ، أو لأذن ذلك السمع الذي به تُدرك الأسرار “ 1 “ “ .
    ويصوِّر فكرة الوحي أو الكشف والإلهام ، وهي السبيل الوحيد للمعرفة اليقينية عند الصوفية ، فيقول :
    “ فخذ نوره من آدم إن شئت أو منه إن أردت ، وخذ الخمر من
    ...............................................................
    ( 1 ) المثنوي ، ح 1 ، 1 - 7
    “ 53 “
    الإبريق إن شئت ، أو من الكأس إن أردت ! فإن هذه الكأس وثيقة القربى بالإبريق .
    فيا أيتها الكأس المباركة ، ليس هناك من هو سعيد مثلك ! ولقد قال المصطفى : طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى لمن رأى من رآني .
    فحين يقتبس السراجُ نور الشمعة ، فكل من رآه رأى الشمعة يقيناً ! فلو انتقل النور على هذا النحو خلال مائة سراج ، فرؤية آخر سراج ملاقاةُ للأصل “ 1 “ “ .
    كما يصوّر فناء الروح الإنساني في الخالق بأسلوب تعليميّ فيقول :
    فالسيل حين وصل إلى البحر صار بحراً ، والحبة حين وصلت إلى الحقل صارت حصاداً .
    والخبز - حين تعلّق بالكائن الحيّ - ، أصبح وهو الميّت حيّاً عالماً ! والشمع والحطب - عندما صارا فداءً للنار - أصبحت ذاتهما المظلمة أنواراً ! فما أسعد ذلك الرجل الذي تخلّص من ذاته ، وأصبح متحداً مع الوجود الحيّ “ 2 “ “ .
    ومع أن جلال الدين كغيره من الصوفية - لا يحفل بالمباحث الكلامية ، ولا يراها موصلة إلى معرفة يقينيّة “ 3 “ ، فقد تناول في شعره جوانب من
    ..............................................................
    ( 1 ) نفس المصدر ، 1944 - 1948 .
    ( 2 ) المثنوي ، ج 1 ، 1531 - 33 ، 35 .
    ( 3 ) نفس المصدر ، 1500 - 1506 .
    “ 54 “
    المسائل الكلامية التي طال عليها الخلاف كمشكلة الجبر والاختيار ، وغيرها من المشكلات . لقد نظم الشعر عن الجبر والاختيار في عدة مواضع من المثنوي ، وأكد حرية إرادة الانسان ، ومسؤوليته عن أعماله .
    ففي الجزء الخامس من المثنوي أكد في حوار حول القضاء والقدر بين مسلم ومجوسي أنّ الإنسان حرّ الإرادة ، وأنه لولا حرية إرادته لما كانت كل هذه الأوامر والنواهي التي حفل بها القرآن . فليس من المعقول أن هذه الأوامر والنواهي وجهت إلى أحجار ، ولولا حرية الإرادة لما كان لك أن تلوم لصاً سطا على منزلك “ 1 “ . وعلى هذا النحو يمضي في تأييد حرية الإرادة . ولكن ليس معنى هذا أن الشاعر كان معتزلىّ المذهب ، فقد انتقد المعتزلة بأن مذهبهم مذهب حسيّ بحت “ 2 “ ، وذكر في أكثر من موضع أنّه سنّي المذهب . قال : “ إن السنة هي أسلم الطرق ، والجماعة هم خير رفقاء الطريق “ “ 3 “
    وتأكيد الشاعر لحرية إرادة الإنسان يتمشى مع تأكيده لأهمية الانسان في هذا الكون . ولا أريد أن أكرّر هنا ما سبق أن ذكرته عن الفلسفة الإنسانيّة لهذا الشاعر “ 4 “ .
    ...............................................................
    ( 1 ) المثنوي ، ج 5 ، 2912 وما يليه .
    ( 2 ) المثنوي ، ج 2 ، 61 ، 62
    ( 3 ) المثنوي ، ج 4 ، 495
    ( 4 ) انظر : محمد كفافى : إتجاهات إنسانية في شعر الصوفية - ( محاضرات الموسم الثقافي الثاني لجامعة بيروت العربية . )
    “ 55 “
    ( - 5 - ) أمّا الشعر التعليميّ لهذا الشاعر
    فكان مجالًا رحباً تجلّت فيه عبقريته .
    لقد استعان فيه بثقافته الواسعة ، وفهمه العميق لمعارف أهل زمانه .
    إن هذا الشعر يكشف عن خبرته بالنفس البشرية ، ومقدرته على سبر أغوارها ، وتصوير نوازعها الخيّرة والشرّيرة على السواء .
    لننظر مثلًا إلى حديثه عن الملق ، وأثره في نفس من يتقبله من الناس ، قال :
    “ إنّ الجسم على شكل القفص ، وقد أصبح بخداع الداخلين والخارجين شوكة تخز الروح “ 1 “ .
    فهذا يقول له : “ إننّي سأكون صفيّك “ ، وذاك يقول له :
    “ لا . بل أنا شريكك . “ .
    وهذا يقول له : “ ليس لك نظير في الوجود ، سواء في الجمال أو الفضل أو الإحسان والجود . “ وهذا يقول له : “ إنك صاحب العالمين ، وكلّ أرواحنا عيال على روحك . “ فحين يرى الخلق سُكارى ذاته ، يفقد من الكبر سلطانه على نفسه ،
    ..............................................................
    ( 1 ) المثنوي ، ج 1 ، 1849 وما يليه .
    “ 56 “
    وهو لا يدري أنّ الشيطان قد أسقط آلافاً مثله في ماء النهر ! “ 1 “ إنّ ملق الدنيا ونفاقها لقمة حلوة المذاق ، ولكنها مليئة بالنار ، فأقلل من تناولها ! ولا تقل : “ متى كنت أبتلع هذا المديح ؟ إنه يتحدث عن طمع ، وأنا واقف على أمره ! “ .
    فلو أنّ مادحك هجاك أمام الملأ فإن قلبك يحترق أياماً بلهيب هذا الهجاء .
    ومع أنك تدري أنه قال هذا لحرمانه ، وأنّ طمعه في عطائك جعله مُغرضاً ، فإنّ أثر هذا يبقى في نفسك ، وإنك لتلقى التجربة ذاتها في المديح ! فإن أثره أيضاً يبقى معك أيّاماً ، ويصبح مصدراً لتكّبر الروح وانخذاعها .
    ولكنّ المدح لا يظهر لك لأنه حلو ، أما القدح فيظهر لك لأنه قبيح مرّ .
    فمن كثرة المديح أصبح فرعون طاغياً ، فكن متواضع النفس ليّن الجانب ولا تتجبّر ! وإلا فإنه حين لا يبقى لك لطف ولا جمال ، يقع منك الملال في نفوس أصحابك .
    فهذه الجماعة التي كانت تتملّقك ، تقول عنك حين رؤياك : “ إنك الشيطان ! “
    ...............................................................
    ( 1 ) خدع آلافاً مثله حتى أهلكهم .
    “ 57 “
    والجميع يقولون حين يرونك بالباب : “ هذا ميّت نهض من قبره ! “ هذا مثال واحد من مئات الأمثلة التي عالح فيها أمراض المجتمع الإنسانيّ على هذا النحو البارع .
    وخلاصة القول أنّ جلال الدين لم يكن فيلسوفاً فحسب ، وإنما كان حكيماً عملياً . لقد تقبل الحياة وتفاعل معها ، وعدّها واقعاً لا شك فيه ، وأوجب العمل فيها . يقول :
    “ إن الدنيا تتجدّد في كل لحظة ونحن لا نُحسُّ بتجددها ، وهي باقية على هيئتها الظاهرة .
    والعمر وإن بدا مستمراً في الجسد ، فإنه يتجدد في كل لحظة كما يتجدد ماء النهر “ .
    وهو مؤمن بالإنسان وبمسؤوليته الذاتية على النحو الذي بيّناه .
    مؤمن بالعلم ومكانه في هذه الحياة ، متفائل في نظرته إلى مستقبل البشرية رغم أنّه عاش في عصر من أظلم عصورها .
    وحتى العشق الصوفىّ عند جلال الدين كان وسيلة من وسائل البعث الروحي . وفي ذلك يقول :
    “ فيا من قلوبهم تحت جلودهم متحلّلة بالفناء . عودوا من العدم بنداء الحبيب ! “ 1 “ “ .
    ولقد قُدّر لرسالته الروحيّة أن تستمر خلال القرون . لقد عاشت
    ...............................................................
    ( 1 ) نفس المصدر ، 1935 .
    “ 58 “
    تعاليمه في نفوس أتباعه من رجال الطريقة المولوية في تركيا العثمانية والشام ومصر . وكان لرئيس المولوية في تركيا العثمانية مكان مرموق ، فهو الذي كان يقلّد سلاطين الدولة العثمانية سيف جدّهم عثمان ، وهو عندهم رمز القوّة والسلطان .
    واشتهر المثنوي في شرق العالم الاسلاميّ ، وانتشرت تعاليمه ، وتناوله الدارسون والشراح من كافة هذه الشعوب الاسلاميّة ، وظهرت له في كلّ أقطارهم شروح وترجمات . وعظم شأن جلال الدين بين أبناء تلك الشعوب ، واحتلّ بينهم المنزلة التي هو جدير كمعلم روحيّ كبير .
    كما قُدّر لأفكاره وآرائه أن تجد سبيلها من جديد إلى الفكر الإسلاميّ الحديث ، على يد الشاعر الهندي الكبير محمد إقبال ، الذي كان له الفضل الأكبر في وضع الأسس الروحية لدولة الباكستان . لقد اعترف إقبال في مواضع عديدة من منظوماته بفضل جلال الدين عليه في بناء فلسفته . ومن أمثلة ذلك ما قاله في مقدمة منظومته الفارسيّة “ أسرار خودي “ ( أي اسرار الذات . ) وفي هذه المنظومته تحول العشق الصوفىّ عند إقبال إلى عشق للأمل والمثل الأعلى “ 1 “ . وتقوم فلسفة إقبال على إيجابية روحيّة ، تؤمن بهذه الحياة ، وتعدُّها حقيقة لا سبيل إلى إنكارها ، وتهاجم السلبيّة التي قال بها بعض الصوفيّة المسلمين . فالقيم الروحيّة - في رأي إقبال - تعصم الإنسان من الوقوع في قبضة المادية ، وتبعده عن المصير الذي انحدر إليه العالم في العصر الحديث .
    ولقد قُوبل أدب جلال الدين عند كل من عرفوه بما هو جديربه من
    ...............................................................
    ( 1 ) عبد الوهاب عزام . محمد إقبال ، ص 69 - 71 ، 77 . القاهرة ، 1954 .
    “ 59 “
    التقدير والإعجاب . فأمّا أهل المشرق فقد مجّدوه على صورة لم يسبق لها مثال . وقد يدهش بعضنا إذا علم أن شاعراً إسلاميّا كبيراً كعبد الرحمن الجامي قد وصفه بقوله : “ إنه لم يكن نبيّاً ولكنه أوتي الكتاب “ . وقد نُشر المثنوي وشُرح مرات عديدة بمختلف لغات الأمم الإسلامية .
    أمّا أهل الغرب فقد أعجبوا به إعجاباً شديداً ، ونشروا عنه الكثير من الأعمال العلمية باللغات الأوروبية المختلفة سواء منها ما هو ترجمة لبعض أعماله أو دراسة لها . وأعظم من ساهم في تلك الدارسات مستشر قو الإنجليز . ومن أعلامهم الكبار الأستاذ نيكولسون الذي قضى في دراسة جلال الدين ثلاثين عاماً من عمره ، منها خمسة وعشرون عاماً قضاها في نشر المثنوي وإعداد ترجمة إنجليزية له ، أتبعها بشروح قيّمة وتعليقات .
    ولقد عبّر عن رأيه في جلال الدين - بعد ثلاثين عاماً من الاشتغال به - بأن طول الصحبة لأعمال هذا الشاعر ، والألفة بها ، لم تزده إلا تقديراً لها ، وأن ما وصفه به قبل ذلك بثلاثين عاماً - من أنه أعظم شعراء الصوفيّة على الإطلاق ليس بالوصف الذي يوفيه حقه . يقول : “ وإلا فأين لنا أن نرى صورة شاملة للوجود ، بأكمله منطلقة أمامنا خلال الزمن ، مستمرّة إلى الأبد ؟ إن هذا الشعر إلى جانب طابعه الصوفىّ قد انطوى على ثروة من السخريّة والتهكم ، والمواقف التي تثير الرثاء ، وصور رسمتها يدُ صناع ما مست شيئاً الا كشفت حقيقة جوهره “ 1 “ “ .
    أمّا آربري - أستاذ الدراسات العربيّة والشرقيّة بجامعة كيمبردج –
    ...............................................................
    ( 1 ) .arberry : glassical persian literature , p . 241
    “ 60 “
    فقد خلف أستاذة نيكولسون في الاهتمام بأعمال جلال الدين ، ونشر عنه في السنوات الأخيرة بضعة كتب منها الترجمة ومنها الدراسة . وقد أدرجت بعض ترجمات آربري لجلال الدين ضمن قوائم اليونسكو التي تمثل روائع الآداب الإنسانية “ 1 “ .
    وخلاصة القول أن جلال الدين في للوقت الحاضر - بإجماع الدارسين من أهل الشرق والغرب “ 2 “ - يُعدّ بلا شك أعظم شعراء الصوفيّة في كلّ زمان ومكان ، وواحداً من شعراء الإنسانيّة الأفذاذ .
    ...............................................................
    ( 1 ) انظر كتابه . 1961tales from the masnavi . london ,.
    ( 2 ) لخص محمد خلف اللَّه في مقال له بعنوان ( جلال الدين الرومي في نظر الباحثين ) بعض آراء مفكري الغرب في شعر جلال الدين وفلسفته . انظر . محمد خلف اللَّه . دراسات في الأدب الإسلامي ، ص 128 - 135 . القاهرة ، 1947 .


      الوقت/التاريخ الآن هو 23/11/2024, 05:38