03 - حكاية عشق ملك لإحدى الجواري المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
حكاية عشق ملك لاحدى الجواري المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي
حكاية عشق ملك لاحدى الجواري وشراء الملك هذه الجارية
عجز الحكماء
كان هناك ملك في سالف الزمان ، دان له ملكُ الدنيا وملكُ الدين .
وذات يَوم ركب هذا الملك مع خواصّه من أجل الصيد .
فرأى جارية على الطريق السلطاني ، فصارت روحه أسيرةً لهذه الجارية .
وحين وقع طير روحه في القفص ، دفع المال واشترى تلك الجارية .
40 - فلما اشتراها ، وقرّ بها عيناً ، أصابها القضاء بالمرض .
لقد كان لديه حمار لا سرج له ، فلما وجد السرج أكل الذئب الحمار !
وكان لديه إناءُ ولكن لا سبيل له إلى الماء ، فلما وجد الماء انكسر الإناء !
“ 93 “
فجمع الملك الأطباء من كل حدب وصوب ، وقال لهم : “ إنّ روح كلينا في أيديكم .
فأما روحي فيسيرةُ ، ولكنّ هذه الجارية روح روحي، وأنا مريضُ عليل وهي دوائي.
45 - فكل من أجرى علاجاً لروحي ، نال كنزي ودُرّي ومرجاني “ .
فقالوا جميعاً له : “ إنّنا سوف لا نبالي بأرواحنا ، وسوف نجمع أفهامنا ، ونتعاون معاً ( لإدراك تلك الغاية ) .
فكلّ واحد منا مسيحُ العالم ، ولكل ألم دواء عندنا “ .
وكان من غرورهم أنْ لم يقولوا : “ إن شاء اللَّه “ ، فأظهر لهم اللَّه عجز البشر .
إنّ ترك “ الاستثناء “ “ 1 “ عندي قسوة ، ولست أعني به مجردّ القول الذي هو حالةُ عارضة ، ( لا يؤمن بها القلب ) .
50 - فكم من متكلم لا يأتي في قوله بعبارة “ الاستثناء “ ومع هذا فروحه مقترنة بروح تلك العبارة .
فكل ما صنعوه عن علاج ودواء ، كان يزيد من الألم ولا يتحقق معه الشفاء .
فأصحبت هذه الجارية من المرض في نحول الشعرة ، وكانت عينا الملك ، تفيضان كالنهر بالدموع الدامية .
وشاء القدر أن يزيد مزيج الخل والعسل “ 2 “ من الصفراء ، ويزيد
...............................................................
( 1 ) الاستثناء هنا يُقصد به تعليق الإنسان إرادته على إرادة اللَّه .
( 2 ) مزيج الخل والعسل كان يستخدم لمعالجة الصفراء .
“ 94 “
زيت اللوز من يبوسة الجوف .
وسببت الهليلة “ 1 “ القبض للجارية - وهي التي تُحدث الإطلاق
وأصبح الماء يزيد من حرارتها كأنّه نفط .
كيف ظهر الملك عجز الحكماء عن معالجة الجارية ،
وكيف توجه الملك إلى حضرة اللَّه فرأى وليّاً في المنام
55 ولما رأى الملك عجز هؤلاء الحكماء ، جرى عاريَ القدمين نحو المسجد .
ودخل المسجد واتجه نحو المحراب ، وابتلّ مكان السجود بماجرى من دمعه .
فلما أفاق من الغرق في لجة الفناء ، أَطلق لساناً جميلًا بالمدح والثناء .
(فقال ) : “ يا من أَقلّ عطائه ملكُ الدنيا ! ماذا أقول وأنت تعلم السر وأخفى ؟
يا من هو على الدوام ملجؤنا عند الحاجة ، إنّا ضلنا السبيل مرة أخرى “ 2 “ .
60 - ولكنّك أنت قد قلت : “ إنّني أعرف سرَّك ، فسارع إلى إعلانه “ .
فلما ارتفع الصياحُ من أعماق روحه ، جاش بحرُ العطاء .
...............................................................
( 1 ) دواء مسهل .
( 2 ) يقصد بضلال السبيل هنا للجوء إلى غير اللَّه .
“ 95 “
وبينما هو يبكي غلبه النوم ، فرأى في النوم شيخاً يظهر أمامه .
وقال له الشيخ : “ أيّها الملك ! أبشر فإن حاجتك سوف تُقضى ، إذا جاءك في الغد رجلُ غريب من عندنا .
فحينما يجيئك فهو حكيم حاذق ، فاعلم أنّه صادق ، لأنّه أمين صادق .
65 - فانظر السحرّ المطلق ، في علاجه ! وتأمّل قدرةَ الحق في مزاجه ! “ 1 “ .
فلما طلع النهار وحان الموعد ، وبزغت الشمس من المشرق فاحترقت النجوم .
كان الملك يجلس في البهو منتظراً ، ليري ( مصداق ) ما أُظهر له من السرّ .
فرأى شخصاً فاضلًا كان أصيلًا ، كأنّه شمس بين الظلال .
كان يقترب من بعيد كأنّه الهلال ، وكان لرّقته كأنّه غير موجود ، فقد كان وجوده مثل الخيال .
70 - إنّ الخيال في الروح مثل العدم ، ( ومع هذا ) فلتنظر إلى هذا العالم ، كيف أنّه يدور على الخيال !
فعلى الخيال يقوم ما بين الناس من صلح أو صراع ، ومن الخيال ما يَعدُّه الناس فخراً وما يعدونه عاراً .
ولكنّ هذه الخيالات التي هي حبائل للأولياء ، ليست إلا صورةً للحسان في بستان اللَّه .
وذلك الخيالُ - الذي رآه الملك في النوم - كان على الدوام يتجلّى
..............................................................
( 1 ) المزاج هنا يمزجه الطبيب من مواد لصنع دوائه .
“ 96 “
في طلعة ضيفه .
فتقدم الملك إلى مكان الحُجَّاب ، ومثل أمام ذلك الضيف الذي جاء من الغيب .
75 - كان كلُ منهما سبّاحاً عالماً : فاتصلت روحاهما دون رابطة مادّية “ 1 “ .
وقال له : “ إنّك كنت معشوقى لا تلك الجارية ! لكنَّ الأمور يُظهر بعضُهاً في هذه الدنيا .
يا من أنت لي كالمصطفى وأنا كعمر ، هأنذا أربط حزامي وأقف أمامك للخدمة “ .
الدعاء إلى اللَّه ولي التوفيق أن يوفقنا لرعاية الأدب في جميع الأحوال
وبيان وخامة الأضرار التي تنجم عن فقدان الأدب
إنّا نرجو من اللَّه أنْ يوفقنا للأدب ، فإن من لا أدب له يبقى محروماً من لطف الربّ .
إنّ من لا أدب له لا يقتصر أذاه على نفسه ، وإنما هو يشعل النار في جميع الآفاق .
80 - لقد كانت مائدة تنزل من السماء بدون عناء ، وبدون بيع أو شراء .
...............................................................
( 1 ) المعنى الحرفي فاتصلت روحاهما دون خيط . وقد جاء في الحديث قول الرسول عليه السلام :
“ الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف “ .
“ 97 “
ولكنّ جماعةً من بين قوم موسى قالوا بوقاحة : “ أين الثوم والعدس ؟ “ .
فانقطع عنهم خبزُ السماء ومائدتها ، وبقي لهم عناء الزراعة والكدح بالفأس والمنجل .
ولكنْ عندما شفع عيسى لدى الحق ، أرسل لهم الخوان والغنيمة على الطبق .
فعاد أهل الوقاحة إلى ترك الأدب ، وتخاطفوا الطعام كالشحّاذين .
85 - فناداهم عيسى قائلًا : “ إنّ هذه المائدة دائمة ، ولن ينقطع ورودها إلى الأرض “ .
إنّ سوء الظن والحرص - أمام مائدة العظيم - كفر .
لقد أغلق بابُ الرحمة على الناس من جرّاء هؤلاء الذين بدوا كالشّحاذين وقد أعماهم الحرص .
إنّ السحب لا تجيء إذا مُنعت الزكاة ، ومن الزنا يقع الوباء في جميع الجهات .
فكل ما أصابك من ظلمات وغم ليس إلا نتيجة للتبجح والتوقح .
90 - وكل من أبدى توقحاً في طريق الحبيب ، فهو قاطع طريق الناس ، ولا رجولة عنده .
فمن الأدب امتلأ بالنور الفلك ، ومن الأدب صارت العصمةُ والطهر صفات الملك .
ومن الوقاحة كان كسوف الشمس ، ومن الجرأة رُدّ عزازيلُ “ 1 “ عن الباب .
..............................................................
( 1 ) عزازيل اسم إبليس قبل سقوطه والشاعر يريد هنا أنه رُدّ عن باب اللَّه لتوقحه.
“ 98 “
لقاء الملك للطبيب الالهيّ الذي بُشِّر بلقانه في المنام
فتح الملك ذارعيه وعانق الضيف ، ووقع في قلبه وروحه إحساس كأنه العشق .
فأخذ يُقبّل يده وجبينه ، ويسأله عن المقام والطريق .
95 وقاده - وهو يسائله - إلى صدر المجلس ، وقال : « لقد وجدت آخر الأمر كنزاً لقاءَ صبري » .
ثم قال : « يا هدّية الحقّ ويا دافع الحرج ! ويا من هو معنى ( الصبر مفتاح الفرج ) !
يا من لقاؤء جوابُ لكلّ سؤال ! إنك قد حللت مشكلتي بدون قيل وقال !
إنك الترجمان لكلّ ما في قلوبنا ، وإنك الآخذ بيد من زلَّت في الطين قدمه !
مرحباً يا مجتبى يا مرتضى * إنْ تغب جاء القضاء ضاق الفضا " 1 "
100 - أنت مولى القوم من لا يشتهي * قد رَدَى كّلًا لئن لم ينته
كيف أدخل الملك الطبيبَ إلى المريضة ليرى حالها
وحين انقضى هذا المجلس وانفضّ خوان الكرم ، أمسك بيده وقاده إلى مقر الحريم .
...............................................................
( 1 ) هذا البيت والذي يليه عربيان في الأصل . ويلاحظ فيهما وفي غيرهما من الأبيات العربية في المثنوي أن مستوى ما ينظمه الشاعر بالعربية أقلّ بكثير من مستوى شعره الفارسي .
“ 99 “
وقصّ عليه قصّة المريضة ومرضها ، ثم أجلسه بعد ذلك أمام المريضة .
ففحص لون وجهها ، ونبضها وقارورتها ، واستمع إلى وصف عوارض مرضها وأسبابه .
وقال : “ إنّ كلّ ما قدّموه من علاج لم يكن سبيلًا للشفاء ، بل هم قد زادوها مرضاً .
105 - إنّهم لم يكونوا على علم بحال باطنها ، أعاذنا اللَّه مما يفترون “ .
لقد رأى العلّة وانكشف له ما كان خافياً ، ولكنه أخفى الأمر على السلطان ، ولم يقل شيئاً .
فلم تكن علتها من السوداء ولا الصفراء ، فإنّ رائحة كل حطب تظهر في دخانه .
لقد رأى من أَنينها أنّها مريضةُ القلب ، وأنّ الجسم بخير ولكنها أسيرة القلب .
فإن العشق يظهر في أنين القلب ، وليس هناك مرض مثل مرض القلب .
110 - وإنّ علة العاشق لمتّميزة عن سائر العلل ، فالعشق هو أصطرلاب “ 1 “ أسرار اللَّه .
وإذا كان العشق من هذا الجانب أو ذاك ، فإنه في عاقبة الأمر يهدينا إلى تلك الناحية .
وكل ما أقوله في شرح العشق وبيانه ، أخجل منه عندما أواجه العشق ذاته .
...............................................................
( 1 ) آلة صغيرة كانت تستخدم لمراقبة مواقع الأجرام السماوية .
“ 100 “
فإن كان تفسير اللسان ينير السبيل ( لمعرفة الحقيقة ) ، فإن العشق - بدون اللسان - أفصح من أيّ بيان .
فبينما القلم مندفعُ في الكتابة ، إذا به ينشقّ على نفسه حين جاء إلى العشق !
115 - والعقلُ في شرح العشق مثل حمار نام في الوحل ، فالعشق نفسه هو الذي يشرح لنا العشق وفعله .
إن الشمس هي دليل الشمس، فإذا كنت بحاجة إلى الاهتداء بها فلا تحوّل وجهك عنها.
وإنْ كان الظل يقدّم لك علامة لهذه الشمس ، فإنّ الشمس الخالدة “ 1 “ تُلقى عليك نوراً روحيّاً .
والظلّ مثل السمر يأتيك بالنوم ، وحين تطلع الشمس ينشقّ القمر .
وليس في هذه الدنيا غريبُ مثل الشمس . وشمسُ الروح باقية لا أمس لها .
120 - والشمس الظاهرة - وإن كانت فريدة - فإننا نستطيع أن نتصور مثيلًا لها .
أما الشمس الروح التي خرجت من الأثير ، فليس لها في الذهن ولا في العالم الظاهريّ نظير .
وأين التصور الذي يتسع لذاتها حتى يكون من المستطاع تصورّ مثلها .
وحين جاء حديث وجه شمس الدين “ 2 “ حجبت شمسُ السماء الرابعة وجهها .
...............................................................
( 1 ) شمس الروح الخالدة التي لا يمكن أن يعتريها ظل .
( 2 ) يقصد أستاذه وصديقة شمس الدين التبريزي .
“ 101 “
وما دام اسمه قد ذُكر ، فقد وجب علينا أن تقوم بشرح رمزٍ من إنعامه .
125 - فهذا الشذى قد جذب انتباه روحي ، إذ وجدت فيه رائحة قميص يوسف .
فبحقّ الصحبة ( التي جمعتكما ) سنين ، اذكر لنا حالًا من أحواله الطيبّة .
حتى تضحكَ الأرضُ والسماء ( في نشوة ) ، وتزداد قدرة العقل والروح والعين مائة مرة .
لا تكلفّني فإنّي في الفنا * كلّت افهامي فلا أُحصي ثنا “ 1 “
كلّ شيء قاله غير المفيق * إن تكلّف أو تصلّف لا يليق “ 2 “
130- وماذا أقول ، وليس فىّ عرق واع ، ليشرح حال ذلك الرفيق الذي لا ندّ له .
فدع شرح هذا الهجران ، وحديث القلب الدامي إلى وقت آخر .
قال أطعمني فإنّي جائع * واعتَجلْ فالوقت سيف قاطع “ 3 “
فالصوفىّ ابن الوقت أيها الرفيق ، وليس قولك “ غداً “ من شرط الطريق .
أم لعلك لست برجل صوفي ، فالنسيء يجعل الموجود كالعدم .
135 - فقلت له إنّ الأفضل سترُ سر الحبيب ، فلتُصغ إلى المغزى
...............................................................
( 1 ) هذان البيتان عربيان في الأصل .
( 2 ) هذان البيتان عربيان في الأصل .
( 3 ) هذا البيت عربي الأصل .
“ 102 “
الذي تنطوي عليه القصة .
وخير لنا أن يجيء سرّ الأحبة في حديث الآخرين .
فقال حدثني حديثاً مكشوفاً عارياً لا غلائل “ 1 “ فوقه ، يا أبا الفضائل !
وارفع النقاب وبح بالقول ، فإنّي لا أخلو بالحبيبة وهي مرتدية قميصها .
قلتُ إنه لو ظهر عريان للعيان ، فلن تبقى أنت ولا جانباك ولا وسطك .
140 - فلتكن ذا أمل ولكنْ قف عند حد في أمَلك ، فإنّ القشّة لا تستطيع أن تحتمل الجبل .
فهذه الشمس التي تضيء العالم لو اقتربت منه قليلًا لأحرقت كل ما فيه .
فلا تبَحثْ عن الفتنة والثورة وإراقة الدماء ، ولا تقل أكثر من هذا عن شمس تبريز .
فهذا الحديث لا آخر له ، فلتبدأ القول من جديد وتتمّ هذه القصة .
كيف طلب الوليّ من الملك أن يُتيح له الخلوة مع الجارية حتى يدرك مرضها
قال الحكيم : “ أيها الملك أخل المنزل ، وأبعد الأقارب والأجانب .
145 ويجب ألا تكون في الدهليز أذنُ تسمع حتى أسأل هذه الجارية
...............................................................
( 1 ) لم أجد في القاموس جمع غلالة بغلول وهي الكلمة التي استخدمها الشاعر في قوله ، “ گفت مكشوف وبرهنه بي غلول “ ولكن يحتمل أن الشاعر قد جمع غلالة على هذا النحو . والمعنى الذي ذكره القاموس لغلول هو “ خيانة “ . ولو فسر هذا اللفظ على هذا النحو لكانت الترجمة على النحو الآتي ، “ فقال حدثني حديثاً مكشوفاً عارياً دون خيانة “ .
“ 103 “
عن أشياء “ .
فبقيت الدار خالية ، ليس بها ديّار ، سوى الطبيب والمريضة .
وقال الطبيب بلطف ورقة للمريضة : “ إلى أيّ بلدة تنتمين ؟ إنّ العلاج يختلف باختلاف البلاد .
ومن لك من الأقرباء في تلك المدينة ؟ وبمن لك قرب واتصال ؟ “ .
ووضع يده على نبضها ، وأخذ يوجّه إليها السؤال بعد السؤال عن جور الدهر .
150 - إنّ الإنسان إذا ما أصابت قدمه شوكة ، فإنّه يضع قدمه فوق ركبته .
ويظلّ يفتش بحدّ الإبرة عن رأس الشوكة ، فإذا لم يجدها يبلّلها بريقه .
فإذا كانت شوكة في القدم تسبِّب هذه الشدة ، فما بالك بشوكة في القلب ؟ ألا فلتُجبْ !
ولو كان خسيس يرى الأشواك التي تصيب القلوب ، لما استطاعت الهموم أن تصيب إنساناً .
فإنه لو وضع شخص شوكة تحت ذيل حمار، فإنّ الحمار لا يستطيع دفع ذلك ، فيقفز.
155 ويظل يقفز فترداد الشوكة إيغالا ، فلا بد من عاقل لينتزعها .
ويظل الحمار - لشدة ألمه وتحرقه - يضرب الأرض بسيقانه للخلاص من تلك الشوكة ، فيجرح نفسه في مائة موضع .
وقد كان هذا الحكيمُ مقتلعُ الأشواك أستاذاً ، فمدّ يده وأخذ يفتش عن مكان الداء .
لقد ظل يستفسر بطريق الحكاية من هذه الجارية عن أحبتها .
“ 104 “
فباحث للحكيم بقصص عن مقامها وسادتها ومدينتها وضواحيها .
160 - فكان يُصغي إلى القصة التي ترويها بأذنيه ، بينما هو قد ألقى بانتباهه إلى نبضها ، وفحص ضرباته .
حتى إذا اضطرب نبضها عند ذكر اسمٍ ( علم أنّ ) صاحبة غاية روحها في هذا العالم .
فعدّدت أصدقاء في بلدتها ، ثم ذكرت بعد هذا مدينة أخرى .
فسألها الحكيم : “ كيف خرجت من مدينتك ؟ وفي أية بلدة طالت إقامتك ؟
فذكرتْ اسم مدينة ، ولكنهّا مرّت بذكرها دون أن يتغير لونُ وجهها أو نبضُها .
165 - وعادت تتحدّث عن السادة وعن البلاد واحدة إثر أخرى ( ذاكرةً ) الأماكن والخبز والملح .
وأخذت تحدّثه عن المدن واحدةً واحدةً ، وتَروي له خبر المنازل منزلًا منزلًا ، فلم يضطرب لها عرق ، ولا اصفرّ وجه .
كان نبضها لا ينبئ بشيء عن سوء حالها ، حتى سألها عن سمرقند الحلوة كالسكر .
فاضطرب نبضها ، وأخذ وجهها يحمرّ ويصفرّ ، إذ أنها كانت قد فارقت صائغاً من سمرقند .
وعندما أدرك الحكيم هذا السرّ من المريضة ، عرف أصل الألم والبلاء .
170 وقال : “ أين محلة هذا الصائغ ؟ فقالت : “ إنّه ( يسكن ) عند رأس الجسر بمحلة غاتفر “ .
“ 105 “
فقال الحكيم : “ لقد عرفتُ السرّ في مرضك ، ولن ألبث حتى أُظهر في علاجك منه ألوان السحر .
فاهنئي واطمئني ، وقرّي عيناً ، فإنيّ صانع بك ما تصنعه الأمطار بالمروج .
ولسوف أحمل همّك فلا تغتمي ، فإنّي أكثر إشفاقاً عليك من مائة أب .
ولكنْ حذار أن تذيعي هذا السرّ لإنسان ، حتى ولو أكثر الملك سؤالك ، والاستفسار منك .
175 - فإنّه إذا أصبح قلبُك مقبرةً لسرّك ، عجلّ ذلك بتحقيق مرادك .
فقد قال الرسول : إنّ كلّ من أخفى سرّه سرعان ما يتحقق له مراده “ “ 1 “ .
والبذور عندما تختفي تحت الأر ، تصبح هي السرّ في اخضرار صفحة البستان .
وكيف كان الذهب والفضة ينضجان في المنجم لو لم يختفيا في جوف الثرى ؟
ولقد جعلتُ وعودُ الحكيم وألطافه هذه الجارية آمنة من الخوف .
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
حكاية عشق ملك لاحدى الجواري المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي
حكاية عشق ملك لاحدى الجواري وشراء الملك هذه الجارية
عجز الحكماء
كان هناك ملك في سالف الزمان ، دان له ملكُ الدنيا وملكُ الدين .
وذات يَوم ركب هذا الملك مع خواصّه من أجل الصيد .
فرأى جارية على الطريق السلطاني ، فصارت روحه أسيرةً لهذه الجارية .
وحين وقع طير روحه في القفص ، دفع المال واشترى تلك الجارية .
40 - فلما اشتراها ، وقرّ بها عيناً ، أصابها القضاء بالمرض .
لقد كان لديه حمار لا سرج له ، فلما وجد السرج أكل الذئب الحمار !
وكان لديه إناءُ ولكن لا سبيل له إلى الماء ، فلما وجد الماء انكسر الإناء !
“ 93 “
فجمع الملك الأطباء من كل حدب وصوب ، وقال لهم : “ إنّ روح كلينا في أيديكم .
فأما روحي فيسيرةُ ، ولكنّ هذه الجارية روح روحي، وأنا مريضُ عليل وهي دوائي.
45 - فكل من أجرى علاجاً لروحي ، نال كنزي ودُرّي ومرجاني “ .
فقالوا جميعاً له : “ إنّنا سوف لا نبالي بأرواحنا ، وسوف نجمع أفهامنا ، ونتعاون معاً ( لإدراك تلك الغاية ) .
فكلّ واحد منا مسيحُ العالم ، ولكل ألم دواء عندنا “ .
وكان من غرورهم أنْ لم يقولوا : “ إن شاء اللَّه “ ، فأظهر لهم اللَّه عجز البشر .
إنّ ترك “ الاستثناء “ “ 1 “ عندي قسوة ، ولست أعني به مجردّ القول الذي هو حالةُ عارضة ، ( لا يؤمن بها القلب ) .
50 - فكم من متكلم لا يأتي في قوله بعبارة “ الاستثناء “ ومع هذا فروحه مقترنة بروح تلك العبارة .
فكل ما صنعوه عن علاج ودواء ، كان يزيد من الألم ولا يتحقق معه الشفاء .
فأصحبت هذه الجارية من المرض في نحول الشعرة ، وكانت عينا الملك ، تفيضان كالنهر بالدموع الدامية .
وشاء القدر أن يزيد مزيج الخل والعسل “ 2 “ من الصفراء ، ويزيد
...............................................................
( 1 ) الاستثناء هنا يُقصد به تعليق الإنسان إرادته على إرادة اللَّه .
( 2 ) مزيج الخل والعسل كان يستخدم لمعالجة الصفراء .
“ 94 “
زيت اللوز من يبوسة الجوف .
وسببت الهليلة “ 1 “ القبض للجارية - وهي التي تُحدث الإطلاق
وأصبح الماء يزيد من حرارتها كأنّه نفط .
كيف ظهر الملك عجز الحكماء عن معالجة الجارية ،
وكيف توجه الملك إلى حضرة اللَّه فرأى وليّاً في المنام
55 ولما رأى الملك عجز هؤلاء الحكماء ، جرى عاريَ القدمين نحو المسجد .
ودخل المسجد واتجه نحو المحراب ، وابتلّ مكان السجود بماجرى من دمعه .
فلما أفاق من الغرق في لجة الفناء ، أَطلق لساناً جميلًا بالمدح والثناء .
(فقال ) : “ يا من أَقلّ عطائه ملكُ الدنيا ! ماذا أقول وأنت تعلم السر وأخفى ؟
يا من هو على الدوام ملجؤنا عند الحاجة ، إنّا ضلنا السبيل مرة أخرى “ 2 “ .
60 - ولكنّك أنت قد قلت : “ إنّني أعرف سرَّك ، فسارع إلى إعلانه “ .
فلما ارتفع الصياحُ من أعماق روحه ، جاش بحرُ العطاء .
...............................................................
( 1 ) دواء مسهل .
( 2 ) يقصد بضلال السبيل هنا للجوء إلى غير اللَّه .
“ 95 “
وبينما هو يبكي غلبه النوم ، فرأى في النوم شيخاً يظهر أمامه .
وقال له الشيخ : “ أيّها الملك ! أبشر فإن حاجتك سوف تُقضى ، إذا جاءك في الغد رجلُ غريب من عندنا .
فحينما يجيئك فهو حكيم حاذق ، فاعلم أنّه صادق ، لأنّه أمين صادق .
65 - فانظر السحرّ المطلق ، في علاجه ! وتأمّل قدرةَ الحق في مزاجه ! “ 1 “ .
فلما طلع النهار وحان الموعد ، وبزغت الشمس من المشرق فاحترقت النجوم .
كان الملك يجلس في البهو منتظراً ، ليري ( مصداق ) ما أُظهر له من السرّ .
فرأى شخصاً فاضلًا كان أصيلًا ، كأنّه شمس بين الظلال .
كان يقترب من بعيد كأنّه الهلال ، وكان لرّقته كأنّه غير موجود ، فقد كان وجوده مثل الخيال .
70 - إنّ الخيال في الروح مثل العدم ، ( ومع هذا ) فلتنظر إلى هذا العالم ، كيف أنّه يدور على الخيال !
فعلى الخيال يقوم ما بين الناس من صلح أو صراع ، ومن الخيال ما يَعدُّه الناس فخراً وما يعدونه عاراً .
ولكنّ هذه الخيالات التي هي حبائل للأولياء ، ليست إلا صورةً للحسان في بستان اللَّه .
وذلك الخيالُ - الذي رآه الملك في النوم - كان على الدوام يتجلّى
..............................................................
( 1 ) المزاج هنا يمزجه الطبيب من مواد لصنع دوائه .
“ 96 “
في طلعة ضيفه .
فتقدم الملك إلى مكان الحُجَّاب ، ومثل أمام ذلك الضيف الذي جاء من الغيب .
75 - كان كلُ منهما سبّاحاً عالماً : فاتصلت روحاهما دون رابطة مادّية “ 1 “ .
وقال له : “ إنّك كنت معشوقى لا تلك الجارية ! لكنَّ الأمور يُظهر بعضُهاً في هذه الدنيا .
يا من أنت لي كالمصطفى وأنا كعمر ، هأنذا أربط حزامي وأقف أمامك للخدمة “ .
الدعاء إلى اللَّه ولي التوفيق أن يوفقنا لرعاية الأدب في جميع الأحوال
وبيان وخامة الأضرار التي تنجم عن فقدان الأدب
إنّا نرجو من اللَّه أنْ يوفقنا للأدب ، فإن من لا أدب له يبقى محروماً من لطف الربّ .
إنّ من لا أدب له لا يقتصر أذاه على نفسه ، وإنما هو يشعل النار في جميع الآفاق .
80 - لقد كانت مائدة تنزل من السماء بدون عناء ، وبدون بيع أو شراء .
...............................................................
( 1 ) المعنى الحرفي فاتصلت روحاهما دون خيط . وقد جاء في الحديث قول الرسول عليه السلام :
“ الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف “ .
“ 97 “
ولكنّ جماعةً من بين قوم موسى قالوا بوقاحة : “ أين الثوم والعدس ؟ “ .
فانقطع عنهم خبزُ السماء ومائدتها ، وبقي لهم عناء الزراعة والكدح بالفأس والمنجل .
ولكنْ عندما شفع عيسى لدى الحق ، أرسل لهم الخوان والغنيمة على الطبق .
فعاد أهل الوقاحة إلى ترك الأدب ، وتخاطفوا الطعام كالشحّاذين .
85 - فناداهم عيسى قائلًا : “ إنّ هذه المائدة دائمة ، ولن ينقطع ورودها إلى الأرض “ .
إنّ سوء الظن والحرص - أمام مائدة العظيم - كفر .
لقد أغلق بابُ الرحمة على الناس من جرّاء هؤلاء الذين بدوا كالشّحاذين وقد أعماهم الحرص .
إنّ السحب لا تجيء إذا مُنعت الزكاة ، ومن الزنا يقع الوباء في جميع الجهات .
فكل ما أصابك من ظلمات وغم ليس إلا نتيجة للتبجح والتوقح .
90 - وكل من أبدى توقحاً في طريق الحبيب ، فهو قاطع طريق الناس ، ولا رجولة عنده .
فمن الأدب امتلأ بالنور الفلك ، ومن الأدب صارت العصمةُ والطهر صفات الملك .
ومن الوقاحة كان كسوف الشمس ، ومن الجرأة رُدّ عزازيلُ “ 1 “ عن الباب .
..............................................................
( 1 ) عزازيل اسم إبليس قبل سقوطه والشاعر يريد هنا أنه رُدّ عن باب اللَّه لتوقحه.
“ 98 “
لقاء الملك للطبيب الالهيّ الذي بُشِّر بلقانه في المنام
فتح الملك ذارعيه وعانق الضيف ، ووقع في قلبه وروحه إحساس كأنه العشق .
فأخذ يُقبّل يده وجبينه ، ويسأله عن المقام والطريق .
95 وقاده - وهو يسائله - إلى صدر المجلس ، وقال : « لقد وجدت آخر الأمر كنزاً لقاءَ صبري » .
ثم قال : « يا هدّية الحقّ ويا دافع الحرج ! ويا من هو معنى ( الصبر مفتاح الفرج ) !
يا من لقاؤء جوابُ لكلّ سؤال ! إنك قد حللت مشكلتي بدون قيل وقال !
إنك الترجمان لكلّ ما في قلوبنا ، وإنك الآخذ بيد من زلَّت في الطين قدمه !
مرحباً يا مجتبى يا مرتضى * إنْ تغب جاء القضاء ضاق الفضا " 1 "
100 - أنت مولى القوم من لا يشتهي * قد رَدَى كّلًا لئن لم ينته
كيف أدخل الملك الطبيبَ إلى المريضة ليرى حالها
وحين انقضى هذا المجلس وانفضّ خوان الكرم ، أمسك بيده وقاده إلى مقر الحريم .
...............................................................
( 1 ) هذا البيت والذي يليه عربيان في الأصل . ويلاحظ فيهما وفي غيرهما من الأبيات العربية في المثنوي أن مستوى ما ينظمه الشاعر بالعربية أقلّ بكثير من مستوى شعره الفارسي .
“ 99 “
وقصّ عليه قصّة المريضة ومرضها ، ثم أجلسه بعد ذلك أمام المريضة .
ففحص لون وجهها ، ونبضها وقارورتها ، واستمع إلى وصف عوارض مرضها وأسبابه .
وقال : “ إنّ كلّ ما قدّموه من علاج لم يكن سبيلًا للشفاء ، بل هم قد زادوها مرضاً .
105 - إنّهم لم يكونوا على علم بحال باطنها ، أعاذنا اللَّه مما يفترون “ .
لقد رأى العلّة وانكشف له ما كان خافياً ، ولكنه أخفى الأمر على السلطان ، ولم يقل شيئاً .
فلم تكن علتها من السوداء ولا الصفراء ، فإنّ رائحة كل حطب تظهر في دخانه .
لقد رأى من أَنينها أنّها مريضةُ القلب ، وأنّ الجسم بخير ولكنها أسيرة القلب .
فإن العشق يظهر في أنين القلب ، وليس هناك مرض مثل مرض القلب .
110 - وإنّ علة العاشق لمتّميزة عن سائر العلل ، فالعشق هو أصطرلاب “ 1 “ أسرار اللَّه .
وإذا كان العشق من هذا الجانب أو ذاك ، فإنه في عاقبة الأمر يهدينا إلى تلك الناحية .
وكل ما أقوله في شرح العشق وبيانه ، أخجل منه عندما أواجه العشق ذاته .
...............................................................
( 1 ) آلة صغيرة كانت تستخدم لمراقبة مواقع الأجرام السماوية .
“ 100 “
فإن كان تفسير اللسان ينير السبيل ( لمعرفة الحقيقة ) ، فإن العشق - بدون اللسان - أفصح من أيّ بيان .
فبينما القلم مندفعُ في الكتابة ، إذا به ينشقّ على نفسه حين جاء إلى العشق !
115 - والعقلُ في شرح العشق مثل حمار نام في الوحل ، فالعشق نفسه هو الذي يشرح لنا العشق وفعله .
إن الشمس هي دليل الشمس، فإذا كنت بحاجة إلى الاهتداء بها فلا تحوّل وجهك عنها.
وإنْ كان الظل يقدّم لك علامة لهذه الشمس ، فإنّ الشمس الخالدة “ 1 “ تُلقى عليك نوراً روحيّاً .
والظلّ مثل السمر يأتيك بالنوم ، وحين تطلع الشمس ينشقّ القمر .
وليس في هذه الدنيا غريبُ مثل الشمس . وشمسُ الروح باقية لا أمس لها .
120 - والشمس الظاهرة - وإن كانت فريدة - فإننا نستطيع أن نتصور مثيلًا لها .
أما الشمس الروح التي خرجت من الأثير ، فليس لها في الذهن ولا في العالم الظاهريّ نظير .
وأين التصور الذي يتسع لذاتها حتى يكون من المستطاع تصورّ مثلها .
وحين جاء حديث وجه شمس الدين “ 2 “ حجبت شمسُ السماء الرابعة وجهها .
...............................................................
( 1 ) شمس الروح الخالدة التي لا يمكن أن يعتريها ظل .
( 2 ) يقصد أستاذه وصديقة شمس الدين التبريزي .
“ 101 “
وما دام اسمه قد ذُكر ، فقد وجب علينا أن تقوم بشرح رمزٍ من إنعامه .
125 - فهذا الشذى قد جذب انتباه روحي ، إذ وجدت فيه رائحة قميص يوسف .
فبحقّ الصحبة ( التي جمعتكما ) سنين ، اذكر لنا حالًا من أحواله الطيبّة .
حتى تضحكَ الأرضُ والسماء ( في نشوة ) ، وتزداد قدرة العقل والروح والعين مائة مرة .
لا تكلفّني فإنّي في الفنا * كلّت افهامي فلا أُحصي ثنا “ 1 “
كلّ شيء قاله غير المفيق * إن تكلّف أو تصلّف لا يليق “ 2 “
130- وماذا أقول ، وليس فىّ عرق واع ، ليشرح حال ذلك الرفيق الذي لا ندّ له .
فدع شرح هذا الهجران ، وحديث القلب الدامي إلى وقت آخر .
قال أطعمني فإنّي جائع * واعتَجلْ فالوقت سيف قاطع “ 3 “
فالصوفىّ ابن الوقت أيها الرفيق ، وليس قولك “ غداً “ من شرط الطريق .
أم لعلك لست برجل صوفي ، فالنسيء يجعل الموجود كالعدم .
135 - فقلت له إنّ الأفضل سترُ سر الحبيب ، فلتُصغ إلى المغزى
...............................................................
( 1 ) هذان البيتان عربيان في الأصل .
( 2 ) هذان البيتان عربيان في الأصل .
( 3 ) هذا البيت عربي الأصل .
“ 102 “
الذي تنطوي عليه القصة .
وخير لنا أن يجيء سرّ الأحبة في حديث الآخرين .
فقال حدثني حديثاً مكشوفاً عارياً لا غلائل “ 1 “ فوقه ، يا أبا الفضائل !
وارفع النقاب وبح بالقول ، فإنّي لا أخلو بالحبيبة وهي مرتدية قميصها .
قلتُ إنه لو ظهر عريان للعيان ، فلن تبقى أنت ولا جانباك ولا وسطك .
140 - فلتكن ذا أمل ولكنْ قف عند حد في أمَلك ، فإنّ القشّة لا تستطيع أن تحتمل الجبل .
فهذه الشمس التي تضيء العالم لو اقتربت منه قليلًا لأحرقت كل ما فيه .
فلا تبَحثْ عن الفتنة والثورة وإراقة الدماء ، ولا تقل أكثر من هذا عن شمس تبريز .
فهذا الحديث لا آخر له ، فلتبدأ القول من جديد وتتمّ هذه القصة .
كيف طلب الوليّ من الملك أن يُتيح له الخلوة مع الجارية حتى يدرك مرضها
قال الحكيم : “ أيها الملك أخل المنزل ، وأبعد الأقارب والأجانب .
145 ويجب ألا تكون في الدهليز أذنُ تسمع حتى أسأل هذه الجارية
...............................................................
( 1 ) لم أجد في القاموس جمع غلالة بغلول وهي الكلمة التي استخدمها الشاعر في قوله ، “ گفت مكشوف وبرهنه بي غلول “ ولكن يحتمل أن الشاعر قد جمع غلالة على هذا النحو . والمعنى الذي ذكره القاموس لغلول هو “ خيانة “ . ولو فسر هذا اللفظ على هذا النحو لكانت الترجمة على النحو الآتي ، “ فقال حدثني حديثاً مكشوفاً عارياً دون خيانة “ .
“ 103 “
عن أشياء “ .
فبقيت الدار خالية ، ليس بها ديّار ، سوى الطبيب والمريضة .
وقال الطبيب بلطف ورقة للمريضة : “ إلى أيّ بلدة تنتمين ؟ إنّ العلاج يختلف باختلاف البلاد .
ومن لك من الأقرباء في تلك المدينة ؟ وبمن لك قرب واتصال ؟ “ .
ووضع يده على نبضها ، وأخذ يوجّه إليها السؤال بعد السؤال عن جور الدهر .
150 - إنّ الإنسان إذا ما أصابت قدمه شوكة ، فإنّه يضع قدمه فوق ركبته .
ويظلّ يفتش بحدّ الإبرة عن رأس الشوكة ، فإذا لم يجدها يبلّلها بريقه .
فإذا كانت شوكة في القدم تسبِّب هذه الشدة ، فما بالك بشوكة في القلب ؟ ألا فلتُجبْ !
ولو كان خسيس يرى الأشواك التي تصيب القلوب ، لما استطاعت الهموم أن تصيب إنساناً .
فإنه لو وضع شخص شوكة تحت ذيل حمار، فإنّ الحمار لا يستطيع دفع ذلك ، فيقفز.
155 ويظل يقفز فترداد الشوكة إيغالا ، فلا بد من عاقل لينتزعها .
ويظل الحمار - لشدة ألمه وتحرقه - يضرب الأرض بسيقانه للخلاص من تلك الشوكة ، فيجرح نفسه في مائة موضع .
وقد كان هذا الحكيمُ مقتلعُ الأشواك أستاذاً ، فمدّ يده وأخذ يفتش عن مكان الداء .
لقد ظل يستفسر بطريق الحكاية من هذه الجارية عن أحبتها .
“ 104 “
فباحث للحكيم بقصص عن مقامها وسادتها ومدينتها وضواحيها .
160 - فكان يُصغي إلى القصة التي ترويها بأذنيه ، بينما هو قد ألقى بانتباهه إلى نبضها ، وفحص ضرباته .
حتى إذا اضطرب نبضها عند ذكر اسمٍ ( علم أنّ ) صاحبة غاية روحها في هذا العالم .
فعدّدت أصدقاء في بلدتها ، ثم ذكرت بعد هذا مدينة أخرى .
فسألها الحكيم : “ كيف خرجت من مدينتك ؟ وفي أية بلدة طالت إقامتك ؟
فذكرتْ اسم مدينة ، ولكنهّا مرّت بذكرها دون أن يتغير لونُ وجهها أو نبضُها .
165 - وعادت تتحدّث عن السادة وعن البلاد واحدة إثر أخرى ( ذاكرةً ) الأماكن والخبز والملح .
وأخذت تحدّثه عن المدن واحدةً واحدةً ، وتَروي له خبر المنازل منزلًا منزلًا ، فلم يضطرب لها عرق ، ولا اصفرّ وجه .
كان نبضها لا ينبئ بشيء عن سوء حالها ، حتى سألها عن سمرقند الحلوة كالسكر .
فاضطرب نبضها ، وأخذ وجهها يحمرّ ويصفرّ ، إذ أنها كانت قد فارقت صائغاً من سمرقند .
وعندما أدرك الحكيم هذا السرّ من المريضة ، عرف أصل الألم والبلاء .
170 وقال : “ أين محلة هذا الصائغ ؟ فقالت : “ إنّه ( يسكن ) عند رأس الجسر بمحلة غاتفر “ .
“ 105 “
فقال الحكيم : “ لقد عرفتُ السرّ في مرضك ، ولن ألبث حتى أُظهر في علاجك منه ألوان السحر .
فاهنئي واطمئني ، وقرّي عيناً ، فإنيّ صانع بك ما تصنعه الأمطار بالمروج .
ولسوف أحمل همّك فلا تغتمي ، فإنّي أكثر إشفاقاً عليك من مائة أب .
ولكنْ حذار أن تذيعي هذا السرّ لإنسان ، حتى ولو أكثر الملك سؤالك ، والاستفسار منك .
175 - فإنّه إذا أصبح قلبُك مقبرةً لسرّك ، عجلّ ذلك بتحقيق مرادك .
فقد قال الرسول : إنّ كلّ من أخفى سرّه سرعان ما يتحقق له مراده “ “ 1 “ .
والبذور عندما تختفي تحت الأر ، تصبح هي السرّ في اخضرار صفحة البستان .
وكيف كان الذهب والفضة ينضجان في المنجم لو لم يختفيا في جوف الثرى ؟
ولقد جعلتُ وعودُ الحكيم وألطافه هذه الجارية آمنة من الخوف .
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin